|
مسرحية - بغداد الأزل - الحكواتي في العراق .. النشأة والتأصيل
سميرأحمد الشريف
الحوار المتمدن-العدد: 4220 - 2013 / 9 / 19 - 02:56
المحور:
الادب والفن
الذين دأبوا على الحفر في ثنايا تراثنا بحثا عن جذور بعيدة لمسرح عربي يحمل عناصره الدرامية التي يحتاجها المسرح الحديث،انطلقوا من قناعة بأهمية التأصيل لمسرحنا ، بعيدا عن كل المواقف التي تحاول أن تسلبنا خصوصيتنا وترجع إنجازاتنا إلى فن حديث أوروبي لم نعرفه إلا بهذا الطريق.جاء ذلك بهدف وحيد هو الانخلاع عن مقولات تكرّس التبعية للآخر وتجلد الذات أمام حالة الانبهار التي تعترينا أمام تقدم الغرب.انطلقت الأصوات التي آمنت بالتنوير وصياغة وجدان الأمة بالمسرح ،وصولا إلى فئات وشرائح أوسع من خلال الاتكاء على نموذج عربي يضرب جذوره في التراث ويناسب البيئة ولا يجعلنا أسرى الاغتراب أمام منجز الآخر، إيمانا من تلك الثلة بتميزنا، وتعبيرا عن واقعنا ، أفرادا ومجتمعات ، وملائمة لتكويننا الفكري النابع من خصوصيتنا.تنادت الأصوات بضرورة تحديد المسرح العربي واعتماده على ما يؤصل رؤيتنا من خلال توظيف فن الحكواتي - الفن الذي يحمل في طياته قيما فكرية وفنية ،ويخرج عن نمطية المسرح بجداره الوهمي الرابع ومواصفاته القسرية ، بتكوين منهجية خاصة بنا ، تمثّل خصوصيتنا وتنفتح على الآخر ، مستفيدة من إنجازه العلمي، دون أن نقع أسرى طروحاته.إن الدعوة لإحياء فن الحكواتي، تعني إعادة النظر في المسرح العربي وتسليط الضوء على العلاقة بين الحكاية والمتلقي من جهة ن وتضيء من جانب آخر مراحل تطور الممثل وتزامنا مع تطور فن الحكواتي نفسه-الذي اصبح له وظيفة اجتماعية ثقافية ترفيهية تنويرية ، من خلال عرض حكاية لها شروطها الفنية الجمالية التي أفرزتها تجربة إنسانية ، عكست صراعات القبيلة وأبانت تعدد مضامينها ،موضوعا منتقى من التاريخ والخرافة و أبطال أسطوريين ،بهدف إيصال مضامين تحوي عبرة ومتعة ،يجسدها راو بالحركة وتلوين الصوت وتعرض ضمن حيز مكاني في الأسواق أو الساحات أو المنتديات، يقراها الحاكي الذي يموسقها بقدراته. باستعراض تأريخية المراحل التي مر بها فن الحكواتي،يشار إلى ان حكايات - صدر الإسلام تميزت بتغليب الوعظي على الفني واكتفاء القاص بفضول العيش ولبس متوسط الثياب،قدوة للعامة واختيار يوم الجمعة زمانا للسماع ،فيما برزت بوضوح ظاهرة القص في العهد الإسلامي بلجوء القاص إلى المنحى الخيالي هادفا لإمتاع الجمهور وتسليته مع ملاحظة ارتباط رجل الدين بالحكواتي القاص الذي يظهر تأثره الواضح بالقرآن الكريم والاستفادة من قصص الأقوام السابقة ،ثم ارتفاع شأن القص حتى وصل أهمية العمل الرسمي الذي يعهد به لرجال ذوي اختصاص ومواصفات خاصة،حيث كان القصاصون يتقدمون الصفوف في معارك الأمويين ،ذاكرين فضل الشهيد ،منوهين بمكانته ،كما يلاحظ على هذه الفترة،دخولا لقصاصين من أهل الكتاب لهذا المعترك وإدخالهم بعض عقائدهم على مضامين الحكايات مع ظهور نوعان من القص:علمي دقيق يعتمد المصادر الموثوقة وخيالي متأثر بالإسرائيليات على العكس من العصر العباسي الذي شهد تطورات في مختلف الميادين ،قادت إلى تلاشي شخصية القاص وظهور شخصية (المحاكي)الذي أصبح لسان المجتمع وناقد المعايب الواقع الاجتماعي في بغداد التي شهدت هي الأخرى زيادة أعداد الحكائين ممن نوعوا مواد حكاياهم حتى أثارت انتباه السلطة العباسية التي بدأت تنظر لهم بعين الشك والريبة كما تنظر للمشعوذين والمنجمين ،وما يلاحظ على المحاكي هنا،قدرته على نمذجة الواقع بشيء من المبالغة التي تسترعي انتباه المتفرجين من خلال نمو دور وشخصية المحاكي الذي اصبح مؤلفا ونظما لفعالية الفرجة.اقترن القرن الهجري الخامس والذي انتهى بسقوط بغداد سنة 656 بدخول التتار وأفول الدولة العباسية ، بنمو فن المحاكي العربي بسبب تسارع آليات التجزئة والتناقضات التي انعكست على المستوى الاجتماعي والسياسي والفكري وتدهور السلطة المركزية وظهور الدويلات ، الأمر الذي أتاح الفرصة لظهور الشطار والعيارين ، نتيجة لبروز التفاوت الاجتماعي وسيطرة النفوذ الطائفي وامتهان كرامة العامة، لتتبلور حركة رفض للواقع نهض به المجتمع بفئاته ووسائله المختلفة واصبح الأدب الشعبي مجالا واسعا لتصوير هذا الرفض الذي تبلور بخصوصيته العربية.لقد تم مناهضة الأوضاع المتردية بأساليب وأشكال كثيرة،حمل الأدب جانبا هاما منها ، من خلال توظيف الحكاية التي أصبحت رمزا اجتماعيا وفنيا ، عاكسا مجمل الأوضاع ومراحل تطور الحكاية نفسها، ولتطفو ظاهرة الانفصال بين المؤلف والمؤدي لتصبح لكل منهما حضورها واستقلاليتها.الحكواتي هو الصورة الشعبية المتأخرة زمنيا لرواة كانوا يتنقلون في عصر ما قبل الإسلام في السواق ودور الندوة والمنتدى والمقهى وأماكن تجمعات الناس، تصحبهم آلات في معظم الأحيان تؤدي دور الإيقاع ..أنتشر قارئ القصة (القصخون)في بغداد والذي كان يرتقي مكانا بارزا في المقهى بمواصفات تراعي الجانب النفسي للمشاهد وتشكل تشويقا له كتوظيف صور أبطال المعارك والسير الملصقة على الجدران ،ولإشاعة جو تمثيلي جاذب مؤثر ُترش الدروب التي تحيط المقهى بالماء وتفرش الحصر وتوقد الفوانيس وتوزع المراوح المصنوعة من جريد النخل على النظارة ،قبل أن يعتلى القصاص كرسيا أو دكة مرتفعة ليكون على مرأى من الجميع .هذه الولادة المتواضعة للمسرح العربي ،اعتمدت على قدرات ومواهب الحكواتي في السرد والتقليد وعلى عصاه السحرية بلا ستارة أو إضاءة أو ديكور،بل باعتماد عوامل ذاتية مصطنعة كإرسال اللحية وتعصيب الرأس وتثبيت الفانوس خلفه واستخدام العصا لتضفي عليه هيئة ذات دلالات .ارتبط قارئ القصة في العراق بلفظ(للقصخون)التركيب العربي الفارسي ، حيث كان البغداديون يجتمعون بعد صلاة العشاء في المقاهي يستمعون للقصخون الذي يتعاقد معه صاحب المقهى لتأدية دوره بينما يمهد أ لنظارة لسماع الحكاية بتناول الأطعمة والمكسرات ، إلى أن يعلن صاحب المقهى بدء العرض بقول صلوا على النبي بصوت عال.السؤال الذي يُطرح هناك هل احتفظ الحكواتي بصورته وهل حافظ على خصوصيته في المسرح العربي الحديث؟إلى أي حد تأثر الوجه التراثي للحكواتي بأنماط المسرح الحديثة؟هل تم توظيف هذا التراث إيجابيا في هذا المسرح؟ لا نعدم وجود نخبة في قضاءنا المسرحي العربي ،أخذت على عاتقها النهوض بالمسرح مستفيدة من التراث رغم إنضباع الكثيرين بالمسرح الغربي.يحضرنا هنا (مارون النقاش) الذي نظر للتراث بعمق و تبنى مسؤولية النهوض بالمسرح في مزاوجة حكيمة بارعة بين التراث والمعاصرة ، مؤسسا لمرحلة جديدة وظاهرة خاصة ن تفتحت أزهارها في عصرنا الحديث في تجارب من وظفوا الحكواتي بوعي يمتلك أدواته التعبيرية في مسرحنا الحديث كالنقاش/مسرحية أبو حسن المغفل)، وأبو خليل القباني / مسرحية هارون الرشيد مع الأمير غانم ولاحقا يوسف إدريس /مسرحية الفرافير،وسعد الله ونوس/مسرحية مغامرة رأس المملوك جابر،وقاسم محمد من العراق/ومسرحية بغداد الأزل بين الجد والهزل، النص الذي نتوقف عنده تمثيلا على ما ذهبنا إليه، بسبب عدم إضاءة الدراسات لها على أهميتها وإعطاء مزيد من الدرس والنقاش لنصوص عاصرتها في مصر وسوريا. (من هو قاسم محمد؟) فتح عينيه على بيئة تضج بالتراث الشعبي في بيت يغص بالزوار الذين يستمعون لحكايات الف ليلة و مغامرات أبي زيد ، مما شكّل خميرة في ذهن الفتى ظل أمينا لها ، بعد أن درس فن المسرح في الاتحاد السوفيتي وما وجده هناك من اهتمام بالتراث الذي انعكس على المسرح السوفيتي عاد… بعد تخرجه للوطن ، ممارسا للتدريس في معهد الفنون الجميلة وفرقة المسرح الفني و ليكتب قناعاته مؤلفا مسرحية النخلة والجيران سنة 1969 ، مدشنا لقواعد مسرح عربي ينهل من التراث العراقي والعربي باسم مسرح الفرجة الشعبية،سعيا وراء هدف تأصيل المسرح العراقي فخرج لذلك عن النمط المعروف ،برؤية ومفاهيم معاصرة ،تضيف لحراكنا المسرحي مذاقا خاصا دون أن تقطع وشائجها مع الوتيرة العالمية للمسرح.الفضاء المكاني الذي دارت أحداث المسرحية عليه كان السوق ،لدرجة يمكن اعتبار السوق بطلا مطلقا ،شملت شكل المسرحية ومحتواها لتجتمع فيه المتناقضات والأضداد، من خلال حركة الناس فيه، من قصاصين شعبيين وبائعي يانصيب وملابس مستعملة وقرادين وحمالين ن هؤلاء ن جمعهم السوق تلبية لحاجات آنية وتصوير لما يمور في السوق مما يعكس درامية واقع الحياة ، بعمل جماعي لا مكان للبطولة الفردية فيه إلا بما يساعد على تجميل المشهد الجماعي ويؤطره، ممثلا كل منهم جزئية في جسم المسرحية الكلي.في نصه (بغداد الأزل بين الجد والهزل)نجد المؤلف يبحر في بطون الكتب ، منقبا عن الحكاية الشعبية ،مما يشكل اتصالا بواقعنا المعاصر،محاولا إشراك النظارة في العمل،وتحويلهم من حالة التلقي السلبي إلى المشاركة الإيجابية الفاعلة، متعمدا إدخال القاص الشعبي في متن المسرحية، محّولا إياها لشكل جديد، يكسر الإيهام ويلغي الحواجز التقليدية ، بتوجيه القاص حديثه مباشرة للجمهور ، عائدا إلى فضاء المكان المشرع على المطلق.هنا يتحول القاص الشعبي(ابن الغازلي)في مسرحية بغداد الأزل… إلى حالة تعيد المتلقي للتاريخ أو تستحضر التاريخ للحاضر، مثيرا الذهن لمجموعة إدهاشات وتساؤلات ، في مزج فني متقن بين الواقع المعاش والواقع الفني، وبذلك يتحول القاص الشعبي إلى ذاكرة شعبية متوقدة غنية ويصير بتجواله شاهدا معطيا بذلك انطباعا ملتبسا بين ما هو تاريخي وشعبي وكان المؤلف يريد بذلك أن يّطلع المتلقي على هوية القاص وان يحرك ما هوساكن في لا وعي متلقي أداءه وما يكتنف ذلك من متع تجعل المتلقي دائم اليقظة شديد الانبهار.المفاجئ المدهش في هذه المسرحية ،أن المؤلف حطم شكلية المنطق الذي يفترض عدم وجود الشخص الواحد في أكثر من مكان واحد وذلك عندما جمع النص/المؤلف بين (الحيقطان)و(البخيل الكندي)و(احمد بن عبد الوهاب)و(أبى الشمقمق)وهي شخصيات لم تجتمع في زمن واحد،وأوجد بذلك بناءً دراميا يُعنى بتطور الحدث كما الواقع الذي لا ينفصل فيه المحزن عن السّار، لاغيا وحدات ارسطو الثلاث التي اشتهر بها مسرحيا.ولأجل أن يكتب لمشروع وتجربة قاسم محمد التبرير الفني ن تجاوز في مسرحيته الاكتفاء بعرض الأحداث ،وقدّّم مفاهيم مسرحية بأساليب حديثة في الإخراج كتوظيف الإضاءة ونزول الممثلين للصالة والعناية الفائقة بديكور السوق.القاص الشعبي/ابن المغازل،حرر الشخصية من نمطيتها المعتادة وأرتقي بجماليتها ومذاقها الشعبيين الملتصقين ببغداد ،وذلك باستخدام الأدوات التي تسهم في إضفاء نمط الحياة على الشخصية وتقريبها من المتلقي كلبس غطاء للرأس وتوظيف طريقة الإنشاد مع ما يحتاجه الممثل من حركات وإشارات في لحظات التوتر. إن مسرحية( بغداد الأزل..) جسدت شخصية القاص العراقي /الراوي والممثل والمحلل على حد سواء. (المراجع) 1/ياسين النصير،بغداد الأزل بين الجد والهزل،الموقف الأدبي،عدد 12 ،1974 2/عبد الكريم الرشيد،في التصوير المستقبلي لتعريب المسرح العربي،البيان،عدد169 ،1980 3/علي مزاحم،أين تقف مسرحية بغداد الأزل ،المسرح والسينما عدد 10،1974 4/علي مهدي،الف باء في بيوت الأدباء،عدد842 ،1984
#سميرأحمد_الشريف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|