السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن-العدد: 4223 - 2013 / 9 / 22 - 14:38
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
"لا يمكن زراعة الارض قبل حرثها"
"في انتظار الناشط ... الثقافي"
"ما، لماذا، كيف" ثلاثة أسماء استفهام تشكل سويا بنية ثلاثية "عن الثورة الثقافية" الذي يعتبر هذا المقال جزئها الثالث والأخير. فمحاولة الإجابة على سؤال "ما الذي يعنيه مفهوم الثقافة"؟ كانت موضوع الجزء الأول "ترويض المفاهيم" (السيد, 2013b). وفيه عرضنا لنموذج شجرة ام الشعور (الصفصافة) لثقافة المجتمع. فأوراق هذه الشجرة تمثل الجزء الظاهر من ثقافة المجتمع بما تحتويه من "أنماط سلوكية" و"منتجات ثقافية". اما جذعها فيمثل "منظومة القيم" السائدة بينما يمثل جذرها "منظومة المسلمات" (او "الرؤية الكلية" Worldview) التي يتبناها المجتمع. وكان موضوع الجزء الثاني، "عشان ايه وليه" (السيد, 2013c)، هو محاولة للإجابة على السؤال "لماذا تلعب الثقافة دورا لا يمكن اغفاله في عملية تطوير المجتمع وتحديثه؟" وفيه تعرفنا على الثقافتين: ثقافة تدعم قيمها ومسلماتها إقامة مجتمع الرفاه عبر عملية التنمية الشاملة، "الثقافة الداعمة للتنمية"، وثقافة أخرى تشكل قيمها ومسلماتها عقبات في طريق التنمية، "الثقافة الممانعة للتنمية". اما هدف هذا الجزء، "معالم على الطريق"، فسيكون حول كيفية القيام بـ "ثورة ثقافية" ...! ... ثورة تهدف الى تحويل الثقافة السائدة في المجتمع من ثقافة "ممانعة" للتقدم الى ثقافة "داعمة" له.
وسيتطلب منا تحقيق هذا امران. الامر الأول هو التعرف على ملامح الثقافة المنشودة، التي تدعم عملية تحديث المجتمع وتنميته، كما تتمثل في كلا من منظومة قيمها و"منظومة المسلمات" (او "الرؤية الكلية") الخاصة بها. اما الامر الثاني فيتعلق بالخطوات اللازم اتباعها لتحقيق النقلة النوعية من وضع ثقافي ممانع للتقدم الى وضع ثقافي داعم له ... او مقترح بخارطة طريق.
بروفيل الثقافة المنشودة
على الرغم من تعدد التجارب التنموية التي نجحت في تطوير مجتمعاتها وضمان مستوى رفاه مرتفع لأفرادها وعلى الرغم تباعدها في المكان وفى الزمان إلا أنه يمكن التعرف على اربعة منظومات قيمية تشترك فيها ثقافات هذه المجتمعات وهي: "الاحتفاء الشديد بالإبداع"، "الاتساق الاجتماعي الأخلاقي"، "محددات وضع الفرد في المجتمع" و"تسيد للنظرة المستقبلية"
وأول هذه المنظومات هي منظومة قيم "الاحتفاء الشديد بالإبداع" بشتى صوره والذي ينطلق من نظرة هذه المجتمعات لمفهوم "الثروة". فالثروة، طبقا لهذه النظرة، تكمن في "ما يمكن أن يكون" لا في "ما هو كائن". إنها الثروة التي تخلقها، في المقام الأول، "الموارد الذهنية" المتمثلة فيما يحوزه أفراد المجتمع من معرفة وخبرات ومهارات وفى قدرتهم على توظيفها "المبدع" في كافة المجالات. ويتطلب تعظيم قدرات أفراد المجتمع على الإبداع الخالق للثروة "الثقة" في قدرتهم على التفكير المستقل، هذا بالإضافة تحريرهم من كافة أشكال القمع المادي والمعنوي. فخضوع أفكار وأفعال وسلوكيات أفراد المجتمع لتوجيهات وأوامر أي مجموعة منهم وأيا كانت مبررات هذه المجموعة يسلبهم حقهم في اتخاذ القرار المستقل، ويقلل من قدرتهم على تقبل المسؤولية عن أفعالهم، ويضعف من بواعثهم على صناعة التغيير. ولا تكتمل مكونات هذه المنظومة إلا بذكر مكونين آخرين وهامين. المكون الأول هو تشجيع تنوع الأفكار والخروج عن المألوف منها فالـ "بدعة" في عرف الثقافات الداعمة للتنمية هو أمر مرغوب يثاب صاحبها عليها خاصة إن أسهمت في زيادة قدرة المجتمع على حل مشاكله. أما المكون الثاني فهو تبنى تلك الثقافات لفلسفة تعليم تقوم على استثارة العقول بتشجيعها على التساؤل المستمر والتعلم الدائم لا على حشوها بالمعلومات وحثها على استظهارها.
أما منظومة القيم الثانية فهي ما نطلق عليه اسم "الاتساق الاجتماعي الأخلاقي"، إذ تتميز الثقافات الداعمة لعملية التنمية بالتوافق الشديد بين "الواقع الاجتماعي"، الذي يتمثل في كافة السلوكيات العملية التي يتبناها أفراد المجتمع أثناء سعيهم لتحقيق أهدافهم، مع "القانون الأخلاقي"، الذي يعلن المجتمع عن تبنيه له ويتضمن المعايير الأخلاقية التي تحدد السلوك القويم. وعلى العكس من ذلك تتميز الثقافات غير الداعمة للتنمية بالتباعد الحاد بين ما ينطوي عليه "القانون الأخلاقي" من أحكام مثالية مع ما تخضع له السلوكيات الفعلية لأفراد المجتمع من قيم نفعية.
وثالث المنظومات القيمية هي تلك المتعلقة بـ "محددات وضع الفرد في المجتمع". ومن اهم قيم هذه المنظومة هي الإعلاء غير المسبوق لقيمة "العمل" واحتلالها مركز الصدارة في منظومة قيم هذه الثقافات. فالتفاني في العمل وإتقانه هو وسيلة الفرد الوحيدة لحيازة الثروة وإحراز المكانة. وتعزز هذه القيمة قيمة "التنافس" كآلية لـ "تجويد" الأفكار والأفعال. هذا بالإضافة الى "قيم الديمقراطية" وعلى رأسها قيم "احترام التعدد"، سواء كان تعددا في الفكر أو العرق أو الدين، و"الحرية"، بكل أبعادها الشخصية والسياسية والاقتصادية، و"المساواة"، بما تعنيه من حق الإنسان في أن يعامل على قدم المساواة بغض النظر عن عرقه أو جنسه أو دينه أو وضعه الاقتصادي.
أما آخر منظومات القيم فهي منظومة "تسيد النظرة المستقبلية". وتعنى هذه النظرة تركيز هذه الثقافات على المستقبل القابل للتحقق على أرض الواقع عبر العمل المنظم والمخطط لأفراد المجتمع. وعلى عكس هذه النظرة تسود الثقافات غير الداعمة للتنمية نظرة تعلى من شأن الماضي الذي تمثله حقبة تاريخية بعينها، أيا كان مسماها، أما عمل الأفراد فهو في المقام الأول موجه لضمان وضع أفضل في الحياة الآخرة.
ونظرة فاحصة لمنظومات القيم الأربعة توضح انها تقوم على المسلمتين التاليتين. المسلمة الاولى هي "قدرة الانسان المستقل، حر الإرادة، على إدارة شئون حياته وذلك باستخدام عقله وعقله فقط وبدون الاستعانة باي قوى خارجية". والمسلمة الثانية هي "التطور (الارتقاء) هو القانون الذي تخضع له كافة الكيانات والكائنات" (السيد, 2013a).
الثورة الثقافية و"الناشط الثقافي"
ان نظرة سريعة على الثقافات السائدة في مجتمعات الشرق الأوسط على ضوء "بروفيل الثقافة المنشودة"، ومن بينها المجتمع المصري، تنبئنا بانها ثقافات ممانعة للتنمية والتحديث. وتتمثل هذه الممانعة في العديد من عناصر منظومات القيم السائدة وفى العديد من مسلمات الرؤى الكلية التي تتبناها هذه الثقافات. وعملية تحديث هذه الثقافات، سواء شمل هذا التحديث إحلالا للقيم الداعمة محل قيم الممانعة او(و) تغيير بعض من المسلمات، تعتبر عملية بالغة الصعوبة لتشابك العوامل الفاعلة سواء كانت هذه العوامل اجتماعية او اقتصادية او سياسية. الا ان القيام بعملية التحديث الثقافي هذه هي امر لا مفر منه اذ يعتبر التحديث شرطا لازما لنجاح واستدامة أي جهد مبذول لتنمية المجتمع. وتتألف هذه العملية من ثلاثة مراحل هي "التهيئة " و"التغيير" و"التثبيت" (السيد, 2010)، هذا بالإضافة الى ضرورة تواجد العنصر الفاعل ... "الناشط الثقافي".
المرحلة الأولى: التحريض على التغيير (التهيئة)
قوتان تعملان سويا على مقاومة أي محاولة لتغيير ما يؤمن به افراد المجتمع من "قيم" وما يعتبرونه من "المسلمات". القوة الأولى هي قوة "وجدنا آباءنا كذلك يفعلون". وهي القوة التي تمثل حصيلة ما تعلمه افراد المجتمع من خبراتهم التاريخية في تعاملهم بيئتهم الطبيعية أو البشرية والتي انتقلت إليهم عبر الأجيال هذا بالإضافة إلى العوامل الثقافية الأخرى التي تسعى لإبقاء الحال على ما هو عليه.
اما القوة الثانية فهي حالة "قلق التعلم" Learning Anxiety فعملية التغيير تعنى ضرورة "تعلم" افراد المجتمع لأشياء جديدة بالنسبة لهم والتعلم يستلزم بذل جهد مضاعف قد لا يكونوا مستعدين أو مهيئين لبذله. وهي الحالة التي تسبب لمن تنتابه إحساسا بالعجز وقلة الحيلة، وبالخشية من فقدان الهوية، وبانفصام منشئه عدم التواؤم بين ما يؤمن به من أفكار وما يقوم به من أفعال. لذا نجد من تنتابه هذه الحالة يلجأ في العادة لعدة آليات دفاع في محاولة منه لتجنب تغيير ما تعود عليه من أنماط سلوكية أو تبنى قيم أو أفكار غير مألوفة بالنسبة له. ومن أبرز هذه الآليات تكذيب الشواهد على أوجه القصور وتردى الأحوال، أو إلقاء تبعة هذا التردي على جهات من خارج المجتمع، أو اللجوء للمماطلة والتسويف.
ولا يمكن التغلب على هاتين القوتين الا بخلق حالة جديدة هي حالة "قلق البقاء" Survival Anxiety. وهي الحالة التي يقتنع فيها أفراد المجتمع أن بعض القيم التي يتبنونها أو أن بعض المسلمات التي يؤمنون بها لم تعد صالحة أو قادرة على تمكينهم من بلوغ ما يتمنونه لأنفسهم أو للمقربين منهم. وتتأكد هذه الحالة بتقديم شروح مبسطة ومفهومة لأفراد المجتمع تبين لهم أن مكونات ثقافتهم السائدة، بما تتضمنه قيم أو عناصر في رؤيتهم الكلية، لن تمكنهم من تحقيق آمالهم وأحلامهم. وهنا يبرز دور "الناشط الثقافي" بكشفه عن الأسباب "الحقيقية" لمشاكل المجتمع، وبربطها بمكونات الثقافة السائدة قيما كانت او مسلمات، وبعرض الشواهد المؤكدة على ذلك.
المرحلة الثانية: تغيير ما يلزم تغييره (التغيير)
إذا كان هدف المرحلة الأولى هو تهيئة أفراد المجتمع لقبول مكونات ثقافية جديدة، سواء كانت هذه المكونات قيم أو عناصر رؤية كلية داعمة للتنمية والحداثة، فإن هدف المرحلة الثانية هو تقديمها لهم وتشجيعهم على تبنيها وتضمينها في أنماط سلوكهم. وهنا يبرز دور "الناشط الثقافي" الذي تقع على عاتقه مهمة تقديم وصفا مفصلا للمكون الثقافي الجديد مبينا ما يمكن أن يعود على أفراد المجتمع من فائدة حال تبنيهم له. ومن الوسائل التي يمكن استخدامها في هذه المرحلة وسيلة "إعادة تعريف المحتوى الدلالي" Semantic Redefinition للكلمات الشائعة والمتعلقة بالمكون الثقافي وذلك بتحمليها معاني جديدة. أو بعبارة أخرى وضع مشروب جديد في دورق قديم.
المرحلة الثالثة: جعل التغيير دائما (التثبيت)
وأخيرا نصل إلى آخر المراحل، مرحلة التثبيت. وهي المرحلة التي تهدف الى نشر المكونات الثقافية الجديدة بين أفراد المجتمع. أو بعبارة أخرى هي المرحلة التي تؤدى إلى "استبطان" Internalization أفراد المجتمع لهذه المكونات فتصبح جزءا لا يتجزأ من تكوينهم العقلي والوجداني. ويبرز هنا مرة أخرى دور "الناشط الثقافي" الساعي لنشر المكونات الثقافية الجديدة على أوسع نطاق وبكافة الوسائل.
المراجع
السيد, ا. ن. 2010. ثقافتنا المعاصرة: التحديث أو الكارثة. القاهرة: دار المحروسة.
السيد, ا. ن. ا. 2013a. الثقافة العَلمانية: كلمنى عن بكره (4/4). الحوار المتمدن, العدد: 4079(1 مايو): http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=357164.
السيد, ا. ن. ا. 2013b. عن الثورة الثقافية ... ترويض المفاهيم (1/3). الحوار المتمدن, 4203(2 سبتمبر): http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=376
السيد, ا. ن. ا. 2013c. عن الثورة الثقافية ... عشان ايه وليه؟ (2/3). الحوار المتمدن, 4213(12 سبتمبر): http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=377649.
#السيد_نصر_الدين_السيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟