|
حول نظرية الثورة السودانية (1) تجاربنا في صياغة البديل
صدقي كبلو
الحوار المتمدن-العدد: 1205 - 2005 / 5 / 22 - 11:43
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
أن "استخلاص" نظرية للثورة السودانية، وأي ثورة أخرى، يتم "من خلال إعمال المنهج الماركسي ونظرية المعرفة في الواقع من جهة ومن خلال النشاط الثوري وتلخيص التجربة واستخلاص نتائجها من جهة أخرى. وهذا يقود إلى القول بتاريخية النظرية وخصوصيتها، مما يجعل هناك دائما ضرورة للالتصاق بالواقع والشعب والعصر والمرحلة والفترة الثورية، أي أهمية نسبية الزمان والمكان والمجتمع في استخلاص نظرية للثورة، و هذا بالضبط ما يجعل كتابات ماركس وانجلز ولينين محدودة ونسبية وان أهم ما تحتويه هو منهجها، وذلك هو ما يجعل من الممكن الحديث عن ماركسية سوفيتية وأخرى سودانية؛ ولكن المهم هو أن نظرية الثورة السودانية تلك، أو أي ثورة أخرى، ليست هي تطبيق لنموذج عالمي واحد، مثل الماء الطهور، يصلح لكل زمان ومكان، وإنما هي خلاصة لإعمال الفكر والمنهج الجدلي في دراسة الواقع والنشاط الخلاق وسط الجماهير وتلخيص نتائجه واستخلاص عمومياته وخصوصياته، وهذه مسألة لا تتم بضربة لازب مرة واحدة، أوتتم فقط بجهد عباقرة ومفكرين يحبسون أنفسهم لدراسة الواقع دراسة أكاديمية موضوعية باردة، (رغم أهمية مثل تلك الدراسة) وإنما هي عملية (Process) تتم عبر التاريخ من خلال العلاقة بين التنظير والنشاط الخلاق (التجربة). وبالتالي لا يمكن البحث عن نظرية للثورة السودانية دون تحليل تجربة الشعب السوداني والفصائل الثورية السودانية عموما وتجربة الحزب الشيوعي السوداني وفقا للمنهج الجدلي المادي، أي بشكل نقدي وتاريخي وموضوعي، فنظرية الثورة السودانية ليست نبتا شيطانيا أو تكنولوجيا مستوردة، هي تنبع من تجربة الشعب ومنظماته وأحزابه ونقاباته، ومن خلال تحليل موضوعي للمجتمع السوداني بقبائله وطوائفه وطبقاته وأساليب إنتاجه الأساسية والملحقة والممفصلة، وعلاقاته الإقليمية والدولية، بل ومن خلال تفاعله مع المتغيرات الإقليمية والدولية وحركات الشعوب الأخرى. وهي فوق كل ذلك تراكم لجهد نظري كما هي تراكم للنشاط والنضال ولذا لا يمكن للشيوعيين السودانيين البحث عن نظرية جديدة للثورة السودانية دون دراسة تراثهم بالذات بشكل نقدي وقديما قال ماوتسي تونج، قبل أن تصيبه أمراض عبادة الفرد، "دع ألف زهرة تتفتح ألف مدرسة فكرية تتصارع وجدد الجديد من القديم"، وعند العرب فان المنبتة لا دربا قطع و لا ظهرا أبقى! نظرية الثورة السودانية تتشكل من التعميم النظري المصاغ من خلاصة تجربة الثورة السودانية في الظروف العالمية والإقليمية المحددة ومن التعميم النظري لدراسة متغيرات المجتمع السوداني والظروف الإقليمية والعالمية الجديدة ومن إبداع الفكر الثوري السوداني في صياغة التكتيكات والبرامج واكتشاف الإمكانات والقدرات لمختلف الطبقات والفئات الطبقية والإقليمية والاثنية، المنظمة وغير المنظمة. إن نظرية الثورة السودانية تتم صياغتها من خلال النشاط الخلاق للثوريين السودانيين من خلال العلاقة الجدلية بين التنظير والنشاط، بين دراسة الواقع الملموس واكتشاف سبل تغييره والعمل على تغييره. وبالتالي فإن نظرية الثورة السودانية هي نتاج و تلخيص وتجسيد ومرشد للصراع الطبقي في السودان بأشكال تجلياته المختلفة الاقتصادية والسياسية والثقافية والإثنية والقومية والوطنية. لهذا تصبح دراسة الطبقات في السودان ذات أهمية قصوى في صياغة نظرية الثورة السودانية والبرنامج الحزبي المصاغ تعبيرا عنها. ودراسة الطبقات مثلما هي دراسة كل الظواهر والمكونات الاجتماعية مسالة لا تتم مرة واحدة في تاريخ المجتمع المعين ثم ترفع الأقلام وتطوى الصحف، وإنما هي مسالة تاريخية ومستمرة، تاريخية لأن الظواهر هي تاريخها، ومستمرة لأن الطبقات تتغيير في حجمها وفي تركيبها الفئوي والإثني، في نصيبها من الثروة القومية وفي توزيع ذلك النصيب بين فئاتها، وفي مستوى وعيها بذاتها ودرجة تنظيمها، في طاقاتها الثورية واتجاهاتها المحافظة، في موقعها من الخارطة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وموقع فئاتها في قيادتها بالذات. وكل ذلك يجعل هناك فرقا كبيرا بين التخطيط المفهومي المجرد لوجود طبقات في المجتمع السوداني وبين دراسة هذه الطبقات كواقع، كمحدد، ككل، كمحدد يكتسي لحما وشحما اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وقوميا وإثنيا وفئويا. كما أن هناك فرقا واضحا بين دراسة الطبقات في كل فترة تاريخية وفي كل منعرج ثوري. لذا يحاول هذا المقال دراسة الطبقات في فصله الثالث. ولا يمكن بأي حال من الأحوال استخلاص نظرية للثورة السودانية، دون دراسة الحركة الثورية السودانية وتجاربها. واهم تجارب هذه الحركة هي نضالها من اجل الديمقراطية والتغيير الاجتماعي والسياسي وتطور نظريتها حول الديمقراطية وتجاربها في صياغة البديل السياسي والاجتماعي. لهذا يعطي هذا المقال أهمية قصوى لنضال الشيوعيين السودانيين من اجل الديمقراطية ويحاول أن يبني حول موقفهم منها برنامجا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، ذلك أن طبيعة المرحلة الثورية التي يمر بها السودان الآن ما زالت هي الثورة الوطنية الديمقراطية التي تهدف لبناء سودان ديمقراطي ذي اقتصاد زراعي صناعي حديث يلبي احتياجات أهل السودان ويفتح أمامهم إمكانية التحول الديمقراطي نحو مجتمع اشتراكي. وكذلك يعطي المقال حيزا لدراسة مسألة البديل على مستوى صياغتها النضالية الملموسة كنشاط سياسي واجه أنظمة سياسية محددة وناقش برامج وسياسات لقوى اجتماعية تسيطر على جهاز الدولة وكان مطالبا بتنظيم الجماهير حول برامج عملية ممكنة تقود لبديل تاريخي ممكن يتيح للجماهير مزيد من الديمقراطية والحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية ويحقق لها مكاسب فيما يتعلق بقضاياها المعيشية والتعليمية والثقافية والصحية الخ. ولكننا نواجه مهام هذه الثورة في ظروف جديدة يمكن ببساطة إن نقول أنها فترة جديدة، تحتاج لبرنامج جديد وأشكال عمل متطورة، وهذه الظروف لا تتسم فقط بالمتغيرات العالمية الناتجة عن انهيار التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وجمهوريات شرق أوربا، وتطور الرأسمالية العالمية في مرحلة جديدة عليا من تطور الإمبريالية، إنما تتسم بالمتغيرات التي تحدث في السودان ومنطقة القرن الأفريقي والبحيرات والمنطقة العربية. إن المتغيرات التي حدثت في السودان منذ المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي في 1967 هي متغيرات كبيرة وعميقة وكان لا بد أن تترك أثرها على برنامج الشيوعيين السودانيين وتكتيكاتهم، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن الحزب الشيوعي لم يكن منغلقا ولا جامدا منذ المؤتمر الرابع، بل كان في قلب الأحداث التي أدت إلى هذه المتغيرات وكان يدرسها ويحللها ويتخذ حولها المواقف ويساهم في أحداث بعضها والصراع ضد البعض الآخر، أي انه لم يكف عن التنظير والنضال معا ولكن هذا لا يعني أننا ندعو فقط لتجميع ما أنتجناه خلال هذه الفترة وتلخيصه لكي تكون لدينا نظرية متكاملة للثورة السودانية، فكم كانت الأمور ستكون سهلة لو أن الأمر كذلك، ولكن في نفس الوقت لا يمكننا أن نهمل أو أن نتجاهل تلك التجارب وما توصلنا إليه من نتائج، صحيح نحن نحتاج لإخضاعها للتقييم النقدي، ولكنها الأساس الذي ننطلق منه، وهنا بالضبط مربط الفرس حيث يساعدنا الديالكتيك كمنهج للبحث العلمي ولأدراك الواقع. نحن لا نرقع بالإضافة أو الحذف فإضافة عنصر جديد قد يؤدي لمتغيرات تتعدى الإضافة الحسابية. ذلك أن صياغة البديل تتطلب فهما موضوعيا لحركة المجتمع السوداني - أي للصراع الاجتماعي في السودان بتجلياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية دون الوقوع في شرك التفكير الميكانيكي أو الاقتصادي الذي يعيد كل الظواهر الاجتماعية والسياسية لأصول اقتصادية بحتة، إذ انه رغم أهمية الأصول الاقتصادية هذه فلا بد من اخذ مسالة الاستقلال النسبي لبعض الظواهر وللآثار الأيديولوجية والثقافية في الاعتبار. إن عملية الفهم الموضوعي تتسم ايضا بأنها عملية تاريخية غير جامدة (لااستاتيكية) لان الواقع الموضوعي يتغير باستمرار، ولكنه لا يتغير في خط مستقيم، فهناك الانقطاع بشكليه "الردة والقفزة"، وذلك في اللغة الحزبية يتطلب التكتيك المناسب: دفاعي أم هجومي، وفي التحليل السياسي والاجتماعي يتطلب رؤية واضحة للمستمر والمؤقت، للنهوض والتراجع، للعام والخاص؛ فانتقال الحكم في السودان بين مدني وعسكري يشمل عناصر عامة وأخرى خاصة، حالات للنهوض والتراجع، عناصر استمرارية وعناصر مؤقتة، والفترات الديمقراطية في السودان ليست متطابقة ولا يمكن اختزالها بأنها حكم الطائفية، فالتطابق بين الفترات التاريخية مستحيل، رغم وجود الاستمرارية في بعض العناصر والسمات، والتشابه similarity لا يرقى في التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية لان يكون تطابقا identical. الطبقة العاملة السودانية، مثلا، تغيرت كميا زاد حجمها، اختلفت تركيبتها (الأصول الإقليمية والقبلية والاجتماعية، التعليم، عدد العاملين في المؤسسة الواحدة، نوع المؤسسات:إنتاجية وخدمية...الخ)؛ فلم تعد الطبقة العاملة السودانية هي عمال السكك الحديدية وقطاع الخدمات، بل أصبحت هناك صناعات محلية، ورغم ذلك استمرت الأهمية النسبية للعاملين في السكك الحديدية مع أن السكك الحديدية لم تعد وسيلة المواصلات الحديثة الوحيدة في البلاد فقد نشأت الطرق البرية وشركات النقل البري. الرأسمالية السودانية هي الأخرى، زاد حجمها وتعددت فئاتها، أصبحت الفئات الزراعية والصناعية فيها تتطلع لدور اكبر في الحياة السياسية يساوي دورها في الاقتصاد؛ التراكم الرأسمالي منذ نهاية السبعينات أعطى دفعات لرأسمالية جديدة: جديدة كأفراد وجديدة في مصادر تراكمها ومجالات استثمارها، المصارف، سوق العملة والنقل البري. ووجود الرأسمالية السودانية في الأحزاب لم يعد مختصرا على حزب الأمة والاتحادي، بل شمل الجبهة الإسلامية والتي كانت حتى منتصف السبعينات مكونة من عناصر البرجوازية الصغيرة المتعلمة! وحركة المزارعين وقعت من جديد تحت نفوذ الفئات الرأسمالية خاصة في مشروع الجزيرة، وحقق التوجه الرأسمالي في الزراعة انتصارات في مجال علاقات الإنتاج ولكنه أدى أيضا في ظروف التمفصل الجامد لتشكيلة الاقتصادية الرأسمالية النامية والتشكيلات الاقتصادية السابقة لها, لتدهور في الإنتاج الزراعي واهدار للموارد الطبيعية. توسع جهاز الدولة وتضاعف عدد العاملين به عدة مرات، بينما ضعفت الدولة نفسها وانهارت امكانياتها المالية وهيبتها، ولم تعد تحتكر ادوات العنف في البلاد وظهرت المليشيات القبلية والحزبية...الخ. ونتناول في تفصيل هذه المتغيرات في البناء الطبقي في مقال قادم. والاحزاب نفسها حدثت بها متغيرات، فالصراع داخل حزب الأمة ياخذ اشكالا جديدة: اولاد البحر واولاد الغرب، أو ممثلي برجوازية اواسط السودان المهيمنة على الدولة والاقتصاد، وممثلي برجوازية المناطق الأقل تطورا والتي تريد نصيبا في السلطة والثروة؛ (لاحظ اختلاف ذلك عن الصراع بين عبد الله خليل وصديق المهدي ومحمد احمد محجوب 56-1958 ، وبين الصادق والهادي المهدي ومحمد احمد محجوب 65-1969). والاتحاديون توجد تغيرات في وسطهم، عودة الهيمنة الطائفية ونشوء صراع ضد هذه الهيمنة (تيارات الشريف الهندي وابو حريرة) واضطرار فئات وقفت ضد هذه الهيمنة للعودة من جديد لظلها. وحزبنا نفسه يواجه متغيرات، فلم نعد على قيادة منظمات الطبقة العاملة النقابية، ولم نعد الحزب الاكثر نفوذا وسط حركة المثقفين، وانحسر نفوذنا وسط المزارعين، ولكن في نفس الوقت تحسن البناء الحزبي وزاد كميا الكادر المتخصص وتعددت إسهاماته. وظهرت قوى اخرى وسط المثقفين، وسط الطلاب، قوى سياسية في الجنوب وقوى اقليمية اخرى؛ لذا يصبح الاختزال تعميماً لا ينفع، ويصبح بناء النماذج الذهنية بعيدا عن الواقع الموضوعي المركب عودة للاحلام والرغبات الذاتية والتي تنتهي دائما بالتذمر الفردي المنعزل والذي لا يصب في مجرى نضال الجماهير، ولا يعني هذا باي حال اننا لا نحتاج للمرشد النظري ولا للخيال والابداع الثوري ولكننا نريد لهما الارتباط بالفعل النضالي لاعادة صياغة الواقع من خلال ادراكه وبالتالي امتلاك الحرية الحقيقية في اعادة صياغته مع الجماهير وبواسطتها. ولعل اهم خلاصة لما قلناه ان الصراع الطبقي يتقاطع في السودان مع التكوينات الاقليمية والاثنية والقبلية والطائفية، فالطبقات في السودان، كما سنوضح في فصل لاحق، لم تتشكل في لحظة تاريخية واحدة يتم حشدها بعد ذلك في معسكرات واحزاب تحارب بعضها البعض، وانما تتشكل في عملية تاريخية يتم خلالها فرزها من التكوينات الاجتماعية السابقة، ولا تدرك مصالحها الموضوعية بمجرد حسها الطبقي وانما باكتسابها الوعي بذاتها وهذه عملية تاريخية اخرى تعتمد على انتشار الوعي والمعرفة واساليب التنظيم الحديثة، أي انها تعتمد على الوعي المنظم الذي يحولها من طبقات في ذاتها لطبقات لذاتها. وهكذا فان عملية صياغة البديل ليست عملية جامدة تتم مرة واحدة بشكل هندسي وتفصيلي، وتوضع في الرف تنتظر التنفيذ، انما هي عملية متغيرة يتعدل النموذج الفكري والبرنامجي فيها وفقا لتطورات الواقع الموضوعي، وتوازن القوى الاجتماعية المتصارعة والمتحالفة معا. ويمكن ببساطة ان نقول ان ما قلناه عن صياغة البديل هو صحيح تماما عن صياغة نظرية الثورة السودانية وبرنامج الحزب في الظروف الجديدة. ويحاول هذا المقال بقدر ما أتاحه لنا توفر المعلومات في المنفى، ان يرصد بعض تلك المتغيرات. لهذا يخصص هذا المقال فصلا للمتغيرات في التركيب الطبقي للمجتمع السوداني. تجاربنا في صياغة البديل من سبتمبر 1971 إلى دورة اللجنة المركزية في مايو 1973 واذا حاولنا ان نستفيد من تجربة حزبنا والحركة الجماهيرية في صياغة البديل خلال نضالها ضد ديكتاتورية مايو 1969-1985، واضعين في الاعتبار اختلاف الظروف الذاتية (الحزب والحركة الجماهيرية) والموضوعية (المتغيرات في المجتمع السوداني وطبيعة سلطة يونيو1989)، فاننا نلاحظ ان الحزب قد بدا بعد الردة في 22 يوليو 1971 بطرح البديل الاستراتيجي " النضال في سبيل سلطة وطنية ديمقراطية ونظام وطني ديمقراطي، ما زال هو الشعار الاساسي الذي يحكم نشاطنا ويتجاوب مع ظروف شعبنا الموضوعية والذاتية" (دورة سبتمبر نوفمبر 1971)، "وتوحيد الجماهير في جبهة وطنية ديمقراطية ما زال تكتيكنا الاساسي"(ص 21 المرجع السابق) واستمر هذا الطرح في دورة يونيو 1972 (كتاب الدورات ص 32) وكذلك في دورة مايو 1973 عندما وضعت اللجنة المركزية امام عضوية الحزب مهمة "طرح الاهداف والشعارات الاساسية للعمل الثوري بين الجماهير ونوضح القضايا الاساسية لبرنامجنا الوطني الديمقراطي وطبيعة السلطة التي تنفذه بعد انتصار قواتها. بهذا يتم التمايز الطبقي والفكري ونسهل على الجماهير رؤية مستقبل نضالها"(ص 84 كتاب الدورات) وتقول نفس الدورة "لن نمل من تكرار ما يعتبر بديهيات رغم ما تطلقه دوائر السلطة أو المنقسمين الانتهازيين أو الدوائر المعارضة اليمينية، ورغم تقديرنا وادراكنا لدوافع الجماهير الاصيلة للانعتاق من هذه السلطة، فلا حل ولا مخرج سوى تنظيم الجماهير الثورية وادخال الوعي الطبقي في صفوفها وتفجير طاقاتها، وبناء قواعد الجبهة الوطنية الديمقراطية و"السايقة واصلة" كما يقول المثل الشعبي" (ص 85) ولكن طوال هذه الفترة (سبتمبر/ نوفمبر 1971 - مايو 1973)، كان طرح هذا البديل الاستراتيجي كأفق للحركة الجماهيرية، يرتبط بموجهات عملية للبناء الحزبي وبناء الحركة النقابية والديمقراطية والاقتراب اليومي من القضايا الملحة للجماهير باعتبار ان ذلك هو الطريق الصعب والطويل لانجاز هذا البديل الاستراتيجي. بدأت هذه الموجهات العملية من " الواجب الاساسي هو وجود مركز الحزب القائد وتأمينه واستقراره. يتبع هذا تجميع المراكز القائدة للمناطق والطلبة وميادين النشاط الاخرى وخلق الصلة بينها وبين مركز الحزب"(دورة سبتمبر/ نوفمبر 1971، كتاب الدورات ص 22) إلى موجهات عامة حول "تجميع القوى الديمقراطية في حركة الطبقة العاملة، ونقابات المعلمين والموظفين، حركة الشباب، حركة الطلاب"(ص ص 23-24) وتكررت نفس الواجبات في دورة يوليو 1972 بشكل اكثر تحديدا ولكن الواجب الاساسي ظل هو "السير خطوة خطوة في تجميع و (تكريب) قواعد الحزب الشيوعي بتامين كادره واستقرار قيادته وهيئاته القائدة في المركز والمناطق والفروع، وبناء ادوات العمل السري..الخ"(ص33) وان يرتبط ذلك "خطوة خطوة... بتوسيع دائرة حركتنا بين جماهير الطبقة العاملة والحركة الديمقراطية" (ص 33), و تحديد طبيعة تكتيكات الحزب ك"تكتيكات دفاعية" وفقا للظروف الموضوعية "توازن القوى في البلاد لصالح قوى الردة وللثورة المضادة، وتحيط بالسودان عربيا وافريقيا قوى معادية للثورة الديمقراطية السودانية"(نفس المرجع، ص 33) وما تفرضه تلك التكتيكات من "الأساليب الملائمة دون تعجل أو استسلام لروح القلق البرجوازي الصغير الطاغي وتعجل دخول معارك لم تكتمل شروطها.." ورغم ملاحظة دورة يوليو ل"تعاظم السخط الجماهيري" فانها تنبه ان هذا السخط والعزوف لم يتحول بعد إلى حركة منظمة" وان ذلك هو واجب "ينتظر الحزب الشيوع السوداني، واجب تنظيمه-أي السخط وسط الجماهير- وادخال الوعي والوضوح في صفوفه وتحويله إلى حركة نضال منظم". وتكررت نفس الواجبات والمهام في دورة مايو 1973 ولكنها كانت دائما تكتسب مزيد من الوضوح والتحديد. و يمكن ملاحظة ان طرح البديل الاستراتيجي حتى دورة مايو 1973، كان يبدو وكأنما هو البديل الوحيد المطروح للحركة الثورية، أي كأنما نواجه طريقا لا محطات فيه سوى المحطة الاخيرة: الثورة الوطنية الديمقراطية. ورغم هذا كان واضحا ان ذلك الطريق طويل وشاق ويتم تعبئة الجماهير له من خلال طرح قضاياها ومن خلال النضال ضد الديكتاتورية ومن اجل الحريات والمطالب الاقتصادية للعاملين. انتفاضة اغسطس 1973 تفجر قضية البديل وكانت انتفاضة اغسطس (شعبان) 1973، منعرجاً هاماً في تطور الحركة الجماهيرية: فهي اول حركة جماهيرية معارضة بعد ردة 22 يوليو ، اول مظاهرات واسعة واول اضرابات عامة! لقد كسرت حاجز الصمت والترقب. ولكنها طرحت السؤال: ما البديل؟ والسؤال كما قلنا في مقدمة هذه الورقة كان يطرح من الجماهير كما كان يطرح من السلطة واعوانها الانقساميين والأخوان الجمهوريين. ولقد تجاوز بيان الجنة المركزية للحزب الشيوعي في اغسطس 1973 "لتتحد قوى المعارضة الشعبية" ذلك السؤال بطرحه مباشرة قضية وحدة قوى المعارضة الشعبية حول شعارات اساسية: * ضد قانون امن الدولة * توقف التشريد وارجاع المفصولين * ضد الغلاء والسياسة الاقتصادية * لتحرير النقابات والاتحادات من سيطرة الدولة * لإطلاق سراح السجناء السياسيين واوضح ذلك البيان ان سبيل الحركة الشعبية لتحقيق هذه المطالب هو البرقيات، المذكرات، عرائض الاحتجاج، الوفود الشعبية، المواكب والاضرابات. وتوجهت سكرتارية اللجنة المركزية بنداء إلى كل منظمات واعضاء الحزب ومؤيديه والقادة النقابيين وكل القوى في الشمال والجنوب: "واجب الساعة الذي لا يتقدمه واجب امام كافة الشيوعيين والتقدميين، استنفار صفوف الطبقة العاملة والجماهير الشعبية وتنظيم صفوفها والسير بجسارة واقدام الثوار في طليعتها لتوسيع حركة المواكب والمظاهرات واستمرارها تحت الشعارات والاهداف الوطنية الديمقراطية الواضحة القاطعة لتبديد جو الغموض والترقب الذي تنشره دوائر المعارضة اليمينية والمتاجرين بسخط الشعب" (بيان سكرتارية الجنة المركزية- 30 اغسطس 1973) وتناولت اللجنة المركزية في دورة يناير 1974 انتفاضة اغسطس وقضية البديل. وبدأت بانتقاد الذين يطرحون مسالة البديل لاخافة الحركة الثورية والشيوعيين بان البديل لمايو هو الاحزاب الرجعية موضحة ان هؤلاء يريدون الحفاظ على بقاء السلطة الحالية وما حققته لهذه الجماعات من مكاسب شخصية وان "الحركة الثورية ما عاد يشغلها" ان ذهاب هذه السلطة "معناه عودة تحالف الاحزاب الرجعية التي سوف تنتقم من الحركة الثورية وتدخل البلاد في حمامات دم جديدة"( ص )4 واوضحت الجنة المركزية بحزم ان الحركة الثورية السودانية "قد وصلت مستوى من النضج والقدرة على الصمود فى وجه حمامات الدم، وفر لها تصميمها على مواجهة كل اعدائها الان وفي المستقبل، وتصميما على السير في طريق ثورتها الوطنية الديمقراطية. واقتنعت الحركة الثورية ايضا ان بقاء هذه السلطة يشكل اكبر عقبة في طريق الثورة الاجتماعية، وان ازالتها ستفتح الطريق لتطور الثورة الديمقراطية بهذا القدر أو ذاك"(نفس المرجع ، خطوط التركيز مني) واوضحت اللجنة المركزية قضية هامة اخرى " فما عاد من الممكن في ظروف توازن القوى الحالي وتجارب الحكم منذ الاستقلال، تجاهل وزن الحركة الثورية التقدمية، وعلاقتها بهذه الدرجة أو تلك بالحكم" (نفس المرجع، ص 4) وتناولت اللجنة المركزية مسالة البديل كما تطرحها جماهير حريصة على التمايز بين الحزب والحركة الثورية والمعارضة اليمينية الممثلة في الجبهة الوطنية حينها فاوضحت ان الحزب ليس طرفا في الجبهة الوطنية "ليس ذلك نتيجة ترفع أو انغلاق طائفي انعزالي، بل لان البرامج مختلفة، والمصلح الطبقية متباينة متعارضة، وبالتالي مختلفة ايضا التصورات عن المستقبل والاهداف البعيدة."(المرجع السابق ص 5) وانتقدت اللجنة المركزية برنامج الجبهة الوطنية الذي يهدف للاحتفاظ بنظام مايو مع تغيير قيادته واوردت مقارنة بين ذلك البرنامج وميثاق اكتوبر واوضحت انهم يتمسكون بالدستور الاسلامي والجمهورية الرئاسية وسياسة العداء للشيوعية والسير في طريق التطور الرأسمالي. وبالتالي لا يمكن ان تطرح المسالة كأنما هي "الخيار بين ديكتاتورية سلطة الردة الحالية أو ديكتاتورية سلطة الاحزاب اليمينية ودوائر اليمين العسكري"(ص 6). وامام هذا امسكت اللجنة المركزية بخيط جدل البديل: "البديل تبدأ صياغته اليوم قبل الغد. بديل المستقبل يتبلور في نضال الجماهير. الاهداف والشعارات والمطالب الوطنية الديمقراطية التي تطرحها الجماهير اليوم للنشاط السياسي والجماهيري اليومي هي التي تحدد البديل في المستقبل"(ص 7) وانتقدت اللجنة المركزية اقسام من البرجوازية الصغيرة الديمقراطية "التي تظل بعيدة وبطيئة الحركة في هذه الظروف"، وفي نفس الوقت "تميل للجدل المطول عن البديل تعويضا عن كسلها في النشاط وفي العمل، وتكاد تطلب من الحزب الشيوعي والحركة الثورية تقديم ضمانات قاطعة لنجاح كل المعارك، أو فلما تسجيليا لتفاصيل لوحة البديل"(ص6). كما أن "هناك المجموعات المسحوقة من البرجوازية الصغيرة الديمقراطية بين صغار التجار والحرفيين والموظفين وصغار المزارعين في المناطق الحديثة، وفي اوساط الجيش والمشردين وهي تريد حلا سريعا ناجزا ولا صبر لديها على"المطاولات"، تريد الخلاص والسلام! انها لا تطلب في سؤالها عن البديل سوى شكل الحكومة القادمة وكأن كل شئ قد اعد للاطاحة بالسلطة الحالية ولم يبق سوى شكل الحكومة الجديدة" (ص 8 خطوط التركيز مني) وامام كل ذلك فان اللجنة المركزية طرحت العملي والممكن في "حدود قدراتنا ومستوى تقدم الحركة الشعبية"(ص 10) وطرحت دورة يناير 1974 قضية قيادة الحركة الجماهيرية واوضحت ان هذه المسالة تحسم وسط الجماهير في العمل اليومي "فقضية القيادة لا تنحصر فقط في مستوى قيادة الدولة، بل تعتمد في الاساس على قيادة النضال اليومي للجماهير وتحمل مشاقه في ظروف الردة والتراجع والبطش والارهاب" (ص14). كما طرحت الدورة مجددا ان الاضراب السياسي هو الاداة للاطاحة بديكتاتورية مايو. ولعل اهم ما جاء في تلك الوثيقة هو محاولة استقراء احتمالات المستقبل، اذ تقول "قد تسقط السلطة الحالية قبل اكتمال نضج الأزمة الثورية أو خلالها، وتصل إلى الحكم هذه الفئة أو تلك من معسكر اليمين، وقد ينجح انقلاب عسكري لمغامرين أو محافظين، وقد تفرض دوائر الاستعمار والرجعية العربية الافريقية صيغة مصالحة بين دوائر اليمين في الحكومة وقسم من المعارضة كجزء من عمليات التسوية في المنطقة العربية كما فعلت في الجنوب، وقد تواصل المعارضة الشعبية انفجاراتها وتقود إلى تعديل في تركيب السلطة، أو قيام حكم مؤقت، أو غير ذلك من الاحتمالات الواردة في الافق السياسي" وازاء هذه الاحتمالات "وفي كل حالة لا يجوز للحزب الشيوعي ان يستبق الاحداث أو يلائم ويوفق، بل يبني موقفه بما يوسع من امكانيات تطور الحركة الثورية، واستعادة حقوقها الاساسية، ويحدد اساليب النضال والشعارات لمواصلة النضال الوطني الديمقراطي من اجل سلطة وطنية ديمقراطية"( ص 12). لقد فتحت انتفاضة اغسطس (شعبان) 1973 امكانيات جديدة لمحطات يمكن ان يمر بها النضال الوطني الديمقراطي. 5 سبتمبر و2 يوليو وإفلاس المعارضة اليمينية بينما توجه الشيوعيون لبناء حزبهم واعادة بناء المنظمات الديمقراطية وسط العمال والمزارعين والطلاب، وبينما خاضوا وسط الجماهير وفي قيادتها معارك متواصلة بعد اغسطس 1973 (معركة اتحادات الثانويات في ديسمبر 1973، اعتصامات واضرابات العمال في المنطقة الصناعية ببحري كمصنع الادوات المنزلية، مصنع النسيج السوداني وشركة الخرطوم للغزل والنسيج ... الخ) والتي تطورت حتى وصلت انتفاضات المدن في سنجة وسنار التي قيمتها اللجنة المركزية في دورتها في يونيو 1975 : "قدمت مدينتا سنار وسنجة على التوالي شواهد جديدة مفيدة للحركة الثورية التي تتجه نحو الانتفاضة. فلم يحدث خلال سنوات الديكتاتورية الاولى وخلال فترة التحضير للاضراب السياسي، ان تطورت المعارك الجماهيرية إلى اضراب سياسي عام وصدام عنيف في قطاع كامل من الجماهير، أو مدينة تضم مختلف القطاعات، حتى تفجر في اكتوبر على النطاق الوطني. استمدت مدينة سنجة الهامها من تجربة اكتوبر، هذا واضح. ولكن تتميز وتنفرد بأنها طرحت امكانية بان يتفجر اضراب سياسي عام تحت ظل هذه السلطة في مدينة من المدن أو قطاع شامل من الجماهير أو حتى مديرية من المديريات. " وهذا شكل ارقى في التحضير للانتفاضة الشعبية ... "(دورة يونيو 1975 "قضايا ومشاكل العمل القيادي" ص 27) وبينما يحدث هذا، كانت الجبهة الوطنية تحضر لانقلابها العسكري في 5 سبتمبر 1975- التكتيك الانقلابي لليمين كان يهدف للاطاحة بالسلطة دون تطور حركة جماهيرية وشعبية ديمقراطية تفرض تغييرات ديمقراطية في البلاد، اليمين كان يخشى اكتوبر اخرى يفلت فيها زمام الجماهير من قبضة يده! وبفشل انقلاب 5 سبتمبر بدأ التحضير ل 2 يوليو والتي واجهت نفس المصير وادخلت اليمين والسلطة معا في ازمة جديدة: اليمين لفقده لاخر كروته العسكرية والسلطة لادراكها لهشاشة امنها وقدرتها على حماية نفسها. وكما قال بيان سكرتارية اللجنة المركزية في يوليو 1976 "وضعت محاولة الانقلاب حدا لتبجح سلطة السفاح نميري وكل اجهزتها، انها القادر المقتدر الكاشف لحجب الغيب، الراصد حركة الافلاك ودبيب النمل"(ص 2) واوضح بيان السكرتارية المركزية ان 2 يوليو انهت بحق "فترة قائمة بذاتها في مسار مقاومة تسلط السفاح نميري وزمرته" فترة "عاشت الجماهير خلالها قلقا وضجرا في انتظار الضربة السحرية القاضية التي وعدت قيادة احزاب الجبهة الوطنية لانقاذ الشعب، ونيابة عنه من الديكتاتورية العسكرية"(ص 2) ويمضي البيان فيقول "ان الاطاحة بسلطة السفاح نميري ليست رابع المستحيلات لكن انتظار الانقلاب، مهما كانت قدراته العسكرية داخل الجيش وخارجه يهدر طاقة المعارضة ويدخل بها في طريق مسدود"(ص 2) وكان ذلك الطريق المسدود هو الذي قاد المعارضة اليمينية للمصالحة مع نظام نميري في عام 1977. جبهة للديمقراطية وانقاذ الوطن وفي مواجهة المصالحة الوطنية بين النظام والمعارضة اليمينية، طور الحزب شعاره من "وحدة قوى المعارضة الشعبية" إلى "جبهة للديمقراطية وانقاذ الوطن" معلنا ان الديمقراطية هي مفتاح الحل للازمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها البلاد "لن يكتب للسودان الاستقرار والتطور والازدهار الا بتطوير واستكمال الحقوق والحريات التي تحققت مع الاستقلال، وتبوء كل محاولة للارتداد على تلك الحقوق والحريات والمكتسبات تحت شعار دستور اسلامي أو دستور اشتراكي" (الديمقراطية مفتاح الحل: ص 22) وبعد تحليل عميق لازمة السلطة وازمة المعارضة اليمينية توجهت اللجنة المركزية "من هذا المنعطف الجديد، وعلى طريق بناء الجبهة الوطنية الديمقراطية من خلال العمل اليومي وعلى المدى البعيد والصبور، يدعو الحزب الشيوعي السوداني لمواصلة نشاط حركة المعارضة الشعبية لتتبلور في هذه الفترة ووفق متطلباتها في جبهة واسعة للديمقراطية وانقاذ الوطن، توحد الاحزاب والمنظمات والتيارات السياسية والاتجاهات الفكرية والشخصيات الوطنية في مواصلة النضال من اجل الديمقراطية والسيادة الوطنية والتقدم الاجتماعي والمصممة على متابعة النضال الجماهيري اليومي وتحمل مشاقه - بعيدا عن المؤامرات الانقلابية... لاستعادة الحقوق والحريات الديمقراطية، وحشد القوى بمسئولية وطول نفس لمعركة الانتفاضة الشعبية للاطاحة بالديكتاتورية العسكرية، واستعادة ارادة الشعب مقننة في دستور ديمقراطي علماني، يؤمن حرية التنظيم الحزبي والنقابي، وحق الاضراب، وحرية التعبير والعقيدة والضمير، وحرية النشر والصحافة، ويصون حقوق المواطن الاساسية من أي تغول من جانب الدولة" وبهذا انتقل الحزب خطوة اخرى نحو المحدد، ودون فقدان رؤية ما هو استراتيجي وعام: النضال من اجل بناء وطني ديمقراطي، يرى الممكن موضوعيا: جبهة للديمقراطية وانقاذ الوطن "مفتوحة لكل الاحزاب والتنظيمات والشخصيات"، ولكن بين هذا وذاك يمتد خيط العلاقة الجدلية: "الحزب الشيوعي لا يطرح مبدأ الديمقراطية لمكاسب تكتيكية مؤقتة. فهو في نضاله من اجل بناء وطني ديمقراطي يفتح الطريق للانتقال إلى الاشتراكية، ينطلق اولا من تجربة الحياة السياسية في السودان بتقاليدها ومنجزاتها وعثراتها، وتطابق تلك التجربة مع المنطلق النظري والفلسفي الذي يهتدي به الحزب الشيوعي وهو ان النضال من اجل الاشتراكية مستحيل من غير النضال من اجل الديمقراطية"(الديمقراطية مفتاح الحل ص 25) واقتطفت اللجنة المركزية من برنامج الحزب المقر في المؤتمر الرابع 1967 فقرة تقول "قيادة الحزب الماركسي للنظام الاشتراكي لا تعني وجوب نظام الحزب الواحد" (راجع ص 12 من برنامج الحزب). واوضحت اللجنة المركزية ان الموقف المبدئي من مسالة الديمقراطية كان وراء "طرح الحزب الشيوعي شعارات استعادة الحقوق الاساسية والحريات الديمقراطية، وتوسيع النضال الجماهيري، منهجا لوحدة المعارضة الشعبية" منذ اغسطس 1973، وان الحزب "ظل يتوجه ومازال لقيادة واحزاب الجبهة الوطنية لتنسيق نشاط المعارضة في هذا الحد الادنى..."(ص26) وان الحزب في اعتراضه على تكتيكات الاحزاب اليمينية التي تؤدي إلى تجميد نشاط الجماهير السياسي الديمقراطي كان يرتكز على ان الضمان الوحيد للديمقراطية في المستقبل، هو النضال من اجلها تحت ظل الديكتاتورية" أي نضال الجماهير من اجلها (ص 27) واصبحت الصورة اكثر وضوحا في ابريل 1980، بعد ثلاث اعوام من النضال الجماهيري الشاق، اذ تبلور شكل الحكومة التي يمكن ان تاتي على انقاض حكم الفرد المطلق والديكتاتورية العسكرية؛ ففي بيانها السياسي الصادر عن دورة ابريل 1980، اقترحت اللجنة المركزية "تقوم حكومة انقاذ وطني توحد كل القوى التي شاركت في الاضراب السياسي بما في ذلك القوات النظامية" (بيان "تفاقم ازمة حكم الفرد.." الصادر من اللجنة المركزية في ابريل 1980 ص 15). وقد اقترح ان يكون دور تلك الحكومة "وتتولى تلك الحكومة ادارة شئون البلاد لفترة انتقالية كافية، تتوفر فيها الحريات الديمقراطية للشعب لتنفيذ برنامج اصلاح وطني عام لتقويم ما خربته مايو سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وخلقيا، وصياغة دستور ديمقراطي يقنن مكتسبات الشعب ويضمن للجنوب حكمه الذاتي الاقليمي في ظل الحرية والديمقراطية ووحدة السودان، واجراء انتخابات عامة لجمهورية برلمانية يجيز مجلسها الدستور وينتخب الحكومة والمناصب الدستورية..."(ص 15 من نفس البيان) البديل المنشود والبديل الذي تحقق وبانفجار الانتفاضة في مارس ابريل 1985، دخلت مسالة البديل منعطف التنفيذ، فحدث انقلاب القصر باستيلاء القيادة العامة على السلطة، صحيح ان ذلك تم نتيجة للانتفاضة الشعبية وضغط ضباط وجنود القوات المسلحة، ولكنه تم ايضا بايحاء وتدخل من القوى الخارجية (السفارة الامريكية، المصريين ...الخ) مما اسفر عن:"سلطة عسكرية انتقالية - القيادة العامة ثم المجلس العسكري الانتقالي" (دورة الجنة المركزية في ابريل 1985، ص 10) الذي اصبح وفقا للبيان رقم 9 يملك سلطة "مجلس السيادة وسلطة التشريع" ... وسلطات "رئيس الجمهورية في القوانين السارية حتى تعدل أو تلغى"، وبذلك فان " كل السلطات تركزت في يد المجلس العسكري وان مجلس الوزراء بما تبقى له من سلطة تشريع محدودة اصبح اشبه باي مجلس وزراء تحت الجمهورية الرئاسية ومجالس الوزراء في نظام مايو الرئاسي"(المرجع السابق ص 12) وهكذا كان البديل الذي تحقق يختلف عن البديل المنشود وفقا لما دعا له الحزب في "الديمقراطية مفتاح الحل" وفي بيان ابريل 1980. لانه لم يكن من الممكن "رسم صورة هندسية للانتفاضة أو الحكومة المنبثقة عنها."(ص 2) ولان المسألة لم تكن تحدد فقط بالبرامج والشعارات بل بمستوى توازن القوى الفعلي وبما تتخذه القوى المختلفة في التحضير للمعركة واثناءها وفي هذا الاتجاه فقد رصد اجتماع اللجنة المركزية في ابريل 1985 نقاط الضعف الآتية: 1- عدم اكتمال وحدة المعارضة حول ميثاق ومنبر قبل الانتفاضة (لاحظ الميثاق وقع في الساعات الاولى من صباح أبريل 1985) 2- ضعف حركة الطبقة العاملة وعدم دخولها "المبكر في اعلان الاضراب السياسي" رغم مشاركة العمال مشاركة جماهيرية في المظاهرات "وذلك لوجود القيادات الانتهازية في قيادتها" وضعف حزبنا وضمور فروعه ونفوذه وسط الطبقة العاملة خاصة في العاصمة. 3- "احتلت موقع القيادة فئة مثقفي البرجوازية الصغيرة من الطلاب والمهنيين"(ص 3) التي كانت بعض فئاتها ترى "انها القيادة الفعلية والنشطة لحركة المعارضة وان الاحزاب التقليدية والحزب الشيوعي، ما عاد لها دور وان حركة الجماهير تخطتها وقد عاق هذا الاتجاه الفكري توسيع دائرة تجمع النقابات قبل الانتفاضة بحيث كانت الدعوة تتم بصورة انتقائية... وتجدر الاشارة إلى ان بعض العناصر القيادية في التجمع كانت تتعمد ابعاد مندوبي النقابات والاتحادات والشيوعيين بحجة ان لا يكون للحزب الشيوعي اكثر من موقع للتمثيل وطرحهم لشعار ان الجبهة الواسعة لانقاذ الوطن لن تتحقق وان على القوى الوطنية الديمقراطية والتقدمية ان تتوحد لتقود المعارضة واستبعاد الاحزاب التقليدية من الصورة وهو تفكير سياسي قاصر قائم على التقديرات الذاتية" (ص 4) ادى لاصرار قيادة التجمع الاتصال بالمجلس العسكري منفردة وبدون اشراك الاحزاب (ص 11) 4- وقفت اتحادات المزارعين التي يسيطر على قياداتها اثرياء الريف وكبار التجار بعيدا عن المعركة (ص 3). 5- محدودية دور الجنود وصغار الضباط نسبة لعدم وجود مركز موحد للمعارضة يجذبهم ويلهم تحركهم، وتعرض الجيش للتصفيات وسيادة العقلية الانقلابية لدى عدد كبير منهم "ولم تكن اغلبيتهم في أي يوم مقتنعة بامكانية نجاح الاضراب السياسي والانتفاضة، ومن ثم الاستعداد الذهني والنفسي لابتداع اشكال واساليب مساندتها، على العكس كان عدد من الضباط مصدر زعزعة وقلق لحركة ونشاط نقابات المهنيين، بل ولبعض احزاب المعارضة طيلة الاعوام الثلاثة الماضية (أي التي سبقت الانتفاضة - الكاتب) بحجة انهم كضباط جاهزون لاستلام السلطة اذا كان الشارع مستعدا لمساندتهم! أي الانقلاب اولا والانتفاضة لاحقا."(ص 6) ولكن لان قضية البديل ليست مسألة يتم حسمها في لحظة واحدة وينفض الجميع ايديهم، وانها مسألة ديناميكية متحركة وتعتمد على زخم الحركة الشعبية وامكانياتها, رفضت اللجنة المركزية في اجتماعها الاتجاه السهل "ان ننفض يدنا من المعركة، ونهرب من الصراع بالقول ان قيادة الجيش بالاتفاق مع عمر محمد الطيب ومباركة مصر والسعودية وامريكا نفذت انقلاب قصر"(ص 4) و "نعلن ان الانتفاضة قد اجهضت" (ص 5)؛ بل رأت امكانية استمرار الصراع لسيادة طابع الانتفاضة الشعبي والديمقراطي وطرحت الواجبات العاجلة. نظرة إلى تجربة 1971-1985 يمكننا الان ان نخلص إلى ان مسالة البديل خلال النضال ضد نظام مايو بدأت بطرح الشعار العام "السلطة الوطنية الديمقراطية" وانتهت من خلال النضال اليومي المثابر والتحليل المستمر للصراع السياسي والاجتماعي إلى "جبهة للديمقراطية وانقاذ الوطن" "وحكومة انتقالية" تعيد الحقوق الديمقراطية... كل هذا على مستوى البرنامج والشعار أي على مستوى علافة "الذاتي والموضوعي، ولكن الواقع ادى إلى بديل "المجلس العسكري ومجلس الوزراء برئاسة الج زولى" حيث كان المحدد للنتيجة هو الموضوعي بما في ذلك القدرات والامكانيات الذاتية للحركة الشعبية والحزب الشيوعي! هذا مهم جدا في طرح مسألة البديل الان، لانه رغم اننا نبدأ من موقع متقدم نسبيا : وحدة المعارضة الشعبية زائدا تصورها للبديل، الا ان الصراع اليومي والنضال الفعلي لحركة الجماهير لربما يفرض ظروفاُ مختلفة (تغير في موقف الاحزاب المشتركة أو على الاقل عدم التزامها بالميثاق، عرقلتها للنضال اليومي كما يحدث الان في فرع التجمع بغرب اوربا، محاولاتها حصر دور الشيوعيين ...الخ ) ولكن يبقى ان البديل المصاغ الآن في الميثاق ومقررات أسمرا 1995 ممكن التنفيذ فقط بقدر التفاف الجماهير حوله، بقدر النضال الحقيقي الذي تخوضه الجماهير لتحقيقه، وبقدر تحسيننا لمناهج عملنا القيادي وقدراتنا التنظيمية ووجودنا الفعال وسط الجماهير، أي الا يصبح التجمع اطارا لاعتقال حركتنا وسط الجماهير ، ولا اطارا لاعتقال حركة الجماهير نفسها! أي الا يصبح "جبهة وطنية" اخرى على طراز الجبهة الوطنية لاحزاب اليمين على ايام مايو! كما ان امكانية تحقيق البديل المطروح تستند على مدى إرتكازه على الموضوعي والتاريخي في نسيج العلاقات الاجتماعية السودانية وتطور الحركة السياسية في السودان. ولنتناول بعض هذه القضايا الان: طبيعة انقلاب يونيو 1989 إن الاكتفاء بالتقييم السياسي لما حدث في الثلاثين من يونيو 1989 لا يكفي في تقييم طبيعة النظام، إذ ليس كافيا القول إن الانقلاب قد نظمته الجبهة القومية الإسلامية، وليس كافيا القول إن الانقلاب هدف إلى إجهاض عملية السلام التي بدأت تأخذ قوة دفع جديدة بعد تشكيل حكومة الجبهة الوطنية المتحدة في مارس 1989. بل انه ليس كافيا الذهاب ابعد من ذلك والقول إن القوى المعادية للانتفاضة قد أقلقها تطور قوى الانتفاضة منذ مبادرة الميرغني-قرنق وانتفاضة ديسمبر 1988، ومذكرة القوات المسلحة وإبعاد الجبهة الإسلامية، إذ لا بد بالإضافة إلى ذلك الاستناد على تحليل القوى المتصارعة ومصالحها؛ لأن معرفة المصالح لا تكشف طبيعة الانقلاب فحسب، وإنما تكسبنا وعيا حول وجود قوى لها مصلحة في ما يهدف الانقلاب لتحقيقه موجودة الآن سياسيا ضمن قوى المعارضة كما كانت توجد معارضة يمينية لنظام نميري. وفهم هذه المسالة مهم حتى ندرك طبيعة التغيير المحدود الذي تريده تلك القوى اليمينية الموجودة في قوى المعارضة وبالتالي توجسها من البديل الديمقراطي الذي يفتح الطريق لتطور الثورة السودانية. قال ماكسيم رودنسون في كتابه "الرأسمالية والإسلام" "لم يكن هناك طريق إسلامي خاص للرأسمالية"(طبعة بينغوين 1974 - ص 184). وقد أوضح عبد الخالق محجوب في 10/4/1969 في مقال له بجريدة أخبار الأسبوع السودانية إن الرأسمالية السودانية تبحث عن غطاء أيديولوجي للطريق الرأسمالي, فالمسالة ليست طريقا إسلاميا للرأسمالية وإنما "تعاني الرأسمالية من قحط وجفاف فكري قاتل. وما كان من الممكن الدفاع عن الاستغلال الرأسمالي وفق نظرية صريحة تبرر التخلف في وجه التقدم وما كان من الممكن الدفاع عن الرأسمالية وقدراتها. "ان الفئات الحاكمة في بلادنا تعجز عن ابتداع غطاء علماني أو اشتراكي مزيف من النظريات التبريرية. وعجزها ناتج عن ضعف كياناتها الثقافية والاقتصادية مما ظهر جليا في شح كادرها المتنور الذي له الرغبة في التحصيل، والقدرة على البيان المقنع. ان الاحتماء بالدين وفق المفاهيم السائدة كان الطريق المربح والممكن للفئات الاجتماعية التي عجزت عن التفاعل الايجابي التي تفجرت بعد اكتوبر" لقد عانى بعض جيل طلائع مثقفي البرجوازية الذين شكلوا مؤتمر الخريجين من الانفصام الأيديولوجى فهم في جلساتهم الخاصة كانوا قراء طه حسين ومونتسكيو وفولتير و المازني وجان جاك روسو ... الخ ولكن عندما كانوا يواجهون الجماهير هم انصار أو ختمية. ومحاولة بعضهم للانعتاق من الطائفية مستندين على ما تحقق من انجاز للاستقلال تحت قيادتهم السياسية، قد ادى بهم إلى صفوف المعارضة! البرجوازية السودانية تبحث منذ الاستقلال عن ايد ولجية تساعدها على الهيمنة، ولم تكن الايد ولجية الليبرالية مناسبة لأنها تعني الديمقراطية ... الديمقراطية التي تتيح تنظيم الجماهير في تنظيمات مستقلة، وممارستها للنشاط السياسي والنقابي والفكري المستقل، ذلك النشاط الذي اوضح في 54- 1985 و64-1969 و85-1989، انه قادر على تقديم البديل لحلول الازمات وعلى توسيع الحركة الديمقراطية والثورية، والاخطر بعد 1988 على ان يكون صوتها مسموعا في كيفية حكم السودان رغم وجود خمسة نواب فقط للتحالف الديمقراطي في الجمعية التأسيسية. الديمقراطية الليبرالية يمكن ان تاتي باحزاب البرجوازية للسلطة ولكنها لاتضمن لها الهيمنة! لذا كان مشروع الدستور الاسلامي والجمهورية الرئاسية لفرض الهيمنة تحت ديكتاتورية مدنية! والمصلحة المشتركة لفئات الرأسمالية السودانية هي طريق التطور الرأسمالي المستقر سياسيا واقتصاديا واجتماعيا والذي لا يمكن تحقيقه الا بتجريد الديمقراطية من محتواها (الحقوق الاساسية التي تسمح بقيام حركة شعبية حقيقية، أي تسمح للطبقات الاخرى العمال والمزارعين، وصغار البرجوازية ومثقفيهم، باقامة تنظيماتهم المستقلة). ان الليبرالية التي تمهد الطريق للرأسمالية وتطورها في اوربا، كانت تهدد التطور الرأسمالي في السودان والبلاد الشبيهة. وعلى مدى اكثر من ثلاثين عاما، تمت تجربة الانقلابات العسكرية، التقليدية (عبود) والمتلحفة بثوب اليسار لتمهد للتطور الرأسمالي ولكنها فشلت وتعيش البلاد والدول الافريقية الشبيهة ازمة سياسية، اقتصادية واجتماعية حادة. ولكن لماذا تنفرد الجبهة القومية الاسلامية بالانقلاب؟ والإجابة واضحة: أنها تمثل فئة رأسمالية جديدة، استطاعت منذ أواخر السبعينات إن تحدث تغيرا ملحوظا في التراكم الرأسمالي لمصلحتها, مستغلة: 1- الضربة التي وجهها نظام نميري للرأسمالية القديمة في بداية ايامه، وعدم مرونة تلك الفئات في استغلال الفرص التي اتيحت لها منذ 16 نوفمبر 1970 وبعد ردة يوليو 1971 بالتحديد لاستعادة وضعها في النظام لتغليبها مصالحها الفئوية على مصلحة الطبقة الرأسمالية ككل، وانها عندما ارادت بعد ان ثبت لها صعوبة الاطاحة بنظام نميري - بعد يوليو 1976 - ان تلحق بالركب، كان النظام قد بدا خلق الفئات الجديدة التي يستند عليها، وكان الأخوان المسلمون اكثر مرونة في تكتيكاتهم. 2- السند الذي قدمته لهم دول الخليج والسعودية: أ- بالضغط على نميري؛ ب- عن طريق انشاء البنوك والشركات الاسلامية؛ ج) والدفع المباشر للتنظيم السياسي للاخوان المسلمين. 3- الجو الاقتصادي العام الذي خلقته سياسة صندوق النقد الدولي في السودان والتي سمحت بتوسع تجارة العملة وعمليات التجارة ذات الربح السريع والاستثمار في قطاعات النقل والتخزين. وفي السبب الأخير تكمن أزمة رأسمالية الجبهة القومية الإسلامية، إذ أنها راكمت رأسمالا واسعا ولكن في مجالات لا تمسك بناصية الاقتصاد السوداني، ولا ترتبط بجذوره الإنتاجية، ووضحت أزمة وخطورة هذا الوضع بعد الانتفاضة، حيث اصبح الحديث عن الرأسمالية الطفيلية على كل لسان، بل إن عناصر الرأسمالية التقليدية سعت لإلجامها عن طريق "قانون الضرائب و استمرار التحقيق في البنوك والتلويح بمحاكمتها، فاستعملت الجبهة القومية الإسلامية كل أسلحتها لوقف ذلك الهجوم مثل سيطرتها على الصحافة وعلى السوق الأسود الذي اعترف الصادق المهدي بأنه هزم الحكومة؛ ثم مظاهرات الطلاب في أكتوبر 1986، ثم الضغط الخارجي من أصدقاء الجبهة وأعداء الحركة الديمقراطية مما أدى لتكوين حكومة الوفاق التي كان الأخوان أساسها. وكان رد فعل فئات الرأسمالية التقليدية، إن ألقت بثقلها خلف الاتحاديين وعملت على وقد العناصر المعادية للجبهة في حزب الأمة، ومدت حبال الود مع الحركة الشعبية التي استطاعت النهوض في ديسمبر 1988 وما تلاها من إحداث أجبرت الجبهة على الخروج من الحكومة. وجاء انقلاب يونيو ليفرض قيادة رأسمالية الجبهة الإسلامية على الرأسمالية السودانية وعلى البلاد. ولكي تفرض قيادتها على الرأسمالية كان لابد لها من إجراءات اقتصادية تسمح لتأييدها الجبهة بفرض نفسها في مجال الإنتاج - بيع المؤسسات العامة وبيع مؤسسات الرأسمالية التقليدية المدينة لبنوك الدولة، ومصادرة بعض ممتلكات آل المهدي وآل الميرغني! إن وجود فئات الرأسمالية القديمة وأحزابها في المعارضة، ليس رفضا للأيديولوجية الإسلامية كغطاء أيديولوجي للرأسمالية السودانية، انه رفض لقيادة رأسمالية البنوك وقطاع النقل، رأسمالية الجبهة القومية الإسلامية لكل الرأسمالية السودانية، إن وجودها في معسكر الديمقراطية سيستمر مادامت رأسمالية الجبهة القومية الإسلامية تصر على فرض قيادتها، لان الرأسمالية التقليدية واثقة من عودتها للقيادة شرط عودة الديمقراطية كما كانت دون ما إصلاح ديمقراطي! وقد وقعت على الميثاق الذي ينادي بالاصلاح الديمقراطي لأنها وجدت نفسها في "امر ضيق". ولكنها ستعمل على ان يكون الميثاق شكليا، لذا لن تتحمس لتحضير التفاصيل والسياسات التي ستتبع بعد الاطاحة بنظام الجبهة القومية الاسلامية، انها لا تريد إن يكون البديل الديمقراطي مفصلا ومدروسا ومترجما في سياسات تمسك بها الجماهير حتى تتاح لها فرصة المناورة في الفترة الانتقالية.. يجب إلا ننسى ما توصلت له دورة الجنة المركزية في اغسطس 1987: "فالاحزاب الثلاثة(اتحادي، امة، جبهة) متفقة في المصالح الطبقية والاستراتيجية العامة في طريق التطور الرأسمالي وأيديولوجيا في الدستور الاسلامي وسيادة القومية العربية الاسلامية على بقية القوميات والاعراق السودانية"(ص 7) ولكن، وكما اقرت تلك الدورة ايضا، اننا ينبغي الا "نسقط العوامل الاخرى مثل التناقضات بين حزبي الائتلاف وداخل كل حزب، ولعبة التوازنات الحزبية..."(ص 8) والذي دلت الاحداث على صحته وساعد الحزب في اتخاذ التكتيكات المناسبة والتي ادت اخيرا لعزل الجبهة الاسلامية واقامة حكومة مارس 1989. لقد ترك النضال ضد نظام مايو اثره واضحا داخل حزبي الأمة والاتحادي وفي جماهيرهما، ويمكن للنضال ضد سلطة يونيو ان يعمق الآثار الديمقراطية ويزيد التناقضات داخل هذه الاحزاب! ان التطور المستقل للحركة الجماهيرية يعتمد بشكل اساسي على قدرتنا على تنظيمها وبث الوعي وسطها. وما زال صحيحا في هذا الصدد ما توصل له المؤتمر الرابع لحزبنا: "فالثورة تنتظرها ظروف غنية بالنضال الشاق باشكاله المختلفة، ويتوقف الكثير على مستوى حساسية الحزب الشيوعي وتجاربه مع كل منحنياتها واشكالها الغنية."(الماركسية وقضايا الثورة السودانية، دار الوسيلة، الطبعة الثانية ص 22) الديمقراطية ما زالت مفتاح الحل ومهما يكن موقف الاحزاب اليمينية داخل التجمع، فان النضال ضد ديكتاتورية الجبهة القومية الاسلامية، سيتخذ طابعا ديمقراطيا عاما، بينما الصراع داخل التجمع سيكون دائما حول "أي نوع من الديمقراطية؟" (اللجنة المركزية مايو 1965، مقتطف في الماركسية وقضايا الثورة ص 133). وسيكون ذلك موضوعا للصراع الاجتماعي اثناء النضال ضد ديكتاتورية الجبهة الاسلامية وبعد الاطاحة بها. ان تحقيق الثورة الوطنية الديمقراطية يعتمد على قدرتنا على "بذر وزرع" الشعارات الاساسية للتحول الديمقراطي في صلب الحركة الجماهيرية وكما اوضحنا من قبل "ان الضمان للديمقراطية في المستقبل هو النضال من اجلها تحت ظل الديكتاتورية"(الديمقراطية مفتاح الحل ص 11). وتظل الديمقراطية مفتاحا للحل لأنها، أي الديمقراطية، أصبحت بالنسبة لشعب السودان، ليست مجرد نظام سياسي، بل مجموع قيم إنسانية تتعلق بالحقوق الأساسية للمواطنين، وقد أثبتت التجارب منذ الاستقلال وخلال حكمين عسكريين وانتفاضتين شعبيتين إن الشعب السوداني يتمسك بالديمقراطية والحقوق الأساسية. الديمقراطية تظل مفتاحا للحل ايضا لأنها كأداة سياسية ومن خلال تجارب 54-1958،64-1969، و85-1989، توسع من نفوذ الحركة الشعبية والثورية، وتساعد في بناء ادوات نضالها الاخرى: صحف، نقابات، احزاب، اتحادات...الخ. الديمقراطية تظل مفتاحا للحل لان تجربة شعب السودان اثبتت ان نضاله من اجل تحسين مستوى معيشته وحقوقه الاقتصادية مرتبط باشاعة الديمقراطية وبوجود منظماته النقابية والاقليمية والقبلية، إلى جانب احزابه السياسية؛ كادوات للنضال الاقتصادي! وبالتالي اصبح النضال من اجل التنمية مرتبط بالديمقراطية وسيادتها وقد اثبتت تجارب حكمين عسكريين ان مصادرة الديمقراطية بحجة التنمية لم تؤد بالبلاد الا للخراب الاقتصادي. وهنا تكمن أهمية المناقشة التي تسود قطاعات المعارضة حول تفاصيل البرامج، خاصة الدستور وقانون الانتخابات، والسياسات المالية والاقتصادية التي تأتى بعد إسقاط ديكتاتورية الجبهة القومية الإسلامية وهذه المناقشات ستعكس مواقف اجتماعية متباينة وستمثل شكلا للصراع الطبقي، لذا ينبغي إلا تحبس في مدرجات واجتماعات التجمع المقفولة، لابد من نشرها وسط الجماهير السودانية. ان هذه المناقشات ينبغي الا تجعل من التجمع ناديا للحوار حول السياسات البديلة"، اذ انه وفقا لميثاقه اداة للنضال السياسي اليومي يطرح قضايا مثل: مقاومة الاعتقال والتشريد ومقاومة تنظيمات السلطة...الخ ومن هذا البرنامج تستخلص فروع التجمع في الخارج واجباتها اليومية في دعم النضال من الداخل: حملات التضامن وجمع المال للمعارضة بالداخل ولاسر المعتقلين وكشف سياسات السلطة. وفي تحديد هذه القضايا واسلوب النضال فيها سنواجه تيارات داخل التجمع تحاول لجم حركته أو تحديدها وفقا لافقها، ان هذه التيارات تنظر للمستقبل، وتستقرئ اثار حركة التجمع اليوم في صياغة الغد، وبحبسها والجامها لتطور الحركة الجماهيرية، تريد كما قلنا سابقا ان تحفظ مساحة للمناورة في الفترة الانتقالية من جهة وان تمنع تعمق الشعارات الديمقراطية وسط الجماهير من جهة اخرى لتحافظ على نفوذها.
الطابع الديمقراطي للثورة السودانية ولكن يبقى، مهما تعددت المتغيرات، إن نظرية الثورة السودانية في جوهرها نظرية للثورة الديمقراطية، وتظل قضية الديمقراطية هي محورها الرئيسي سواء في مواجهة قضايا الوحدة الوطنية وحل مسالة القوميات والأقليات أو التحول الاقتصادي والاجتماعي والتنمية أو في مواجهة قضايا الثورة الاشتراكية في المستقبل. مما يجعل موقف الشيوعيين السودانيين العملي والنظري من قضية الديمقراطية ذا اهمية كبرى بالنسبة لحاضر ومستقبل الثورة السودانية وعنصرا هاما في تكوين نظرية تلك الثورة. وسنتناول موقف الشيوعيين ونظريتهم من قضية الديمقراطية فيما يلي.
#صدقي_كبلو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وداعاً مصطفى الشيخ ...وداعاً أيها الصديق العزيز .. وداعاً أي
...
المزيد.....
-
بعد استخدامه في أوكرانيا لأول مرة.. لماذا أثار صاروخ -أوريشن
...
-
مراسلتنا في لبنان: غارات إسرائيلية تستهدف مناطق عدة في ضاحية
...
-
انتشال جثة شاب سعودي من البحر في إيطاليا
-
أوربان يدعو نتنياهو لزيارة هنغاريا وسط انقسام أوروبي بشأن مذ
...
-
الرئيس المصري يبحث مع رئيس وزراء إسبانيا الوضع في الشرق الأو
...
-
-يينها موقعان عسكريان على قمة جبل الشيخ-.. -حزب الله- ينفذ 2
...
-
الرئيس الصيني يزور المغرب ويلتقي ولي العهد
-
عدوى الإشريكية القولونية تتفاقم.. سحب 75 ألف كغ من اللحم الم
...
-
فولودين: سماح الولايات المتحدة وحلفائها لأوكرانيا باستخدام أ
...
-
لافروف: رسالة استخدام أوريشنيك وصلت
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|