ميلود بنباقي
الحوار المتمدن-العدد: 1212 - 2005 / 5 / 29 - 11:10
المحور:
الادب والفن
في قرية صغيرة من قرى الأطلس الكبير, بينما كان الناس نياما في الهزيع الأخير من الليل , دوى صوت قوي كهدير صاعقة في عز الصيف . فاهتزت النوافذ و الأبواب , و ارتعشت الأغصان على الأشجار , و مادت الصخور في قمة الجبل , و هوت الأعشاش و حبات المشمش و السفرجل و الخوخ البلدي . استيقظ الناس وجلين و ارتفع عويل الأطفال و نحيب النساء و ابتهالات الشيوخ . قال بعضهم إنه الرعد, و لكن السماء كانت صافية كماء البركة العذب . و قال آخرون إنها طائرة حربية عبرت أجواء القرية , فلم يصدق أحد . و قال آخرون إنها جعجعة, غير أن القرية في تلك الليلة كانت خالية من الآلات التي يمكن أن تدوي بتلك القوة , أما الطاحونة الوحيدة في المكان فكانت معطلة .
الأبقار التي قد يصيبها الجنون و العته , كانت هادئة بعد يوم رائق في المراعي . الجياد و الحمير و البغال لم تخرج عن وقارها و حسن سلوكها .
قضى الناس بقية ليلهم مجتمعين في ساحة القرية , باستثناء الأطفال الذين نسوا أمر الصوت الغريب و عادوا إلى النوم بعدما تلاشى الخوف في نفوسهم . و قبل أن تشرق الشمس بقليل دوى الصوت من جديد ,ثم تلاشى و لم يبق في آذانهم سوى الطنين. و ما هي إلا لحظات قصار حتى لاح لهم رجل طويل القامة أنيق الهندام, يحمل حقيبة جلدية سوداء , تغطي رأسه قبعة كبيرة , و تتوارى عيناه خلف نظارتين قاتمتين . رفع يده بالتحية , و اعتلى صفصافة و نفخ في بوق كان معه ، و أشار إلى الأهالي بيده طالبا منهم الاقتراب , فتدافعوا نحو الشجرة . ظل ينقل بصره بين الوجوه الحيرانة المتعبة , يسوي قبعته حينا , و يمسح العرق عن جبينه حينا آخر . فلما خفت حركة الأقدام و اعتدل كل واحد في مكان و ساد الهدوء و الصمت بين الفلاحين , قرب البوق من فمه و قال :
" جئتكم من بلاد الخبرة و الفطنة , لأعينكم على شظف العيش و أنير أبصاركم , و أمسح الغبار العالق على جباهكم منذ سنين , غبار التعب و الجهد و الشقاء . جئت إليكم حاملا الأمل و الرخاء .
أغلبكم لم تتجاوز قدماه حدود هذه القرية الصغيرة , و لم تر عيناه غير هذه الوجوه المتعبة التي ألفها و ألفته , و هذه الصخور و الجبال الشاحبة . ثروتكم بقرات يكاد يقتلها الهزال , و حقول صغيرة لاتنبت سوى الشعير و الفصة و الفول . مساكنكم أكوام تراب و حجارة و قش لا تحمي من قر , و لا تقي من حر . و طعامكم خبز جاف و مرق يثير المغص و الألم عوض أن يذهب الجوع ."
جحظت أبصار الفلاحين , و ارتسمت الحيرة و الدهشة على وجوههم . أرهفوا أسماعهم و فغروا أفواههم فتدلت الشفاه الغليظة المتشققة , و ظهرت الأسنان العريضة المبعثرة على الفكين بغير انتظام . فهموا قليلا مما سمعوا و لم يفهموا أكثره . تنحنح الرجل الغريب و أضاف :
" في قرى أخرى , يملك الفلاح الواحد بدل البقرة الواحدة أو الإثنتين , مائة أو مائتين . يحلب ما لا يستطيع حمله و عده من حليب , لايبيع لتاجر أو عابر سبيل , بل لمصنع يتعامل معه بالشيكات و الملايين . و يزرع الموز و الطماطم و الليمون يصدرها إلى ما وراء البحار , لا يتعامل بالدرهم و الريال , بل بالعملة الصعبة . لا تعرفون ما العملة الصعبة ؟ا هي صعبة عليكم و على أفهامكم البسيطة . "
أطنب الرجل في القول و أسهب في الحديث , و الناس الواقفون أمامه لا يدرون أيعظهم أم يسخر منهم , أ واع بما يقول أم مخمور يتسلى بسذاجتهم و طيبوبتهم ؟ا
" لم يكن الصوت الذي سمعتم و أنتم نيام رعدا و لا صهيلا و لا زئيرا . لم يكن دمدمة ريح و لا تأوه عاصفة , و لا دوي قنبلة أو بركان . أيها الفقراء , لقد سمعتم صوت النعمة و الرغد ا فبشرى للفقير و المحتاج , و هنيئا لليتيم العريان . جاءتكم السعادة , و حلت بين ظهرانيكم الراحة , و غزت قريتكم الأفراح و الملذات و المسرات ."
فرك القوم عيونهم , و نظر بعضهم إلى بعض . لم يفهم أحد شيئا مما سمع . حدقوا مليا في وجه الرجل , محاولين قراءة ملامحه علهم يروا فيها ما يعينهم على فهم كلامه و فك رموزه و طلاسمه, فلم يروا غير نظارتين قاتمتين و قبعة كبيرة و رجلا يحمل ملامح الجدية و الوقار و الهيبة . من هو هذا الرجل و لماذا جاء ؟ا و ما معنى ما يقول ؟ا
أهو مجنون ؟ا ليس فيه ما يوحي بذلك . أ هو جاد فيما يقول ؟ا لماذا جاء في هذا الوقت المبكر إذن ؟ا
من أرسله إلينا ؟ الحكومة ؟ إذا كان موظفا حكوميا , أين هي السيارة و السائق و الشيخ و المقدم , و لماذا اعتلى شجرة كطفل بئيس بدل أن يصعد إلى منصة مفروشة بالزرابي , يحرسها رجال الدرك و القوات المساعدة؟ا
اختلطت الأسئلة في أذهاننا , و أصبنا بالدوخة و الإجهاد و نحن نتعب عقولنا الصغيرة لتعيننا على فهم ما استعصى علينا فهمه و إدراكه . حككنا رؤوسنا المشبعة بالرمل و الغبار , و جباهنا المتجعدة , و فركنا عيوننا أكثر . كانت أنفاسنا غير منتظمة , و كدنا نلهث و نحن لا نأتي حركة و لا نحرك قدما . أحسسنا بأن أقدامنا لم تعد قادرة على حملنا , فاقتعد أغلبنا الأرض , و تجلد من ظل واقفا .
" أيها الناس , يا سكان هذه القرية الصغيرة المتربعة على سفوح الأطلس الكبير , جاءتكم اليوم آخر الابتكارات و أحدث ما انتهى إليه دهاة السياسة و الاقتصاد . جاءتكم الخوصصة تسعى على قدمين ا فافرشوا لها الأرض بالورود و الياسمين . اهتفوا مبتهجين , و لتزغرد النساء و يصخب الأطفال , و لتحضروا البخور و الشموع و الحناء ... البسوا من اللباس , الأبيض . و كلوا من الطعام , الأطيب . و تمنطقوا بالحرير , و دقوا الطبول .
أيها الناس , اليوم خوصصة و غدا طحين ...."
نظرنا إلى المتعلمين منا , الذين أسعفهم الحظ فدخلوا المدرسة ثم أغلقت أمامهم أبواب الشغل , فصاروا في منزلة بين المنزلتين : فقدوا صفات الفلاح الأمي و طريقة تفكيره , و أضاعوا ما تعلموه في المدارس و الجامعات بعدما طالت سنوات البطالة و التسكع بين الدروب و الحقول . رأيناهم حائرين مثلنا . سألناهم عن الخوصصة , فهزوا أكتافهم و لم تنطق ألسنتهم بشيء . سألنا فقيه القرية , فتمتم بالحلال و الحرام و البدعة و الضلالة و التخصيص و الخوصصة و الحوصلة و الحمدلة و البسملة و الحزن و المسكنة و الميسرة و الميمنة و البدعة و الضلالة ...التفتنا نحو شيخ القبيلة , رأيناه يجهد بصره الضعيف محاولا قراءة ملامح الرجل فوق الشجرة , و أغلب الظن أنه لم يسمع كلامه لأن سمعه أضعف من بصره .
ارتفعت الشمس في السماء و ارتفعت حرارة الجو . نزل الرجل من الشجرة . تأبط محفظته و بوقه و اختفى . بعد يومين جاء القائد و أعلن خوصصة نبع الماء العذب . صار في ملكية رجل غريب عن القرية . و صار الأهالي يملأون الجرار و القرب بمقابل . فاقتصدوا في شرب الماء و تحملوا العطش . و بعد أيام تمت خوصصة زريبة مسعود التي كانت مأوى عموميا لدواب القرية . ثم امتدت الخوصصة إلى الطريق العمومي المؤدي إلى السوق الأسبوعي .
بعد مدة , صارت الخوصصة مألوفة مثل الشهيق و الزفير, و لم تسثن الأملاك الصغيرة التافهة , كالأفران و مواقد النار, و سمك النهر و الأشجار التي لا يملكها أحد ...و مع غروب شمس كل يوم كان الناس ينتظرون الرخاء و السعادة و الثراء ...و لكن الطحين ظل نادرا . و رغم أنهم فلاحون فقد كانوا يقتنون الدقيق الدعم , و يكدون للحصول على البون . و كان البون أبعد من السماء.
فصاروا يهمسون: أ يعقل أن تكون الخوصصة بدون طحين ؟ا
توالت أعوام القحط و البؤس ،فأعلن الناس ما كانوا يهمسون به . و ذاع في تلك القرية الصغيرة من قرى الأطلس الكبير هذا المثل الذي لم تدونه مجامع الأمثال بعد :" أسمع خوصصة , و لا أرى طحينا " .
#ميلود_بنباقي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟