|
خرافة تخلي الولايات المتحدة عن حلفائها من الحكومات المستبدة
رمضان متولي
الحوار المتمدن-العدد: 1206 - 2005 / 5 / 23 - 11:39
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
بعد تصاعد خطاب الولايات المتحدة الإعلامي من أجل الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لعبت الأوهام برؤوس بعض المثقفين في مصر بأن الولايات المتحدة بدأت تتخلى عن حلفائها المستبدين في المنطقة، واستطاع هؤلاء ببساطة لا يحسدون عليها أن يتقبلوا المبررات الساذجة التي ساقتها الولايات المتحدة نفسها لتفسير هذا التحول المزعوم، حيث تعتمد هذه الرؤية الساذجة على فكرة مؤداها إن الاستبداد في منطقة الشرق الأوسط دفع الشباب إلى اليأس والتحول إلى الجماعات "الإرهابية" بسبب عدم توافر المؤسسات التي تسمح لهم بالمشاركة السياسية، وأن مصلحة الولايات المتحدة تقتضي فرض الديمقراطية في بلدان الشرق الأوسط "الكبير" لحماية نفسها من هجمات إرهابية مماثلة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001.
ورغم أن ما فعلته الولايات المتحدة في العراق لا يقترب خطوة واحدة نحو نموذج الديمقراطية الغربية الذي زعمت أميركا أنه سيكون مقدمة لتحولات واسعة النطاق في المنطقة، فقد أصر هؤلاء المثقفون على تلك الفكرة الخرافية التي أصبحت كالقشة التي يتعلق بها الغريق، أو السراب الذي يظنه الظمآن ماء. فقد صنع الاحتلال الأمريكي نوعا من الانتخابات في العراق يضمن ألا يصل إلى مقاعد السلطة أو الجمعية الوطنية إلا حلفاء الولايات المتحدة فقط، وأغلب من في السلطة منزوعي الصلة بالواقع العراقي ممن جاءوا على ظهور دبابات الاحتلال ويجتمعون في المنطقة الخضراء الحصينة، وتشكلت الحكومة تعبيرا عن توازن طائفي هش، يفرض الأحكام العرفية بشكل دائم، ويمارس التعذيب والقتل على نطاق واسع مدعوما بجيوش الاحتلال. بل وفرض الأمريكيون أيضا وجود البعثيين في أهم الأجهزة الأمنية والجيش العراقي، كما قبلوا بسيطرة رجال الدين على الحكومة في البلاد دون أن يجدوا في ذلك ما يعارض "ديمقراطيتهم الجديدة في العراق".
وإذا استثنينا الوضع في العراق، بما فيه من ظروف خاصة، تتمثل في تصاعد المقاومة للاحتلال، والفوضى الضاربة في جميع أنحاء البلاد، والبطالة والفقر ونقص الخدمات في بلد يملك أكبر احتياطي نفط في العالم، نجد التطورات التي شهدتها المملكة العربية السعودية تكشف هي الأخرى أن الولايات المتحدة ليست جادة فيما تزعم من محاولة فرض الديمقراطية الغربية في منطقتنا، وأن حديثها في هذا الأمر ما هو إلا خطاب إعلامي أجوف له أهداف أخرى. فبعد الانتخابات البلدية في السعودية التي جاءت نتيجتها لتعكس انتصارا كاسحا للمحافظين اعتمادا على توجيهات رجال الدين، ورغم أن هذه الانتخابات ليس لها طابع سياسي بقدر ما هي ذات طابع خدمي ملحق بالسلطة، شنت الحكومة السعودية هجوما واسع النطاق على "الليبراليين" في المملكة التي حكمت مؤخرا على بعضهم بالسجن لأعوام طويلة، واكتفت الولايات المتحدة بإبداء القلق دون ممارسة أية ضغوط تذكر على العائلة المالكة. أما الضغوط الأشد التي تمارسها الولايات المتحدة فقد وجهت ضد إيران وسوريا، رغم أن إيران على الأقل يوجد بها برلمان منتخب ودستور وأحزاب – إصلاحيين ومحافظين – مقارنة بالسعودية التي تحكمها ملكية مطلقة، لا توجد بها أحزاب ولا دستور ولا برلمان ولا يحزنون.
وفي نفس الوقت، هللت الإدارة الأمريكية والصحف الغربية لقرار منح النساء في الكويت حق الانتخاب والترشيح، حيث بدا واضحا أن الإدارة الأمريكية تفضل اختصار مؤسسات الديمقراطية الغربية كلها في حق الانتخاب والترشيح للبرلمان، وذلك رغم أن البرلمان الكويتي ككل لا يملك أي سلطات حقيقية في البلاد، وتتركز السلطة بشكل شبه كامل في أيدي أسرة الصباح.
الأهم من ذلك هي الأحداث التي شهدتها أوزبكستان مؤخرا، حيث شهدت البلاد التي تقع في وسط آسيا ويضعها الأمريكيون ضمن خطة "مبادرة الشرق الأوسط الكبير" مذبحة راح ضحيتها حوالي 500 من المتظاهرين في مدينة أنديجان في أقل التقديرات. ولأن إسلام كاريموف، الذي يحكم البلاد منذ عام 1991 بالحديد والنار بعد استقلالها عن موسكو، أصبح حليفا للولايات المتحدة في عام 2001، أصدر البيت الأبيض بيانا يدعم فيه نظام كاريموف الذي أطلق النيران الحية على المتظاهرين وزعم أنهم ينتمون إلى الجماعات الإسلامية المتطرفة المنظمة في "حزب التحرير"، وكان من بين القتلى عدد كبير من الأطفال والنساء.
وأصبحت حجة "الإرهاب" هي الغطاء الذي تمارس تحته الولايات المتحدة وحلفاؤها من الدول الأخرى مختلف أشكال الاستبداد، فقد تلقى كاريموف في عام 2002 معونة قيمتها 79 مليون دولار من الولايات المتحدة أنفقت على الجيش والشرطة في صفقة سمحت لواشنطن باستخدام قاعدة جوية في مدينة خان أباد جنوبي أوزبكستان لشن هجمات على أفغانستان. وبشكل عام فإن استبداد السلطة في أوزبكستان يشبه كثيرا الاستبداد الذي نعاني منه في مصر، حيث يمارس التعذيب على نطاق واسع كأحد الوسائل التي تستخدم في استجواب المتهمين. ومن المفارقات الغريبة في خطاب الإدارة الأمريكية أن كولين باول في عام 2002 عندما كان وزيرا للخارجية استقبل إسلام كاريموف استقبالا حافلا على الرغم من إصدار وزارة الخارجية الأمريكية تقريرا قبل هذه المقابلة بأسبوعين يصف أوزبكستان بأنها "دولة تسلطية لا يوجد بها إلا قدر محدود من الحقوق المدنية ولا تسمح الحكومة فيها بوجود أحزاب معارضة." كما أن الولايات المتحدة تقدم معوناتها بالفعل من أجل إنفاقها على الأجهزة الأمنية والشرطة سواء في أوزبكستان أو في مصر ، وهي الأجهزة التي اعترفت وزارة الخارجية أنها تستخدم التعذيب كأحد آليات التحقيق مع المتهمين. ونحن نعرف مدى انتشار التعذيب في مصر حتى أنه لا يمر عام دون أن تزهق أرواح عدد من السجناء أو المحتجزين في أقسام الشرطة نتيجة للتعذيب الوحشي، ولا تختلف أوزبكستان في ذلك، حيث أشار تقرير لمنظمة مراقبة حقوق الإنسان الأمريكية أن السلطات الأوزبكية قتلت 10 معتقلين من بين 7000 معتقل خلال حملتها على المعارضة الإسلامية، وأن أحد هؤلاء القتلى تم سلقه حيا في الماء المغلي حتى الموت في عام 2002.
المخابرات الأمريكية لا تعترض على التعذيب، الذي مارسه الاحتلال الأمريكي نفسه في العراق وأفغانستان على نطاق واسع، كما يمارسه الجيش الأمريكي ضد المعتقلين في جوانتنامو، بل إنها تستخدمه من خلال برنامج ترحيل المشتبه بهم إلى دول يمارس فيها التعذيب أثناء الاستجواب.
وقد اندلعت الأحداث الأخيرة في أنديجان بعد محاكمة 23 من رجال الأعمال الذين اتهمتهم السلطات بالتطرف الإسلامي، والانضمام لجماعة دينية محظورة، ومع قرب انتهاء المحاكمة، قام 4000 من أقارب ومؤيدي المعتقلين بالتظاهر والتمرد دفاعا عنهم، وفي 13 مايو الجاري هاجم مائة من المتظاهرين سجن أنديجان وأطلقوا سراح آلاف السجناء ومن بينهم رجال الأعمال الثلاثة والعشرين، واحتلوا إحدى البنايات في وسط المدينة وطالبوا باستقالة كاريموف.
ولكن القوات الحكومية تحركت وقامت فرقة مدرعات بإطلاق النار بشكل عشوائي على آلاف المتظاهرين في ميدان خارج المبنى، مستخدمين المدافع الآلية من فوق المدرعات، ثم تحرك الجنود سيرا على الأقدام بعد ذلك وأجهزوا على الجرحى ومن بينهم نساء وأطفال. وفرضت الحكومة تعتيما إعلاميا على الأحداث، ثم قامت بإخلاء المنطقة من الجثث ومن آثار القتل حتى أن الصحفيين والإعلاميين الذين سمح لهم بعد ذلك بدخول المدينة لم يجدوا أثرا لأعمال التمرد ولا عمليات القتل.
ورغم مزاعم الولايات المتحدة وكاريموف بأن أحداث التمرد سببها المتطرفون الإسلاميون فإن هذه المنطقة ينتشر فيها العداء للشرطة والنظام بسبب الفقر الشديد وانتشار البطالة والمعاناة الاقتصادية.
وفي مقالها المنشور يوم 15 مايو الماضي، قالت صحيفة الأوبزرفر البريطانية: "في ليلة الجمعة، أعلنت الولايات المتحدة عن مخاوفها من احتمال أن يكون بعض أعضاء "الجماعات الإرهابية" قد أطلق سراحهم من السجن خلال التمرد، ولكنها حثت الجانبين على ضبط النفس. ولكن السفير البريطاني السابق لدى أوزبكستان، كريج موراي، والذي يزعم أنه فقد منصبه بسبب فضحه لانتهاكات حقوق الإنسان من قبل حليف الولايات المتحدة الجديد في الحرب على الإرهاب، قال إن العناصر الإسلامية التي شاركت في أحداث أنديجان كانت عناصر معتدلة – تشبه الإسلام السياسي في تركيا أكثر مما تشبه طالبان."
وكشفت الصحيفة البريطانية أيضا أن الولايات المتحدة تقدم مساعدة تبلغ 10 ملايين دولار سنويا لأجهزة الأمن والشرطة في أوزبكستان، وهي الأجهزة التي تمارس التعذيب على نطاق واسع خلال الاستجواب، وقال موراي إن الولايات المتحدة سوف تزعم أنها تقوم بتعليم الأوزبكيين وسائل أقل عنفا في الاستجواب، وهو زعم غير حقيقي كما يقول موراي.
وبعد أن تفاقمت الأمور وهددت بانتفاضة واسعة النطاق في أوزبكستان، ظلت الولايات المتحدة على مساندتها للرئيس الأزبكي رغم تغيرات هامشية في اللهجة، كما تشير تقارير الجزيرة:
"..في غضون ذلك توالت ردود الفعل الغربية المنددة بقمع السلطات الأوزبكية لحركة الاحتجاج في أنديجان. ودعت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس الرئيس الأوزبكي إسلام كريموف إلى جعل نظام الحكم أكثر انفتاحا وإجراء إصلاحات سياسية ليكون ذلك بمثابة صمام أمان لمنع وقوع المزيد من الاضطرابات. وأوضحت رايس خلال زيارتها لإيرلندا أن القلق الأميركي يتركز حاليا على ضرورة منع وقوع المزيد من العنف ودعت أيضا إلى مواجهة تبعات الأزمة بتوفير مساعدات للنازحين. كما أعرب المتحدث باسم الخارجية الأميركية ريتشارد باوتشر عن قلق واشنطن الشديد تجاه التقارير التي تحدثت عن إطلاق القوات الأوزبكية النار على المتظاهرين العزل في أنديجان. وأدان باوتشر بشدة الاستخدام العشوائي للقوة ضد مدنيين عزل ودعا السلطات الأوزبكية إلى ضبط النفس. وقال إن واشنطن أبلغت طشقند أن العنف لا يمكن أن يؤدي إلى الاستقرار على المدى البعيد. واعتبر باوتشر أن الحكومة الأوزبكية غالبا ما تستخدم حجة مكافحة الإرهاب لتبرير القمع السياسي، رغم اعترافه بحاجة طشقند للدفاع عن نفسها ضد ما أسماه التطرف العنيف."
وجاء هذا التغيير الطفيف في موقف الولايات المتحدة العلني بعد تقارير تشير إلى اتساع نطاق الاحتجاجات: "ففي طشقند تجمع عدد من المتظاهرين أمام السفارة الأميركية للمطالبة بإصلاحات سياسية، وحملوا واشنطن المسؤولية عن الوضع بأوزبكستان بمساندتها للرئيس كريموف. وفي لندن حاول عشرات من نشطاء حزب التحرير الإسلامي اقتحام السفارة الأوزبكية في العاصمة البريطانية بعد أن لطخوا جدرانها بطلاء أحمر، وقد رددوا شعارات تندد بسفك الدماء في أوزبكستان. وأفاد مراسل الجزيرة في لندن بأن الشرطة تصدت للمتظاهرين واعتقلت عددا منهم. كانت الحكومة الأوزبكية قد حملت حزب التحرير المحظور مسؤولية العنف في أنديجان، وهو ما نفته قيادات الحزب بشدة مؤكدة أنها تسعى للتغيير بالوسائل السلمية."
التغيرات الطفيفة التي طرأت على خطاب الإدارة الأمريكية تجاه حكومة كاريموف القمعية هدفها بالأساس الحفاظ على هذا النظام، فوزيرة الخارجية الأمريكية طالبت بإصلاحات سياسية لتكون صمام أمان للنظام في المستقبل وتحافظ على استقرار نظام السفاح كاريموف على المدى البعيد.
ولا نحتاج إلى سرد مزيد من الأمثلة حتى نبرهن على استمرار الولايات المتحدة في دعم الأنظمة المستبدة الحليفة لها أو حتى بنائها وخلقها إذا ما جاءت انتخابات ديمقراطية برلمانية على الطراز الغربي بحكومة لا تفضلها أميركا في أي مكان لها مصالح استراتيجية فيه. ومع ذلك، هناك رأي يزعم أن مصالح الولايات المتحدة في منطقتنا تلاقت هذه المرة – بالصدفة البحتة – مع تكوين وتشجيع بناء نظم سياسية تعتمد أسلوب الديمقراطية الغربية، وذلك استنادا على التبرير الساذج البسيط الذي تقدم الإشارة إليه، ويرى أصحاب هذه الرؤية أن شعوب المنطقة ينبغي أن تستفيد من ذلك وتدفع عجلة هذه الديمقراطية البرلمانية والتي لن تتوقف بعد ذلك، حيث أن الديكتاتورية ستذهب بلا رجعة. وتتضمن هذه الرؤية العديد من المشكلات، وسوف أحاول توضيحا قدر الإمكان باختصار.
أولا، إن تبرير ميل الولايات المتحدة إلى تطبيق الديمقراطية في المنطقة بهدف مكافحة الإرهاب – بالإضافة إلى أننا لا نرى له سندا حقيقيا في الواقع العملي – يعتمد على تصور ساذج هو أن الحركات الإسلامية الجهادية تكونت وظهرت وتنتشر نتيجة لسيطرة نظم حكم مستبدة في بلادنا. وهو تصور يتجاهل مجمل الظروف الاقتصادية والسياسية والتاريخية التي أدت إلى نشوء وتطور ظاهرة الإسلام السياسي والحركات الجهادية الإسلامية في المنطقة، والتي لعبت الولايات المتحدة دورا كبيرا في ظهورها. لقد ظهرت هذه الحركات نتيجة لتضافر العديد من الشروط التي لا يمكن اختزالها إلى استبداد النظم، حيث كانت في جانب منها رد فعل على هزيمة المشروع القومي العربي متمثلا في مصر عبد الناصر وحلفائه في المنطقة، وتردي الأوضاع الاقتصادية وفشل التنمية البرجوازية في منطقتنا، بالإضافة إلى الصراعات السياسية الداخلية والإقليمية والصراعات بين القوى الكبرى خلال الحرب الباردة، التي دفعت المسيطرين على السلطة في مختلف البلاد العربية كما دفعت الولايات المتحدة إلى دعم التيار الإسلامي في مختلف المناورات السياسية داخليا وإقليميا، وفي المنافسة على مناطق النفوذ. كما أن صعود هذه الحركات تواكب من صعود مماثل لحركات أصولية في مختلف أنحاء العالم، بل وفي الولايات المتحدة وإسرائيل على الرغم من عدم وجود الشكل الذي نشهده في المنطقة العربية من الاستبداد السياسي، ولو أن استبداد النظم الحاكمة هو السبب الرئيسي في ظهور الحركات الأصولية، فلماذا لم تظهر حركات أصولية مثلا في أمريكا اللاتينية أو الصين أو عدد هائل آخر من الدول المستبدة رغم سيطرة النظم العسكرية المدعومة من الولايات المتحدة فيها لأعوام طويلة. إن تصور أن استبداد الحكام في منطقتنا هو السبب الرئيسي في ظهور الحركات الإسلامية المسلحة تصور ساذج لا يؤيده التاريخ ولا المنطق.
ثانيا، إن هذه الرؤية تنطوي على مشكلة التعميم على دول المنطقة كلها، دون أن تعير أي التفات للتباينات الواسعة بين دولة وأخرى، حيث توجد دول صغيرة في تعداد سكانها وغنية بمواردها النفطية، مثل الكويت والبحرين وقطر والإمارات، وهناك دول أكبر منها نسبيا وغنية أيضا في مواردها النفطية، مثل السعودية، ومع أن نموذج الديمقراطية البرجوازية يسهل تطبيقه في الدول الصغيرة الغنية، فإن جميع هذه الدول يسودها حكم وراثي مطلق فيما عدا البحرين التي قامت بوضع دستور مؤخرا لتتحول إلى ملكية دستورية. ولكن بسبب قضايا الصراع الإقليمية وطبيعة نشأة هذه الدول التي ارتبطت بخطط الاستعمار في الماضي والدور الذي تلعبه في المنطقة ككل وتحالفها مع الاستعمار حاليا، مازالت هذه الدول تحكم شعوبها بالحديد والنار، حيث تسيطر عائلة هنا وهناك على كل مقادير البلاد وثرواتها، وفي كل دولة منها هناك حركات معارضة لا تميل إلى التحالف مع الولايات المتحدة بسبب مواقفها من الصراع مع الصهيونية في فلسطين المحتلة. وعلى الجانب الآخر، توجد دول كبيرة من حيث تعداد السكان وفقيرة من حيث مواردها الاقتصادية، وبعضها قام بتحقيق درجة من التنمية الاقتصادية الرأسمالية ولكنها تتعثر في ركود شبه مزمن، وتصارع مع البطالة والفقر والأزمات السياسية المستمرة والمتتابعة في المنطقة، ومن هذه الدول مصر وسوريا، والعراق (قبل الاحتلال ورغم ثروته النفطية الكبيرة) واليمن والجزائر وغيرها، ومصادر الاستبداد السياسي في كل دولة من هذه الدول تختلف عن المجموعة الأولى، كما تختلف إلى حد ما فيما بينها، وإن كان اختلافها مع المجموعة الأولى هو الأشد وضوحا والأكثر جوهرية. المهم أن في كل حالة من هذه الحالات، ترجع أسباب الاستبداد إلى مصادر مختلفة، ويحتاج لتجاوزه إلى آليات مختلفة واشتراطات لا يمكن للإمبريالية الأمريكية قبولها أو التسامح معها إلا مرغمة.
إذا نظرنا إلى مجموعة الأسباب الأخرى التي ساهمت في انتشار ظاهرة الحركات الإسلامية المسلحة, فسوف نجد أنها لا يمكن أن تلتقي مع مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية في المنطقة. فأحد هذه الأسباب، خاصة في الدول الكبيرة الفقيرة مثل مصر والجزائر وسوريا بالإضافة إلى الأردن رغم صغر حجمها، يتمثل في هزيمة المشروع القومي العربي وفشل التنمية البرجوازية في بلادنا، بما يترتب على ذلك من فقر وبطالة واسعة الانتشار، والأزمات السياسية الداخلية والإقليمية. ولكن الطبقات الحاكمة في هذه البلاد، ورؤية الولايات المتحدة في التحالف معها، تشترط مجموعة من الإجراءات تتضمن التطبيع مع إسرائيل – بما يعنيه ذلك من الاستسلام المعلن والتخلي الصريح عن حل المسألة القومية من ناحية، والهجوم على الطبقة العاملة والفقراء عبر تطبيق برامج صندوق النقد والبنك الدوليين بما يتضمنه ذلك من تعميق الفقر والبطالة من جانب آخر. ولا تستطيع الولايات المتحدة ولا الطبقات الحاكمة المحلية في هذه الدول أن تضمن تداول السلطة ووجود مؤسسات للديمقراطية البرجوازية في هذه الدول شبيهة بتلك التي تعمل في الدول الغربية المتقدمة دون صعود قوى سياسية تعارض التطبيع مع إسرائيل وترفض برامج الصندوق والبنك الدوليين وشروط منظمة التجارة العالمية التي تفرض مزيدا من استغلال العمال وتهميش الفقراء واستنزاف الفلاحين، والأهم من ذلك، بالنسبة للولايات المتحدةا، دون أن يترتب على ذلك تصاعد التوترات السياسية في المنطقة بما يهدد مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية في بترول الخليج وقناة السويس.
ثالثا، إن مجرد تداول السلطة وظهور مؤسسات الديمقراطية البرجوازية لا يعني على الإطلاق تحقيق النموذج المثالي للديمقراطية الذي لا يوجد إلا في الكتب، فالدول الرأسمالية المتقدمة نفسها والتي نشأت فيها هذه الديمقراطية البرلمانية لا يتحقق فيها هذا النموذج المثالي، وإنما تختلف فيما بينها في مدى اقترابها منه، حيث يختلف حجم السلطات التي يمتلكها البرلمان في بريطانيا عنه في فرنسا التي تعتمد نظاما رئاسيا، ويختلف النظام الرئاسي في فرنسا عنه في الولايات المتحدة، وإذا تابعت هذه الفروق (التي تبدو صغيرة) فلن تستطيع حصرها، والأهم من ذلك أن كل هذه الآليات تنطوي على ثغرات تمكن الطبقات الحاكمة من فرض قراراتها في اللحظات الحاسمة على الرغم من إرادة أغلبية "الشعب"، وليس أدل على ذلك أكثر مما حدث في بريطانيا فيما يتعلق بالحرب ضد العراق واحتلاله، حيث يرفض أغلب الشعب البريطاني هذه الحرب وعبروا عن ذلك في مظاهرات حاشدة واقتراعات رأي عديدة، ومع ذلك مضت حكومة بلير في قرارها دون أن تعيرالتفاتا لهذه الأراء، بل والانتخابات اللاحقة لذلك فاز فيها بلير صاحب القرار الذي يرفضه أغلب الشعب البريطاني عبر مناورات انتخابية وإعلامية جعلته يحصل على أكبر حصة من الأصوات التي ذهبت إلى مراكز الاقتراع.
معنى أن النموذج المثالي للديمقراطية البرجوازية لا يوجد في أي مكان على أرض الواقع، وأن الدول تقترب من هذا النموذج بدرجات متفاوتة حسب ظروف الصراع وتوازن القوى بين الطبقات ومؤسساتها في الداخل، والذي يضمن للطبقات الحاكمة السيطرة على أقوى وأهم المؤسسات – قمعية وإعلامية وغيرها – فإن اقتراب الدول في منطقتنا من هذا النموذج، حتى لو تحقق، يصعب أن يتجاوز مجرد الشكل الهزيل للانتخابات وتداول السلطة بين أعضاء الطبقة الحاكمة الذين سيمارسون نفس مستويات القمع الحالية تقريبا لكل الحريات. فها هي بريطانيا وفرنسا وأمريكا تفرض قوانين قمعية وعنصرية مثل قوانين مكافحة الإرهاب وقانون الحجاب وقوانين الهجرة وغيرها، كما تفرض قيودا على وسائل الإعلام، علاوة على مناورات بيروقراطية لا حصر لها لضمان السيطرة على مؤسسات مثل القضاء وأجهزة الإعلام والبرلمان، و المؤسسات الأخرى. وليس علينا إلا أن نتابع ما تقوله مراكز الأبحاث الأمريكية حول هذه المناورات البيروقراطية في مختلف المؤسسات حتى ندرك زيف هذه الديمقراطية وحدودها. وفي بلادنا سيكون التزييف أعمق والأدوات البيروقراطية أعنف حتى تفرغ جميع الأشكال من أي مضمون حقيقي، خاصة في الدول الفقيرة، وذلك بدرجات متفاوتة وحسب التوازنات الداخلية، ولكن أيضا حسب الدعم الخارجي للجماعات والأسر الحليفة للامبريالية وتوجهاتها.
رابعا، إن تحقيق شكل الديمقراطية البرجوازية لا يعني أنه لا يمكن بعد ذلك النكوص عنه أو الإجهاز عليه، فهذه الديمقراطية تضمن ألا يكون لدى البرلمان المنتخب قوة يستطيع بها فرض قراراته، وتظل القوة الحقيقية متمثلة في الجيش والشرطة ومؤسسات الدولة البيروقراطية والقضاء غير منتخبة، هذا بالإضافة إلى السيطرة البرجوازية على مصادر الثروة الاقتصادية وعلى أجهز الإعلام في البلاد، وعلينا أن نتذكر سلفادور أليندي الذي أزيح عن السلطة بانقلاب عسكري قاده السفاح بينوشيه بدعم من الولايات المتحدة والشركات الأمريكية، بعد أن جاء ألليندي إلى السلطة عبر صندوق الانتخابات. ولولا الظروف الاستثنائية التي صعد فيها هوجو شافيز إلى السلطة في فنزويلا، لكان مصيره مثل مصير ألليندي، ومع ذلك فقد قامت الولايات المتحدة أيضا بدعم انقلاب عسكري ضد شافيز، ولكن هذا الانقلاب هزم بأساليب ليس لها صلة بقواعد اللعبة الديمقراطية البرجوازية، حيث خرجت الجماهير واستخدمت العنف للقبض على الضباط الذين احتلوا قصر الرئاسة، ولجأت البرجوازية في فنزويلا شافيز إلى محاولة ضرب اقتصاد البلاد، وخاصة البترول، ولكن الجيش – الذي يؤيد شافيز – تدخل بخلاف اللعبة الديمقراطية أيضا وأدار شركة النفظ، وأنهى إضرابا قامت به إدارة الشركة وبعض العمال الموالين لها بالقوة. وقد حركت الولايات المتحدة وحلفائها من الجمعيات الأهلية ورجالات الاقتصاد والأحزاب البرجوازية داخل فنزويلا مظاهرات ضد شافيز حاولت تعطيل سير الحياة في البلاد، ولولا خروج أنصار شافيز واستخدام العنف ضد المتظاهرين الموالين للولايات المتحدة وحلفائها – بخلاف قواعد اللعبة الديمقراطية الليبرالية أيضا - لدبت الفوضى وعمت في كل أنحاء فنزويلا وللحق شافيز بسلفادور ألليندي أو بأريستيد في هايتي الذي أسقطته مظاهرات مماثلة في نفس التوقيت تقريبا.
معنى ذلك أن شكل الديمقراطية البرجوازية ليس ضمانة ضد الاستبداد، وإنما يصلح للتغطية على الاستبداد الحقيقي في الواقع، حيث تستأثر الطبقة المالكة لوسائل الانتاج بالسلطة وتقمع كل من يهدد سيطرتها بمختلف الأشكال والمناورات، بما فيها هدم شكل الديمقراطية البرجوازية نفسه بانقلابات عسكرية إذا اقتضت الضرورة ذلك. إن الانتخابات البرلمانية والديمقراطية البرجوازية تسمح للمقهورين والمستغلين فقط بأن يختاروا من اعضاء الطبقة الحاكمة من سيشرف على قهرهم واستغلالهم خلال فترة معينة (أربع سنوات أو خمسة حسب كل بلد)، ولكنها تضع كل الضمانات والآليات اللازمة لتأبيد عملية القهر والاستغلال نفسها، وحماية ديكتاتورية الطبقة البرجوازية الحاكمة.
الولايات المتحدة بالتأكيد تدرك مجمل هذه الشروط والمخاطر التي تحيط بفرض نموذج الديمقراطية الغربية في منطقتنا، وبعد مغامرتها في العراق، اعتقد أنها غير مستعدة للدخول في مغامرات أخرى في المنطقة، بعكس ما تزعم إعلاميا فيما يتردد حول نظرية "الفوضى الخلاقة" التي قالت بها كوندليزا رايس. وسوف تفضل الولايات المتحدة استمرار دعمها للطغمة المستبدة الحاكمة في دول المنطقة رغم تصريحاتها بضرورة أن تقوم هذه الدول ببعض الإصلاحات الهامشية وفارغة المضمون، وذلك لأسباب مختلفة تماما عما تزعم الرؤية الساذجة التي تربط ربطا بسيطا بين الحركات الإسلامية المسلحة وبين الاستبداد، والتي وضعتها الولايات المتحدة لتبرير غزوها للعراق أمام الرأي العام الغربي بعد أن تكشف كذب كل ادعاءاتها السابقة التي ساقتها كأسباب للحرب والاحتلال.
وللحديث بقية.
القاهرة 21 مايو 2005
#رمضان_متولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كفاية ظاهرة إعلامية وخطابها مسخرة، وأسعد التعيس سعيد باغتراب
...
-
كفاية – دجل الرؤية الذاتية للتغيير وجدل الواقع
-
الوجه الآخر للحرب الأنجلو-أمريكية ضد العراق وأفغانستان
-
عام على الاحتلال الأمريكي للعراق نهاية الحرب الباردة والإمبر
...
-
رسالة سندباد اليانكي – أيها الراعي، لابد أن تنسى
-
الأزمة في هايتي وخرافة الديمقراطية الأمريكية في العراق - تصح
...
-
أوهام وحقائق مشروع الشرق الأوسط الكبير
-
تفجيرات أربيل وحق الأكراد في تقرير المصير
-
أحيانا أندهش!
-
متى تكون الديمقراطية من مصلحة الأمريكيين في العراق؟
-
محكمة بلا ذراعين، وقادة بلا أنصار!
-
طريق التغيير لا يمر عبر -مرآة أليس
-
الطريق إلى الحرية – معادلة لم تجد لها حلا بعد!
المزيد.....
-
كيف تحوّلت تايوان إلى وجهة تستقطب عشاق تجارب المغامرات؟
-
فيديو مروع يظهر هجوم كلب شرس على آخر أمام مالكه في الشارع
-
لبنان.. عشرات القتلى بالغارات الإسرائيلية بينهم 20 قتيلا وسط
...
-
عاصفة ثلجية تعطل الحياة في بنسلفانيا.. مدارس مغلقة وحركة الم
...
-
مقتل مسلح وإصابة ثلاثة من الشرطة في هجوم قرب السفارة الإسرائ
...
-
اتفقت مع قاتل مأجور.. نائبة الرئيس الفلبيني تهدد علنا باغتيا
...
-
العثور على جثة الحاخام المفقود في الإمارات وتل أبيب تعتبر ال
...
-
سكوت ريتر: بايدن قادر على إشعال حرب نووية قبل تولي ترامب منص
...
-
شقيقة الملك تشارلز تحرج زوجته كاميلا وتمنعها من كسر البروتوك
...
-
خبير عسكري روسي: واشنطن أبلغت فرنسا وبريطانيا مباشرة بإطلاق
...
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|