نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)
الحوار المتمدن-العدد: 1212 - 2005 / 5 / 29 - 11:29
المحور:
كتابات ساخرة
حين كنت صغيرا كانت الوالدة الغالية ,أطال الله عمرها, ترسلني إلى عند جارنا "أبو صطيف" الحلاق لكي أقص شعري عنده.وكان أبو صطيف هذا رجلا طيبا بكل المقاييس أي بلدي عالتمام,وشهما وكريما ودمث الخلق ,ولم يعبه شيء سوى كثرة الكلام,ولم يزل على قيد الحياة حتى الآن والحمد لله. وكانت "ست الحبايب" توصيني أن أخبره بأن "البابا" سيعطيه أجرة الحلاقة فيما بعد على الأرجح آخر الشهر,وكان أمرا شائعا وحتى الآن في تلك الأصقاع الأصيلة والجميلة التي تحمل الحب, والكرم ,والبراءة وطيب الخصال.والمشكلة ليست هنا بالطبع, لأن النقود كانت "متوفرة" أكثر من "الكشك", والبرغل في تلك ألأيام.ولكن في الحلاقة بحد ذاتها, حيث كانت تتم وفق طقوس رتيبة ,ومملة كانت تتكرر بنمطية قاتلة في كل مرة على نفس وثابة ,متمردة ,وخيال خصب لايعرف حدودا أو قيودا .والطامة الكبرى ,بالنسبة لي على الأقل, كانت أن المدعو صاحبنا أبو صطيف كان كثير الكلام بحيث أن الرأس كان يأخذ معه حلاقة أكثر من ساعة وهو لاينفك بنفس الوقت من إشعال لفافة التبغ التي كان يلفها بيديه,وفي الحقيقة لم أكن أدري ماهو المبلغ الذي يصرفه ليس على التبغ الذي يستهلكه ,ولكن على الكبريت الذي يشعله في كل مرة تظرا لعدد المرات الذي كانت تنطفئ سيجارته به,وأما رمادها فكان يجد ملاذه النهائي في شعر الزبون طبعا,إضافة إلى نوبات السعال المتكرر التي مازالت إلى الآن تدوي في عقلي الباطن وذاكرتي الصوتية, برغم مرور عدة عقود كاملة على تلك المكابدة والمعاناة التي تركت في نفسي عقدة من "الحلاقة"حتى الآن.وكان لايترك سيرة ,أو سؤال ,أو سالفة ,أو حكاية إلا ويقصها ويسردها عشرات المرات ولنفس الزبون وبنفس الديكورات, والنبرات, والمؤثرات.وعندما كان يحين موعد قص شعري ,كان يعتبر ذلك بمثابة كابوس كبير,وتهديد إرهابي خطير لا أرتاح منه إلا عندما أخرج من دكان "أبو صطيف" سليما معافى دون انفجار في الأوردة والدماغ,أو تشطيبات من موس الحلاقة هنا وهناك. وكان يعرف كل شاردة وواردة في الحي ,وحتى تاريخ ميلاد كل واحد من الجيران والصبيان ,وكيف حملته أمه وهنا على وهن.ولابد من الإشارة هنا إلى أن مفهوم الحلاقة عند الأحبة في الشام تعتريه بعض التفسيرات,كأن يقال مثلا انهم قد حلقوا لفلان أي طردوه من عمله أو وظيفته ,وأنزل من عل بعد حياة من العز والجاه. فاحذروا أن يحلق لكم أحد على الطريقة الشامية.
وعندما كبرت فقط أدركت الحكمة الأمنية السامية في اشتراط حصول الحلاقين على موافقات أمنية قبل استلام رؤوس"المواطنين الكرام",وحتى الصلعان منهم,والعبث بها بدون أمان ,لأنها ثروة وطنية ,ورؤوس نووية قابلة للانفجار في أية لحظة من كثر ماحصرت ,وكظمت من غيظ وألم ومعاناة.ولابد أنه قد أتتهم شكاوي كثيرة على جارنا الحلاق. وعبارة المواطنين الكرام كثيرا مااستخدمتها وسائل الإعلام والتي لم يجد لها عتاة النحويين أي مرادف ,أوإعراب,أو تعريف أو وجود في كل قواميس العربان. ولكي لا يتسبب أي حلاق,بعد ذاك, يريد أن يلتحق بهذا الكار ,بمثل الأذى النفسي الذي كان يسببه لي أبو صطيف حين أجلس على كرسيه وأتعرض "لقص"متعدد الأشكال .ولكي يبقى شعار المواطنين الكرام مقدسا ومصانا من عبث بعض الحلاقين كثيري الثرثرة والكلام.ولذلك كان من الواجب حصول أي حلاق على الموافقة الأمنية السامية قبل أن يستلم أي رأس من رؤوس المواطنين الكرام.واعتبار أن التجمع عند الحلاق لقص شعر الرأس تهديد للأمن الوطني وتجمع مشبوه, كما هي العادة, لأكثر من شخص واحد ,قد يشكل خطرا ما في أية لحظة.
فمن يقرأ بنود السبع وستين مادة ونشاط التي أعفيت من شرط الحصول على الموافقة الأمنية يدرك بوضوح ومرارة في آن حجم المعاناة والألم الذي كان يتعرض له "المواطنون الكرام",والابتزاز حين الشروع في تنفيذ أي عمل مهما كان تافها وصغيرا ,ولاعلاقة له بالأمن الوطني وسلامة الأوطان .ولكن ولكي تتم عملية حصي الأنفاس بدقة تامة ,ودونما أية أخطاء كان هذا الأمر واجبا وضروريا ولا مناص,ولكي تأخذ الدولة الأمنية أبعادها الكاملة ,وتزدهر أي ازدهار.وسيدرك المرء بسهولة لماذا "طفشت"الناس ,وهجرت العقول والخبرات إلى بلاد فيها مرونة وتسامح وانفتاح و"حلاقين" مودرن وكوافيرات ,ولاتخوّن أحدا ,ولا تحتكر المواطنة والنضال والشرف القومي بفئة قليلة من الناس. وصارت عملية الحصول على تلك الموافقة ,رغم أن المتقدم مواطن أبا عن جد ,وكريم الخلق وحسن السيرة والسلوك,عملية ابتزاز تمارس على الملأ وفي وضح النهار,ومشاركة للمواطن في رزقه وعمله وحياته,وكسب قوت يومه .وهذا هو السبب أيضا لمعرفة لماذا عزف الناس عن الإبداع والمشاركة في شتى نشاطات الحياة طالما أن العرفاء ,والخفراء هم من يقرر مستقبلك ويدخللك جنة البزنس والمال والبورصات .ناهيك عن الضباط الذين كانوا يعتبرون أنصاف آلهة ولايظهرون أبدا على العامة والرعاع, لأن في ذلك تهديدا للأمن القومي ,وسلامة الحدود والبلاد من الأعداء والدخلاء و"حملة ألأمواس".وستدرك لاحقا وبيسر أيضا لماذا أصاب الشلل التام والعجز كل مناحي الحياة حيث لم يعد بالإمكان القيام بأي نشاط دون المرور على المرجعية العليا بالعتبة المقدسة لإصدار الفتوى الأمنية التي تدخلك فردوس النجاح والأعمال المتواضعة التي لاتغني ولا تسمن من جوع ,وتغنيك عن ذل السؤال , ومنح التفويض والبركات السامية واللازمة للشروع في أي نشاط.والسؤال المهم ماعلاقة حلاق مسكين متعيش,أو بقال ,أو تعيين مختار في قرية نائية في الجبال بالأمن القومي ,والصراع مع الصهيونية والاستعمار؟وإذا كان بالمفهوم تماما, والمؤيد بالمطلق حصول بعض المهن والوظائف على الموافقة الأمنية بالنسبة مثلا للضباط ,والسفراء,والمبعوثين ,والمعينين في الوظائف الحساسة التي تتطلب رجالا من نوع ما,وأهلية خاصة .أما الحلاق,فوالله هذه من عجائب الأمن والعربان,سوى الكيد ,والنكد ,والمرمطة وإذلال المواطنين الكرام.
ومع هذا التسامح والتواضع والانفتاح الأمني المدهش ,والسابقة العولمية في دنيا التجميل والمكياج ,لابد من التهنئة والقول ألف مبروك لكم أيها السوريون فقد أصبح بإمكانكم اليوم في عالم بيل غيتس ,والإنترنت ,ومنظمة التجارة العالمية والنمور الإقتصادية متعددة الجنسيات,ودون الحاجة لرضا أساطين الأمن والجنرالات , فتح الدكاكين وبيع الشيبس والعلكة والـ"قاظوظة" ,ووبيع الخبز في الأفران, وفتح محلات الجزارة ,وتربية الصيصان, وليس البورصات والمضاربة بالأسهم ,وفتح الشركات,والمتاجرة بـ"السوفت وير" والبرمجيات .كما صار بإمكانكم الزواج ,وإكمال نصف دينكم ,وحضور الأعراس ,وهز الخصر والدبكة ,وإطلاق الأهازج والزغاريد والمواويل بالصوت العالي ,ودون مراجعة أي عريف في الأقبية ودهاليز الرعب والمخابرات, أوتقديم فروض الطاعة, والتضرع والتسبيح ,والتبرك بأولياء الأوطان أمامه ,وتوزيع الابتسامات المجانية بكل الاتجاهات في زمن القهر, والنكد, والعذاب, والطفر, وضيق ذات اليد, والحال.وبإمكان أي شخص من الآن وصاعدا ممارسة مهنة الحلاقة و"التنكيل" برؤوس الخلق والعباد ,وتصديع رؤوسهم بالقيل والقال,وسرد كل مالديكم من "حتوتات ,وسير ,وحكايات.
ونعيماً سلفاً,على الحلاقة, ياشباب.
#نضال_نعيسة (هاشتاغ)
Nedal_Naisseh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟