|
حول نظرية الثورة السودانية ( 2) الشيوعيون السودانيون وقضية الديمقراطية
صدقي كبلو
الحوار المتمدن-العدد: 1210 - 2005 / 5 / 27 - 12:51
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
تقديم اصبحت قضية الديمقراطية، من ناحية نظرية وعملية، من اهم قضايا العصر، وسلك النقاش فيها مسالك شتى وبدا لبعض الناس وكأنهم يكتشفون اهمية الديمقراطية لاول مرة. ولا نهدف هنا لذم اولئك أو لتبيان ان الشيوعيين السودانيين ظلوا دائما مهمومين بقضية الديمقراطية أو لادعاء سبق في هذا المجال، هو ثابت دون ما ادعاء، بقدر ما نهدف لدراسة تطور مفهوم الشيوعيين السودانيين حول الديمقراطية والطريق الوعر، نظريا وعمليا الذي سلكوه في نضالهم من اجلها، وذلك بهدف استجلاء ذلك المفهوم من منظور نقدي يساهم في تطويره وترسيخه. وفي تقديري، ان ذلك مهم، ليس فقط استجابة "للموضة" أو التحاقا بموسم الهجرة إلى اليمين لتيار التراجع الذي الم باطراف حركة التحرر الوطني وحركة الطبقة العاملة العالمية بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وانما لمواصلة نضال الشيوعيين السودانيين انفسهم من خلال تطوير نظريتهم الثورية وبرنامجهم النضالي. وسنسلك في هذا الصدد منهجا تاريخيا نقديا، لا بهدف كتابة تاريخ الحزب الشيوعي، أو وقوعا في فخ الاعجاب بالماضي والتغني بامجاده، ولا كما قلنا من قبل، سيادة لروح الاعجاب بالذات (ذات الشيوعيين الجماعية) والافتخار بأننا نمسك بناصية الحقيقة، وان نظريتنا سليمة واننا "لسنا كالآخرين"، ولو كان الآخرون هؤلاء هم الرفاق السوفيت أو الشيوعيون في البلاد الاخرى. فلكل ظروفه ولكل قضاته . ان المنهج التاريخي النقدي تتطلبه ضرورة دراسة اية ظاهرة أو مقولة أو فكرة. فالظاهرة هي تاريخها، ودراسة تاريخها لا يعنى تبريرها، بقدر ما يعني دراسة حركتها وصيرورتها والتي لا تعني باي حال من الاحوال ان تلك الحركة كانت دائما إلى الامام أو انها لاتحمل أي تناقضات وصراعات داخلية، بل ان وجود تلك الصراعات والتناقضات لا يقود بشكل اطلاقي إلى ان حسمها كان دائما يتم لمصلحة تطور الظاهرة أو الحركة أو الفكرة، فالتاريخ عموما لا يسير في خط مستقيم. وهكذا تاريخ الظواهر والافكار والحركات الاجتماعية، ومن بين هذه الظواهر النضال من اجل الديمقراطية، ومفهوم الديمقراطية نفسه والحزب الشيوعي السوداني كحركة اجتماعية وسياسية. وندعى هنا اكتشاف تناقض بين النضال السياسي للشيوعيين السودانيين من اجل الديمقراطية وحقوق الانسان ونظريتهم عن الديمقراطية المسماة بالديمقراطية الجديدة حينا والثورية احيانا، وان هذا التناقض قد احتدم بشكل خاص بعد انقلاب 25 مايو 1969 وما تبعه من احداث بما في ذلك الانقلاب العسكري في 19 يوليو 1971 المسمى ثورة 19 يوليو حينا وحركة 19 يوليو التصحيحية احيانا اخرى. وان هذا التناقض قد بدأ حسمه في اجتماعي اللجنة المركزية في يوليو واغسطس عام 1977 ووثيقتي "قضايا ومهام السياسة الخارجية" و "جبهة للديمقراطية وانقاذ الوطن" ؛ ولقد حسم على مستوى البرنامج بشكل اساسي بعد انتفاضة مارس ابريل 1985، بدءا بحديث الاستاذ التجاني الطيب سكرتير اللجنة المركزية لراديو ام درمان في مايو 1985 عن تبني الشيوعيين للديمقراطية التعددية، وامتدادا عبر احاديث الاستاذ محمد ابراهيم نقد في الندوات العامة والحديث للتلفزيون والصحف المحلية والاجنبية وبرنامج الشيوعيين الانتخابي ثم مقالات الاستاذ التجاني الطيب في الميدان عن "الديمقراطية هل..". لقد طور الشيوعيون نظرية للديمقراطية تكاد ان تكون نظرية كاملة، وتعتبر ثورة فكرية عظيمة وتطورا نوعيا لما كان مطروحا من قبلهم ومن الحركة الشيوعية في المنطقة الافريقية والعربية. وما نحتاجه الآن هو ان نصوغ تلك النظرية بشكلها المتكامل وان نخرجها من بطون وثائق اللجنة المركزية والبيانات الجماهيرية والاحاديث المتفرقة لقادة الحزب لتصبح خطابا ايديولوجيا وبرنامجيا واضحا، حينئذ ستطرح امامنا مهام جديدة اكثر تحديدا، مثل صياغة دستور السودان الذي يترجم تلك النظرية، ودراسة مسائل الحكم المحلي والفدرالي، وقانون الانتخابات، بل وحتى اجراءات عمل البرلمان والمجالس المحلية والاقليمية ولوائحها. ولربما يظهر لنا حينئذ اننا في بعض أطروحتنا التفصيلية ما زلنا أسرى لنظرية الديمقراطية الجديدة بصيغتها القديمة، كما سيظهر لنا بدون أي شك ان نظريتنا للديمقراطية بصياغتها المتكاملة تتطلب منا جهدا تنظيميا اكبر في نشر فروع الحزب في ارجاء الوطن المختلفة وبناء اشكال جديدة للتحالف الديمقراطي في مناطق ومجالات لم تكن موجودة بها، بل والسعي نحو وحدة القوى الديمقراطية وبناء الجبهة الوطنية الديمقراطية. ويعاني هذا الفصل نقصا في التوثيق هو سالب لا شك، إذ إن الفصل يتبنى منهجا تاريخيا يفترض دقة التوثيق في عرض الأفكار و المواقف، ولكنه نقص فرضته الظروف التي كتب فيها في المنفى في زمن تسود البلاد ديكتاتورية الجبهة الإسلامية مما يجعل الوصول لبعض الوثائق مستحيلا، وكذلك إجراء بعض المناقشات مع بعض الزملاء الذين عاصروا فترات هامة يتتناولها الفصل بالمناقشة. لكننا رغم هذه السلبية نرى ان الفصل يسهم في نقاش مفيد وانه ليس حجرا يلقى به في ماء ساكن، فالنقاش والحوار قد بدأ قبله وسيستمران بعده. وكل امل كاتبه ان يكون اسهاما مفيدا فيه. فالكلمة الأخيرة لم تقل بعد ولن تقال ابدا. تأسيس الحزب ارتبط باستنهاض حركة ديمقراطية لعل ما يميز نشوء الحزب الشيوعي السوداني عن الاحزاب السودانية التي سبقته (الأمة والاشقاء) ان الاخيرة كانت نتيجة لانقسام مؤتمر الخريجين وتراجع الحركة الوطنية عقب رفض مذكرة المؤتمر وقيام المجلس الاستشاري لشمال السودان، بينما صاحب نشوء الحزب الشيوعي وسنواته الاولى نهوضا في الحركة الجماهيرية شمل معركة تكوين نقابة السكك الحديدية ومظاهرة طلبة الكلية والمدارس العليا في مارس 1946 ثم معركة الجمعية التشريعية وقيام مؤتمر الطلبة ... الخ. وكان الاستعمار البريطاني قد واجه صعود هذه الحركة الجماهيرية بمجموعة من الاجراءات تهدف إلى مصادرة الحريات العامة، يقول عبد الخالق محجوب: "لقد احس الاستعماريون بخطورة تطور الحركة الجماهيرية فسلكوا سبيل البطش بالتقدميين فسنوا القوانين الرجعية وحلوا منظمة انصار السلام وجعلوا من مصادرة حرية الافراد والجماعات والصحف قاعدة لهم وبدأوا خلال عام 1951 يعدون العدة لحل اتحاد نقابات العمال الذي كان يقف بقيادته الصلبة وعلى رأسها المناضل الشفيع احمد الشيخ في طليعة الحركة الجماهيرية""(عبد الخالق محجوب، لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي، ص 70 ) وهكذا ارتبط تأسيس الحزب الشيوعي بالنضال الجماهيري ضد الاستعمار المرتبط بالنضال من اجل الحريات العامة واهمها حرية التنظيم والتعبير والتظاهر والحرية الشخصية (ضد اجراءات الاعتقال و التفتيش والرقابة والتبليغ اليومي لمراكز الشرطة)، ولكن هذا النضال لم يرتبط بنظرية للديمقراطية ايجابية المحتوى فلا رفض الجمعية التشريعية قدم بديلا، ولا رفض دستور القاضي بيكر قدم تصورا مختلفا، ولكنه عبر بوضوح عن رفض الطريق البرلماني (وقد تم التعبير عن ذلك في نشيد مشهور للشيوعيين حينئذ: اخي المجد للكتلة الجائعة، والذي يقول: اخي ان اجازوا دستورهم واحيل النضال إلى البرلمان فانا لن نبارك احلافهم لكي يدوس اعراضنا الامريكان ولعل ذلك انعكس في الموقف المتشدد من اتفاقية 1953 وفي المعارضة داخل الحزب لانتخابات الفترة الانتقالية. وهنا تاتي اهمية اجتماع اللجنة المركزية في مارس 1953 فهو إلى جانب انجازاته الكثيرة قد حسم دخول الحزب للانتخابات واقر التعاون مع بقية الحركة الوطنية لانجاز اغلبية برلمانية، مقدما مساهمة هامة في صياغة نظرية حول علاقة الممارسة الديمقراطية بالنشاط الجماهيري و التمثيل البرلماني، وكيف ان الاثنين يكملان بعضهما. يقول عبد الخالق محجوب انه كان واضحا ان الاغلبية البرلمانية "لن تستطيع انجاز مطالب الشعب الوطنية و الديمقراطية بدون تنمية الحركة الجماهيرية النشطة وتعهدها"(عبد الخالق محجوب، لمحات ، مرجع سبق ذكره، ص 83). بل ان دخول الانتخابات نفسها هو "اداة لتوسيع الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار وتعميق مطالبها الديمقراطية و الاقتصادية ويقظة الجماهير ازاء المزالق التي تحف بالاتفاقية المصرية البريطانية" (المرجع السابق، نفس الصفحة). اننا ازاء عنصرين للديمقراطية: البرلمان المنتخب والحركة الجماهيرية الضاغطة. وذلك ان الحزب الشيوعي لا يرى ان العملية الديمقراطية تنتهي بانتخاب البرلمان، بل انها تستمر بعد ذلك من خلال النشاط الجماهيري الديمقراطي الضاغط. وقد ادى ذلك، من خلال الميكانيزم الذي سنوضحه للتو، إلى جعل النضال من اجل الحقوق الاساسية جزءا هاما من نضال الشيوعيين السودانيين، اذ انه بدونها لا يمكن للجماهير ان تمارس دورها في العملية الديمقراطية. ما هو هذا الميكانيزم؟ اولا: الانتخابات البرلمانية، ونسبة لظروف تخلف السودان "وضعف الاساس الاجتماعي للبرلمانية الغربية في بلادنا" (الماركسية وقضايا الثورة، الطبعة الثانية، ص 108)، تؤدي لوصول القوى الرجعية للسلطة. ثانيا: الحقوق الديمقراطية التي تتيحها الديمقراطية الليبرالية تسمح للحركة الجماهيرية الديمقراطية وحركة التغيير الاجتماعي ان تنمو وتتطور وتمارس ضغوطا على البرلمان والسلطة السياسية. وتوضح تجربة النضال في عام 1958 ضد المعونة الأمريكية و الأحلاف العسكرية الأثر الواضح الذي يمكن ان تلعبه حركة الجماهير (حركة الشارع) في تغيير المواقف المختلفة للنواب والقوى السياسية. وقد اتضح نفس التأثير ابان حرب يونيو 1967 وتكوين مؤتمر الدفاع عن الوطن العربي (المحجوب اعلن الحرب على اسرائيل ودعا لمؤتمر الخرطوم الذي اعاد تنظيم الصفوف العربية ورصها ضد العدوان..)، ولعل تجربة انتفاضة ديسمبر 1988 وتكوين حكومة الوحدة الوطنية في مارس 1989 مثال آخر من تاريخنا القريب. ثالثا: وكمحصلة ل "اولا" و "ثانيا" اعلاه، فان القوى الرجعية ظلت تسعى بشكل دائم لمصادرة الحقوق الديمقراطية بدءاً من ترددها في تنفيذ قرارات البرلمان الاول و القاضية بالغاء القوانين المقيدة للحريات، فرض حالة الطوارئ عام 1957 ابان حكومة عبد الله خليل، وتسليم عبد الله خليل الحكم للجيش في نوفمبر 1958، وحل الحزب الشيوعي في شتاء 1965، ورفض حكم القضاء في 1966، ومشروع الدستور الاسلامي 1968/ 1969، (ويمكن اضافة تعديلات الدستور في 1986 والتي ادعى صادق المهدي انه يريد تصفية اثار مايو بها بينما كانت تلك التعديلات تمثل تهديدا حقيقيا للحريات الاساسية لم تدركه حينئذ الا المنظمة السودانية لحقوق الإنسان بينما وافقت عليه كل الأحزاب بما في ذلك الحزب الشيوعي)، ومحاولة قانون النقابات 1986 وقانون الصحافة 1988 واعلان حالة الطوارئ ابان حكومة الوفاق والتي استغلها وزير الداخلية مبارك الفاضل لممارسة الاعتقال التحفظي ضد المشاركين في ندوة امبو ... الخ وقد كانت حصيلة كل ذلك كما اوردنا، ان اصبح جزء كبير من نضال الشيوعيين والحركة الجماهيرية هو نضال من اجل الحقوق الأساسية أي من اجل حقوق الانسان والحقوق الديمقراطية، بدءاً باضراب الحريات الذي قاده اتحاد النقابات عام 1951 ومرورا بمشاريع تعديل والغاء القوانين المقيدة للحريات والتي قدمها نائب دوائر الخريجين الأستاذ حسن الطاهر زروق في البرلمان الأول. ويضاف إلى ذلك النشاط الجم للهيئة الشعبية الدائمة للدفاع عن الحريات عام 1954، ومذكرة الجبهة المعادية للاستعمار عن الحريات للازهرى، وكان رئيسا للوزراء، في اكتوبر ذات العام، ومذكرة رؤساء تحرير الصحف للازهرى في يناير 1955 بعد اجتماعهم مع الهيئة الدائمة للدفاع عن الحريات. ولقد شكل بند كفالة الحريات العامة البند الثاني ضمن ثلاث بنود قامت على اساسها الجبهة الاستقلالية بين الشيوعيين وحزب الأمة. ولقد تكررت المطالب بالحريات العامة في كل مذكرات وبيانات الجبهة المعادية للاستعمار واتحاد النقابات واتحادات المزارعين واتحاد طلاب الكلية واتحادات المعهد الفني والمدارس الثانوية. وأجمل الأستاذ حسن الطاهر زروق تلك المطالب والتوجهات الديمقراطية في خطاب ضاف عشية الاستقلال في 31 ديسمبر 1955 عند مناقشة مسودة الدستور المؤقت حيث اقترح خمسة اسس للدستور: 1-ان يكون مستمدا من مصالح الشعب وان يحترم ارادته. 2- ان يجعل جهاز الدولة ديمقراطيا ينص على حق الشعب في مراقبة جميع اجهزة الدولة وحقه في محاسبة ممثليه، وان يشترك الشعب اشتراكا واسعا في الحكم. 3- ان يسمح باطلاق كل قوى الشعب في النضال ضد الاستعمار ومؤسساته بتوفير الحريات العامة وحرية العقيدة وحرية اعتناق الآراء السياسية والعمل من اجلها. 4- ان يحمي مصالح العمال والمزارعين والتجار وكافة المواطنين من الاستغلال ويحمي حقهم في الراحة وحقهم في العمل. 5- ان ينص على انتهاج سياسة خارجية مستقلة سلمية تقوم على معاملة جميع الدول على اساس المساواة والاحترام المتبادل" (محمد سليمان، اليسار السوداني في عشرة سنوات، 1969، ص ص 173-175) وطالب الاستاذ حسن الطاهر في خطابه ذلك بضرورة النص على قيام الجمعية التأسيسية في الدستور المؤقت حتى يشارك ممثلي الشعب في وضع الدستور الدائم للبلاد. أوضح إن هناك تناقضا بين مشروع الدستور وبعض القوانين والسياسات السائدة حينئذ مما يتطلب تغيير وتعديل تلك القوانين والسياسات حتى تتماشى مع الفصل الثاني من مشروع الدستور الخاص بالمساواة بين السودانيين والحريات العامة وحدد تحديدا قضايا الأجر المتساوي للعمل المتساوي في الشمال والجنوب والأجر المتساوي للعمل المتساوي للرجل وللمرأة، وقانون الصحافة وبعض مواد قانون العقوبات (المرجع السابق، ص ص 175-176). وجاء المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي في فبراير 1956 ليؤكد موقف الشيوعيين من قضية الديمقراطية و الحريات العامة، فيتبنى الحزب الجمهورية البرلمانية ويطالب بالحكم الإقليمي الذاتي للمديريات الجنوبية. ولقد اشار عبد الخالق إلى ان المؤتمر الثالث قد اعتبر ان قضية الديمقراطية تحتل "المكان المقدم اذ ان سير البلاد في طريق التطور المستقل لا يمكن ان يتم كما اشار البرنامج بدون استمرار الحركة الجماهيرية ونموها واتساعها وصلابة تنظيماتها وتنوعها" (لمحات، ص، 112). واشتد نضال الشيوعيين وحلفائهم ضد محاولات حكومة عبد الرحمن خليل (1956-1958) لتقييد الحريات العامة خاصة بعد لجوئها لفرض حالة الطوارئ في عام 1956 في مواجهة المد الجماهيري الذي صاحب رد فعل الجماهير السودانية وتنظيماتها الديمقراطية للعدوان الثلاثي على مصر. وقد عبر الأستاذ حسن الطاهر زروق عن معارضة الشيوعيين لاستمرار حالة الطوارئ بتأييده الاقتراح المقدم من عضو البرلمان الأستاذ ابراهيم المفتي مطالبا برفع حالة الطوارئ في ديسمبر 1956. قال حسن الطاهر: " الاستقلال بدون حريات هيكل متداع بغير روح أو ارادة. ولسنا على استعداد للتفريط في أي مظهر من مظاهر هذا الاستقلال الذي جاء بتضحيات غالية. فعندما تختفي حريات الشعب من حياته يصبح ذلك الاستقلال جسما بلا روح وتتغول الحكومات على المحكومين وتسلط عليهم اوضاعا ضد حرياتهم خاصة اذا انتفت الأسباب الوجيهة لقيام هذه الحالة كما هو الحال في السودان" (اليسار السوداني، ص 257) وظل الشيوعيون وحلفاؤهم متمسكين بتكتيكيين أساسيين للعمل الديمقراطي: العمل وسط الجماهير وتنظيمها لانتزاع حقوقها الاقتصادية والاجتماعية وحقها في التنظيم المستقل، والسعي في نفس الوقت لبناء حلف وطني معادٍ للاستعمار لخوض الانتخابات وداخل البرلمان. ان العمل الديمقراطي اذن يرتكز على العمل الجماهيري الشعبى والنضال البرلماني. ولكن يجب الا ينظر إلى التكتيكيين في انفصال وانما في وحدتهما وعلاقتهما المتبادلة؛ لا من خلال ممارسة الضغط عن طريق المنظمات الديمقراطية كالنقابات واتحادات الطلاب فقط، بل بالتوجه المباشر لقيادات الأحزاب وجماهيرها وطرح مشروع التحالف الوطني قبل وبعد الانتخابات وجذبهم للنضال المشترك في الشارع والبرلمان حول قضايا محددة مثل قانون الطوارئ وحلف بغداد والعدوان الثلاثي على مصر والمعونة الأمريكية. وهذا يفسر موقف الشيوعيين والجبهة المعادية للاستعمار من انقسام الاتحاديين وخروج الختمية بحزب الشعب، حيث اعتبروه قسما للصف الوطني، وكذلك مخاطبتهم المباشرة لشيخ علي عبد الرحمن رئيس حزب الشعب الديمقراطي في اكتوبر 1957 داعين حزب الشعب لفض ائتلافه مع حزب الأمة والانضمام للأحزاب الوطنية "لوضع حد لحالة الانقسام والتوتر في المعسكر الوطني" (مذكرة الأستاذ الوسيلة عن سكرتارية الجبهة المعادية للاستعمار للشيخ علي عبد الرحمن، اليسار السوداني، ص 286). وكذلك مخاطبتهم للسيد علي الميرغني في نفس الوجهة. وكان ذلك كله مرتبطا بعمل جماهيري: مظاهرات واضرابات وليال سياسية كان لها اثر واضح في استنهاض حركة جماهيرية شملت الاتحاديين والشيوعيين وجماهير العمال والطلاب والمثقفين، حتى ان السفارة البريطانية اتهمت في احدى رسائلها للندن الرئيس الأزهري بالوقوع تحت نفوذ الشيوعيين. وتوج هذا الخط في النضال من اجل الديمقراطية وصيانة الاستقلال بتشكيل الجبهة الوطنية التي تكونت بدعوة من اتحاد طلاب الجامعة في 29 اكتوبر 1958 من الوطني الاتحادي والأحزاب الجنوبية والجبهة المعادية للاستعمار واتحاد العمال واتحاد طلاب الجامعة وغيرها من الأحزاب والمنظمات ما عدا حزبي الأمة والشعب. وكان الهدف الواضح والمعلن للجبهة الوطنية هو اسقاط حكومة عبد الرحمن خليل بالطرق المشروعة. وكانت الجبهة تسعى لتحقيق ذلك من خلال البرلمان وحشد جماهير الشعب حول ميثاقها ولقد جاء في بيانها الأول: اننا نناشد الأحزاب والهيئات المشتركة في الجبهة الوطنية كما نناشد كافة جماهير الشعب السوداني والمستقلين وكل من يهمهم امر هذه البلاد ان يتكتلوا في تنظيمات فرعية في كل المديريات بمدنها وقراها وبواديها لشرح بيان الجبهة الوطنية وتعميق الميثاق القومي بين صفوف الشعب بكافة الوسائل المشروعة من اجتماعات سياسية ومواكب وحفلات وغير ذلك حتى يصبح الميثاق هاديا ودليلا للحكومة الوطنية التي نعمل على احلالها مكان هذه الحكومة حتى يصبح الميثاق سياسة وطنية مرسومة نعمل جميعا على تنفيذها. (اليسار السوداني، ص 343) وازاء هذا النهوض في الحركة الجماهيرية سلم عبد الرحمن خليل الحكومة للجيش بقيادة إبراهيم عبود.وبقيام انقلاب 17 نوفمبر 1958، أصبحت قضية النضال من اجل الديمقراطية والحقوق الأساسية هي القضية الأولى في برنامج النضال ضد الحكم العسكري، مما وضع الحزب الشيوعي في مقدمة المناضلين من اجل الديمقراطية والحقوق الأساسية؛ يقول عبد الخلق محجوب "واصبح الكثير يرى في الحزب الشيوعي مكافحا من اجل الديمقراطية، فربما ادى هذا إلى دخول الكثير من العناصر على اعتبار قضية الديمقراطية وحدها لا على اعتبار البرنامج الكامل للحزب الشيوعي وافكاره الاشتراكية العلمية"(لمحات ص 116). ورغم هذا فقد كانت فترة الحكم العسكري الأول هي الفترة التي تسرب فيها الفكر الانقلابي إلى داخل الحزب الشيوعي. فقد ساهم احد اعضاء اللجنة المركزية للحزب في عام 1959 واثناء غياب اغلبية قادة الحزب في المعتقلات في تنظيم انقلاب 1959 والذي ادى إلى اعدام مجموعة من خيرة ضباط القوات المسلحة .. وعلاقة الفكر الانقلابي بموقف الشيوعيين من قضية الديمقراطية علاقة وثيقة. فالفكر الانقلابي يتجه نحو استبدال العمل الجماهيري وتنظيم نضال الجماهير من اجل حقوقها وفي مقدمتها الحقوق الديمقراطية بالتآمر لقلب نظام الحكم عن طريق مجموعة سرية داخل القوات المسلحة. انه يحول الحزب إلى حلقة تآمرية وتسرب الفكر الانقلابي إلى الحزب يعكس تأثر الشيوعيين بانتصارات وفكر أنظمة البرجوازية الصغيرة العسكرية في المنطقة حينها، بما في ذلك موقفها من الديمقراطية السياسية والحريات العامة. ورغم ان الحزب قد انتقد ذلك التيار واتخذ خطاًً للنضال مختلفاًً يعتمد بناء الحركة الجماهيرية والنضال وسط الجماهير ومعها لإسقاط نظام عبود عن طريق الإضراب السياسي العام، الا ان بذور الفكر الانقلابي ظلت موجودة وعاودت الظهور بعد ثورة اكتوبر. وسنعالج ذلك في حينه. وانفجرت ثورة أكتوبر 1964 ناشرة ألوية الديمقراطية والحقوق الأساسية، واصبح الحزب الشيوعي حزبا قانونيا لأول مرة في تاريخ السودان واكتسبت المرأة السودانية حقها الديمقراطي في الترشيح والانتخاب وعدل سن الناخب إلى 18 عاما ليشمل الشباب الذين اسهموا في الثورة إسهاما كبيرا ألغيت القيود الاقتصادية على الانتخاب والترشيح واصبح الانتخاب مباشرا وامتلأت الساحة بالتنظيمات الحزبية والشبابية والنسائية والنقابية والإقليمية والروابط القبلية أزيلت القيود عن الصحافة والتجمعات والمواكب السلمية وعاد للعاملين حقهم في التفاوض الجماعي وفي الإضراب. ولم تستطع القوى الرجعية احتمال هذا النهوض الديمقراطي العام، رغم انها استطاعت اجبار حكومة اكتوبر على الاستقالة وإجراء انتخابات عامة نتجت عنها اغلبية مطلقة للأحزاب التقليدية. فقد عادت الحركة الديمقراطية لاستعمال تكتيكات ما قبل انقلاب نوفمبر بالربط بين النضال داخل البرلمان والنضال الجماهيري خاصة ان الخريجين انتخبوا احد عشر نائبا من الشيوعيين والديمقراطيين اصبحوا صوتا لهذه الحركة داخل البرلمان. وثبت خلال فترة وجيزة ان الرهان الديمقراطي في المدى البعيد هو لمصلحة اليسار. وفي هذا الجو تمت مؤامرة حل الحزب الشيوعي. وقد أدت معركة حل الحزب الشيوعي عام 1965 وتكوين الهيئة القومية للدفاع عن الديمقراطية والقضية الدستورية ورفض حكومة السيد الصادق المهدي ومجلس السيادة والجمعية التأسيسية لقرارات المحكمة العليا إلى وضع الحزب الشيوعي وحلفائه في قلب حركة وطنية عامة تدافع عن الحريات الأساسية والديمقراطية واستقلال القضاء وسيادة حكم القانون أصبحت شرعية الحزب الشيوعي هي التجسيد لكل القيم الديمقراطية. ولكن ثورة اكتوبر طرحت إشكالات جديدة في فهم ومفهوم الشيوعيين للديمقراطية، وهذا ما سنحاول معالجته في الصفحات التالية. الديمقراطية: التناقض بين النظرية والنضال اليومي طرحت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في اجتماعها في مايو 1965 مسالة الديمقراطية على اساس انه بعد ثورة اكتوبر " ابتدأت تتضح الفرص لتطبيق ديمقراطية جديدة في البلاد لتضمن استمرار بلادنا في الطريق الوطني الديمقراطي والاشتراكية....فالقضية لم تعد ديمقراطية أو لا ديمقراطية بل اصبحت تسير كل يوم لتكون كالاتي: أي نوع من الديمقراطية؟" (أعمال اللجنة المركزية 27/5/1965) . إذن أصبحت هناك ديمقراطية وديمقراطية...أو قد تكون عدة ديمقراطيات ...إحداها على أية حال تمثل نظرية الحزب الشيوعي: الديمقراطية الجديدة والتي توضع في مقابل الديمقراطية البرجوازية أو البرلمانية الغربية؛ فما هي سمات الديمقراطية الجديدة؟ السؤال صعب لان الخطاب البرنامجي والأيد ولجي للحزب الشيوعي لا يبدو متناسقا. وهناك تناقضات واضحة في الوثائق وبين بعض الوثائق والنضال اليومي للشيوعيين، مما أدى إلى لبس وعدم وضوح جعل التمايز بين الخطاب الشيوعي والخطاب البرجوازي الصغير غير واضح وقد اثر هذا سلبا في تطور الثورة السودانية بتغذية الفكر الانقلابي داخل الحزب الشيوعي وبتغبيش وعي قطاعات من الديمقراطيين الثوريين، خاصة في ظروف قيادة أنظمة البرجوازية الصغيرة العسكرية في المنطقة وانتشار أيديولوجيتها عبر وسائل إعلامها الرسمية وكتابات مثقفيها المنتشرة في أوساط المتعلمين والمثقفين السودانيين وإصرار الشيوعيين والديمقراطيين السودانيين على الدفاع عن هذه الأنظمة في وجه الهجوم الشرس من قبل الرجعية المحلية والدوائر الاستعمارية. إذا نظرنا مثلا في وثيقة اساسية في ادب الشيوعيين وخطابهم الأيدلوجي ك"الماركسية وقضايا الثورة السودانية"، فاننا نجد الديمقراطية الجديدة توصف بأنها "تفتح الطريق للتقدم"(ص 132). وانها تضمن دفع بلادنا في الطريق الوطني الديمقراطي والاشتراكية"(ص 133). ولكن لماذا تفعل الديمقراطية الجديدة ذلك من دون الديمقراطيات الاخرى؟ ويبدو ان الإجابة تأتى من النظر إلى محتوى الديمقراطية الجديدة والذى يعني "تمتع الجماهير الشعبية بالحقوق الأساسية وتقييد نشاط الفئات المعادية للثورة الديمقراطية: اطلاق طاقات الطبقات والفئات الوطنية والديمقراطية من مزارعين وعمال ومثقفين وطنيين، وعناصر رأسمالية وطنية غير مرتبطة بالاستعمار، وتقييد ومصادرة نشاط الطبقات ذات الروابط مع الاستعمار والتي ليست لديها مصلحة في البعث الوطني"(ص 132) وهنا نجد نظرية الحزب الشيوعي حول الديمقراطية تتطابق مع نظرية الثورة الصينية القائلة بالديمقراطية للشعب والديكتاتورية ضد أعداء الشعب، ومع التجارب الستالينية والستالينية الجديدة في الاتحاد السوفيتي وشرق أوربا، على الأقل في ما يتعلق بتقسيم الناس إلى من يتمتعون بحقوقهم الأساسية ومن يحرمون من هذه الحقوق، مما يثير تساؤلا مباشرا ومشروعا: من الذي (أو التي) يقوم (أو تقوم) بعملية التقسيم هذه؟ وما هو الميكانيزم و المعيار، وهل تجري عملية التقسيم مرة واحدة أم أنها عملية مستمرة: كل من أبدى تأييدا للوضع القائم وسياساته يتمتع بالحقوق وكل من عارض يضاف إلى أعداء الشعب؟؟ وما هو دور الشعب في كل هذا؟ وانا ادعي هنا ان هذا ليس مطابقا لشعار لينين حول كل السلطة للسوفيتات لأن السوفيتات كانت مجالس ديمقراطية منتخبة لم يحرم شخص من الاشتراك في انتخابها. وهو دون شك لا يطابق مفهوم ماركس وانجلز عن الديمقراطية الذي يقوم على توسيع الحقوق الأساسية وتمتع الجميع بها وتحول البرلمان إلى سلطة شعبية خاضعة للرقابة الدائمة للجماهير. والتعارض الأساسي بين الفكرتين ان الاولى تريد ان تعطي جهة ادارية ما (حتى لو كان ذلك استنادا لتشريع صدر بشكل ديمقراطي) حق العزل السياسي ومصادرة الحقوق من بعض الناس. وهذا بالضبط يقود للديكتاتورية سواء كانت ديكتاتورية الحزب أو مجلس الثورة أو حتى ديكتاتورية الفرد. وتجارب العهد الستاليني، خاصة الفترة 1936-1939، التي راح ضحيتها رفاق لينين في اللجنة المركزية، وتجربة الثورة الصينية على ايام ما سمي بالثورة الثقافية، توضح لنا كيف يعمل مثل هذا النموذج والذي طبقته في ما بعد كل انظمة البرجوازية الصغيرة العسكرية سواء في بلدان ما سمي بالتوجه الاشتراكي أو الفاشية القومية أو الوطنية أو دولة التنمية. المسألة ببساطة ان الديمقراطية للشعب وضد اعداء الشعب تتحول في النهاية لديكتاتورية شاملة. وما يزيد من احتمالات تحول الديمقراطية الجديدة في السودان إلى ديكتاتورية هو ان هذه الديمقراطية في جوهرها هي ديمقراطية من انجاز الجماهير الثورية في القطاع الحديث وبالتالي هي ديمقراطية لجماهير هذا القطاع التي استطاعت ان تغل "يد الرجعيين عن الاعتداء على قوى الثورة" و تستطيع "ان تنجز مهام الثورة الديمقراطية ببث روح التقدم واعادة صياغة الحياة على اسس ديمقراطية بين الأقسام الأخرى بين السكان في القطاع التقليدي وجلبهم إلى حياة المعرفة في اطار البعث الوطني الجديد" (الماركسية، ص 135) والمسالة تبدو مقلوبة عندما تطرح هكذا: السلطة اولا ثم "جذب سكان القطاع التقليدي" ثانيا. وهو تعبير واضح عن استثناء جماهير ذلك القطاع من العمل الثوري أو السعي لجذبهم لساحة ذلك العمل. وفي تقديري، وقد اكون مخطئا، ان ذلك له علاقة مع نظرية القوى الحديثة والتي ادت عند تبنيها بشكل كامل بعد ثورة اكتوبر إلى إهمال عمل الحزب الشيوعي ونشاطه وسط القطاع التقليدي والذي كان قد خطا خطوات متقدمة قبل ديكتاتورية عبود. ان نظرية القوى الحديثة تقوم على اساس معطيات نضال جماهير المدن والقطاع الزراعي المروي وقدرتها على اسقاط الحكومة المركزية أو احداث عدم استقرار سياسي. ولكن لان هذه الجماهير تمثل اقلية عند اجراء أي انتخابات، فالديمقراطية البرلمانية تؤدي لانتخاب الأحزاب التقليدية نسبة لاستمرار نفوذها وسط جماهير القطاع المسمى بالتقليدي. ولقد أدى استخدام الأحزاب لبعض جماهير هذا القطاع في اسقاط حكومة اكتوبر لنظرية كاملة حول اجهاض الثورة وإلى ظهور الفكر الانقلابي الذي يرى انه يمكن للقوى الحديثة انتزاع السلطة بالقوة ومن ثم تحرير جماهير القطاع التقليدي من النفوذ الطائفي. ان هذه النظرية تجد نفسها منسجمة مع نظرية الديمقراطية الجديدة حسب طرحها في ذلك الوقت، وهي نظرية في النضال الجماهيري تؤدي بالضرورة إلى ديكتاتورية القوى الحديثة أو احدى فئاتها الطبقية. فهذه النظرية باهتمامها بتنظيم القوى الحديثة واعطائها الثقة في نفسها (أي بناء أيد ولجية لها وبرنامج تعتقد انها قادرة على تنفيذه وانه قادر على حل مشاكلها ومشاكل البلاد كلها) تدعو تلك القوى لتصعيد نضالها حتى الانتفاضة الشعبية والتي سيتم حسم قضية السلطة فيها لا بالمفاوضات كما حدث في ثورة اكتوبر ولكن بتدخل الجناح العسكري للقوى الحديثة في القوات المسلحة لوحده أو بدعم ميليشيا تعدها القوى الحديثة لذلك. وهذا السيناريو النظري يؤدي في احسن حالاته إلى ديكتاتورية القوى الحديثة أو قطاع منها تحت شعار ما يسمى بالديمقراطية الجديدة. وفي هذا يصبح الاختلاف بينه والسيناريو الانقلابي اختلاف درجة كما يقول استاذنا محمود محمد طه. وفي اسوء الحالات فانه يقود لحرب اهلية بين القوى الديمقراطية الممثلة في القطاع الحديث وبين القوى التقليدية والرجعية الممثلة في الأحزاب التقليدية والتي للأسف سيكون جنودها هم فقراء الريف في القطاع المسمى تقليدي وضباط جيشها بعض فئات البرجوازية الصغيرة المغتربة أيد ولجيا بتبنيها الأيد ولجية الدينية الممعنة في التخلف والتي تسمى هذه الأيام الإسلام السياسي وهي ببساطة أيد ولجية الأخوان المسلمين المستندة لفكر أبي الأعلى المودودي، وأبي الحسن الندوي والأخوين سيد ومحمد قطب، أما ما يستجد منها الآن فهو بمثابة شرح للحواشي والمتن لما أنتجه أولئك. وفي الحقيقة فإن الموقف المعلن حينها من القطاع التقليدي مزدوج, فبينما ترجأ مسالة الثورة في القطاع المسمى بالتقليدي حتى انتصار القوى الحديثة واستيلائها على السلطة، يستثنى الجنوب من ذلك. وقد اعترفت وثيقة "الماركسية وقضايا الثورة السودانية" إن القوى الحديثة "تواجه مشكلة حقيقية بين الوضع في جنوب البلاد"(ص 135)، إذ إن الحركة السياسية هناك "ذات طابع غالب معاد للنهوض الوطني والتحرر من التبعية الاستعمارية ولتطور الثورة الديمقراطية"(ص 136) لذا واستنادا لأن جماهير الجنوب "كأقليات قومية ذات مصلحة حقيقية في إنجاز الثورة الديمقراطية"، فانه "لابد ان نهيئ الظروف اللازمة لتنمية مراكز العناصر الوطنية والتقدمية في جنوب البلاد". ولكن لماذا جنوب البلاد وحده؟ لأنه يرفع السلاح؟ وهل لو كان الجنوب ساكنا مثل بقية مناطق القطاع المسمى بالتقليدي كان سيطلب منه انتظار القوى الحديثة لإنجاز الثورة نيابة عنه وحل المشكلة القومية؟ واذا تركنا جانبا مسألة القوى الحديثة فاننا نجد تناقضين من ناحية الطرح لمسالة الديمقراطية الجديدة: التناقض الأول بين المقدمات التحليلية لتجربة الديمقراطية الليبرالية والنتائج حول الدعوة لديمقراطية بديلة. اذ ان المقدمات التحليلية في وثيقة "الماركسية وقضايا الثورة" رغم حديثها عن فشل النظام البرلماني الغربي الا انها اثبتت اهمية ممارسة الجماهير للحقوق السياسية، ذلك ان تلك "الحقوق الديمقراطية البرجوازية نفسها اصبحت عاملا في جلب جماهير القطاع التقليدي إلى ميدان النشاط السياسي و الاجتماعي"(ص 134) مما جعل القوى الرجعية تضيق بهذه الحقوق لدرجة مصادرتها. تقول الوثيقة ان الرجعيين "وهم يجمعون قواهم تحت راية البرلمانية البرجوازية يستهدفون في الأصل تهديمها ومصادرة الحقوق الديمقراطية"(ص 133). وأدى منطق الوثيقة هذا (وهو صحيح في رأيي) إلى الوصول إلى نتيجة هامة وهي ان "التقارب بين قضية الديمقراطية وقضية التغيير الاجتماعي يسير بخطى حثيثة" (ص 134)، مما يعني ان المسالة هي مسالة وقت ومزيد من النضال الديمقراطي لجذب مزيد من جماهير القطاعين التقليدي والحديث معا دون ان نضحي بقضية الديمقراطية من اجل التغيير الاجتماعي أو العكس. وهذا لا يميز بين موقف الشيوعيين والبرجوازية الصغيرة فقط بل يكون تمييزا واضحا بين موقف التقدميين والرجعيين من قضية الحقوق الأساسية، بين من يحاول تطويرها وحمايتها ومن يسعى لتصفيتها. وهنا لابد لنا من الإشارة إلى مسالة وصف هذه الحقوق بالبرجوازية. وهو وصف غير حقيقي لطبيعة تطورها عبر التاريخ. فخلافا لحق الملكية الخاصة فجميع الحقوق الأساسية الأخرى في ما يسمى بحقوق الإنسان هي نتاج لنضال الجماهير الشعبية والطبقة العاملة سواء تم هذا النضال تحت قيادة البرجوازية أو في النضال ضدها. كما أنه بمجرد اكتساب هذه الحقوق فهي تصبح حقوقا للإنسان بشكل عام وليست حقوقا طبقية. وتحاول كل طبقة من خلال الممارسة والتشريع والآيديولوجيا إعطاء هذه الحقوق مفهومها الخاص بها. وهكذا تفعل الدولة البرجوازية في محاولاتها تجريد هذه الحقوق من محتواها بحيث تصبح ممارستها شكلية، خاصة من قبل الطبقات المعارضة، وتقيدها تماما حتى في أكثر الدول البرجوازية ديمقراطية عندما يتعرض النظام الرأسمالي وتشكيلته الإقتصادية الاجتماعية وبنيته السياسية للخطر. التناقض الثاني هو بين طرح قضية الديمقراطية في برنامج الحزب الذي اقره المؤتمر الرابع ووثيقة "الماركسية وقضايا الثورة السودانية" المقدمة لنفس المؤتمر. فالبرنامج يرى ان السلطة التي ستطبق الديمقراطية الجديدة تنبعث من "ارض الديمقراطية الواسعة" مما ينعكس على تطبيقها للديمقراطية الجديدة. ويتحدث البرنامج عن اسس "للديمقراطية المباشرة" مرتكزة على توسيع الحكم المحلي و"الديمقراطية النيابية" ويقول البرنامج ان الديمقراطية الجديدة "تعبر عن الديمقراطية السياسية والاقتصادية في آن واحد"(ص ص 43-44 من وثيقة دستور الحزب الشيوعي). ولعل ما يميز البرنامج انه نص بوضوح على "أن قيادة الحزب الماركسي للنظام الاشتراكي لا تعني وجوب نظام الحزب الواحد"(ص 2). الشيوعيون والديمقراطية وانقلابى مايو ويوليو رغم انه اصبح من المسلم به الآن ان الحزب الشيوعي السوداني اعترض على تنظيم انقلاب مايو وحاول اقناع القائمين به بالرجوع عنه، الا ان ذلك لا ينفي عن الشيوعيين بعض المسؤولية الأخلاقية عما حدث. فمعظم الذين خططوا وشاركوا في الانقلاب، رغم انهم ليسوا اعضاء في الحزب الشيوعي، الا انهم خرجوا من تحت معطفه أو تأثروا بفكره وخطابه الأيد ولجي بما في ذلك دفاعه عن الأنظمة العربية التقدمية ، وفي مقدمتها النظام الناصري حينها. وهذا ما ظل الشيوعيون السودانيون يعبرون عنه بعدم التمايز الأيد ولجي بينهم والبرجوازية الصغيرة قبل مايو. يقول عبد الخالق محجوب ان الخطأ الذي وقع فيه الشيوعيون:"هو اننا غلبنا الحلف السياسي على قضايا التمايز الأيد ولجي بين الفكر الديمقراطي الثوري والفكر الشيوعي وظهر هذا في اتجاه نشاطنا الدعائي العام" (حديث عبد الخالق امام المؤتمر التداولي كما اقتطفه القدال، الحزب الشيوعي وانقلاب مايو، الحلقة الثانية عشرة، الميدان، 14 أكتوبر 1985 ص6).وقال عبد الخالق ايضا "نحن كشيوعيين لا نقبل أيد ولجيا" نظرية القلة التي تقبض على السلطة ثم بعد هذا ترجع إلى الجماهير. في اعتقادي إن هذا موقف أيديولوجي ثابت للشيوعية وجزء من فهم الشيوعيين للثورة، وقد تطورت الشيوعية كعلم في الصراع ضد هذه النظرية ضمن صراعها الطويل ضد الأيديولوجيات الغريبة على حركة الطبقة العاملة" (المصدر السابق ص 6) . ولعل هذه الحاجة الموضوعية والضرورية للتمايز الأيد ولجي هي التي دفعت عبد الخالق وهو يكتب مشروعا لبرنامج الحزب لكي يقدم للمؤتمر الخامس الذي اقر المؤتمر التداولي التحضير له إن يقول: "نستهدف تصورنا واهدافنا لمرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، في ظروف تطرح فيها تصورات واهداف هذه المرحلة من قبل الشريحة البرجوازية الصغيرة. بعض هذه التصورات والأهداف المشار اليها اخيرا خاطئ ومزيف. ومن ثم فان برنامجنا سيكون في مستوى عال من الطرح الأيديولوجي والعملي في وقت واحد."(حول البرنامج، الطبعة اليمنية، ص 6). وقد تجلى هذا التمايز الأيديولوجي تجلياً واضحاَ في طرح وثيقة عبد الخالق ُحول البرنامج’ بشكل خاص في مسالة الديمقراطية الاقتصادية والسياسية والثقافية وليعذرني القارئ هنا لو أطلت الاقتطاف؛ يقول عبد الخالق "اعتماداً على تحليلنا الناقد لتجارب حركة الشعوب، وللتجارب الغنية التي اكتسبتها حركة الشعب السوداني، فان الثورة الوطنية الديمقراطية تحقق الشروط الموضوعية اللازمة لتحول الحقوق السياسية من مجرد اعلان قانوني إلى ممارسة فعلية للجماهير الكادحة، وهذه الحقوق هي الأداة الرئيسية لإنهاض الجماهير للنشاط السياسي حتى يصبح لدينا ملايين من الساسة المدركين، ولنمو وعيها لتنفذ اهداف الثورة بقدراتها الخلاقة التي لا تعادلها قدرات. "ونحن ايضا ننطلق من فهمنا للثورة - بوصفها اعلى مستويات لإنجازات الخلق الشعبي والتلقائية الدافقة، ولا نقبل مفهوم الوصاية على حركة الجماهير. ضمان استمرار وتطور الثورة الوطنية الديمقراطية هو يقظة الجماهير وتنامي نشاطها لا وقوفها متفرجة اعجاباً أو استياءً. ان التاريخ تصنعه الملايين لا بعض الأفراد مهما بلغت قدراتهم واعجازهم. ولهذا فالديمقراطية والتغيير الثوري متلازمان ولا يمكن الفصم بينهما" (حول البرنامج ص ص 48-49) ويتحدث عبد الخالق بوضوح عن حق الجماهير في حرية التنظيم فيقول: "تشمل الحقوق السياسية للجماهير الكادحة في ظل الحكم الوطني الديمقراطي حرية التنظيم. اننا نقدم من تجاربنا ودراساتنا أشكالاً لتنظيم الكادحين وهم يستيقظون على اهداف الثورة، ولكي يستيقظوا على تلك الأهداف. ولكن الجماهير، وهي تنفض عن نفسها غبار سنين الإهمال، تنتفض وتبدع اشكالا من التنظيم اغنى آلاف المرات مما يتصور أي برنامج سياسي ايا كانت مرتبته.(خطوط التشديد ليست في الأصل) ولهذا فان للجماهير الكادحة حقها في ابتداع التنظيمات الاقتصادية والسياسية التي تعبر عن مشاعرها وتركن اليها، وذلك دعم وحماية للثورة الوطنية الديمقراطية في بلادنا. ينطبق ذلك بصورة خاصة على الكادحين في الزراعة والإنتاج الحيواني الذين يعتمد على يقظتهم مصير الثورة الديمقراطية" (المرجع السابق ص 49) وكذلك يتحدث عبد الخالق عن حرية العقيدة الدينية وحقوق المرأة وطبيعة الثورة والبعث الثقافي الديمقراطي الذي لن يتم في رأيه "إلا وفقا للحرية والديمقراطية واتخاذ الدولة الوطنية الديمقراطية موقف المساعدة والتشجيع لا موقف القهر والتحكم. والحكم على العمل الفني موضوعاً وأداة هم النقاد القادرون والجمهور الواعي. بتوفير الحرية للعمل الفني يخرج من اعماق الشعب مئات المبدعين خلقاً فنياً، والملايين من الجماهير التي تتلقى بطريقة خلاقة كل عمل فني" (المرجع السابق ص 39) ولكن ُحول البرنامج’ يحمل في طياته موقفا مزدوجا من قضية الديمقراطية، فقط كان الموقف المزدوج هنا موقفا واعياً بازدواجيته ومبرراً لها وواعداً بأنه مؤقت تفرضه ظروف عملية. لننظر اولا لذلك الموقف وتبريراته قبل مناقشته. يقول عبد الخالق: يسخر النظام الديمقراطي كل ما لديه من وسائل وأدوات لتحطيم مقاومة الفئات والطبقات الرجعية بما يمنع أي محاولة من جانبها للعودة لمراكز السلطة والنفوذ. لهذا فهو يمثل الديمقراطية الواسعة بالنسبة للجماهير الكادحة، والدكتاتورية الموجهة لقهر مقاومة الفئات والطبقات الرجعية ." (خطوط التشديد ليست في الأصل).(حول البرنامج ص 50) ويذهب عبد الخالق لتبرير ذلك الموقف فيقدم ثلاثة تبريرات، الأول هو "شرعية الدفاع عن الثورة والتقدم في وجه قوى الرجعية والتخلف" (المرجع السابق ص 51) والثاني ان تجربة الشعب وفهم الشيوعيين السودانيين لمسألة الديمقراطية قد خلصا إلى انه "ليست هناك ديمقراطية "عامة" أو "مطلقة"" (ص 51) اذ ان الديمقراطية دائما طبقية. فقد طرحت من قبل "الديمقراطية البرلمانية" وما كانت في قاعها الا ديكتاتورية للحلف البرجوازي - شبه الاقطاعي. يطرح الان ما يسمى بالديمقراطية "الثورية" وهي ليست الا دكتاتورية شريحة من البرجوازية الصغيرة العسكرية الخ... الديمقراطية في ظل النظام الوطني الديمقراطي تحمل محتواه وتعبر عن مجموع المصالح الطبقية لذلك النظام"(ص 51) ثم ينتقل عبد الخالق لتقديم التبرير الثالث وهو الطبيعة المؤقتة لهذه الازدواجية. ودعونا ننقل كلماته كما هي "... ان هذا الازدواج عملي ولا يتعلق بنظريتنا المكتملة عن الديمقراطية، انه اجراء عملي من اجل تهيئة الظروف اللازمة للديمقراطية ومباشرتها بواسطة الاغلبية الساحقة تمهيدا لمباشرتها بواسطة الجميع" (ص 51) وهذا الطرح يثير عدة تساؤلات: لعل اولها ما هي شرعية الدفاع عن الثورة؟ ومن اين تكتسب الثورة مشروعيتها؟ وفي تقديرنا ان شرعية أي ثورة تاتي من جماهيرتها، أي من اشتراك اغلبية الجماهير فيها، وبمفهوم لينيني ما زلت اراه صحيحا، عندما تشعر الجماهير انها لا تستطيع ولا تريد العيش تحت الأوضاع السائدة. وهذا يختلف عن المفهوم الجيفاري الذي يبدأ بحفنة ثورية مسلحة تكون بمثابة الخميرة للثورة المسلحة, أو المفهوم الانقلابي الذي يستند على مجموعة صغيرة من المتآمرين داخل وخارج القوات المسلحة. وبالرغم من ان المفهوم الجيفاري قد يقود باعتباره عملية ممتدة عبر الزمن إلى انحياز اغلبية الجماهير اليه اذا ما ارتبط بعمل سياسي وسط الجماهير وتقديم المثال في الاراضي المحررة وهو واحد من احتمالات كثيرة؛ وان المفهوم الانقلابي يعتمد عنصر التنظيم التآمري والمفاجأة للاستيلاء على السلطة، الا انه وفي كلتا الحالتين فالمشروعية الثورية لا تعتمد على الاغلبية الجماهيرية وهي بالتالي لا ديمقراطية، وتقيم نظاما ديكتاتوريا مهما حسنت النوايا. ويستبدل المفهومان العملية الثورية المعقدة لتنظيم وبث الوعي وسط الجماهير عبر الصراع السياسي والآيديولوجي وتحويل حالات الضجر إلى عمل ثوري جماهيري منظم، بمفهوم صفوي يتخذ القرار نيابة عن الجماهير ويدعي إنجاز الثورة نيابة عنها. ولكن حتى بالمفهوم اللينيني فالمشروعية الثورية اذا لم تتحول لحكم الجماهير لنفسها، أي إلى ديمقراطية وهي في النموذج السوفيتي البلشفي المناقض للمفهوم الستاليني اخذت شكل سوفيتيات العمال والجنود، فهي تتحول لديكتاتورية وتاكل الثورة ابناءها كما حدث في الثورة الفرنسية الكبرى، وتختفي الحدود في الصراع الإجتماعي بين التناقضات الثانوية والرئيسية وكيفية معالجتها ويستعمل العنف (الذي يسمى في هذه الحالات ثوريا لتبريره) لحل تناقضات ثانوية ينبغي حلها بشكل ديمقراطي باعتبارها تناقضات في صفوف الشعب. المشروعية الثورية مؤقتة ومرهونة بانتزاع السلطة فقط، ثم تتحول إلى ديمقراطية قائمة على مؤسسات للتمثيل النيابي والحكم المحلي واضحة، مستندة على الحقوق الاساسية وحكم القانون واستقلال القضاء. وتأجيل ذلك لأي وقت يؤدي إلى الديكتاتورية. وهذا يقودني مباشرة لمناقشة مفهوم طبقية الديمقراطية وهذا مفهوم معقد ومركب و ذو علاقة وثيقة بنظرية الدولة من جهة وبمفهومي المجرد والمحدد في المنهج الماركسي من جهة اخرى. وسأحاول إن أو ما ارمي اليه في ما يلي؛: "ينبغي علينا التفرقة بين السيادة الاقتصادية والسيادة السياسية لطبقة اجتماعية أو فئة من طبقة اجتماعية أو كتلة اجتماعية من عدة طبقات. فالسيادة الاقتصادية تتحدد في مجال الإنتاج والتبادل والتوزيع، بينما إعادة إنتاج هذه السيادة الاقتصادية في مجتمع طبقي لا تعتمد على إنتاج وإعادة إنتاج السلع والخدمات وحدهما، بل تتطلب إعادة إنتاج نظام للعلاقات الاجتماعية، بما في ذلك علاقات الإنتاج نفسها، أي إعادة لإنتاج التشكيلة الاجتماعية ككل. ففي المجتمعات الطبقية تتصارع الطبقات في داخلها وفيما بينها في سعيها لتحطيم أو تغيير أو تبديل أو إعادة إنتاج منظومة العلاقات الاجتماعية، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو قانونية أو ثقافية...الخ، لتحقيق منافع مادية أو غير مادية جديدة أو اكثر مما كانت تحقق أو لتحافظ أو تصلح من المنافع الموجودة. إن السيادة السياسية هي التي تسمح لفئة طبقية أو طبقة اجتماعية أو مجموعة من الطبقات المتحالفة بالتأثير على وجهة إعادة إنتاج المنظومة أو التشكيلة الاجتماعية بما في ذلك نظام الإنتاج بأسلوب إنتاجه السائد أو أساليب إنتاجه الممفصلة ، إما في وجهة التغيير الراديكالي أو الإصلاح أو المحافظة." وهذا ما يجعل الفئات الطبقية أو الطبقات السائدة اقتصاديا أو الطامعة في السيادة الاقتصادية تسعى للسيادة السياسية، أي لكي تصبح طبقة أو فئة حاكمة، وليس امامها الا سبيلان لفعل ذلك: اقامة دولة سلطوية أو اقامة دولة ديمقراطية. والدولة السلطوية أو النموذج البونبارتي كما اوضح ميلباند "ليست دينًا للبرجوازية" ، وانما هي الحل الاخير الذي تتخذه اذا ما تهدد نظامها الاجتماعي الاقتصادي الخطر، اذ ان الدولة السلطوية لا تعيق فقط تطور الرأسمالية كنظام قائم على التنافس، الذي هو العجلة المحركة لتطور قوى الانتاج الرأسمالي وفقا لقانون القيمة، وانما توحد ضدها كل قوى المجتمع بما في ذلك مثقفيها المستنيرين. وليس امامها اذن سوى الديمقراطية كي تقيم على اساسها دولتها. ولكن الديمقراطية كمفهوم وكنظام سياسي تخلق للبرجوازية والفئات الحاكمة إشكاليات كثيرة: فمن ناحية لاعطاء قيادتها وبالتالي دولتها المشروعية لابد لها ان تبدو امام الجماهير، كما لاحظ ماركس عن صواب، وكأنها تمثل لا مجرد مصالحها وانما مصالح كل الجماهير وان تنال اعترافا من الجماهير بذلك أو كما قال "انه فقط بدعوى تمثيل المصلحة العامة تستطيع طبقة ما ان تصعد للقيادة" . ولتمديد مثل تلك اللحظة التاريخية تحتاج الطبقة لتأسيس هجمنتها . وكما قال لاكلو فان الطبقة تصبح مهجمنة ليس بقدرتها على فرض مفهوم متناسق للعالم و الوجود على بقية المجتمع ولكن من خلال نسجها مفهوما للعالم بحيث تمتص عن طريقه حدة الصراع الطبقي . وهذا بالضبط ما عبر عنه انطونيو غرامشي بقوله ان مسالة الهجمنة تفترض ان مصالح وتوجهات الفئات التي ستشكل موضوعا للهجمنة قد اخذت في الاعتبار، وان مساومة اجتماعية ما قد تم التوصل اليها . وقد كان اوفي اكثر تحديدا عندما قال ان الدولة البرجوازية الحديثة تسعى لتحقيق وتأكيد مصالح كل افراد المجتمع الطبقي الذي يسوده راس المال . وكان تلخيص نن واضحا بلا التباس فهو يقول "ان الموضوعة الكلاسيكية الماركسية حول ان الديمقراطية النيابية كشكل للحكم هي الاكثر تطابقا مع مصالح البرجوازية، تعتمد على تأكيد البرجوازية لتفوقها الهجمني ولتطويرها تبريرا ميتا فيزيقياً لدورها القيادي وكفاءتها كطبقة حاكمة." ومن هذا المنطلق نفهم ديمقراطية طبقة البرجوازية ، والتي تبدو كأنها ديمقراطيتها وليست ديمقراطيتها في نفس الوقت، وذلك لوجود الطبقات الاخرى التي تسعى من خلال الصراع الطبقي لا لمجرد خلق تنظيماتها وحسب بل تطرح خطابها الايد ولجى ايضا مما يعني تهديدها الدائم لهجمنة البرجوازية وامكانية تأسيس هجمنة بديلة من خلال النضال في ظل ديمقراطية البرجوازية وتطويرها لتصبح ديمقراطية لكل الجماهير. وهذا هو الطرح الماركسي لليسار الاوربي حول طريق ديمقراطي للاشتراكية، على الاقل على مستواه النظري. وما يهمنا هنا ما قال عبد الخالق عن ان الديمقراطية البرلمانية في السودان كانت ديكتاتورية لحلف البرجوازية وشبه الاقطاع. وفي تقديري ان ذلك ليس صحيحا ويخالف ما توصلت اليه ُالماركسية وقضايا الثورة السودانية’؛ ان جوهر ازمة الحكم في السودان أو الأزمة السياسية هو أن ذلك الحلف الذي يصل الحكم بالديمقراطية ولأسباب تاريخية محددة لم يستطع تأسيس هجمنته ولم يستطع فرض ديكتاتوريته، رغم سعيه المتكرر لفعل ذلك. وهذا هو سبب عدم الاستقرار السياسي والانقلابات العسكرية في السودان منذ الاستقلال. ولكننا عند النظر لما كتبه عبد الخالق في معتقله عام 1970/1971 لا بد لنا إن نأخذ في الاعتبار الظروف التاريخية التي كتب فيها؛ فقد كتب و ما زالت مايو تدعي توجها يساريا، رغم هجومها على الحزب الشيوعي وبداية تصفيتها للمنطمات الديمقراطية المستقلة عنها وتخليها الفعلي عن برنامج اليسار. ولكن رغم ذلك كانت آفاق تطور الثورة في السودان مرهونة بالظروف الموضوعية والذاتية التي وجد الشيوعيون أنفسهم فيها بعد مايو، أي كان السؤال الأساسي كيف تتطور الثورة من تلك النقطة إلى الإمام؟ وهنا لابد ايضا من الرجوع للمواقف العملية للشيوعيين فقد اعترضوا على إطلاق يد الأمن ( مثلا حادثة اختطاف الصحفي محمد مكي من بيروت) وعلى إطلاق يد جهاز الرقابة العامة وعلى الأمر الجمهوري الرابع وعلى الحزب الواحد وطالبوا بقيام جبهة ديمقراطية بدلا عنه. ولكن كان معظم هذا يدخل في نطاق الدفاع عن حق القوى الثورية في التنظيم وليس حق التنظيم اطلاقا. وبالتالي يكون الموقف اسيرا للظروف التاريخية ولنظرية الديمقراطية الجديدة رغم اختلاف الطرح مع قيادة مايو ورغم اهمية ذلك الخلاف. وبالمقابل فان ما ذهب اليه عبد الخالق حول ان طرح الديمقراطية الثورية من قبل النظام كان يستهدف بناء ديكتاتورية البرجوازية الصغيرة لهو صحيح تماما ولقد اثبتت الاحداث ذلك. ثم حدث انقلاب 19 يوليو 1971 الذي اعلن قادته انه جاء لتصحيح مسار مايو، ورغم ان الانقلاب قد اجهض بعد ثلاثة ايام فقط، مما يجعل من الصعوبة محاكمة موقفه من قضية الديمقراطية، الا ان تلك الايام الثلاثة كانت مليئة بالاحداث التي تساعد في القاء بعض الضوء على توجه قادة الانقلاب من مسالة الديمقراطية. لقد كانت اهم الانتقادات التي وجهها قائد 19 يوليو الرائد هاشم العطا لسلطة مايو انحرافها نحو الديكتاتورية الفردية وتعطيلها لدور وسلطات مجلسي الوزراء والثورة وتشويهها لشعار الديمقراطية الجديدة. وقد قال هاشم العطا في بيانه الاول: "ان الديمقراطية كحق سياسي للشعب، حق يتمتع به الشعب ويستعمله في خدمة ثورته الاقتصادية هو شرط لا بديل له لكي يستكمل شعب السودان ثورته ويصون استقلاله. ان هذه حقيقة معروفة لاي شخص لان تاريخ شعبنا ملئ بالنضال من اجل الحقوق السياسية، خاصة خلال ثورة اكتوبر العظيمة... نحن في القوات المسلحة نعد جماهير شعبنا بأننا سنعمل على انشاء نظام سياسي ديمقراطي يقوم على المشاركة الفعلية للجماهير بكل الاشكال وبمختلف الوسائل الممكنة في ادارة شئون البلاد- صغيرها وكبيرها- بروح من المسؤولية الوطنية نحو قضايا التنمية والتقدم الاجتماعي" (اعادة ترجمة من الإنجليزية، سجل أفريقيا المعاصر 1970/1971 ص 159C) . وواصل الرائد العطا هذا الخطاب الأيديولوجي عن الديمقراطية في مخاطبته لموكب الخميس 22 يوليو 1971 وقد صاحبت كل ذلك بعض القرارات: إطلاق سراح بعض المعتقلين أو بالأحرى إطلاق سراح المعتقلين اليساريين. الغاء قرارات حل الاتحاد النسائي السوداني واتحاد الشباب السوداني. اعلان ان السلطة في كل مستوياتها في البلاد ستؤول للجبهة الوطنية الديمقراطية. الاعلان عن ان المشاورات تتم بين الفصائل والمنظمات الجماهيرية لتشكيل الحكومة الجديدة. الاعلان عن الالتزام بمبدأ استقلال القضاء. وبالرغم من ضرورة النظرة التاريخية لهذه القرارات باعتبارها صادرة عن سلطة انقلابية في نطاق التطور السياسي لانقلاب مايو وفي اتجاه اصلاحه و تخطيه، وبالتالي تكون بالضرورة محبوسة في نطاق استلام السلطة اولا وبناء العلاقة مع الجماهير كعمل لاحق، فاننا نرى ميولا اكثر ديمقراطية في خطابها وقراراتها ولكنها ما زالت تعمل في نطاق نظرية الديمقراطية للشعب والديكتاتورية ضد اعداء الشعب، فلاحظ مثلا ان اطلاق السراح لم يتم لكل المعتقلين (وهذا ما عاد وانتقده الحزب في عام 1977). وان الغاء قرار الحل لم يشمل الاحزاب المحلولة، وفي هذا النطاق لم يشمل حتى الاحزاب اليسارية أو حتى الاعلان عن حق تكوين الاحزاب. أو الوعد بصدور قانون لتنظيم تكوين الاحزاب، ولعل من الايجابي الحديث عن تشاور لتكوين الحكومة، رغم انه في حكم الغيب الان الحديث عما كان سيسفر عنه التشاور وإلى أي مدى كان سيتاح للفصائل المختلفة والقطاعات الجماهيرية ان تختار ممثليها في الحكومة الجديدة. وقد كان هذا احد نقاط الخلاف مع سلطة مايو التي لم تعط الحزب الشيوعي حق اختيار ممثليه (في نطاق عدم الاعتراف بالاحزاب السياسية والتعامل مع الشيوعيين كافراد). ولعل المثير للدهشة الاعلان عن ان السلطة في كل المستويات في البلاد ستمارسها الجبهة الوطنية الديمقراطية والتي لم تكن موجودة كتنظيم، مما يعني انه سيتم تكوينها. ولا يستطيع احد الان الحديث عن كيف كان سيتم ذلك لان التصور الموجود حينها كان قائماً على اساس بنائها قبل استلام السلطة وليس بعدها، وان المناقشات التي جرت بعد انقلاب مايو كانت مرتكزة في بناء الجبهة على تعدد الفئات والطبقات المشكلة للجبهة وعلى حرية الفصائل الثورية في تكوين والاحتفاظ بتنظيماتها المستقلة. ان ايام 19 يوليو الثلاث لتثير من التساؤلات حول مسالة الديمقراطية اكثر مما تعطي من اجابات، ولكن ما جرى من بعدها احدث تحولا عميقا في نظرية الحزب الشيوعي حول الديمقراطية. ما بين يوليو 1971 وانتفاضة اغسطس شعبان 1973 ولعل اول تطور واضح في موقف الشيوعيين من قضية الديمقراطية بعد ردة 22 يوليو الدموية هو ما ورد في بيان الحزب الجماهيري في يناير 1972 احتفالا بعيد استقلال السودان عن النظام الوطني الديمقراطي الذي يناضل الشيوعيون لاقامته في مكان سلطة الردة الدموية..يقول البيان "نظام وطني ديمقراطي تنبثق سلطته السياسية من حركة جماهير شعبنا الثورية وانتصار مقاومتها، وتعبر تلك السلطة عن التحالف الديمقراطي بين تلك الجماهير باحزابها ومنظماتها السياسية التقدمية، بمنظماتها النقابية، باتحاداتها وتنظيماتها الاجتماعية والثقافية والاقليمية، وكل مؤسساتها وادواتها الديمقراطية التي تتوسل بها للدفاع عن كيانها ومصالحها، وتخلقها من خلال مقاومة حكم الردة اليمينية الدموية وتدخل بها معترك الثورة الاجتماعية. "نظام يختط الديمقراطية مبدأ ومنهجا - الديمقراطية كحقوق سياسية وحقوق اساسية، كحريات ديمقراطية، كنظام للحكم في كل المستويات، كعلاقات انتاج لتحرير اغلبية سكان الوطن، وفي جهاز الدولة، ولسيادة حكم القانون واستقلال القضاء، وكشرط لتوحيد القطر وتنفيذ الحكم الذاتي الاقليمي في الجنوب، وحل مشاكل القوميات والاقليات ."( مقتطف في دورة اللجنة المركزية -يناير 1974 ص ص 9- 10) ومن ثم يمكن الاستنتاج ان معالم جديدة لنظرية الديمقراطية عند الشيوعيين بدأت في التبلور بعد هزيمة 22 يوليو. فقد بات واضحا ان مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية تتعدد فيها الاحزاب وان الجماهير خلال هذه المرحلة تتمتع بالحقوق السياسية والاساسية...الخ. وما يجعل ملاحظة هذه المعالم الجديدة مهما ان الحزب الشيوعي ظل يطرح حتى انتفاضة اغسطس/ شعبان ان البديل لنظام نميري هو حكم وطني ديمقراطي. بين انتفاضة والمصالحة الوطنية 1977 : تحول عميق لقد كانت انتفاضة اغسطس (شعبان) 1973 نقطة تحول بارزة في تاريخ النضال ضد ديكتاتورية مايو، رغم ان قوى اليمين السودانى المتمثلة حينها في الجبهة الوطنية قد دخلت إلى تلك الانتفاضة بهدف تبديل نميري وطاقمه بطاقم الجبهة الوطنية مع الاحتفاظ بجوهر نظام نميري الديكتاتوري: الجمهورية الرئاسية والحزب الواحد ومصادرة الحقوق الاساسية للجماهير. وفي المقابل كان الحزب الشيوعي قد طرح شعار "لتتحد قوى المعارضة الشعبية" لاستعادة الحقوق الاساسية والحريات الديمقراطية واطلاق سراح المعتقلين واعادة المشردين والمفصولين من العمل. كانت الفترة بين انتفاضة شعبان والمصالحة الوطنية فترة غنية بالنضال والتجارب الثورية و لا يمكن النظر للتطور الواضح في صياغة نظرية الديمقراطية في الحزب الشيوعي دون ربط ذلك بالتحولات العميقة التي حدثت في بناء الحزب وصياغة تكتيكاته والمعارك التي خاضها لتنظيم الحركة الجماهيرية والدروس التي استخلصها من المعارك التي خاضتها الجماهير بعفوية وبمبادرة منها دون ان يكون للحزب الشيوعي أو لاحزاب الجبهة الوطنية دور في تنظيمها. ان جوهر ذلك التحول العميق كان امتلاك قيادة الحزب الشيوعي لتحليل صحيح لواقع المتغيرات في السودان ولامكانيات الحركة الجماهيرية عموما وحركة جماهير المناطق الاقل نموا على وجه الخصوص والذي صاحبه في ذات الوقت تقييم واقعي لضعف الحزب الشيوعي وبدائية عمله وادواته. ولم يكن من الصدفة ان تناقش اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في ربط جدلي مدهش بين قضايا ومشاكل العمل القيادي ودور فرع الحزب، باعتبار ان قضايا ومشاكل العمل القيادي تحل اول ما تحل على مستوى الفرع الممثل الحقيقي للحزب أو قل هو الحزب في مجاله وبين قضايا سياسية واقتصادية على نطاق الوطن كله وعلى المستوى الإقليمي. ولقد خلصت تلك المناقشات إلى نتيجة هامة جدا وهي نهوض حركات جماهيرية مستقلة على مستوى الوطن كله. وكان ضروريا ان تؤدي هذه النتيجة إلى استنتاجين اولهما تنظيمي حول اهمية وجود فروع للحزب الشيوعي على نطاق الوطن وارتباطها بهذه الحركات الجماهيرية الناهضة والتصدي لقيادتها واكتشاف الاشكال التنظيمية المناسبة لتنظيمها دون حبسها وفرع الحزب في اطار الاشكال الموروثة من المدن أو القطاع الحديث. وكان ثاني هذه الاستنتاجات هو "إن تدرك القوى الثورية في المدن انه مهما علا شأنها، ووجدت من الدعم النشط من المزارعين في القطاع الحديث، لن تكتمل مسيرتها نحو النصر في الثورة الاجتماعية الديمقراطية إلا بمشاركة نشطة وثورية من جماهير القطاع التقليدي - حيث أغلبية سكان السودان، أي لا يكفي التأييد والتعاطف كما كان الحال في ثورة أكتوبر. إن السلطة الوطنية الديمقراطية مهما توفرت لها مقومات الذكاء ووضوح الرؤية والقدرات القيادية الفذة، لا تستطيع إنجاز الإصلاح الزراعي والتحرر الاجتماعي - والتحرر الإداري من نير الإدارة الأهلية - بدون النشاط الثوري المستقل لجماهير القطاع التقليدي، ومشاركتها بالفعل والرأي وبالتصور... فمحنة محاولات تطبيق الإصلاح الاجتماعي والزراعي والإداري من أعلى ماثلة إمامنا في تجارب أنظمة البرجوازية الصغيرة العسكرية في المنطقة العربية والأفريقية و في السودان" (دورة اللجنة المركزية يونيو 1975 ص 36)(التشديد ليس في الأصل) إن هذا الفهم العميق الرافض لأطروحة التغيير من فوق ولنظرية السلطة أوضح ثم تلحق الجماهير بالطلائع والتي في الأصل هي التبرير للتوجهات الانقلابية لدى مختلف الفصائل اليسارية من البرجوازية الصغيرة كان لابد إن يمهد لنقلة نوعية في نظرية الشيوعيين حول الديمقراطية وبالتالي لقفل أي فجوة لتسرب الفكر الانقلابي لداخل الحزب الشيوعي. وتجلى ذلك التحول في موقف الشيوعيين من قضية الديمقراطية والانقلابات العسكرية قبيل المصالحة الوطنية في عام 1977 عندما عقدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي دورة خاصة لمناقشة قضايا ومهام السياسة الخارجية. فرغم ان الدورة كانت مخصصة لمناقشة الوضع الدولي فان ما طرحته من مفاهيم حول قضية الديمقراطية والتحالفات والانقلابات العسكرية والتحولات الاجتماعية يمثل ثورة وثروة نظرية لا يمكن تجاوزها والاستهانة بها عند التعامل مع تراث الحزب الشيوعي النظري والفكري. ان تلك الدورة قد حاولت وفي ظروف عصيبة من تاريخ السودان والحزب الشيوعي استخلاص تعميم نظري حول القضايا المشار اليها من تجربة السودان والمنطقة العربية والافريقية وبعض بلدان العالم، انها قدمت اسسا نظرية للثورة الوطنية الديمقراطية مختلفة ومتطورة عن الطرح الذي كان يوجد في الادب الثوري العالمي والاقليمي سواء من وجهة نظر سوفيتية أو صينية أو كوبية أو عربية أو افريقية . وما يهمنا هنا ان تلك الدورة كانت خير تمهيد لما بعدها من طرح فيُ ُجبهة للديمقراطية وانقاذ الوطن’. فما هي اهم نتائج تلك الدورة؟ اولا: الدورة تمثل قطيعة كاملة مع التغيير من اعلى، وبدون ان يكون ذلك التغيير نابعا من حركة منظمة لجماهير تتمتع بحقوقها الاساسية وتمارس كل حقوقها الديمقراطية، تقول الوثيقة الصادرة عن الدورة: "ان التجربة في العديد من البلدان تثبت ان الاصلاح الزراعي وتأميم المصارف والمصالح الاجنبية وبناء قطاع عام والاجراءات المماثلة تبقى مجرد تدابير فوقية بدون الديمقراطية - أي بدون ان تشارك الجماهير في الصراع من اجلها وانتزاعها وتثبيتها في صميم التركيب الجديد للمجتمع - ومن ثم يصبح سهلا سحبها من الجماهير بعد أي انقلاب مضاد، ولا تكون اساسا متينا لتمسك الجماهير بالثورة ودفاعها عنها وعن حياتها الجديدة""(أعمال اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، دورة يوليو 1977، الجزء الاول ص 66). وقد كان ذلك استخلاصا لدروس عدة ولعل اكثرها اهمية بالنسبة لنا في السودان وحركة اتحرر الوطني الافريقية والعربية هي تجربة الناصرية التي تمثلت اهم جوانب ضعفها في مصادرة الديمقراطية وفرض "دكتاتورية بعض شرائح البرجوازية الوطنية باسم تحالف قوى الشعب العامل" (ص 34) والذي ادى إلى ان يتحول "ما حققه حكم عبد الناصر على صعيد الحرية الوطنية والاستقلال الاقتصادي والتطور الصناعي والإصلاح الزراعي - وهو إنجاز ليس بالهين - يتحول أمام أعيننا، أو هو بسبيل التحول، إلى "مجرد إصلاحات للجماهير"، بينما يلعب قطاع الدولة وغيره من الإنجازات التقدمية "دورا مساعدا" في عملية "تحويل فترة الانتقال في اتجاه خلق مجتمع رأسمال""( ص ص 48-49). ثانيا:اوضحت الدورة دون أي لبس موقف الشيوعيين من قضية التحالف الوطني الديمقراطي وارتباط ذلك بقضية الديمقراطية نفسها. تقول الوثيقة "اولا ان التحالف داخل كل بلد وعلى النطاق العربي العام ينبغي ان يقوم على اساس برنامج محدد وملزم لكل اطرافه. "ثانيا ان التحالف يتعزز و يتطور عندما يقوم على الاستقلال الكامل لاطرافه والتشاور الديمقراطي بينها وتساويها في الحقوق والاعباء. "ثالثا ان التحالف ينبغي ان يقوم على التمسك الحازم بالحقوق والحريات الديمقراطية الاساسية للجماهير ورفض تبرير مصادرتها باسم الدفاع عن الثورة. "رابعا ان التحالف ينبغي الا ينحصر في الطلائع أو يقتصر عليها مهما كان وزنها الجماهيري وقوتها العددية، بل يقوم على اساس طبقي وجماهيري، ركيزته المكينة تحالف العمال والمزارعين مجتذبا اليه صفوفه جماهير الجنود." (ص ص 45-46). وذهبت اللجنة المركزية إلى اقتراح ان يكون ضمن برنامج وحدة القوى الوطنية والتقدمية " النضال من اجل الحقوق والحريات الديمقراطية - حرية التنظيم والعمل الحزبي والنقابي، وحرية التعبير بالمقالة والخطابة وغيرهما وحق الاضراب - والتضامن الفعال لمقاومة اضطهاد القوى الوطنية والتقدمية في أي قطر عربي"( ص 52). ووضع نفس الاقتراح امام حركة الطبقة العاملة الافريقية لكي "تناضل من اجل الحقوق والحريات الديمقراطية الاساسية وضد اضطهاد وقمع الوطنيين والديمقراطيين في بلدها واي بلد افريقي آخر" (ص 68). واقترح على قادة الثورة الاثيوبية حينها: "بناء تحالف القوى الوطنية الديمقراطية حسبما تعبر تلك القوى عن نفسها في تنظيمات سياسية أو نقابية أو اجتماعية أو قومية على اساس احترام استقلال تلك التنظيمات وتكافؤها والتشاور في ما بينها؛ وقيام سلطة ذلك التحالف من القمة إلى القاعدة. "توفير الديمقراطية لكل القوى الثورية الاثيوبية، والتي تشمل في رأينا الحزب الثوري لشعوب اثيوبيا، ووقف اقتتالها وانهاكها لبعضها وتشاورها من اجل التعاون والتلاحم ضد العدو المشترك. "الاعتراف بحق شعب إرتريا - والقوميات الاخرى - في تقرير مصيرها بحرية، ووقف القتال ضد الثورة الإرترية وعقد مؤتمر تحضره كل منظماتها مع السلطة الاثيوبية دون شروط مسبقة"(صص 66-67) ثالثا: اكدت الدورة من جديد رفض الشيوعيين للتكتيكات الانقلابية باعتبارها "تمثل بين القوى الوطنية الديمقراطية - مصالح البرجوازية الصغيرة لا مصالح الطبقة العاملة" وانه ليس امام الشيوعيين بديل للنشاط الجماهيري (ص 25) وانه في حالة حدوث أي انقلاب تقوده فصيلة ثورية فلا بد من نشر الديمقراطية لكي يتطور ذلك الانقلاب لعملية ثورية باعتبار ذلك شرطا اولا ورئيسيا (ص 27) رابعا: طرحت من جديد على أسس ديمقراطية مسالة قيادة الثورة الوطنية الديمقراطية بأنها عملية تتم بالنشاط وسط الجماهير وبإقناع الجماهير، و أوضحت إن البرجوازية الوطنية والصغيرة عندما تستولي على السلطة "تبقي على جهاز الدولة القديم وتسخره لإقامة دكتاتوريتها على الأغلبية الساحقة من الشعب، وتفرض وصايتها بالقوانين المصادرة للديمقراطية والتنظيمات السياسية الفوقية على الحركة الشعبية وتجمد خطواتها وتعوق نهوضها"(ص 17) المصالحة الوطنية وجبهة للديمقراطية وانقاذ الوطن ولم يمض شهر واحد على اجتماع اللجنة المركزية في يوليو 1977 حتى عقدت اللجنة المركزية اجتماعا استثنائيا لمناقشة المصالحة بين نظام نميري والجبهة الوطنية. وبعد مناقشة وتقييم الوضع الذي قاد للمصالحة، صدر بلاغ اللجنة المركزية ووثيقتها الشهيرة " الديمقراطية مفتاح الحل للازمة السياسية: جبهة للديمقراطية وانقاذ الوطن". ولقد بني انتقاد الشيوعيين للمصالحة على موقف المصالحة من الديمقراطية والقوانين والمؤسسات الدستورية التي تصادرها والتي لم يتعرض اتفاق المصالحة لإلغائها و تصفيتها، موضحة إن أي مصالحة جادة وحقيقية لابد إن تبدأ من الاعتراف بالحقوق الأساسية والديمقراطية الكاملة للجماهير و أوضحت الوثيقة: "لن يكتب للسودان الاستقرار والتطور والازدهار الا بتطوير واستكمال الحقوق والحريات التي تحققت مع الاستقلال، وتبوء بالفشل كل محاولة للارتداد على تلك الحقوق والحريات والمكتسبات تحت شعار دستور اسلامي أو دستور اشتراكي" (الديمقراطية مفتاح الحل: ص 22) ونادى الشيوعيون بقيام جبهة واسعة للديمقراطية وانقاذ الوطن تضع قضية الديمقراطية كمحور لبرنامجها، معلنة الموقف الاساسي للشيوعيين منها: "الحزب الشيوعي لا يطرح مبدأ الديمقراطية لمكاسب تكتيكية مؤقتة. فهو في نضاله من اجل بناء وطني ديمقراطي يفتح الطريق للانتقال إلى الاشتراكية، ينطلق اولا من تجربة الحياة السياسية في السودان بتقاليدها ومنجزاتها وعثراتها، وتطابق تلك التجربة مع المنطلق النظري والفلسفي الذي يهتدي به الحزب الشيوعي وهو ان النضال من اجل الاشتراكية مستحيل من غير النضال من اجل الديمقراطية"(الديمقراطية مفتاح الحل ص 25) "من هذا المنعطف الجديد، وعلى طريق بناء الجبهة الوطنية الديمقراطية من خلال العمل اليومي وعلى المدى البعيد والصبور، يدعو الحزب الشيوعي السوداني لمواصلة نشاط حركة المعارضة الشعبية لتتبلور في هذه الفترة ووفق متطلباتها في جبهة واسعة للديمقراطية وانقاذ الوطن، توحد الاحزاب والمنظمات والتيارات السياسية والاتجاهات الفكرية والشخصيات الوطنية في مواصلة النضال من اجل الديمقراطية والسيادة الوطنية والتقدم الاجتماعي والمصممة على متابعة النضال الجماهيري اليومي وتحمل مشاقه - بعيدا عن المؤامرات الانقلابية... لاستعادة الحقوق والحريات الديمقراطية، وحشد القوى بمسئولية وطول نفس لمعركة الانتفاضة الشعبية للاطاحة بالديكتاتورية العسكرية. واستعادة ارادة الشعب مقننة في دستور ديمقراطي علماني، يؤمن حرية التنظيم الحزبي والنقابي، وحق الاضراب، وحرية التعبير والعقيدة والضمير، وحرية النشر والصحافة، ويصون حقوق المواطن الاساسية من أي تغول من جانب الدولة" وهكذا شكلت وثيقة "جبهة للديمقراطية وإنقاذ الوطن" امتدادا لتطور نظرية الشيوعيين للديمقراطية واصبح الخطاب الأيديولوجي والجماهيري حولها اكثر وضوحا، فمثلا جاء في بيان صادر من اللجنة المركزية "حول الوضع العربي الراهن": "تحتل قضية الديمقراطية مركزا اماميا في مهام حركتنا في الظروف الراهنة. فهي ليست فقط هدفا جوهريا لنضال الشعوب العربية، وانما تشكل مصادرتها السلاح الرئيسي الذي يستخدمه الحلف الامبريالي الرجعي لقمع أي مقاومة لمخططاته وتسوياته. "من هنا لابد من بناء حركة نشطة على امتداد الساحة العربية ترفض وتقاوم مصادرة الحقوق والحريات الديمقراطية في أي بلد عربي وتتضامن مع اية قوى وطنية وتقدمية تتعرض لاي اضطهاد، بحيث تصبح هذه الحركة عنصرا اساسيا لوحدة كل القوى الوطنية التقدمية ورافعة اساسية لنضالها وجزءا لا يتجزأ من برنامجها" ( اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني، بيان حول الوضع العربي الراهن مارس 1978 ص ص 10-11) ومضى البيان إلى الدعوة إلى تنظيم حملات واسعة من اجل وقف سياسة الاعتقال واطلاق سراح المعتقلين في البلاد العربية. ولعل الجديد في البيان والذي يعتبر ترجمة حقيقية لنظرية الديمقراطية التي طرحت في دورة يوليو 1977 هو تناول البيان لقضية الديمقراطية في الانظمة الوطنية العربية حيث قال البيان "ومن رأينا إن احترام الحقوق والحريات الديمقراطية يجب ان يكون ايضا النهج السائد في النظم الوطنية. فذلك ليس ضروريا فقط لاطلاق طاقات الجماهير الجبارة في التنمية وتطوير الانجازات التقدمية وحمايتها وحماية النظام الوطني، ومن ثم لجعل اشتراك تلك الجماهير في تحالف القوى الوطنية والتقدمية على امتداد الساحة اشتراكا بالاصالة لا ينوب عنها فيه حزب أو تنظيم بالوكالة، وانما هو ضروري ايضا لالهام وتطوير الحركة الجماهيرية في البلدان العربية الاخرى والتي يؤثر فيها سلبا انعدام الديمقراطية في النظم الوطنية. ونحن نقصد الديمقراطية كنظام للحكم واصلاحات اجتماعية جذرية وحقوق وحريات اساسية، وقبل كل شئ حرية تنظيم الاحزاب والنشاط السياسي والنقابي وحق الاضراب والتعبير والاصدار المتعدد للصحف"(المرجع السابق، ص 11، خطوط التركيز مني) ونلاحظ خلو هذه الصياغة من أي لبس حول ماهية الديمقراطية المقصودة وبالتالي القطيعة الكاملة مع نظرية الديمقراطية الجديدة بر توشها البرجوازية الصغيرة ووصايتها على الجماهير وتقييدها للحقوق الأساسية. انتفاضة مارس ابريل وقضية الديمقراطية وبادر الشيوعيون بطرح موقفهم من الديمقراطية معلنين بلسان سكرتير اللجنة المركزية الأستاذ التجاني الطيب بعد ثلاث اسابيع فقط من انتصار الانتفاضة إن الشيوعيين مع الديمقراطية التعددية وحقوق الانسان وان ذلك سيكون طريق الشيوعيين للاشتراكية في السودان. ثم توالت الندوات والاحاديث الصحفية والاذاعية لقيادة الحزب وكانت في مجملها ناقدة للفكر الانقلابي وداعية لارساء ودعم اسس الديمقراطية في السودان. وعلى مستوى النشاط العملي والجماهيري، فقد اخذ الشيوعيون المبادرة في الممارسة الديمقراطية، في اعادة تنظيم الجماهير وتصفية الانتهازيين في الحركة الجماهيرية وعقد الندوات العامة والمقفولة واصدار صحيفة الميدان والمقالة في الصحف المستقلة والحديث للراديو والتلفزيون والاشتراك في الانتخابات العامة. ومن خلال تلاحم نظرية الديمقراطية عند الشيوعيين مع النشاط العملي والجماهيري وضح إن تكتيك الشيوعيين يقوم على وحدة قوى الانتفاضة داخل وخارج البرلمان، وسط كل الجماهير بما في ذلك جماهير الأحزاب التقليدية، وان تلك الوحدة تتم حول برنامج للانتفاضة يهدف إلى "تنفيذ ما لم ينفذ من ميثاق الانتفاضة، التقيد بميثاق الدفاع عن الديمقراطية، التقيد بميثاق المؤتمر الاقتصادي القومي، التحضير للمؤتمر الدستوري"( اللجنة المركزية دورة مايو ، 1986 ، ص 23)، كما وضع أمام التجمع النقابي بشقيه مضاعفة الجهد لإلغاء قوانين مايو النقابية وصدور قوانين ديمقراطية جديدة. وظل خطاب الحزب الجماهيري بعد الانتخابات يحاول ان يبث في جماهير قوى الانتفاضة الثقة بنفسها وبقدراتها بتنفيذ برنامجها من خلال النشاط داخل وخارج البرلمان. وخاضت قوى الانتفاضة معارك متعددة وصلت اعلى درجة لها في انتفاضة ديسمبر 1988 وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية في مارس 1989. ان انقلاب يونيو 1989 الذي نظمته الجبهة الاسلامية يقف دليلا واضحا حول صحة وجهة نظر الشيوعيين ان الديمقراطية هي المناخ الملائم لتطور الحركة الجماهيرية وان القوى المعادية لتطور الثورة السودانية لا تحتمل تمتع الجماهير بالحقوق الاساسية والحريات العامة. ولكنه يوضح الوجه الاخر من العملية الديمقراطية وهو ان الجماهير لن تخرج طواعية للدفاع عن نظام لم يحقق لها مكاسب واضحة في حياتها اليومية، ولكنها سرعان ما تدرك ان أي انقلاب عسكري ليس مجرد اسقاط لنظام سياسي لا توافق عليه، انما اقامة لديكتاتورية تجردها من حقوقها السياسية ولا تصلح من احوالها الاقتصادية والمعيشية. نحو صياغة متكاملة لنظرية الديمقراطية لعل اكثر صياغة متكاملة لنظرية الديمقراطية عند الشيوعيين السودانيين قد تم التعبير عنها من خلال مقابلة مجلة النهج مع الأستاذ محمد إبراهيم نقد السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني والتي أعيد نشرها في كتاب الأستاذ نقد ُقضايا الديمقراطية في السودان المتغيرات والتحديات’ ونحن إذ نقدم تلخيصا له لأغراض هذا البحث فذلك لا يغني القارئ المهتم بالاطلاع على رأي الأستاذ نقد كاملا من الرجوع للكتاب. لعل أهم نقطة في ذلك الحديث هي الموقف النظري من الديمقراطية الليبرالية، إذ أوضح نقد "إن الهجوم على الديمقراطية السياسية والدستور والتعددية إلى آخر ما أفرزته الثورات البرجوازية، هذا الهجوم لم يكن دقيقا" (ص 13) فرغم المحدودية التاريخية للديمقراطية الليبرالية فان "أي تغيير اجتماعي نقدمه يجب أوضح إن يحافظ ويدعم ويحمي ما اكتسبته الجماهير من حريات وحقوق أساسية وان يستكمل ذلك بالتغييرات الاجتماعية، الديمقراطية الاقتصادية، الديمقراطية الاجتماعية" (ص 14) وفرق نقد بوضوح بين انتقاد الماركسية من موقع الطبقة العاملة للمحدودية التاريخية للديمقراطية الليبرالية باعتبار عدم قدرتها على حل القضية الاجتماعية ومنطلق البرجوازية الصغيرة التي "تنتقص من الديمقراطية الليبرالية وتتحدث عن التغيير الاجتماعي، لكن في إطار مصادرة أساس الديمقراطية الذي انتزعته الجماهير بنضال مرير جدا، وبدلا من استكماله، تسعى لفرض دكتاتورية شريحة من البرجوازية الصغيرة تحت شعار أنها تحقق العدالة الاجتماعية في مواجهة الليبرالية التي "عجزت" عن تحقيق العدالة الاجتماعية"(ص 14). إن هذا الموقف النظري الواضح يطور موقف ُالماركسية وقضايا الثورة السودانية’ المشار إليه في مكان آخر من هذه الورقة ويحل التناقض في ذلك الموقف بشكل إيجابي هو تطوير الديمقراطية الليبرالية واستكمالها بالثورة الاجتماعية.وقد اعتمد ذلك الموقف النظري الواضح على تجربة الشعب السوداني منذ الاستقلال ونضاله من اجل الديمقراطية والحقوق الأساسية أعلن بوضوح "إننا نقبل التحدي بالحفاظ على الديمقراطية الليبرالية والدفاع عنها. فقد ناضل شعبنا 16 عاما لاستعادة هذه الحريات، وأي حديث عرضي عن إن هذه الحريات وهذه الديمقراطية لا تعني شيئا ولابد من المضي قدما لديمقراطية أخرى، فيه كثير من التقدير الخاطئ لتطور الثورة، وفيه استخفاف بما أنجزه الشعب السوداني وضحى من اجله، وفيه نزعة لدكتاتورية شريحة أخرى من البرجوازية الصغيرة تسرق رصيد الانتفاضة وتسرق رصيد الجماهير من اجل التغيير وتفرض قيام انقلاب.."(ص 20) ولكن هذا لا ينفي أحد أهم استنتاجات المؤتمر الرابع ووثيقة ُالماركسية وقضايا الثورة السودانية، وهو "ان القوى اليمينية تحاول افراغ النظام البرلماني من اهم مقوماته - التعددية، حرية الرأي، توزيع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. انها تضيق بالقضاء المستقل وتتغول على السلطة التشريعية تضيق بالحريات وتصدر القانون بعد الاخر للحد من هذه الحريات. هذا الوضع ادى إلى ازمة."(ص 17) ولكن كيف تحل ازمة الديمقراطية؟ ويجيب الاستاذ نقد بان ذلك يتم باصلاح النظام الديمقراطي من خلال اربعة اجراءات تتعلق بوجود دستور ديمقراطي، لاتقيد القوانين الحقوق والحريات التي يكفلها، بحل مشكلة القوميات والحكم الذاتي والمحلي وعلاقتها بالدولة المركزية، وبتصفية الادارة الاهلية ونشر الديمقراطية في الادارة المحلية، وبقانون انتخابات "يوزع الدوائر الجغرافية بحيث تنال مناطق الوعي عددا اكبر من الدوائر مع المحافظة على مبدأ الديمقراطية الليبرالية في ان لكل مواطن صوتا واحدا. لكن ظروف السودان وتجاربه تقتضي تخصيص دوائر للقوى الحديثة: مثقفون، عمال..الخ.هذه القوى تحملت اعباء التغيير السياسي في معارك الاستقلال الوطني وفي ثورة اكتوبر 1964 وفي الانتفاضة، ووجودها في البرلمان يعطي البرلمان فعالية اكبر، إلى جانب الدفاع عن مصالح هذه القوى من داخل البرلمان" (ص21) واقتراح الاستاذ نقد حول قانون الانتخابات يثير بعض الإشكاليات على مستوى الدوائر الجغرافية فهو يريد دوائر اكثر لمناطق الوعي (مناطق الانتاج الحديث والمدن)، وعلى مستوى آخر فهو يريد تمثيل القوى الحديثة". وعلى المستويين فهو دعوة غير مباشرة لاستمرار هيمنة مناطق اواسط وشمال السودان على السلطة السياسية. ولقد ظل الشيوعيون ينظرون باعجاب لتجربة البرلمان الاول ( أو ما عرف بقانون سوكومارسن اثناء فترة الحكم الذاتي) والذي اعطى وزنا اكبر لمناطق الوعي ووضع دوائر للخريجين. لقد كان ذلك ممكنا في وضع السودان في بداية الخمسينات، عندما كانت المناطق الاقل نموا تقبل نسبيا بقيادة اواسط السودان وشماله وعندما كانت الشعارات الوطنية تطغى على تطلعات هذه الاقاليم لاخذ نصيبها في السلطة والثروة (رغم ان ذلك قد ادى إلى الحرب الاهلية الاولى في الجنوب)، ولا اعتقد ان ذلك ممكن الآن دون ان يؤدي إلى شعور عارم بالظلم في هذه المناطق. وليس امام الحزب الشيوعي والقوى الحديثة سوى التوجه لجماهير هذه المناطق وتنظيمها ونشر الوعي بينها وطرح مسالة النمو غير المتوازي في البلاد كقضية اساسية وجوهرية في برنامج القوى الديمقراطية، ولا ارى ان الحلول القديمة تنفع الان. اما عن تمثيل القوى الحديثة (واضيف المرأة) فلا سبيل الا بتمثيل على مستوى الوطن كله باعتبار انه تمثيل فئوي ومهني على نهج قانون جعفر بخيت الانتخابي، فقط في ظروف سيادة الديمقراطية والتعددية. وحجتي في ذلك لا تعترض على حقيقة أن القوى الحديثة لعبت دورا لا ينكر في التغيير السياسي وتحملت اعباء النضال، إلا أنني ارى ان منطق تلك المقولة يقود لفرض ديكتاتورية هذه القوى. حجتي مبنية على تمثيل الفئات والشرائح الطبقية المختلفة في البرلمان، أي ان المواطن السوداني يذهب إلى صناديق الاقتراع كمواطن وكاحد افراد شرائح وفئات الطبقات الاجتماعية. اما نساء السودان فيذهبن إلى جانب صفتيهن السابقتين كنوع نسبة للظروف التاريخية لاضطهاد المرأة. ويحدث التغيير، وفقا لاطروحة الحزب الشيوعي التي يعبر عنها السكرتير العام في مقابلته الصحفية، عن طريق الانتفاضة الشعبية. وهذا تأكيد آخر لطريق النضال الديمقراطي الذي اختطته وثائق الحزب في مقابل رفضها لطريقي الانقلاب والحرب الاهلية. ان طريق الانتفاضة الشعبية يصلح وفقا لنقد لاسقاط الديكتاتوريات العسكرية وخلال النظام الديمقراطي لاصلاحه، لوقف الاعتداء على الديمقراطية ولاحداث التغيير الاجتماعي (ص 28). هذا القسم استعرض بعض نضال الشيوعيين ومواقفهم في مقارنة ومقابلة لصياغاتهم النظرية لمسألة الديمقراطية، موضحا كيف تركت ظروف نشأة وتطور الحزب الشيوعي بصماتها على تطوره كحزب مناضل من اجل الديمقراطية وكيف ان تبنيه لنظرية الديمقراطية الجديدة قد خلق تناقضا بين النضال و النشاط العملي والنظرية. وان ذلك اصبح واضحا بعد انقلاب مايو مما دعا الحزب لإعمال الفكر في استخلاص نظرية منسجمة مع ما يناضل من اجله مستلهما تجربة السودان والمنطقة الافريقية والعربية وتجارب العالم. وحاول الفصل، رغم عدم توفر كل المواد التوثيقية، ان يرصد كيف تطور هذا الجهد حتى وصل إلى صياغة واضحة عام 1977 والجهد الذي بذل بعد ذلك لتحويل هذه الصياغة النظرية لمادة برنامجية ودعائية تعبوية وسط الجماهير. ولعل خير خاتمة لهذه المناقشة لموقف الشيوعيين من قضية الديمقراطية هو ما قاله نقد لمجلة النهج "نحن ساهمنا طبعا في الستينات في قضية "الديمقراطية الجديدة" والدفاع عن تجربة عبد الناصر بوجه الهجوم الرجعي الامبريالي باعتباره نظاما وطنيا طرح شعارات تقدمية وحقق بعض الاصلاحات. لكن لم ننتقد بالقدر الكافي السلبيات التي ادت إلى تصفية التجربة نفسها. لذلك كان من السهل ان ياتي في بلد مثل السودان وفيه ثورة سابقة من اجل الحرية السياسية، من يطرح هذه الشعارات فتجد استجابة من الجماهير، ولا يرى الرجل العادي فرقا كبيرا بين ما كان يطرحه الحزب الشيوعي وبين ما يطرحه النميري. هذا خلل في معالجة الامور الأيديولوجية كلفنا كثيرا، كلفنا انقساما داخل الحزب وكلفنا خسائر في الصراع العسكري مع السلطة، يجب ان ننتبه له في مستقبل حياتنا السياسية" والسؤال يبقى هل من جديد في الساحة السودانية من ناحية تحول اقتصادي واجتماعي وسياسي يجعل الطابع الديمقراطي للثورة السودانية اكثر تجليا والمهام الديمقراطية أكثر الحاحا ووضوحا؟ الثورة الديمقراطية على الابواب تدق الثورة الوطنية الديمقراطية بعنف بمطرقتها على أبواب بلادنا، إذ لم يمر وقت في تاريخ شعبنا كانت قضية استكمال مهام الثورة الوطنية الديمقراطية اكثر إلحاحا مما هي عليه الآن فالسودان بعد انقلاب الجبهة القومية الإسلامية في 30 يونيو (حزيران) قد دخل فترة جديدة في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية لا لأن الانقلاب قد رسم خطا للحرابة مثل ذلك الذي يرسمه الأطفال في بلادنا عندما يبدءون مشاجرة محذرين "الراجل ينط الخط!" فقط، بل لأن الانقلاب قد طرح ايضا على الساحة قضية وجود السودان كوطن وعدم وجوده اولا، ثم كيفية وجوده ثانيا. وعلى كل من المستويين اصبح واضحا إن مستقبل السودان/الوطن اصبح مرتبطا بشكل لا فكاك منه ولا يمكن تأجيله باستكمال مهام الثورة الوطنية الديمقراطية، فلا وطن بلا ديمقراطية، و أصبحت قضية وجود السودان الموحد مرتبطة بشكل قاطع بمفهوم للوطنية السودانية ديمقراطي المحتوى والإطار والآلية، قائم على أساس انتماء أفراد متساويين في الحقوق والواجبات لوطن يكفل لهم جميعا ممارسة تلك الحقوق والنهوض بأعباء تلك الواجبات في إطار نظام مؤسس على الديمقراطية السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية. أنه وطن قائم على اختيار مجموعاته القومية والاثنية وشعوبه الحر الانتماء اليه بحقوق وواجبات متساوية. وهذا يعني بالتحديد استكمال مهام الثورة الوطنية الديمقراطية لا غير! لا بديل: البحر خلفنا والعدو امامنا...فاما ان يكون هناك وطن أو لا وطن. لماذا ؟ سقوط برنامج الجبهة الاسلامية إن انقلاب 30 يونيو قد نظمته فئة واحدة من فئات الرأسمالية السودانية ولكنها نفذته نيابة عن فئات الرأسمالية السودانية الأخرى، دون إذن منها، لتقفل الطريق أمام التطور السلمي للثورة السودانية، وذلك باتخاذ مجموعة إجراءات اقتصادية واجتماعية وسياسية تهدف لإعادة ترتيب توازن القوى في البلاد وفرض هيمنة الرأسمالية السودانية تحت ستار أيديولوجي إسلامي، جمهورية رئاسية، نظام للحزب الواحد ( وقد لا يمانع في عودة الأحزاب بعد استقرار توازن القوى المزمع إما عن طريق مصالحة مع ممثلي الرأسمالية الآخرين الموجودين في المعارضة الآن أو عن طريق إصلاحات سياسية شكلية لاحقة مثل تلك التي أجراها الرئيس السادات عام 1971 أو قيام نظام حزب قوي وأحزاب تابعة مما أسماه البروفسير لاينول كليف من جامعة ليدز ب A Single Party and A Bit ) وتشمل الإجراءات إعادة تشكيل الخدمة المدنية والعامة، القوات المسلحة والبوليس وإنشاء المليشيات وأجهزة الأمن ووضع القوانين الخاصة بلجم وتحجيم الحركة النقابية والجماهيرية وإعادة توزيع الثروة ووضع نهج لإعادة توزيع الفوائض الاقتصادية وتراكمها يضمن هيمنة الفئات الاسلاموية مستقبلا. ولكن هل قدم أو سيقدم هذا البرنامج حلا للأزمة المركبة والعضوية للنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد والتي ظلت حلقاتها تتشابك وتستحكم منذ الاستقلال؟ والإجابة واضحة: لا. فقد فشل البرنامج في التنفيذ العملي ولم يعد ملهما حتى لأركان النظام لتقديم حلولا للمشاكل اليومية التي تواجهه في كل الجبهات. ويعني فشله سقوط ورقة التوت التي كانت تتستر بها كل القوى المعادية للثورة الوطنية الديمقراطية في بلادنا منذ ثورة اكتوبر: الغطاء الايد ولجى الإسلامي. وهنا لا بد لنا إن نفرق بين الدين والأيديولوجية، فالدين الإسلامي كمجموعة شعائر وعبادات ومعتقدات ظل موجودا قبل نهوض الطائفية السياسية أبان الحكم الثنائي وبتشجيع منه، وسيظل موجودا بعد هزيمة الأيد ولجية الأصولية وتلاشي النفوذ الطائفي الذي يفقد يوميا مقومات وجوده المادي والأيد ولجي. ومما يجرد هذا البرنامج من آخر مبررات وجوده إن الرأسمالية السودانية أصبحت في غير حاجة إليه وذلك لأسباب تتعلق: بالنمو الباطني للرأسمالية السودانية، خاصة تطورها ونموها كطبقة خلال فترة حكم نميري،(وهذا ما سنتناوله بالتفصيل في الفصل الثالث من هذا المقال )، والتحولات التي حدثت في بنية ونفوذ الارستقراطية القبلية والدينية، والتي ادت إلى نتيجتين متلازمتين: الاولى هي اختلال نظام الاعتراف بالحقوق والواجبات على اساس نظام الوراثة الارستقراطي، مما يمهد لحلول قيم المساواة أمام القانون والتفويض والتمثيل الديمقراطي ودفع الضريبة وتوزيع السلطات خاصة الفصل بين الادارة والقضاء محل الاشارة والطاعة وحق الحكم الوراثي ودفع الاتاوات والادارة الاهلية التي تجمع السلطة الادارية والقضائية، والثانية هي التحول الباطني الاقتصادي للارستقراطية نحو الاستثمار الرأسمالي، وهذا سنتناوله أيضا في الفصل الثالث بالتفصيل. تطور التعليم في السودان وزيادة نفوذ المتعلمين، وتطلعهم للعب دور اكبر في مجال السياسة، رغم أن هذا يولد توجهات معادية للديمقراطية أحيانا مثل احتقار الجماهير الواقعة تحت النفوذ الطائفي أو الأمية، والاعتقاد بان المتعلمين يمكن إن ينشئوا ديكتاتورية عادلة تحت أسماء وشعارات مختلفة تقدمية أو رجعية الخ، مما يجعل أحد المهام الأساسية للمثقفين الديمقراطيين هي كسب المعركة في مجال الثقافة لمصلحة مفاهيم الديمقراطية والتعددية واحترام إرادة الجماهير وحكم القانون وحقوق الإنسان، تطور الحركة الشعبية والديمقراطية في السودان بحيث اصبح من المستحيل احداث أي استقرار سياسي أو اقتصادي عن طريق مصادرة الديمقراطية، تطور حركة اقليمية وقومية في مناطق السودان الاقل تطورا مطالبة بالحقوق الاساسية والتوزيع العادل للثروة والسلطة واحترام التعددية الثقافية والاثنية لتركيبة الشعب السوداني، وهذه حركة محتواها ديمقراطي، مهما علت فيها الشعارات وسيطرت القيادات غير الديمقراطية من حين إلى آخر. أصبحت قضية وحدة وتطور السوق السوداني مرتبطة بقضية الديمقراطية والحل السلمي والتنمية المتوازنة، بل أصبحت إمكانية الاستثمار المربحة أو الأكثر ربحا تكمن في الأقاليم الأقل نموا باعتبارها ما زالت ذات الأراضي البكر، إمكانيات المياه المستديمة (بل إن أي تطور مستقبلي للزراعة المروية في الشمال مستحيل دون تنفيذ قناة جنقلي، كما إن أي امتداد للزراعة الرأسمالية الآلية لابد إن يتجه جنوبا أو نحو الجنوب الغربي والمنطقتان الوحيدتان في أواسط السودان اللتان يمكن توسع الزراعة الآلية بهما هما جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق )،وبهذه المناطق تكمن الثروة البترولية والمعدنية وقد اصبح من المستحيل إخضاع هذه المناطق أو إدماجها في السوق الوطني تحت الغطاء الأيد ولجي الإسلامي سواء كان مستندا على الطائفية أو الأصولية، كما اصبح من إدماج هذه المناطق بالقوة أو بمجرد العنف واستعمال السلاح، دون موافقة سكان هذه المناطق على وجودهم في سودان موحد، وهذا يتطلب إشاعة الديمقراطية وإيجاد الحل الديمقراطي السلمي. إن الظروف العالمية الجديدة قد جعلت من قضية الديمقراطية شرطا مهما للانتماء للسوق الرأسمالي العالمي، وان الاستثمارات الأجنبية، خاصة في مجال استغلال البترول والمعادن، تحتاج لاستقرار أمني وسياسي في السودان لا يمكن تحقيقه إلا بحل ديمقراطي سلمي لمشاكله الإقليمية والقومية. إن كل هذا يدعم الطابع الديمقراطي للثورة السودانية بابراز الاجندة والمهام الديمقراطية كاجندة اساسية. وهكذا تظل الديمقراطية وقضاياها النظرية والبرنامجية هي التحدي الاساسي امام الشيوعيين السودانيين والفكر الماركسي في السودان. وهذا يطرح على الشيوعيين من جديد قضية البديل الديمقراطي للنظام الديكتاتوري وعلاقة ذلك بالبديل الديمقراطي الوطني والبديل الديمقراطي الاشتراكي. وهذا ما يحاول هذا المقال ان يسهم فيه.
#صدقي_كبلو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حول نظرية الثورة السودانية (1) تجاربنا في صياغة البديل
-
وداعاً مصطفى الشيخ ...وداعاً أيها الصديق العزيز .. وداعاً أي
...
المزيد.....
-
قمة كوب29: الدول الغنية ستساهم ب 250 مليار دولار لمساعدة الد
...
-
حدود العراق الغربية.. تحركات لرفع جاهزية القطعات العسكرية
-
وقف الحرب في لبنان.. فرص الاتفاق قبل دخول ترامب البيت الأبيض
...
-
أرامكو ديجيتال السعودية تبحث استثمار مليار دولار في مافينير
...
-
ترامب يرشح أليكس وونغ لمنصب نائب مستشار الأمن القومي
-
بالفيديو.. منصات عبرية تنشر لقطات لاشتباكات طاحنة بين الجيش
...
-
Rolls-Royce تخطط لتطوير مفاعلات نووية فضائية صغيرة الحجم
-
-القاتل الصامت-.. عوامل الخطر وكيفية الوقاية
-
-المغذيات الهوائية-.. مصادر غذائية من نوع آخر!
-
إعلام ألماني يكشف عن خرق أمني خطير استهدف حاملة طائرات بريطا
...
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|