|
حوار مع أ.غازي الصورانـي حــول : قضايا الثقافة الفلسطينية والعربية ، والمجتمع المدني ، والأيديولوجيا ، والنخبة والذاكرة الشعبية ... الواقع الراهن والمستقبل
غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني
الحوار المتمدن-العدد: 1206 - 2005 / 5 / 23 - 11:40
المحور:
مقابلات و حوارات
حوار مع أ.غازي الصورانـي حــول : قضايا الثقافة الفلسطينية والعربية ، والمجتمع المدني ، والأيديولوجيا ، والنخبة والذاكرة الشعبية ... الواقع الراهن والمستقبل أدار الحوار : رامي مـراد ملحق البيدر-جريدة الايام اصدار برنامج دراسات التنمية جامعة بيرزيت ============================= 19/أيار/ 2005 السؤال الأول: حدثنا عن غازي الصوراني.... المثقف ، المناضل و الإنسان ؟؟ ولدت عام 1946م في مدينة غزة حي الشجاعية، لأسرة فلسطينية فقيرة لم يتجاوز دخلها الشهري في الخمسينات أكثر من 5 جنيهات مصرية، هذا اضطرني للعمل في الاجازات السنوية منذ المرحلة الإعدادية مع احد المقاولين مقابل حوالي 4 جنيهات شهريا كان لهذه الأربعة جنيهات اثر كبير على مساعدة الأسرة. أنهيت الدراسة الثانوية عام 1962 ، و قبلت في كلية الحقوق في جامعة الإسكندرية، إلا أنني بسبب الفقر الشديد لم استطع الالتحاق بالجامعة، و تحولت فرحة القبول إلى حزن شديد كان ذلك بالنسبة لي حافز للقراءة للتعرف على بؤس الواقع و أسبابه ثم الالتحاق بالعمل السياسي، و تقدمت بعدها إلى وظيفة حكومية على اثر إعلان رسمي آنذاك على عكس اليوم و نجحت و بدأت العمل كموظف منذ عام 1963م و كان لذلك أثرا كبيرا على أوضاع الأسرة التي باتت قادرة على تامين مستلزماتها الأساسية. في هذه الفترة قمت بتأسيس حلقات سياسية عفوية مع بعض الأصدقاء، و بعدها التحقت بصفوف حركة القوميين العرب عام 1965م و كنت و لا زلت متأثرا بالتجربة الناصرية و دورها، و كان لإطلاعي على رواية الأم تأثيرا كبيرا علي حيث شعرت حينها أنها تتحدث عن أوضاع البؤساء و الفقراء و المطحونين ليس في روسيا فحسب بل في الشجاعية أيضا حيث نعيش نفس الأوضاع في جوهرها، و كانت تلك الرواية حافز لي على البحث و الاطلاع على موضوعات الاشتراكية في الكتب و الدراسات على قلتها في غزة. بعد هزيمة حزيران عام 1967م التحقت في إطار المقاومة الشعبية ضمن حركة القومين العرب ثم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، و على اثر الضربة و الاعتقالات و المطاردة عام 1968م طلب مني مغادرة القطاع إلى عمان، ثم القاهرة، ثم لبنان و سوريا و عمان مرة أخرى حيث منعت من مغادرتها منذ عام 1972م و لمدة عشرين عاما تقريبا، و لم أتمكن من مغادرة عمان طيلة تلك الفترة إلا في عام 1991م حين دعيت للمشاركة في المجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر، في تلك الفترة تعرضت لأشكال متنوعة من المعاناة خاصة في الفترة بين 1972م إلى عام 1976 حيث اضطررت لان اشتغل عاملا في احد المزارع ثم في إحدى الكسارات في الكرك ثم عامل باطون و عرفت بالممارسة كيف يأكل الفقراء الخبز مغمسا بالتراب، ثم عملت في أكثر من شركة للمقاولات حتى عام 1994م حيث عدت إلى غزة في هذا العام، طوال هذه الفترة 72-1994 لم انقطع أبدا عن ممارسة النشاط السياسي في الاطار التنظيمي الفلسطيني ، و شاركت في الحركة الوطنية الأردنية – الفلسطينية و اعتز بصداقتي لرموزها كما شاركت في تأسيس منتدى الفكر الديمقراطي الأردني، و قمت بتأسيس لجنة أبناء قطاع غزة في الأردن للدفاع عن قضاياهم و امتد نشاطنا في كل المخيمات، كما شاركت عضوا في اللجنة التنفيذية لاتحاد الشباب الديمقراطي آنذاك. في هذه المرحلة كتبت العديد من المقالات و الدراسات الثقافية و الاجتماعية و السياسية و نشر معظمها في الصحف و المجلات الثقافية و السياسية في الأردن و سوريا و لبنان و مصر، و بمبادرة من بعض الأصدقاء صدر لي في بيروت كتاب" قطاع غزة 1948-1993م" إلى جانب المشاركة في العديد من الندوات و المؤتمرات الثقافية و السياسية، و في عام 1993م قمنا بتأسيس اللجنة العربية لمقاومة التطبيع التي عقدت مؤتمرها الأول و انتخبت عضوا في هيئتها الإدارية التي ترأسها المناضل بهجت أبو غربية و في عام 1997م أسسنا منتدى الفكر الديمقراطي في فلسطين حيث انتخبت رئيسا له حتى عام 2000م. شاركت في عدد من الندوات الفكرية مع مجموعات من المثقفين و المفكرين العرب في جامعة دمشق و مراكز الدراسات في القاهرة و غيرها. في عام 1999م صدر لي كتاب حول " الفلسفة و تطور الفكر البشري " يضم مجموعة من المحاضرات المختصرة في تاريخ الفلسفة منذ سقراط إلى ماركس. بعدها صدرت لي دراسة حول اقتصاد الوطن العربي، و في عام 2004م صدرت لي دراسة حول " الحقوق الفلسطينية" " السيادة الوطنية و حق العودة "، ثم "الاقتصاد الفلسطيني تحليل و رؤية نقدية"، و كتاب حول " مفهوم المجتمع المدني و أزمة المجتمع العربي "عن مركز الدراسات الجماهيرية/ غزة و صدرت الطبعة الثانية منه في دمشق مؤخرا، إلى جانب عدد من الدراسات الفكرية و الاقتصادية المنشورة في العديد من الصحف والمجلات الفلسطينية والعربية والانترنت . حاليا أنا عضو في مجلس إدارة جمعية الهلال الأحمر التي يرأسها د. حيدر عبد الشافي في قطاع غزة، وعضو في مجلس أمناء جامعة الأقصى، و مجلس أمناء مركز الغد للدراسات الذي يرأسه د. جورج حبش، و عضو في مجلس أمناء مدرسة عرفات للموهوبين . المسالة المركزية التي تشغل اهتمامي الآن هي العمل مع مجموعة من المثقفين و المفكرين العرب لتأسيس مركز للحوار يضم الماركسيين العرب لعل هذا الحوار يدفع إلى نقلة عملية كما آمل، حيث لم اعد مؤمنا باستمرار تشرذم و حصر الحركات اليسارية في إطارها القطري في فلسطين أو غيرها بل يتوجب في ظل توحش نظام العولمة الراهن أن نسعى إلى بلورة الإطار العربي الاشتراكي الديمقراطي دون أن يعني ذلك إلغاء أو تجاوز خصوصية كل قطر، هذا هو الطريق لتجاوز الواقع العربي المأزوم و المهزوم في هذه المرحلة الصعبة. السؤال الثاني: هل هناك تعريف محدد للثقافة؟ وكيف تقرأ الخارطة الثقافية العربية- الفلسطينية؟ والى أي مدى يساهم المثقف الفلسطيني في رسم هذه الخارطة؟ الحديث عن مفهوم محدد للثقافة ، أمر يفتقر للسهولة ، خاصة في عصرنا هذا الذي تتهاوى فيه كثير من النظم والأفكار والقواعد المعرفية ، فهي ليست موضوعا علميا واحدا ، بل هي مجموعة من العلوم الاجتماعية والتاريخية والفلسفية تتشابك معا في نسيج كلي مع ما توصلت إليه ثورة المعلومات والاتصالات والإنترنت والتكنولوجيا والعلوم المتقدمة. على أي حال هناك العشرات من التعريفات الملتبسة والواضحة لمفهوم الثقافة وهي تعريفات مصنفة في أبعاد وصفية وتاريخية وقيمية وبنيوية وجينية، ولكن يمكن القول أن الثقافة هي مجموعة الأنماط السلوكية والفكرية والشعورية التي تؤطر أعمال الإنسان في علاقاته الثلاثية مع الطبيعة والمجتمع وما وراء الطبيعة". فالثقافة جملة ما يبدعه المجتمع على صعيد العلم والفن ومجالات الحياة الروحية الأخرى من أجل استخدامها في حل مشكلات التقدم العلمي ، أو هي "مجمل ألوان النشاط العملي والعلمي للإنسان والمجتمع وكذلك نتائج هذا النشاط ، بارتباطه بأشكال الوعي الاجتماعي : الفلسفة ، العلم ، الأيديولوجيا ، الأخلاق ، الدين ، الفن التي سيصيبها -فيما نعتقد- تغيرا عميقا بسبب هذه التطورات والمتغيرات النوعية الهائلة في البنية الثقافية على الصعيد الإنساني ، منذ العقود الأخيرة للقرن العشرين والى اليوم في سياق هذا التطور المتسارع للعلوم والتقانة أو تكنولوجيا المعلومات ، حيث أصبحت صناعة الثقافة والمعلومات من أهم صناعات هذا العصر بلا منازع . كيف تقرأ الخارطة الثقافة العربية-الفلسطينية؟ وفي اجتهادي لقراءة الخارطة الثقافية العربية، أشير بداية الى أن الفكر أو العقل العربي قادر عبر رموزه التنويرية العقلانية على التعاطي والتطور .. ولكن قبضة البيروقراطية والاوتوقراطية الحاكمة تحول دون ذلك .. وهي قبضة يجب مواجهتها. أما بالنسبة لتشخيص الخارطة الثقافية العربية، فهي تشير إلى أن فكرنا العربي ينضب في معظم مجالات الثقافة: فكر اللغة، وفكر الإعلام، وفكر التربية، وفكر الإبداع، وهو نضوب يؤشر بوضوح الى حالة القطيعة المعرفية النوعية التي سادت مجتمعاتنا العربية منذ القرن الرابع عشر الى الآن، الأمر الذي يدل على فشل مجتمعاتنا في ان تصنع فلاسفة كبار، رغم ادراكي وتقديري للمبادرات الفردية الجسوره للعديد من المفكرين العلمانيين العرب: أمين العالم وسمير أمين ونصر أبو زيد وسلامة كيلة وهشام غصيب والجابري ومحمد اركون والعروي وأمثاله، لكنها مبادرات غير كافية رغم دورها التنويري الذي يؤسس لثقافتنا ونهضتنا .. والسبب يكمن في طبيعة التطور الاقتصادي الاجتماعي العربي المشوه الذي أدى الى سيطرة التحالف الكومبرادوري البيروقراطي على أنظمة الحكم في بلادنا.. الأمر الذي عزز التبعية والاحتواء والارتهان للنظام الرأسمالي الأمريكي الصهيوني من ناحية ودفع الى هذا التراجع المريع في كافة الجوانب الثقافية.. في المسرح والسينما كما في الشعر والقراءة ومناهج التعليم، وقبل كل شيء في امتلاك مقومات العلم والتكنولوجيا وهو تراجع هائل على صعيد الثقافة الوطنية والقومية لحساب ثقافة الهبوط أو ما يسمى بثقافة السلام على أرضية الليبرالية الجديدة وآلياتها البشعة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي الذي أنتج ما نراه من مظاهر ثقافية هابطة لحساب هذه الليبرالية وأدواتها في بلادنا التي باتت خاضعة كلياً للمقرر الخارجي.. إذن بداية النهوض الثقافي تكمن في قلب هذا المجتمع العربي عبر رؤية وأدوات سياسية اقتصادية اجتماعية نقيضة للعولمة الليبرالية قادرة على التغيير والنهوض.. حينئذ لن نظل خاضعين لثقافة العولمة والهبوط بل سنبلور مشروعنا الثقافي العلماني في اطار مشروعنا القومي الديمقراطي. حيث تنتفي التبعية ولن يستطيع غيرنا صناعة صورتنا الثقافية لأننا نكون قد صنعنا صورتنا وفق مصالح وطموحات الأغلبية الساحقة من جماهيرنا. - الى أي مدى بساهم المثقف في رسم الخارطة الثقافية، العربية/ الفلسطينية؟ أعتقد أن رسم الخارطة الثقافية مهمة ليست سهلة، تحتاج من حيث المبدأ الى عملية تجديد، وهو تجديد لا يتم إلا من خلال إعادة بناء وممارسة الحداثة في معطياتها وتاريخها ارتباطاً بالتطور المادي الحضاري لمجتمعاتنا، بما يؤدي الى ترابط الماضي بالحاضر والمستقبل. والشرط الأول لدخول عصر العلم والتقانة والتطور الفعال يكمن في امتلاكنا للروح النقدية والعقلانية والديمقراطية. ففي ظروفنا الثقافية العربية الراهنة نكتشف بؤس الحداثة العربية المتأخرة بسبب أن المجتمع العربي هو مجتمع تابع ومتخلف تحكمه علاقات ما قبل الحداثة العشائرية والطائفية. وتغيب أو تتعطل فيه الى درجة كبيرة معظم أشكال سيادة القانون أو الديمقراطية أو المساواة أو الحرية أو المواطنة، انه مجتمع مشوه، مجتمع الامتثال والطاعة، يتجاور مع ثقافة السلام" أو "ثقافة الاستهلاك" والتبعية والخصخصة التي لا تتوافق مع تطلعات الجماهير أو الأغلبية بل تتناقض معها. وهنا بالضبط تكمن أهمية المثقف الملتزم التي لا تقوم على تبرير الوضع القائم بل ممارسة النقد لما هو كائن التزاما بما يجب أن يكون، عبر كل أشكال الثقافة التنويرية التقدمية في الأدب والشعر والمسرح والرواية والفنون والاقتصاد والسياسة والتعليم والتلفزيون والصحافة...الخ . على أي حال في مواجهة السؤال: ما الذي جرى لنا حتى نضب فكرنا على هذا النحو في معظم المجالات: في الاقتصاد، والسياسة، والثقافة، والإعلام ... والجواب الصريح يكمن في هذا التراكم المتسارع في عوامل التبعية والتخلف والارتهان، هذا هو سبب فشل مجتمعاتنا في صناعة فلاسفة كبار على مدار التاريخ الحديث والمعاصر، أو تلك القطيعة المعرفية السائدة منذ ابن رشد وابن خلدون الى يومنا هذا، حيث كان ومازال تخلف المجتمع واحتجاز تطوره سبباً في غياب دور الثقافة كسلطة اجتماعية تفرض نفسها بالاصطدام بالواقع وتغييره في مجال التنمية والتصنيع والتقدم الشامل من ناحية وعبر المشاركة الشعبية لكل القوى والمؤسسات المنتجة والمبدعة من ناحية ثانية. الحقيقة إن المثقف العربي قادر على التعاطي والتفاعل مع التطور والحداثة .. لكن قبضة البيروقراطية والاوتوقراطية الحاكمة تحول دون ذلك.. وهي قبضة لا بد من مواجهتها وكسرها.. وتلك هي المهمة الرئيسة كيف؟ ليس بالرفض السياسي للعولمة فحسب، بل باستيعاب جوهرها العلمي، واستخدام كافة العناصر والمقومات الفكرية والتكنولوجية والاقتصادية في مواجهتها، انطلاقاً من ظروف ومحددات واقعنا المباشر .. وهذه المواجهة تحتاج الى صحوة قومية بالمعنى السياسي والعلمي والاجتماعي والاقتصادي والأيدلوجي من أجل كسر وإزاحة عوامل التخلف والتبعية و من ثم إخضاع مستقبلنا كعرب وفقا لتطلعاتنا وليس وفقاً لشروط العولمة. إذن لا بد من التأسيس لحركة تقدمية عربية تملك رؤية قومية وإنسانية نقيضة لرؤية العولمة الرأسمالية، وتسعى الى تجاوز هذا الواقع العربي المهزوم والمأزوم وبناء البديل القومي الديمقراطي العربي الموحد. السؤال الثالث: كيف يمكن استنهاض إمكانيات الثقافة المتاحة في بلورة مشروع ثقافي عربي يتصدى للعولمة؟ بداية اقول بصراحة لا إمكانية لأي استنهاض ثقافي بدون النهوض المادي والصناعي، فالثقافة ثمرة هذا النشاط المادي والروحي للمجتمع الذي يتحدد مستوى تطوره بطبيعية النمط (أو الأنماط) الاجتماعي السائد فيه . بهذا المفهوم "الثقافي" يمكن التأكيد بأن العلاقات الاقتصادية جزء من النمط الثقافي العام ، و لعل نمط الاستهلاك السائد في ظروف العولمة الرأسمالية الراهنة ، خير مثال على بشاعة رأس المال المعولم ، الذي يتعاطى مع المجتمع البشري كله ، كوجود "مسلوب الارادة" محكوم لقوة رأس المال التي تسعى الى التحكم في مصائر الشعوب والأفراد دون أي اعتبار لجوع الملايين من البشر ، ودون أي اعتبار لاغتصاب الحقوق والعدوان واضطهاد الشعوب والاستيلاء على مقدراتها من أجل تحقيق هدفها الوحيد : تسهيل سير عملية التوسع والتراكم الرأسمالي ضمانا لمقومات القوة لدى الطغمة الحاكمة في بلدان المركز الرأسمالي ، وحليفتها إسرائيل والحركة الصهيونية في بلادنا ، ولئن نجحت هذه القوة الرأسمالية المعولمة ، وحليفتها وركيزتها اسرائيل والحركة الصهيونية في بلادنا ، في فرض "ثقافة السلام" أو الاستسلام والتطبيع عبر اتفاقات كامب ديفيد ، وأوسلو ، ووادي عربة وصولاً الى " خارطة الطريق " و " خطة شارون " من جهة ، وعبر إضعاف العمل السياسي-الاجتماعي والثقافي الطليعي والجماهيري العربي وتراجع فاعليته الاجتماعية لحساب مفاهيم التخلف والليبرالية الهابطة والخصخصة والاستهلاك من جهة ثانية ، فليس معنى ذلك نهاية أو موت النقيض ، الإنساني ، الاشتراكي ، بالعكس تماما ، إنه يعني المزيد من المعاناة والحرمان والفقر والتبعية ، ويعنى المزيد من الانهيارات والتراجعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وكلها مظاهر تصيب بالضرر البالغ والمباشر مصالح الجماهير الشعبية وتضاعف همومها ومعاناتها ، بحيث يصبح استمرار هذه الأحوال في إطار "ثقافة السلام" أو ثقافة الاستهلاك و التبعية والخصخصة ، والسياسات الليبرالية ، أمرا اكراهيا بصورة مطلقة ، لا يمكن أن يتوافق مع تطلعات الأغلبية الساحقة من الجماهير للخلاص والانعتاق ، عبر قوى التغيير والتحديث التي يجب ان تجد في مثل هذا المناخ فرصتها في تجديد ذاتها وتفعيل قواها المنظمة ، وتحديث فكرها الانساني الاشتراكي المدرك لحقائق الواقع العربي أولا ، وحاجته الى الثورة في الثقافة والفكر على قاعدة الهوية العربية دون سواها ثانيا ، والثورة الديمقراطية الاجتماعية ثالثا ومواكبة متطلبات العلم وثورة المعلومات والتكنولوجيا رابعا ، وتسخير نشاط هذه الحقائق عبر الإطار السياسي الوطني والقومي -الذي يقوم على أولوية مصالح الأغلبية الساحقة من الجماهير أو الطبقات الكادحة الفقيرة ، كمحور وحيد في منظومتنا الفكرية الاشتراكية المتجددة ، النقيضة لمنظومة التخلف بكل صوره وأدواته من جهة ، والليبرالية وهيمنة العولمة من جهة أخرى . وهنا بالضبط تكمن مهمة المثقف الملتزم في فلسطين أو في سائر أقطار الوطن العربي ، التي لا تقوم على تبرير الوضع القائم واضفاء الشرعية السياسية أو الفكرية عليه ، بل ممارسة النقد الجذري لما هو كائن التزاما بما ينبغي أن يكون وفق قواعد ومنهجية تحديث العلم والوعي التنويري الاجتماعي عبر تغيير العلاقات الاجتماعية السائدة ، بما يمكننا من توفير المقومات المطلوبة في مواجهة نظام العولمة الرأسمالي رغم إقرارنا بأن هذا النظام استطاع تحقيق وحدة الحضارة الإنسانية في عصرنا، ولكنها وحدة حضارية إكراهية عبر طابعها الأحادي، وهي وحدة دامية تنزف جرائم وقبحاً وبشاعة وعدواناً واستغلالاً واحتلالاً واغتراباً ومهانةً في حق شعوب العالم الى جانب استنادها الى العديد من الرؤى والممارسات أو الإيديولوجيات والممارسات العنصرية التي برع في تبريرها المحافظون اليمينيون الجدد في الولايات المتحدة اللذين نجحوا في فرض هيمنتهم بوضوح في الولاية الثانية للرئيس الأمريكي بوش . لذلك، ليس هناك ما هو اخطر على ثقافتنا العربية وعلى انسانيتنا عامة ، من الدعوة الى الاستسلام لهذه العنصرية البغيضة شبه النازية التي باتت اليوم معلماً أساسياً من معالم كوكبنا باسم العولمة والهيمنة الراسمالية ، باعتبارها قدرا تاريخيا لافكاك منه في صورته الراهنة ، وبالتالي الدعوه الى حتمية الاندماج او التكيف الهيكلي معا دون تحفظ او مراعاه للخصوصيات والهويات الثقافية والمصالح القومية . - وهنا تتحدد آليات وملامح الاستنهاض الثقافي العربي الذي يجب أن يبدأ من التحام ثقافتنا وارتكازها على مفاهيم الحداثة والعقلانية والعلم والتكنولوجيا لأن تطوير وتعميق الهوية الثقافية والقومية هي نقطة الارتكاز الاولى لمواجهة الهيمنة الراسمالية وضمان نجاح أي مشروع قومي تحرري وتنموي قطري في إطار التكامل الاقتصادي العربي الفعال، باعتبار أن البعد القومي العربي هو بعد أساسي في هذه المواجهة التي تشترط أيضا امتلاكنا لمفاهيم وأدوات التفتح العقلي والعلمي النقدي صوب التنوير والنهوض المطلوب الذي يضمن أعمق مشاركة ديمقراطية للجماهير الشعبية في صنع مسار التنمية والتطور والنهوض.وهنا تتبدى الحاجة أو الضرورة لتفعيل واستنهاض دور المثقفين العرب في عصرنا الراهن الذي اصبحت فيه الثقافة قوة انتاجية ثورية باهرة، دون أن نلغي دور القوى اليسارية القومية التي يتوجب عليها الخروج من أزماتها صوب النهوض المطلوب. بالطبع نحن ندرك - كما يقول سمير امين - إن الاشتراكية العالمية، وهي الإجابة الانسانية الوحيدة للتحدي - ليست من الامور المسجلة في جدول امكانات التاريخ المستقبلي القريب... ولكن لابد من العمل في اتجاه من شانه ان يشجع تطورا لاحقا ملائما في الاجل الطويل... لا بد من استغلال هامش التحرك - مهما ضاق حاليا - من اجل توسيع فرص الخيار بين البدائل في المستقبل... وهذا يعني أن يبدأ المثقف العربي الملتزم برفض ومقاومة الهيمنة الأمريكية الصهيوينية من ناحية والملتزم بالرؤية النقيضة والبديلة للعولمة الرأسمالية من ناحية ثانية، أن يبدأ بالتأسيس لهذا التوجه ارتباطا بالبعد الإنساني من حولنا، خاصة وأن الدور المركزي "لاسرائيل" -كبؤرة امبريالية صغرى- في كل ما يتعلق بالقضايا الاستراتيجية الأساسية السياسية والاقتصادية والعسكرية في المنطقة العربية، بات يؤكد أن ثقافة المقاومة -بكل اشكالها السياسية والعسكرية- في ظل الوضع الراهن، ستكون بلا معنى أو تأثير جدي ما لم تتمكن القوى اليسارية الديمقراطية العربية من تحويل الصراع مع العدو الاسرائيلي الى ايديولوجيا سياسية-مجتمعية جامعة لكل مقومات وامكانات وطموحات الجماهير الشعبية في عملية المواجهة المطلوبة. اخيرا ، ان المهمة الثقافية الكبرى التي تنتظر المثقف العربي التقدمي اليوم هي بناء عقل حديث لحركة التحرر القومي العربية بآفاقها الاشتراكية.
السؤال الرابع : كيف تقٌيم دور مؤسسات المجتمع المدني العربية والفلسطينية في المساهمة في بلورة المشروع الثقافي العربي، أم أن هذه المؤسسات تعيش حالة مأزومة عكست نفسها على واقع الثقافة العربية؟ مع تفاقم أزمة التبعية والاحتواء لمجتمعاتنا ومقدراتنا العربية في ظل النظام العربي الراهن من جهة، ومع استفحال النزعة العدوانية التوسعية للعولمة الرأسمالية الأمريكية من ناحية ثانية، انتشرت في بلادنا خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين مفاهيم المجتمع المدني وحقوق الانسان والتنمية والديمقراطية ...الخ، لكي تسهم في تخفيف بشاعة السيطرة الامريكية المعولمة واداتها اسرائيل والحركة الصهيونية في بلادنا، ذلك إن مجتمعنا العربي عجز حتى اللحظة عن إنتاج هذه المفاهيم عبر تطوره الذاتي. ولكن بالرغم من تداول هذا المفهوم في الأوساط النخبوية الحكومية و غير الحكومية ، في بعض البلدان العربية ، إلا أن هذه الظاهرة لا تعني وجود أو تبلور مجتمع مدني عربي كما يروج البعض ، إذ أننا ما زلنا في مرحلة ما قبل الحداثة أو ما قبل المجتمع المدني ، رغم كل ما يتبدى على السطح ، في الواقع المادي أو في المفاهيم ، من مظاهر حداثية لا تعدو أن تكون شكلاً فقط دون أي محتوى حقيقي يعبر عنها ، و الشاهد على ذلك بصورة حية ، مسار التطور الاجتماعي العربي في سياقه التاريخي العام ، القديم و الحديث ، هذا المسار لم يستطع حتى اللحظة ، بسبب عوامل خارجية و داخلية مهيمنة ، فرز أو بلورة طبقات بالمعنى الحقيقي ، و الواسع للكلمة ، أي "طبقات بذاتها" تستطيع التعبير عن مصالحها الاقتصادية و السياسية ، و تدافع عنها ككتلة طبقية موحدة مدركة لوجودها الموضوعي ، ففي غياب هذا التبلور الطبقي ، و استمرار سيطرة الأنماط القديمة ، تشكلت في بلادنا حالة طبقية مشوهة ، امتزجت فيها ، كل العلاقات الاجتماعية المرتبطة بالأنماط القديمة و الحديثة معاً ، تبدو واضحة اليوم عبر ما نشاهده في كل مجتمعاتنا من استمرار وجود و تأثير العلاقات البدوية القبلية و الحمائلية و العائلية والطائفية ، و العلاقات شبه الإقطاعية التي اختلطت بالعلاقات الاجتماعية الرأسمالية الحديثة ، و كونت هذا المزيج أو التشكل الطبقي المشوه و السائد -حتى اليوم- في كل مكونات البنية المجتمعية ، الفوقية و التحتية بهذه الدرجة أو تلك ، و بالتالي فإن الحديث عن مجتمع مدني ، في إطار هذا المزيج أو الشكل المرقع من "الجماعات" ما قبل الحداثة أو المدنية ، مسألة تحتاج إلى المراجعة الهادئة التي تستهدف تشخيص الواقع الاجتماعي العربي ، و أزمته المستعصية الراهنة ، تشخيصاً يسعى إلى صياغة البديل الديمقراطي القومي وآلياته الديمقراطية وصولاً إلى تفعيل مفاهيم و أدوات ومؤسسات المجتمع المدني في إطار النضال الوطني و القومي ، التحرري و الديمقراطي المطلبي معاً ، ففي هذا السياق وحده ، نستطيع نفي الطابع الطارئ و المستحدث الوافد لمفهوم المجتمع المدني من جهة ، و نستطيع أيضاً نفي واقع الإبهام و الغموض الذي يشوب الحديث عنه في هذا المناخ المهزوم و المأزوم ، حيث ترعرع مفهوم "المجتمع المدني و الديمقراطية الليبرالية" و بات مألوفاً من كثرة تداوله في معظم "الحوارات و الندوات وورش العمل التي تعقدها بعض القوى السياسية و تروج لها المنظمات غير الحكومية ، و هي "حوارات و ورشات عمل" استطاعت الانتشار و التوسع في العديد من الدول العربية في أوساط نخبة يتكرر حضورها في هذه الندوة أو الورشة أو تلك بصورة شبه دائمة ، و هي ظاهرة تدعو إلى إثارة الانتباه و التأمل ، و ليس الاستغراب ، من حيث أن هذه "الورش و الندوات" التي "نجحت" في القفز بمفاهيم المجتمع المدني و الديمقراطية الليبرالية ، و الوصول بها إلى أعلى سلم الأولويات في الإطار الضيق "للنخبة السياسية" التي تخلى معظم رموزها عن مواقفهم اليسارية السابقة ، لم تنجح -بالمقابل- في الوصول أو التغلغل بأي شكل من الأشكال إلى الأوساط الجماهيرية الشعبية، مما يدل على عمق الأزمة التي تعيشها هذه المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، وما تعنيه هذه الأزمة من استمرار عرقلة الخطوات الضرورية اللازمة لتبلور المشروع الثقافي النهضوي. و إن دل ذلك على شيء ، فإنما يدل على غربة هذه المفاهيم بطابعها و جوهرها الليبرالي عن الواقع من جهة ، و غرابة صيغها و عناوينها الفرعية المتعددة ، و شكل عباراتها المركب بصورة لا يمكن للجماهير أن تستوعبها ، نورد بعضاً منها على سبيل المثال: " التنمية المستدامة " و "الحكم الصالح!!" و"الجندر" …. الخ . و هي عبارات غريبة في معظمها عن واقعنا ، مما جعل منها عبارات عامة و مبهمة و "جديدة" حلت محل المفاهيم المعادية للإمبريالية و الصهيونية و مفاهيم التحرر القومي و الوحدة و العدالة الاجتماعية والديمقراطية الشعبية، و الاشتراكية، و أضيفت إلى مفردات اللغة و الخطاب السياسي الهابط ، الذي حدد النظام الرأسمالي المعولم الجديد ، أسسه و منطلقاته الليبرالية ، الفكرية و السياسية العامة . - على أي حال إن جميع المنظمات الغير حكومية -في البلدان العربية-، فشلت في إقامة أي شكل من أشكال العلاقة الواسعة و الثابتة مع الجماهير أو المجتمع المحلي، رغم أن عدد هذه المنظمات يزيد عن (75) ألف منظمة تنتشر في بلدان الوطن العربي على السطح بلا أي جذور أو تمدد، بما بؤكد الحالة المأزومة التي عكست نفسها- كما تقول في سؤالك- على واقع الثقافة الفلسطينية والعربية، بما يعزز تقييم المفكر العربي سمير أمين لهذه المنظمات بقوله "إن الطفرة في المنظمات غير الحكومية ، تتجاوب الى حد كبير مع استراتيجية العولمة ، الهادفة الى عدم تسييس شعوب العالم ، وهي انسجام أو إعادة تنظيم لإدارة المجتمع من قبل القوى المسيطرة"، المفارقة أن معظم هذه المنظمات في فلسطين والوطن العربي ، لم تقم بعقد أية مؤتمرات داخلية لانتخاب هيئاتها ومجالس إداراتها بصورة ديمقراطية منذ تأسيسها الى اليوم ، رغم تداولها الكمي الواسع لموضوع الديمقراطية والتعددية السياسية في كافة المحافل ووسائل الإعلام ؟! و في هذا المشهد الملتبس داخلياً، في إطار النظام العربي المأزوم و المهزوم، و خارجياً على الصعيد العالمي ، خاصة بعد انهيار الثنائية القطبية و معادلاتها و ضوابطها السابقة ، يصبح الحديث عن مفاهيم المجتمع المدني ، نتاجاً مباشراً لهذا المشهد الجديد ، و عوامله و محدداته الخارجية ، و ليس نتاجاً لمعطيات و ضرورات التطور الاجتماعي -الاقتصادي-السياسي في بلادنا. وهنا نتوصل الى التخصيص المباشر والموضوعي لمجتمعنا العربي في ظروف تخلفه واحتجاز تطوره الراهن بحيث يمكن القول أن هذا المجتمع هو "مجتمع بلا مجتمع مدني" ، فطالما أن بلادنا ليست في زمن حداثي/حضاري و لا تنتسب له ، بالمعنى الجوهري ، فإن العودة إلى القديم أو ما يسمى بإعادة إنتاج التخلف سيظل أمراً طبيعياً فيها ، يعزز استمرار هيمنة المشروع الاستعماري المعولم على مقدراتنا و استمرار قيامه فقط بإدارة الأزمة في بلادنا دون أي محاولة لحلها سوى بالمزيد من الأزمات، كما جرى في بلادنا فلسطين، حيث انتقلنا من حالة المجتمع السياسي في الانتفاضة الأولى الى حالة غياب المجتمع السياسي وحلول الفوضى والفلتان في اطار من الهبوط المريع للقضية الوطنية وفق نصوص اوسلو التي انتقلنا بعدها الى مزيد من الهبوط عبر اتفاقات "جورج تينيت" و"ميتشل" وصولا الى "خارطة الطريق" وأخيرا تعمق الأزمة عبر "خطة شارون" التي حددت شكل المجتمع والدولة الفلسطينية في مساحة جغرافية ضيقة اسميها المشهد الغزاوي او الدولة المسخ. وفي هذا السياق نلاحظ انتعاش بعض منظمات ما يسمى بالمجتمع المدني في هذا المناخ الهابط. أمام هذا الواقع المعقد والمشوه ، و في مجابهته ، ندرك أهمية الحديث عن المجتمع المدني و ضروراته ، و لكن بعيداً عن المحددات و العوامل الخارجية و الداخلية ، المستندة إلى حرية السوق و الليبرالية ، لأننا نرى أن صيغة مفهوم المجتمع المدني وفق النمط الليبرالي ، فرضية لا يمكن أن تحقق مصالح جماهيرنا الشعبية ، لأنها تتعاطى وتنسجم مع التركيبة الاجتماعية-الاقتصادية التابعة و المشوهة من جهة ، و تتعاطى مع المفهوم المجرد للمجتمع المدني في الإطار السياسي الاجتماعي الضيق للنخبة و مصالحها المشتركة في إطار الحكم أو خارجه . السؤال الخامس: الى اي مدى يمكن ان يساهم الوعي الايديولوجي في فهم وادراك الواقع الراهن وتشخيص دقيق للازمة البنيوية الثقافية كخطوة ضرورية لبلورة المشروع الثقافي العربي النهضوي؟ نحن اليوم نعيش في عصر تسوده حضارة واحدة هي الحضارة الرأسمالية، حيث اصبح العالم محكوما حتى اللحظة بشروط وهيمنة العولمة الرأسمالية التي تعني ببساطة انتشار نمط الانتاج الرأسمالي وسيطرته على مقدرات كوكبنا، وهو نمط توسعي بطبيعته، يسعى الى تراكم الربح والسيطرة والعدوان، ولذلك فإن هذا النمط هو المحدد الرئيسي لهذه الحضارة الراهنة وما رافقها من نزعة عدوانية عنصرية وجرائم انسانية ناتجة عن طبيعة جوهر الرأسمالية في هذا العصر. من هنا أهمية الدعوة الى امتلاك الوعي الأيديولوجي المرتبط والمعبر عن النمط الانتاجي الاشتراكي النقيض، وهي دعوة تتطلب التوقف النقدي امام الحالة المجتمعية الاقتصادية والثقافية العربية التي وصلت الى حالة من الهبوط المعبر عن مصالح الشريحة البيروقراطية الحاكمة في اطار تحالفها مع الشريحة الكومبرادورية في بلادنا وفق شروط الارتهان والاحتواء والخضوع والهزيمة، ففي هذه المرحلة يأخذ الشعار أو القول الثقافي باسم "زمن السلام" المفترض، عمومية مبرمجة وعميقة -بتراكمات بطيئة بالطبع- عبر شعارات الانفتاح في اطار السلطة الفلسطينية وكافة الانظمة العربية، الى جانب الدور المرسوم للعديد من المنظمات غير الحكومية، للتعاطي مع الواقع أو الزمن الجديد، وهي شعارات حَلَّت -في جزء هام من الذهنية الشعبية- محل شعارات الثقافة الوطنية والقومية وثقافة المقاومة في اطار قطري جامد ومنغلق لا يعيش اي منها -بهذه الدرجة أو تلك- زمنا حضاريا حداثيا ولا ينتسب له جوهريا بسبب فقدانها للأدوات الحداثية الحضارية والمعرفية، وأول هذه الأدوات -بل وأهمها- الأيديولوجيا التي يستطيع الناس من خلالها -كما يقول ماركس- ان يعوا حقيقة الصراع من حولهم وان يشتركوا في مباشرته لتغيير واقعهم"، بما يمكنهم من العمل على تكييف الواقع ومطابقته لمصالح الاغلبية الساحقة وفق قواعد العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص والديمقراطية. لكن يبدو اننا جميعا -كما يقول المفكر محمود العالم- "لا نملك المعرفة الحقيقية بالماركسية" كأيديولوجيا لا بد من اعادة وعيها وامتلاك منهجها ارتباطا بواقعنا الحي والمباشر، لانه بالرغم من كل ما حدث في بلدان ما يسمى بالعالم الثالث من تراجعات أو انهيارات على كافة المستويات، وبالرغم مما يجري في بلداننا العربية من تفكيك وتراجعات وهزائم متلاحقة وأحوال اجتماعية مأزومة أصابت كل مكونات بنياننا المادي والفكري والثقافي العام، كما جرى ويجري في العراق وفلسطين، والسودان ولبنان، برغم كل ما حدث، وما سيحدث، فإن الحاجة الى الاشتراكية وأيديولوجيتها الماركسية ومنهجها تحديدا، لم تبرز في كل تاريخنا الحديث والمعاصر كما هي اليوم بالنسبة لشعوبنا كما لكل الشعوب المضطهدة في كوكبنا. إننا ندرك ان الواقع يفرض على الطبقات الفقيرة المضطهدة القبول -بصورة اكراهية وعفوية في آن- بالأيديولوجيا السائدة ما دام المثقف العربي الملتزم لم يمارس دوره المطلوب -على صعيد الفكر والممارسة- في بلورة أيديولوجية الفقراء، مما يتيح استمرار تغلغل ايديولوجية الطبقة أو الشرائح الحاكمة في أوساط الكادحين والفقراء عبر صور شتى، منها العادات والتقاليد والدين والافكار السياسية الاجتماعية الى جانب تأثير أجهزة الاعلام من الفضائيات التي تدخل كل بيت الى الصحافة والخطاب الثقافي الانتهازي الرسمي بهدف اكساب الوعي العفوي للفقراء والمضطهدين، مزيدا من الوعي الزائف في شكله المعاصر وهو وعي نقيض لمصالحها، لكنه للأسف هو الوعي السائد، وهنا تتجلى الضرورة الموضوعية لانتاج وبلورة الأيديولوجيا النقيضة، لكنها ضرورة مرهونة بالبعد الذاتي الغائب الى حد كبير حتى اللحظة، وبالتالي فإنني أتوجه الى المثقفين والمفكرين التقدميين في فلسطين والبلدان العربية بنداء يهدف الى حوار من أجل تأسيس حركة تقدمية عربية جديدة استنادا الى الأزمات العميقة التي باتت تعيشها الطبقات الشعبية وحالة الافقار التي باتت تدفع اليها في كل اقطارنا العربية في سياق تفاقم الصراع الطبقي ضد الرأسمالية التابعة في بلادنا، التي نهبت المجتمع خلال العقود الماضية، وأيضا استنادا الى حالة الاحتقان العميق الذي أوجدته الغطرسة الصهيونية والاحتلال الامبريالي، حيث بات من الواضح اليوم أن انهاء نظم الرأسمالية التابعة هو جزء من مواجهة المشروع الامبريالي الصهيوني، وعلى ضوء ذلك ندعو الى التفاعل والحوار من أجل اعادة بناء التصور الأيديولوجي الذي يعيد الاعتبار للحلم الاشتراكي، كما ندعوهم الى البحث الجاد في الواقع العربي من أجل بلورة المشروع القومي الديمقراطي، مشروع الاستقلال والوحدة القومية والتطور والديمقراطية والحداثة، كمشروع تنفتح فيه مقومات المشروع الثقافي العربي النهضوي
السؤال السادس : يعيش المجتمع الفلسطيني حالة متشابكة من النضال على الصعيد الوطني والديمقراطي الداخلي ، فما تأثير ذلك على الوضع الثقافي الفلسطيني ؟ سأركز في محاولتي الاجابة على هذا السؤال ، على التحديات السياسية التي تواجه مجتمعنا الفلسطيني في هذه المرحلة التي تشتد مخاطرها بعد ان توافقت أو اكرهت جميع القوى السياسية الفلسطينية على الدخول في بيت الطاعة -كما قلنا- دون ان تعرف ما الذي ستحققه عمليا أو سياسيا من ذلك سوى المزيد من التراجع ضمن منطق الديمقراطية الاصلاحية في البيت الجديد ، كأن الديمقراطية الممسوخة هذه قد اصبحت اهم من الحرية ؟ أليس هذا الامر محزناً ومريباً ..؟ . لذا فإننا حينما نتناول بالتحليل الاوضاع السياسية الفلسطينية الراهنة ، فإننا نتحدث بالضرورة عن اطار شمولي لأزمة النظام السياسي للسلطة الفلسطينية بكل ابعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقيمية ، بمعنى ان هذه الازمة متشعبة الاوجه ومتعددة المظاهر ، فهي تتخطى البعد السياسي بحيث تمتد لتصبح -في المشهد الفلسطيني الراهن- أزمة مجتمعية ، فكرية واقتصادية وسياسية ، بل انها تقترب لكي تطال بآثارها الهوية الوطنية الفلسطينية ذاتها ، وكل ذلك بالدرجة الاساسية ارتبط وما زال بأداء السلطة الفلسطينية وحزبها الحاكم من ناحية ، وبفعل تصاعد الدور المركزي للمقرر الخارجي الامريكي/الاسرائيلي بالذات ، الذي بات يفرض علينا سياساته وشروطه وديمقراطيته بعد ان باتت موازين القوى مختلّة لصالح العدو الامبريالي/الصهيوني بصورة غير مسبوقة في كوكبنا بصورة عامة وفي وطننا العربي وعلى مستوى قضيتنا الوطنية وحقوقنا المشروعة بصورة خاصة ، فهي اذن ازمة شعب بأكمله ، ونقصد هنا الاغلبية الساحقة من جمهورنا الفلسطيني الذي يتطلع الى بناء وحدته الوطنية ، المجتمعية والسياسية والاقتصادية على كل ارضه المحتله ، بشغف ومصداقية وآمال تنبع من استعداده العالي للتضحية والنضال من اجل تحقيق اهدافه الوطنية في التحرر السياسي والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وسيادة القانون . - ان مخاطر التحديات السياسية الناجمة عن "خطة شارون" تجسد بصورة اولية ورئيسية طبيعة واهداف هذه الخطة الهادفة الى تحقيق التسوية الانتقالية وفق الرؤية الامنية الاسرائيلية وبالتالي تحويل المشروع الوطني الفلسطيني او مشروع الدولة المستقلة على كل ارضنا المحتلة ، الى مشروع سياسي ممسوخ عبر صيغة امنية قد تمتد لسنوات قادمة من التسويف والتأجيل والمراوغة التي خبرها شعبنا في صراعه الطويل مع العدو الصهيوني دون طائل او خطوة واحدة الى الامام ، مما سيؤدي الى بقاء استمرار قطاع غزة لسنوات قادمة –كما اشرت من قبل-هو الشكل الباهت "لدولة فلسطينية" مؤقتة او "لوطن فلسطيني" ممسوخ في المشهد الغزاوي ضمن ضبابية عميقة تلف مستقبل الضفة الفلسطينية لسنوات قادمة . في ضوء ما تقدم، فإننا نتفق على أن أزمة المشهد الثقافي تعود الى عوامل موضوعية ترتبط بعملية التطور الاجتماعي-الاقتصادي والسياسي الأبوية المشوهة لمجتمعاتنا العربية ، التي رسخت -عبر الأنظمة أو المؤسسة الحاكمة- مفاهيم وأدوات السيطرة والاستبداد والخضوع في سياق إعادة إنتاج التخلف والتبعية التي دفعت بدورها الى مزيد من التهميش والفقر والحرمان لجماهيرنا ، ومزيد من التفتت والنزعات المدمرة ذات الطابع العصبوي العشائري والحمائلي والفئوي والطائفي وغير ذلك من العصبيات الموروثة والمستحدثة بمختلف أشكالها وأجهزتها . هذه العوامل الموضوعية ، لم تكن معزولة عن أدواتها أو روافعها الذاتية المتمثلة في أولئك المثقفين الذين صاغتهم الأنظمة أو المؤسسة الحاكمة أو بلدان المراكز الرأسمالية ، لتبرير الوضع القائم وإضفاء شكلا باهتا من الشرعية السياسية أو الأيديولوجية عليه ، في سياق ثقافة السيطرة والخضوع والتطبيع ، التي أصبحت تبرر ثقافة السلطة بديلا لسلطة الثقافة ، انسجاما مع مفهوم دولة السلطة الذي ترسخ في بلادنا خلال العشر سنوات العجاف الماضية بديلا لمفهوم سلطة الدولة. ان ما يميز مجتمعنا اليوم -والمجتمعات العربية عموما- ليس فقط مظاهر الخلل والفساد والهبوط السياسي والانحطاط السلوكي والفوضى بتأثير عاملي التخلف والتبعية ، بل يميزها أيضا هذا العجز الجماعي الفاضح في تحقيق الحد الأدنى من الاهداف الحيوية . وبالتالي فإن مجتمع على هذه الشاكلة لا يمكن أن يدوم إن بقي على حاله وان لم يؤسس اليوم وفي المرحلة المقبلة الاطار الوطني الديمقراطي الذي يحقق أهدافنا الوطنية والاجتماعية والديمقراطية في الاطار القومي الوحدوي... هذا التغيير لن يأتينا من الخارج ولن يتم الا ذاتيا كما يقول المفكر الراحل هشام شرابي عبر وعي المثقفين لدورهم الوطني والتنويري والحداثي في عملية التغيير . انهم (المثقفين) الفئة الوحيدة القادرة على نقل الحقيقة (عبر العمل المنظم-الحزب) كمدخل لوعي شعبنا لحقائق الواقع والصراع والمشاركة في عملية التغيير ، ما يعني لنا بوضوح أن تطور الأوضاع الثقافية و الاجتماعية باتجاه مصالح الجماهير الشعبية مرهون بدورنا في تفعيل التيار الديمقراطي كقطب ثالث ، و قيادته و اتساع سيطرته بصورة منظمة في داخل الوعي الثقافي الشعبي العفوي أو الاعتيادي بما يجعل من هذا التيار قوة جماهيرية مؤثرة قادرة على تحجيم و إضعاف الشرائح الطبقية الكومبرادورية و البيروقراطية و الطفيلية السائدة اقتصادياً من جهة ، و إلغاء دورها المهيمن على الصعيد السياسي والثقافي من جهة أخرى . السؤال السابع: هل تعتقد أن النخبة الثقافية في مجتمعنا تشكل أساساً لترويج الثقافة على نطاق واسع في المجتمع؟ دون القفز عن الواقع الوجودي للنخب الاجتماعية الطبقية في بلادنا ومصالحها الاقتصادية ودورها السياسي ومكانتها الاجتماعية سواء في منظومة الحكم ومؤسساته واجهزته المتنوعة او في بنية المجتمع فيما يطلق عليه "أهل الحل والعقد" من المتنفذين ، او الطغم العائلية والحمائلية والعشائرية في الضفة وقطاع غزة ، وهي نخب موجودة بضرورات الاكراه في السلطة الحاكمة ، او على الصعيد الاجتماعي في سياق منطق "السلطة والثروة" وادواته او شخوصه الذين تجمعهم قاعدة "المحاسيب واهل الثقة"، فإن تعريفي للنخبة منحصر في تلك الشرائح أو الفئات الثقافية، الاقتصادية، المجتمعية، السياسية، العلمية،التي تنطلق في حركتها من تلك الرؤية النظرية المعرفية الاستراتيجية المسلحة بالعلم والإرادة الذاتية المعبرة عن الإرادة الشعبية الجماعية والنابعة من حقائق واقعنا العربي كله، وتسعى- عبر إنتاجها المتنوع- الى مجابهة أشكال التخلف والتبعية السياسية الاقتصادية، فالنخبة التي أتحدث عنها هي الطليعة التي تخدم مصالح الاغلبية الساحقة وهي هنا بمثابة المثقف العضوي الذي اشار اليه غرامشي، هذه النخبة الطليعية الملتزمة بالقضايا الوطنية والمجتمعية الديمقراطية الراهنة والمستقبلية تشكل الأساس لترويج الثقافة الوطنية في مجتمعنا بما يمكنها من إعادة إحياء الفكرة التوحيدية المركزية لشعبنا لقضية التحرر الوطني والديمقراطي الفلسطيني في إطارها القومي العربي . هنا تتجلى مهمة النخبة الثقافية ارتباطا بعملية الافكار والحركة المؤدية الى تجاوز الازمة الراهنة ، وهي مهمة مشروطة بامتلاك هذه "النخبة" الفكر النظري الاقتصادي والاجتماعي والسياسي النقدي النقيض لكل مظاهر الاحتواء والاستسلام والتسطح والتخلف في الفكر والواقع على السواء ، فكر يتجلى في مختلف اشكال التعبير والسلوك والوعي الفلسفي العلمي والممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والادارية على ارضية النهوض والتقدم والديمقراطية . بمعنى ان على هذه النخبة أن تمارس دورها الابداعي او الثقافي العام او السياسي في اطار متحرك غير معزول عن الاطار المجتمعي من حوله في الزمان او المكان ، وفي كل الاحوال فإن عبارة مستقبل المثقف الفلسطيني او العربي رغم وضوحها الا انها لا تحمل وضوحا للفكرة ، حيث ظلت نخبة المثقفين موزعه في مساحة كبيرة منها لحساب السلطة او النظام والطبقة السائدة ، في حين ضاقت دائرة المثقفين الوطنيين التقدميين التي اتسمت دوما بالضعف والهشاشة والانقسام بين محاولات تحديث التقاليد ، والاصالة والمعاصرة والعلمانية والدين ، والايديولوجيا والسياسة ، والتقدم والديمقراطية ، وكلها محاولات لم تحسم -لاسباب ذاتيه- حتى اللحظة رغم ادعاء الجميع اقترابهم من الفئات الشعبية ومصالحها . أخيراً المثقف الملتزم هو النخبة الفعلية القادرة على ترويج الثقافة المرتبطة بعملية النقد العقلاني العلمي لمجتمعنا من أجل العمل على تغييره... هنا يكون المثقف طليعة التغيير التحرري والنهضوي الاجتماعي... إنه يعبر عن ضمير الجماهير الشعبية المضطهدة... وهو بالتالي ضمير الأمة لأن هذه الجماهير الفقيرة هي بمثابة روح هذه الأمة في هذه المرحلة إذ لا يمكن التعويل على الفئات أو الشرائح البرجوازية لكي تحمل مشروعاً نهضوياً أو تغييرياً لأنها برجوازية تابعة ومشوهة وكذلك كل المثقفين الذين يدورون في فلكها ويعيشون على فتاتها. السؤال الثامن": كيف نتعاطى مع الذاكرة الجمعية الفلسطينية وما هو دورها وتأثيرها على الواقع الثقافي؟ الذاكرة الجمعية هي العقل الشعبي أو الفكر أو الرأي العام العفوي الصادق المرتبط بالواقع والمعبّر عنه، وبقدر امتداد الذاكرة الجمعية في التاريخ إلا أن دورها الراهن هو دور محرك للحاضر والمستقبل معاً، فالذاكرة الشعبية الجمعية هي بداية الإنتماء، وهي بهذه الصفة احد مكونات الهوية الوطنية. الذاكرة الجماعية الفلسطينية هي ذاكرة وطنية وقومية في آن لذلك قد تمتلك بهذا القدر أو ذاك بعداً سياسياً وأيديولوجياً وطنياً أو قومياً له طابعه العفوي . البعد السياسي في الذاكرة الفلسطينية شكل وعاءً رئيساً لحركات النضال الوطني عبر تضحيات الجماهير الفقيرة المضطهدة خصوصاً... وهي تضحيات ملهمة للحركات الوطنية، إضافة الى البعد السياسي.. فالذاكرة الجمعية الفلسطينية هي ايضاً وعاء رئيساً للحراك والصراع الطبقي قبل عام 48 والتجربة المريرة لأبناء شعبنا من الفلاحين الفقراء مع الممارسات الفوقية والاستعلائية الظالمة والكريهة مع طبقة كبار الملاك أو ما كان يسمى بالأفندية من أشباه الاقطاعيين خير دليل على ذلك الصراع الطبقي الذي اتخذ في تلك المرحلة بعداً عفوياً رغم كل مرارته، ثم استمرار هذه الالام والمعاناة لجماهير شعبنا في الضفة والقطاع والشتات عبر تداخل البعد الوطني مع البعد الطبقي حتى عام 67 وبعده وصولاً الى اليوم في تجربة أجهزة السلطة الفلسطينية وتحالفاتها عبر مظاهر الخلل والفساد والهبوط. الذاكرة الفلسطينية الشعبية إذاً هي حافظة للوعي الوطني والقومي لكل المحطات التاريخية والراهنة الناجمة عن التآمر الاستعماري الصهيوني والرجعي العربي، والإمبريالي الأمريكي، منذ سايكس بيكو ووعد بلفور ومشاريع التقسيم والنكبة ومؤامرة توطين اللاجئين في سيناء عام 1955 الىهزيمة حزيران في 67، والكفاح المسلح والثورة الفلسطينية المعاصرة... والانتفاضة،... هذه الذاكرة مرتبطة أيضا بالمكان ورموزه... من مفتاح البيت... والبيت والقرية ... والمدينة والمزرعة والورشة ..هذا المكان بكل تفريعاته ورموزه ما زال ماثلاً حتى اللحظة في الذاكرة الجمعية لشعبنا . المسالة الثانية في هذا السياق ترتبط بالذاكرة الفلسطينية في الشتات عبر معاناة شعبنا واضطهادهم وإفقارهم وإذلالهم في هذا البلد أو ذاك، الأمر الذي أفرز بالضرورة ما يمكن تسميته بذاكرة التشرد والغربة...إنها ذاكرة معنية بعوامل التمرد والمقاومة والرفض والتمسك بالحقوق والثوابت. وبالتالي نحن الفلسطينيون أمام ذاكرتين منصهرتين معاً... ذاكرة الوطن وذاكرة الغربة والشتات واللجوء... لكل منها آلامها العديدة... وآمالها الكبيرة التي لم تحقق بعد . لذلك فإن الحديث عن أي حل أو تسوية سياسية لا تحقق أهداف وتطلعات هذا الشعب في كل حقوقه... فإن هذه التسوية أو السلام المفروض سيدخل الذاكرة لكي ترفضه وتلفظه... وتجدد وعيها بالوطن لتكون آلامها هي منطلق الآمال،علاوة على ممارسات الحاضر من تراجع في القيم الوطنية والمجتمعية ومن مظاهر الفساد والانحطاط التي تعيد تنشيط الذاكرة الجمعية الفلسطينية الى القيم الوطنية والمجتمعية النبيلة .... قيم النضال الوطني والتكافل الاجتماعي والمحبة والمصداقية والشرف. المسألة الثالثة: إن الذاكرة الشعبية الفلسطينية هي جزء من الذاكرة الشعبية للأمة العربية كلها باعتبار أن فلسطين جزءاً تاريخياً وراهناً ومستقبلاً في هذه الذاكرة العربية . بالطبع نحن الآن نعيش أحوالاً سياسية واجتماعية واقتصادية متردية محكومة بالأزمات في كل أقطارنا العربية عبر أنظمة فقدت أو كادت تفقد وعيها الوطني، وعبر محاولات يائسة لإنتاج النزعات الطائفية، أو الحضارات القديمة في هذا القطر أو ذاك... الى جانب التفكك في هويات أو نزعات مجتمعية لا جذور لها، كما يجري في بلدان الخليج العربي وغيره. لكن الأصل سيبقى راسخاً، وأعني به الذاكرة الجمعية الشعبية في فلسطين وكافة الأقطار العربية، رغم كل مظاهر التراجع التي تمليها علينا العولمة الأمريكية أو الأنظمة العربية، ورغم كل مظاهر التخلف والانحطاط السياسي والمجتمعي السائد، ورغم كل محاولات تفكيك بلدان هذا الوطن، ستبقى الذاكرة الشعبية الفلسطينية جزءاً من الذاكرة القومية العربية ارتباطاً بالماضي والحاضر والمستقبل، ولا أبالغ لو قلت أن غياب هذه الذاكرة سيكون مؤشراً خطيراً على غياب الهوية الوطنية. السؤال التاسع: هل هناك أمل لمشروع ثقافي تنويري في فلسطين؟ يقترن هذا السؤال بموقف أو وعي مسبق يقترب من حالة اليأس في أن يتمكن واقعنا الفلسطيني الراهن من إنتاج المشروع الثقافي التنويري المنشود، ورغم أنني لا أستطيع إغفال المسار الهابط لتطور مجتمعنا الفلسطيني خلال العشر سنوات الأخيرة، عبر العديد من الممارسات السلبية وتراكماتها، إلا أن هذه الظاهرة على خطورتها لا تشكل أو تهيمن كلياً على صورة الواقع الفلسطيني وحركته، بمعنى أننا نتفق على أن هناك وجهاً آخر لهذه الثنائية، هو الوجه الإيجابي بأدواته وشخوصه في الثقافة والفكر والسياسة والاقتصاد. المسالة الثانية في هذا الجانب أن الحديث عن مشروع ثقافي تنويري فلسطيني هو نوع من الوهم، ذلك أن أي حركة تنويرية فلسطينية بالمعنى الجزئي لا يمكن أن تتفتح أو تنطلق دون ارتباطها العضوي راهناً ومستقبلاً بالمشروع الثقافي التنويري العربي المسألة الثالثة وهي الأهم، تتجلى في أن مجتمعاتنا في فلسطين والبلدان العربية الأخرى لم تتمكن حتى اللحظة- لأسباب متنوعة- من تهيئة أو مراكمة كافة العناصر الرئيسة المطلوبة للمرحلة الانتقالية أو البدايات التاريخية المجتمعية الأولى لعملية التنوير والنهوض كما جرى في أوروبا في القرن الثامن عشر، واعتقد أن العديد من الدراسات التي تناولت هذه المرحلة التاريخية الانتقالية تتفق على أن المقدمات الرئيسية لعصر النهضة بكل معطياته الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، قد تشكلت وتفاعلت في مناخ سادت فيه بالممارسة مفاهيم الحرية الفردية والعقلانية التي سادت في أوروبا في تلك المرحلة، ودفعت الى الإقرار باهتمامات الشخصية الإنسانية وحقوقها ومصالحها كموقف نقيض للكنيسة التي ألغت هذا الحق وصادرته طوال أكثر من ألف عام، وقد ترافق ظهور المفاهيم وانتشارها، مع الانتشار الواسع لدور التجارة التي شكلت العماد الاقتصادي للطبقة البورجوازية الناشئة آنذاك، والتي وجدت في التجارة سندها المعنوي بما تستدعيه من نظام في المعارف وفي القيم/ لأن عالم التجارة والصناعة- كما هو معروف- هو عالم الامتلاك والبضاعة والتنقل الحر في الزمان والمكان وهو ظرف لم يتحقق إلا بصورة مشوهة وأحادية في مجتمعنا الفلسطيني والعربي، حيث لم يترعرع عندنا سوى الوسطاء والسماسرة أو الكومبرادور في نظام التبعية القائم، وهو نظام نقيض للعقلانية وحرية الفرد ومن ثم للتنوير والنهضة، ما يعني أن دعوة المثقف الفلسطيني والعربي لتغيير وتجاوز هذا النظام تصبح القضية الأولية على جدول أعمال هذا المثقف باعتباره بديلاً للحامل الاجتماعي الطبقي الذي لم يتبلور بعد، وهي مهمة صعبة ومعقدة تحتاج الى تفاءل العقل وقوة الإرادة لمواجهة وتجاوز الاشكالية الكبرى المعرقلة لعناصر عملية التنوير والنهوض في بلادنا، والتي تتمثل في معظم المفاهيم والأدوات الحاكمة والمؤثرة في مجتمعاتنا، وهي مفاهيم تنتمي الى انماط وصيغ قديمة من جهة والى اشكال معاصرة مرتبطة بعملية النقل المشوه والشكلي للحداثة ساهمت في تعميق أزمة الحكم وأزمة المجتمع معا، وفق شروط وقواعد التبعية والتخلف، ترافقت مع المنطق التبريري الانتهازي لمثقف السلطة باسم الليبرالية أحيانا وباسم الواقعية أو الهزيمة أحيانا أخرى. ولكن بالنظر الى هذه الأزمات المستفحلة سواء على صعيد الصراع الوطني/القومي مع العدو الإسرائيلي والإمبريالي من جهة أو على صعيد الأزمات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية الداخلية من جهة أخرى، لا بد لنا من الإقرار بإمكانية قيام المثقف الفلسطيني والعربي، بدوره في بلورة ثقافة التنوير وانتشارها في مجتمعاتنا، تلك هي مهمة المثقف الملتزم في ممارسة النقد الجذري للواقع الراهن، وصولا الى الرؤية العقلانية التنويرية التي نسعى الى صياغتها عبر الجمع الخلاق بين سفح الليبرالية التنويري الذي يمثل العقلانية، كتيار فكري يعطي للعقل الأولوية في تفسير الظواهر وتحصيل المعرفة، الى جانب العلم والروابط المدنية والديمقراطية والحرية والمواطنة، وتكامل كل هذه المفاهيم مع السفح الثاني للنهوض الاقتصادي الاجتماعي الثقافي بآفاقه الاشتراكية، إذ أنه ليس لنا في هذا العصر أي خيار أو مستقبل آخر. إن تشخيصي لبعض جوانب الثقافة في بلادنا، لا يعني أنني أسعى الى مراكمة المزيد من نزعات التشاؤم، على العكس من ذلك أو بالتجاور معه، أرى أن مظاهر العافية في ثقافتنا العربية في فلسطين موجودة ولكنها مختبئة، هناك الشعر والرواية والقصة القصيرة والنثر والفنون المختلفة من الرسم إلى الموسيقى. لكن -للأسف- ليس هناك اهتمام جدي من السلطة أو من الأحزاب والجمعيات بهذا الإنتاج، لذا فإن مظاهر العافية مغيبة، إضافة إلى إنها مختبئة وهي مكرهة على ذلك بحكم تواضع أو ضآلة امكانات المبدعين فيها.ويبدو أن ثقافة الهبوط أو ثقافة الأمر الواقع أو الهزيمة هي السائدة والمهيمنة بحكم هيمنة الشرائح أو الطبقة السائدة في الحكم وتحالفاتها.
#غازي_الصوراني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ورقة/ تعقيب على مداخلتين حول: أثر التطورات المحلية والعالمية
...
-
أي تنميـــة لفلســطيــن ؟ الواقـــع والآفـــاق
-
القصور والعجز الذاتي في أحزاب وفصائل اليسار العربي ... دعوة
...
-
الآثار الاقتصادية الناجمة عن الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة
-
حول مفهوم الثقافة ... وأزمة الثقافة في فلسطين
-
المأزق الفلسطيني الراهن
-
الدستور الفلسطيني ومفهوم التنمية
-
كلمة غازي الصورانـي في : المهرجان الجماهيري التضامني مع بيت
...
-
الاقتصاد الفلسطيني ... تحليل ورؤية نقدية
-
التحولات الاجتماعية ودور اليسـار في المجتمع الفلسطيني
-
الطبقة العاملـة والعمل النقابي في فلسطين ودور اليسار في المر
...
-
مجتمع المعرفة في الوطن العربي في ظل العولمة - على هامش اصدار
...
-
ورقة أولية حـول : الإشكاليات التاريخية والمعاصرة لهيئات الحك
...
-
الاصدقاء الاعزاء في منتدى الحوار المتمدن
-
التشكيلة الرأسمالية وظهور الفلسفة الماركسية
-
حول فلسفة هيجل وفيورباخ
-
الفلسفة الأوروبية الحديثة(1) عصر النهضة وتطور الفلسفة الأورو
...
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية ) والفلسفة
...
-
-محاضرات أولية في الفلسفة وتطورها التاريخي - مدخل أولي في ال
...
-
ورقـة :حول الواقع الاقتصادي الفلسطيني الراهن
المزيد.....
-
خبراء عسكريون يدرسون حطام صاروخ -أوريشنيك- في أوكرانيا
-
النيجر تطالب الاتحاد الأوروبي بسحب سفيره الحالي وتغييره في أ
...
-
أكبر عدد في يوم واحد.. -حزب الله- ينشر -الحصاد اليومي- لعملي
...
-
-هروب مستوطنين وآثار دمار واندلاع حرائق-.. -حزب الله- يعرض م
...
-
عالم سياسة نرويجي: الدعاية الغربية المعادية لروسيا قد تقود ا
...
-
إعلام: الجنود الأوكرانيون مستعدون لتقديم تنازلات إقليمية لوق
...
-
مصر.. حبس الداعية محمد أبو بكر وغرامة للإعلامية ميار الببلاو
...
-
وسائل إعلام: هوكشتاين هدد إسرائيل بانهاء جهود الوساطة
-
شهيدان بجنين والاحتلال يقتحم عدة بلدات بالضفة
-
فيديو اشتعال النيران في طائرة ركاب روسية بمطار تركي
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|