|
السادات وديموقراطية المستنقع
محمد زكريا توفيق
الحوار المتمدن-العدد: 4238 - 2013 / 10 / 7 - 08:02
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
عند وفاة جمال عبد الناصر عام 1970م، وجد أنور السادات نفسه حاكما لمصر. لكن مصر عام 1970م، تختلف عن مصر عام 1952م.
إسرائيل تحتل سيناء وتنهب ثرواتها الطبيعية. عشرات ألوف الخبراء الروس داخل الجيش وفي الصناعات الرئيسية والسد العالي. أماكن داخل مصر مخصصة للسوفييت، لا يسمح بدخولها للمصريين.
قناة السويس مغلقة منذ أكثر من ثلاث سنوات. الدخل من السياحة ضعيف، بسبب ظروف الحرب مع إسرائيل. معظم بنود ميزانية مصر، مخصصة لإعادة تسليح الجيش. لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
مراكز قوى داخل الاتحاد الاشتراكي موالية للسوفييت، تزداد قوة يوما بعد يوم. على صبري وسامي شرف وشعراوي جمعة، على رأس الجهاز الإداري للدولة. الغضب يغلي في صدور المصريين، بسبب ظروف الاحتلال الإسرائيلي. الفساد والبطالة المقنعة تتفشى داخل القطاع العام.
بسبب عدم انتماء السادات إلى أي مركز من مراكز القوى، وبسبب عدم وضوح فكره الأيديولوجي في ذلك الوقت، سمحت له مراكز القوى، بأن يصبح رئيسا للجمهورية، كمرحلة انتقالية مؤقتة. بعدها، يتقرر من منهم سوف يؤول إليه حكم مصر.
لكن السادات، ومنذ البداية، حاول إثبات أنه الرئيس الحقيقي للدولة. عندما تجاهل السادات الهيئة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي، في مباحثات الوحدة المقترحة بين مصر وليبيا والسودان، انتهزت مراكز القوى هذه الفرصة، للإطاحة بالسادات.
في أول مايو عام 1970م، عندما شعر السادات بأن علي صبري يدبر له شيئا في الخفاء، قام السادات بمواجهة مراكز القوى. في اليوم التالي، قام بإقصاء علي صبري من منصبه كنائب لرئيس الجمهورية. وأقاله أيضا من منصبه في الاتحاد الاشتراكي.
في نفس الوقت، قام عن طريق الفريق صادق، بمحاصرة الفريق محمد فوزي، وإبعاده عن باقي كبار الضباط. هنا اشتدت الأزمة بين السادات ومراكز القوى، فقام شعراوي جمعة في 13 مايو 1970م، بالاستقالة من منصبه كوزير للداخلية.
تبعه في الاستقالة، الفريق فوزي وزير الحربية، الوزراء: سامي شرف، محمد فائق، سعد زايد، حلمي السيد، لبيب شقير رئيس مجلس الشعب. من الاتحاد الاشتراكي، ضياء الدين داود، عبد المحسن أبو النور.
اعتقادا منهم، أن الاتحاد الاشتراكي له جذور شعبية. فبمجرد إذاعة نبأ الاستقالة الجماعية، بعد موافقة حسنين هيكل وزير الاعلام، فإن الجماهير، طلبة وعمال، سوف تخرج للشارع لتأييدهم. في هذه الحالة، يتدخل البوليس والجيش لحفظ النظام، ويقوما بإرجاعهم إلى مناصبهم ثانية.
لكن السادات، في 15 مايو 1970م، لم يضع الوقت. بسرعة فائقة، قام بتعيين الفريق صادق وزيرا للحربية. وممدوح سالم، محافظ الإسكندرية، وزيرا للداخلية.
في نفس الوقت، أمر الحرس الجمهوري بالقبض على كل أفراد الاستقالة الجماعية. ومعهم 90 من كبار الشخصيات في الحكومة والاتحاد الاشتراكي. ثم قام بتعيين عبد السلام الزيات، رئيسا للاتحاد الاشتراكي بصفة مؤقتة.
قام أيضا، بتغيير حسنين هيكل وزير الاعلام، وتعيين حافظ بدوي رئيسا لمجلس الشعب، بدلا من لبيب شقير. ثم قدم المتآمرين للمحاكمة لإدانتهم. ولم يفرج عنهم إلا عام 1981م، بعد اغتيال السادات.
لكي يكسب السادات التأييد الشعبي، أعلن أنه قضى على مراكز القوى، فيما أسماه بثورة التصحيح، وانتهاء عصر الدولة البوليسية، والرقابة على التليفونات والبريد. وقام في احتفال كبير بحرق 22 ألف شريط كاسيت، من الشرايط المستخدمة في تسجيل المكالمات التليفونية الخاصة.
منذ ذلك التاريخ، بدأ السادات في ترك بصماته الشخصية على شئون الدولة. فمثلا، قام في 23 يوليو 1970م، بتقديم برنامج للعمل الوطني للاتحاد الاشتراكي، تضمن تغيير اسم الدولة، من "الجمهورية العربية المتحدة" إلى "جمهورية مصر العربية".
تضمن البرنامج أيضا، تجديد تنظيم الاتحاد الاشتراكي من القمة للقاع. لأن الاتحاد الاشتراكي بتنظيماته القديمة، كان مكروها من الشعب.
في خلال شهر من ثورة التصحيح، أطلق السادات سراح المسجونين السياسيين، وأعاد المفصولين من أعمالهم في عهد جمال عبد الناصر، إلى وظائفهم. أعاد أيضا، الممتلكات المصادرة لأسباب سياسية، إلى أصحابها.
كل هذه الإجراءات، أعطت السادات تأييدا جارفا بين الطبقة المتوسطة، التي عانت الكثير من الاضطهاد والاهمال في عهد جمال عبد الناصر. ثم بدأت بعض المقالات في الصحف، تتساءل وتشكك في النظام السابق لعبد الناصر. وتقارنه بنظام السادات الجديد.
بعد القضاء على مراكز القوى، بدأ السادات ينظر إلى تنظيمات الاتحاد الاشتراكي بنظرة شك وريبة. فهي، وإن كانت تنظيمات كونت أساسا لتأييد وحماية النظام، هي أيضا تنظيمات لتفريخ مراكز القوى، التي شكلت في يوم من الأيام خطرا على كل من عبد الناصر والسادات.
لذلك، قرر السادات التخلص من الاتحاد الاشتراكي بكل تنظيماته. فقام بإسناد رئاسة الاتحاد إلى سيد مرعي، لا بهدف تقويته وتدعيمه كما أعلن، وإنما بهدف تفتيته والقضاء عليه.
في الشهور الأولى من عام 1972م، قامت مناظرات لمناقشة عيوب ومستقبل الاتحاد الاشتراكي، نشرت في مجلة الطليعة. بينت أن الكل مجمع على أن الاتحاد الاشتراكي العربي، أصبح مركزا للبيروقراطية. يفتقر إلى الديموقراطية. لم يكن أبدا، إلا أداة في يد الحكومة ضد الشعب. بدلا من أن يقوم بواجبه في الحد من سلطة الحكومة الطاغية.
في هذه المناظرات، طالب كل من خالد محيي الدين ولطفي الخولي، وهما من اليسار المصري، بضرورة فصل السلطات. وهو مبدأ أساسي من مبادئ الديموقراطية. وطالبا بتكوين منابر مختلفة داخل الاتحاد الاشتراكي لابداء الرأي. أما نجيب محفوظ وحسين فوزي، فقد ناديا بعودة الآحزاب وإلغاء الاتحاد الاشتراكي برمته.
في منتصف 1972م، بدأ يتضح الخط السياسي للسادات. تشجيع رأس المال الأجنبي، دولة العلم والإيمان، الحرية السياسية، الاتجاه للوطنية المصرية، طرد 15 ألف خبير روسي من الجيش.
بدأ السادات يبتعد عن فلك الاتحاد السوفيتي، ويتجه للغرب. نظرا لظروف الحرب مع إسرائيل واحتلال سيناء، لم يكن في مقدور السادات، الاسراع بحل الاتحاد الاشتراكي، والعودة لنظام الاحزاب، والانفتاح الاقتصادي على الغرب. كان لزاما عليه، الانتظار حتى الانتهاء من المعركة مع إسرائيل.
هذه الفترة، ما بين القضاء على مراكز القوى والحرب مع إسرائيل عام 1973م، لم تكن تخلو من المتاعب. التنظيمات الطلابية الشيوعية والناصرية، بدأت تهاجم السادات في مظاهرات، تتهمه بالابتعاد عن العرب وعن الاشتراكية وأهداف ثورة 52.
لكي يعادل هذه القوى المناوئة، أخطأ السادات خطأ العمر. قام بإطلاق الجني من القمقم، الإخوان المسلمين والجماعات الدينية. معتقدا أنه من الممكن احتوائها والسيطرة عليها، بمجرد تسمية نفسه "الرئيس المؤمن"، أو بتبني شعار "دولة العلم والايمان".
لكن إطلاق الإخوان والجماعات الدينية بدون سيطرة، مع وجود 10% من الشعب المصري أقباط، يعتبر عملا من الخطورة بما كان. الأقباط. هم أصلا صامتون على مضض، وغير راضين عن بعض القوانين العتيقة، مثل القانون الهمايوني، الذي يحد من سلطاتهم في بناء وصيانة الكنائس. وغير قانعين بتمثيلهم الرمزي في الوزارة ومجلس الشعب والقضاء.
في صيف 1972م، بدأ التلاحم بين أبناء الوطن الواحد، المسلمون والأقباط، في أماكن عديدة من القطر المصري، لأسباب مختلفة. منها بناء الكنائس وتشغيلها بدون تصريح.
هنا أسرع السادات في إصدار قانون الوحدة الوطنية. الذي يعاقب كل من يساعد أو يشارك في تعريض الوحدة الوطنية للخطر. لكن هذا القانون لم يكن كافيا، وجاء متأخرا.
في نوفمبر 1972م، جاءت أحداث الخانكة، التي أعقبها تشكيل لجنة برلمانية للتحقيق. جاء في قراراتها، إزالة بعض القيود الخاصة ببناء الكنائس للأقباط المسيحيين. هنا هدأ المسيحيين نسبيا.
لكن المد الإسلامي بدأ في التصاعد. ساعد على ذلك، تقارب السادات من العقيد القذافي حتى 1973م، ثم تقارب السادات مع الملك فيصل فيما بعد. شجع هذا التقارب، انتشار الجماعات الإسلامية بين الطلبة، وفي داخل مجلس الشعب. إذا بأعضاء مجلس الشعب، تطالب بأن تكون الشريعة الإسلامية، هي المصدر الوحيد للتشريع.
عند تقديم مشروع قانون الردة في سبتمبر 1977م، الذي يعاقب بالاعدام كل من يرتد عن الدين الإسلامي، اعتقد الأقباط المسيحيون أن هذا القانون سوف يضر بهم ضررا بالغا.
لأن كثير من الأقباط يقومون بتغيير دينهم، لأسباب الزواج والطلاق، ثم يعودون ثانية إلى دينهم الأصلي، عندما ينتهي الغرض من تغير الدين. قانون الردة الجديد، سوف يمنع عودتهم ثانية إلى دينهم الأصلي. هنا دعا البابا شنودة للصيام 5 أيام، احتجاجا على مشروع القانون هذا، مما أجبر رئيس الوزراء، ممدوح سالم، على سحب القانون من مجلس الشعب.
في أوائل 1980م، نظم الأقباط مسيرة احتجاج في الولايات المتحدة، أثناء زيارة السادات لواشنطن، احتجاجا على تزايد نفوذ الجماعات الإسلامية في مصر. عند عودة السادات إلى الوطن، شن هجوما سافرا على البابا ورجال الكنيسة القبطية، واتهمهم بمحاولة بناء دولة داخل الدولة.
ثم أضاف بأنه، ليس هناك سياسة في الدين، أو دين في السياسة. ثم دعا إلى استفتاء عام على أن تكون الشريعة من مصادر التشريع، وليس المصدر الرئيسي للتشريع. جاءت نتيجة الاستفتاء 98.8%. بمعنى أن كل المسيحيين قد صوتوا لصالح تطبيق الشريعة.
في عام 1975م، وتحت ضغوط من السعودية، سمح السادات للإخوان المسلمين بمزاولة نشاطهم الديني والسياسي بصفة رسمية من جديد. وسمح لهم بإصدار جريدتي الدعوة والاعتصام، اللتين انتشرتا انتشارا كبيرا بين الطبقات الفقيرة والمتوسطة. وقامت السعودية بالتصال المباشر برجال الأزهر.
بالإضافة إلى ذلك، ظهرت جماعات إسلامية رافضة للنظام السياسي والمجتمع بأكمله. أشهر هذه الجماعات، جماعة التكفير والهجرة، التي قامت باختطاف وقتل الشيخ الذهبي، وزير الأوقاف، والتي أعدم زعيمها أحمد شكري مصطفى، مع أعضاء آخرين بسبب هذا الحادث.
إلا أن الجماعات الإسلامية، ازدادت انتشارا في الأعوام التالية. لأن المناخ كان ملائما. فقيام الثورة الإيرانية، كنموذج للدولة الإسلامية، ومساندة الدول الإسلامية كالسعودية.
كما أن وفاة الشيخ عبد الحليم محمود، شيخ الأزهر، عام 1978م، الذي كان يحظى باحترام كبير من المسلمين. جعلت مشيخة الأزهر الجديدة، تبدو في نظر الجماعات الإسلامية، إدارة حكومية، لا تعمل لصالح المسلمين. بقدر عملها لصالح الحكومة والسادات.
كما أن مبادرة السلام مع إسرائيل، والإهانات التي سببتها عجرفة وصلف مناحم بيجن للسادات والشعب المصري. وإذا أضفنا إلى ذلك، الانفتاح الاستهلاكي، والأسواق الاحتكارية، والفساد، وارتفاع الأسعار، وانتشار البطالة. كل ذلك، ساعد على انتشار الجماعات الدينية الخارجة عن الخط الإسلامي المعتدل الذي حدده مشايخ الأزهر منذ إنشائه.
أخطر الجماعات الإسلامية وأكثرها نشاطا، هي الجماعة الإسلامية. التي كان يتكون معظمها من طلبة الثانوي والجامعة. قامت هذه الجماعة، بسرعة فائقة، بالسيطرة على الإتحادات الطلابية في الجامعات المصرية والمعاهد العليا.
ثم قامت بالاشتراك مع الجماعات الاسلامية الأخرى بالسيطرة على معظم المساجد وعددها في ذلك الوقت، 27 ألف مسجد، غير المساجد الصغيرة والزوايا. وأصبحت خطبة صلاة الجمعة، تسبب قلقا بالغا للحكومة والسادات.
في نفس الوقت الذي أطلق فيه السادات الجماعات الدينية، قام بإلغاء الاتحاد الاشتراكي والرجوع إلى نظام تعدد الأحزاب. وقام أيضا بزيادة سلطات مجلس الشعب. فنجد المجلس، لأول مرة، يناقش موازنة شركات القطاع العام، ويخضع الجهاز المركزي لإشرافه. لأن السادات، كان يحاول بناء دولة المؤسسات في ذلك الوقت.
الأحزاب الثلاثة الأول، التي سمح بها السادات، كانت حزب التجمع ، وهو حزب يجمع الشيوعيين والناصريين برئاسة خالد محيي الدين (ضابط جيش سابق)، حزب مصر، يمثل الوسط، برئاسة ممدوح سالم (ضابط سابق)، وحزب الأحرار، يمثل اليمين، برئاسة كامل مراد (ضابط جيش سابق). رئيس الجمهورية نفسه، السادات، كان ضابط جيش. كأن مصر قد خلت من المدنيين والسياسيين.
في خريف 1976م، حتى منتصف يناير 1977م، شهدت البلاد مناخا ليبراليا لم تشهده منذ قيام ثورة 52. التلفزيون والصحافة، كانت لهما حرية نسبية في نقد الحكومة، بالرغم من أن الترخيص بإنشاء محطات تلفزيون وصحف للقطاع الخاص، كان ممنوعا. لكن هذه الفترة، كانت قصيرة نسبيا.
في 18 يناير 1977م، وتحت ضغط من صندوق النقد الدولي، ذهب وزير الاقتصاد، عبد المنعم القيسوني، إلى مجلس الشعب، للإعلان عن تخفيض الدعم بالنسبة للسلع الاستهلاكية.
في اليوم التالي، خرجت الجماهير عن بكرة أبيها، في جميع أنحاء الجمهورية في مظاهرات لم تشهد مثلها البلاد منذ الاحتلال البريطاني، احتجاجا على رفع الأسعار.
هذه الانتفاضة، كما يسميها المصريون، وانتفاضة الحرامية، كما يسميها السادات، تركت آثارا بالغة الخطورة، بالنسبة لمسيرة الديموقراطية، ومستقبل مصر السياسي والاقتصادي.
بعدها، تراجع السادات في الخطوات الاقتصادية، التي اتخذها لتحرير الاقتصاد المصري. وتراجع أيضا عن الخط السياسي الديموقراطي الليبرالي. بعد ذلك بأربعة شهور، أصدر قانونا يضع قيودا كثيرة على تكوين الاحزاب الجديدة.
من هذه الشروط مثلا: أن يكون الحزب الجديد مختلفا في مبادئه عن الاحزاب الثلاثة الموجودة، وأن تكون هذه المبادئ متفقة مع روح الميثاق والدستور وورقة أكتوبر، وأن يكون للحزب الجديد عشرون عضوا في مجلس الشعب، وأن توافق على إنشاء الحزب الجديد لجنة الاحزاب، المشكلة من أعضاء كلهم معينين من رئيس الجمهورية.
بالرغم من هذه القيود، إلا أن حزب الوفد القديم، قرر العودة لممارسة نشاطه السياسي من جديد، في الاجتماع التاريخي المنعقد في 23 مايو 1977م.
عند سماع هذه الأنباء، بدأ السادات وصحافته، في مهاجمة فؤاد سراج الدين، أحد زعماء حزب الوفد القديم التاريخيين، ووزير داخليته السابق. لكن الحزب استطاع التغلب عل كل العقبات التي وضعها السادات في طريق إنشائه.
أخيرا، في 4 فبراير 1978م، سمح لحزب الوفد الجديد بمزاولة نشاطه السياسي. منذ ذلك التاريخ، بدأ حزب الوفد دوره كحزب معارض حقيقي. بدأ يفضح الفساد الذي صاحب الانفتاح الاستهلاكي الاحتكاري. والهجوم على السادات، بسبب زيارته لإسرائيل في خريف 1977م.
حزب الوفد، كان الاختبار الحقيقي لنوايا السادات بالنسبة للديموقراطية والحرية. لكن السادات للأسف، رسب في الامتحان. فقد بدأ في محاربة الوفد بكل عنف.
فمثلا، قام مجلس الشعب بفصل عضو الوفد، الشيخ عاشور، من المجلس، بحجة إهانة رئيس الجمهورية. بنفس الطريقة التي فصل بها كمال الدين حسين من قبل من المجلس في نوفمبر 1976م، لنقده سياسة السادات.
في نفس الوقت، أصدر المجلس قانونا يمنع العضو المفصول من ترشيح نفسه مرة أخرى. ثم في مايو 1978م، أصدر السادات على عجالة، استفتاء للعزل السياسي لكل السياسيين القدماء، الذين قدموا للمحاكمة وأدينوا في محاكمات الثورة عام 1953م.
واضح أن هذا الاستفتاء، قد صدر خصيصا لعزل فؤاد سراج الدين، رئيس حزب الوفد الجديد. بالطبع، كانت نتيجة الاستفتاء، الموافقة بأغلبية ساحقة كالعادة. لكن حزب الوفد، لم يقبل هذه الصفعة، فقام بحل نفسه، احتجاجا على عزل رئيسه.
بعد أيام قليلة، تم طرد عبد الفتاح حسن، عضو الوفد من مجلس الشعب. لم يكتف السادات بذلك، لكنه أراد أن يتخلص من البقية الباقية من الوفديين في المجلس. في نفس الوقتـ أراد أن يتخلص من بعض أعضاء حزبه، حزب مصر، المعارضين. لذلك، قرر إنشاء حزب جديد، الحزب الوطني، وإجراء أنتخابات جديدة لمجلس الشعب.
بمجرد تكوين الحزب الوطني، هرول كل الوزراء، مرة ثانية، للانضمام إلى الحزب الجديد. ولكي تكتمل الصورة الشكلية للديموقراطية، بعد غياب حزب الوفد من الساحة، أقنع السادات إبراهيم شكري، بتكوين حزب العمل الاشتراكي، لكي يحل محل حزب الوفد، كحزب معارض.
في أول انتخابات الحزب الوطني، حصل على أغلبية ساحقة، 330 مقعدا، من جملة 392 مقعد. وحصل حزب إبراهيم شكري على 29 مقعد. حزب كمال مراد على 3 مقاعد فقط، بينما لم ينجح هو في الانتخابات.
حزب خالد محيي الدين، لم ينجح أحد. وكذلك لم ينجح محمود القاضي وأحمد طه، وكلاهما كانا في المجالس النيابية منذ عام 1952م. العطيفي وحلمي مراد، رفضا منذ البداية ترشيح أنفسهما. أما الشيوعيون والإخوان المسلمون، فقد منعا من الاشتراك في الانتخابات من الأصل.
بذلك، يكون حزب العمل الاشتراكي، هو القوة الوحيدة الرسمية، المسموح لها بمعارضة السادات. لكن بخبرة إبراهيم شكري البرلمانية الطويلة، استطاع أن يعارض السادات داخل مجلس الشعب، دون أن يتخطى الحدود الحمراء المسموح له بها. وسار على نهج حزب الوفد المنحل، في توضيح أخطاء سياسة الانفتاح الاقتصادي، وأسلوب السلام مع إسرائيل.
في مايو 1980م، وقع حوالي 70 من كبار السياسيين والكتاب، مذكرة احتجاج للسادات، بخصوص أسلوب الاستفتاءات واضطهاده للرأي المعارض. لكن السادات، قام بالقبض على عبد السلام الزيات، ومصادرة كتابه عن الحياة البرلمانية في عصر السادات.
ثم أصدر السادات، قانون العيب عام 1980م، كي يعاقب به عن طريق محكمة القيم، كل من حاول التغرير بالشباب أو حاول انتقاد سياسة الدولة، وهي التهمة التي أعدم بسببها الفيلسوف سقراط في أثينا في القرن الرابع قبل الميلاد.
هذه هي قيم القرية. فقد كان السادات يرى أن الدولة، ما هي إلا قرية كبيرة، هو كبيرها. أي كبير العائلة. وقد كان يخاطب أعضاء مجلس الشعب "يا أولادي". هذه القوانين، سميت "القوانين سيئة السمعة". وظهرت أنياب ومخالب للديموقراطية في عصر السادات. ديموقراطية لها تروس تفرم فرم اللحمة.
كان السادات يخشى الجيش، ويحاول ابعاده عن السياسة. خصوصا بعدما قامت محاولات انقلاب من صغار الضباط عام 1972م، وعام 1974م. لذلك نجده يحاول التخلص من القيادات البارزة في الجيش أولا بأول.
فقد قام بسجن الفريق محمد فوزي وزير الحربية عام 1971م، بسبب انتمائه لمراكز القوى. والقبض على الفريق صادق عام 1972م، بسبب خلافه مع الروس.
نفي الفريق الشاذلي عن الوطن، بعد حرب أكتوبر 1973م، لخلاف معه حول موضوع الثغرة. وأحال الفريق الجمصي إلى التقاعد. أما الفريق بدوي، وزير الحربية، ومعه مجموعة من كبار رجال الجيش، وأبطال حرب أكتوبر، فقد قتلوا في حادث طائرة هليوكوبتر عام 1981م.
لكي يرضي الجيش الذي كانت تنتابه حالة من اليأس والملل، بعد فك الاشتباك الأول مع إسرائيل 1975م، قام باختيار حسني مبارك نائبا له.
أما الفساد في عهد السادات، فقد وصل إلى أعلى المراتب. وكان السادات يغض النظر عن قصص الفساد، في مقابل الولاء للحكم. وكان يسمح بنشر قصص الفساد فقط في حالة الرغبة في التخلص من أعدائه.
عزيز صدقي، رئيس الوزراء، وحسن مرعي أخو سيد مرعي، اتهما في صفقة أوتوبيسات المرسيدس الإيرانية باهظة السعر. ترتب على هذا الإتهام، طرد عزيز صدقي من الوزارة.
عبد العزيز حجازي، أبعد عن رئاسة الوزراء عام 1975م، بعد الاتهام بعلاقات مالية مع رجال أعمال كويتيين. أحمد سلطان، وزير الكهرباء، اتهم في قضية رشوة مع شركة وستنجهاوس الأمريكية.
أشرف مروان، زوج ابنة عبد الناصر، اختارته جريدة وشنطن بوست، أحد رجال المال في العالم. عثمان أحمد عثمان، دافع عن نفسه مرتين في مجلس الشعب. بسبب عمليات استيراد حديد تسليح وعمليات إنشائية في منطقة القناة.
رشاد عثمان، شريك عصمت السادات، أخو السادات، بلغت ثروته أربعمائة مليون جنيه مصري، من تهريب مواد ممنوع تعاطيها، كما جاء بجريدة الشرق الأوسط، بعددها الصادر في 28 نوفمبر 1981م.
في 17 يونية 1981م، عندما اعترضت مجموعة متطرفين، على بناء كنيسة في أرض فضاء مخصصة لبناء مسجد، قامت أحداث الزاوية الحمراء. قتل عشرة مصريين، وجرح ستون.
عندما أبلغ النبوي اسماعيل السادات، أن الجماعات الإسلامية قد تغلغلت داخل البوليس والجيش، وأنها تعمل على قلب نظام الحكم بالقوة، قرر السادات تصفية المعارضة بضربة واحدة، مثل الضربة التي وجهها إلى مراكز القوى بنجاح عام 1970م.
بعد زيارته لوشنطن في أغسطس 1981م، وبعد مقابلته لمناحم بيجن في نفس الشهر، أصدر السادات أوامره في 5 سبتمبر 1981م، بالقبض على 1536 مصري. كلهم، باستثناء مئة، من رجال الدين المتطرفين، مسلمين وأقباط.
ثم أصدر أوامره بحل عشرة تنظيمات إسلامية وثلاث تنظيمات للأقباط. سبعة صحف ومجلات، تم إغلاقها ومنها صحف الإخوان المسلمين.
من المقبوض عليهم، عمر التلمساني المرشد العام للإخوان المسلمين، الشيخ عبد الحميد كشك. في نفس الوقت، قام السادات بعزل البابا شنودة ومعه خمسة من كبار الكنيسة. ومن المقبوض عليهم أيضا، فؤاد سراج الدين، حلمي مراد، أحمد زيدان، محمود القاضي، إسماعيل صبري عبد الله، فؤاد مرسي، عبد السلام الزيات، ميلاد حنا، حسنين هيكل، فتحي رضوان، كمال أحمد.
عندما اعترض الرئيس متران على الإجراءات التي اتخذها السادات، قال: "هؤلاء الغربيون لا يفهمون أنني أحارب نيابة عنهم. ماذا يضير في القبض على حسنين هيكل، أو عزل البابا، إذا كان ذلك ضروريا لمحاربة العدو المشترك – الإخوان المسلمين"
ثم أصدر في 12 سبتمبر 1981م، استفتاء عاما، لأخذ موافقة الشعب على قرار الاعتقال بالجملة. كانت نتيجة الاستفتاء بالطبع 99.4% موافقون. ولكنه لم يكتف بذلك، إنما عاد يهدد بالقبض على سبعة آلاف آخرين.
بعد عشرة أيام من أمر الاعتقال الجماعي، طرد السادات السفير الروسي وستة أفراد من السفارة الروسية وألف خبير فني روسي. وطلب منهم مغادرة البلاد بتهمة الاتصال بالجماعات الدينية المتطرفة لقلب نظام الحكم. وكان اسم العملية "المستنقع".
لكنه في 6 أكتوبر 1981م، وأثناء الاحتفال بذكرى حرب إكتوبر، تم إغتياله على أيدي أربعة من المتطرفين الإسلاميين. بتحريض من جهات مجهولة. في نفس الوقت الذي تم فيه إغتيال السادات، ظهرت حوادث دموية بين الجماعات الدينية والبوليس في أسيوط والمنصورة.
هذه قصة الديموقراطية في عصر السادات. بداية رائعة، ونهاية مؤسفة محزنة. ديموقراطية السادات، خير وصف لها هو ديموقراطية المستنقع. لكن السادات إنسان. والإنسان غير معصوم من الخطأ.
السادات إنسان أفسدته السلطة، كما أفسدت من قبله. لكن لا يجب أن ننسى أنه صاحب قرار حرب أكتوبر. وقرار السلام مع إسرائيل. وقرار عودة الأحزاب، والانفتاح وتحرير الاقتصاد.
وكما قالت جريدة الجاردين بعددها الصادر 18 أكتوبر 1981م، "وضع السادات كثيرا من الناس في السجن. لكنه لم يقم بتعذيب أحد. أو إعدام الناس بالجملة. نفى خصومه خارج الوطن، إلا أنه لم يرسل وراءهم فرق الاغتيال. لقد استخدم القوانين لصالحه، لكنه لم يلغ نظام القضاء برمته"
[email protected]
#محمد_زكريا_توفيق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصص وحكايات من زمن جميل فات (16)، من المحطة إلى بيت جدتي
-
التاريخ المصري القديم - فترة ما قبل التاريخ
-
قصة الموسيقى الغربية – هاندل
-
قصة الموسيقى الغربية – الموسيقى الفرنسية الحديثة
-
قصة الموسيقى الغربية – بيرليوز
-
هل تجربة حكم الإخوان كانت ضرورية؟
-
قصة الموسيقى الغربية – الأوبرا الفرنسية الفخمة
-
قصة الموسيقى الغربية – الأوبرا الفرنسية
-
قصة الموسيقى الغربية – فيردي وأوبرا عايدة
-
قصة الموسيقى الغربية – بيليني-دونيزيتي
-
قصة الموسيقى الغربية – روسيني
-
قصة الموسيقى الغربية – سيبونتيني
-
قصة الموسيقى الغربية – كيروبيني
-
لماذا المصالحة على الدستور؟
-
قصة الموسيقى الغربية - الأوبرا
-
الفن – الحديث
-
الفن - الرمزي
-
الفن - جوجان – سيزان
-
الفن - ما بعد التأثيرية(فان جوخ)
-
الفن التأثيري
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|