وليد يوسف عطو
الحوار المتمدن-العدد: 4214 - 2013 / 9 / 13 - 14:20
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
( ان يخطيء الامام في العفو ,احب الي من ان يخطيء في العقوبة ) حديث قدسي
( 1 ): ظاهرة التكفير في زمن التفكير
كتب الباحث محمد عبد الحميد الحمد في كتابه :
( صابئة حران والتوحيد الدرزي )- ط4 – 2011- دار الطليعة الجديدة – سورية – دمشق :
( على اثر توسع الدولة (العربية )المسلمة ,احتوت الثقافة الاسلامية ثقافات متعددة , وبرزت جماعات تناقش علاقة الله بالفرد وحرية الانسان . كان ذلك في مجتمع دمشق زمن بني امية ,عندما بدات الدولة بقطع رؤوس والسنة من يمس بامن الدولة او العقيدة , فقتل رجال مشهود لهم بالزهد والعبادة وسعة الثقافة امثال غيلان الدمشقي (قتل 107 هجرية – 726 م ) والجعد بن درهم (124 هجرية ). وفي هذه الحقبة ظهرت حركة تدوين الحديث وتكوين الحلقات الفكرية . وفيها روي حديث منسوب الى رسول الله :( ستتفرق امتي الى بضع وسبعين فرقة كلهم الى النار الا الفرقة الناجية , قيل وماهي الفرقة الناجية ؟ قال :ماانا انا عليه واصحابي ).
من هنا انطلقت كل الفرق تدعي انها الفرقة الناجية .المتشددين وعلى راسهم الامام احمد ابن حنبل واصحابه , قالوا بقتل كل اهل البدع والاهواء لانهم كفار , تحل دماؤهم واموالهم غنيمة للمسلمين . ومنهم ابن حزم (المتوفى 456 هجرية )اخرج من اهل الاسلام كل المتصوفة واهل (البدع )من الفرق الاربع حسب رايه : المعتزلة والمرجئة والخوارج والشيعة , وان كان هؤلاء هم معظم المسلمين
( 2 ) :المعتزلة والمامون ومسالة خلق القران وعلاقتها بالتشيع
يكتب الباحث فوزي البدوي في كتابه : ( من وجوه الخلاف والاختلاف في الاسلام بين الامس واليوم )- ط1 – 2006-دار المعرفة للنشر ,عن قضية المحنة . حيث كتب المامون قبل وفاته ( 218 -833 ) الى اسحاق بن ابراهيم في امتحان القضاة والمحدثين . وقد استمرت مسالة المحنةوالقول بخلق القران بعد وفاة المامون في زمن الواثق . ولما تولى المتوكل الخلافة نهى عن الجدال في القران وغيره.
(3 ) :يكتب الباحث البدوي في كتابه اعلاه بمقال تحت عنوان (المحنة وحرية التفكير الديني في الاسلام الكلاسيكي ):
ان المحنة هذه التي صورت على انها اولى صور محاكم التفتيش في الضمائر , واول ضروب الاعتداء على حرية التفكير , وتدخل الدولة في مصادرة حق التعبير , لاصلة لها بمثل هذه المفاهيم الحديثة نسبيا والتي ظهرت في سياقات تاريخية واجتماعية مختلفة لم يعرف المجتمع الاسلامي الكلاسيكي شروطها ...ان اعلان الامتحان المحنة من قبل المامون,انما كان محاولة ثانية لاعادة لم شتات الخلافة المشتت سياسيا منذ استيلاء العباسيين على السلطة ومناصبة الشيعة العداء لهذه السلطة , ومعارضتهم لها تقية حينا وعلانية حينا اخر .فبعد السياسات القمعية التي انتهجها المنصور وهارون الرشيدد تجاههم , وبعدان جرب المامون بنفسه القضاء على ثورة ابي السرايا في العراق , قدر ربما انه ان الاوان لجبر الخواطر لمصلحة الخلافة العباسية نفسها ان يعلن اجراء فيه مصالحة للشيعة وهو ماقد يفسر مالجا اليه من تعيين علي بن موسى الكاظم وليا للعهد وتلقيبه ب (الرضا من ال محمد ) .
ولكن هذه المحاولة فشلت اخيرا بسبب تردد المامون في حسم مشكلة ولاية العهد من بعده . اضافة الى وفاة علي الرضا موتا غامضا . ان صفات علي الرضا كما يبين الباحث البدوي لاتكفي لشرح اتخاذ المامون خطوة سياسية بمثل هذه الاهمية , بل يجب توجيه التعليل نحو ذلك التاثير الذي كان للفضل بن سهل على المامون وبقائه هو نفسه في خراسان مما جعله مجبرا على مجاراة الخراسانيين وفوت عليه ادراك حجم الوضع السييء والتوتر في بغداد حنى سنة 202 حين اخبره الرضا نفسه بذلك . وعندئذ فقط فهم المامون نوايا بني سهل وخطورة وضعه السياسي , فتخلص من الفضل بن سهل ثم من الرضا على ذلك النحو الغامض وعاد الى بغداد نزولا عند راي قواده : ( اذ الراي ان تسير بنفسك الى بغداد ) .
ان هذه البيعة لم تقرب جميع العلويين من المامون بل قسما منهم فقط . وقد ربط المامون بين البيعة لعلي الرضا والقول بخلق القران .
ان القول بخلق القران كما يؤكد الباحث فوزي البدوي هو وثيق الصلة بالتشيع . ذلك ان القول بخلق القران هو الذي يسمح بالقول بان القران قد لحقه التبديل والتغيير في بعض مواضعه.
كما ان القول بخلق القران يسمح باعطاء دور للائمة المعصومين في توجيه دلالاته ومعانيه في مجال العقائد والايمان .
ويظهر الميل الشيعي لدى المامون في موضعين على الاقل حينما قال : ( اذا مت فليتقدم بها من هو اقربكم لي نسبا واكبركم سنا ,فيكبر خمسا ) . وحينما دعا ابا اسحاق المعتصم حين اشتد به الوجع فاوصاه ( وهؤلاء بنو عمك من ولد امير المؤمنين علي بن ابي طالب رضي الله عنه , فاحسن صحبتهم , وتجاوز عن مسيئهم , واقبل من محسنهم , وصلاتهم فلا تغفلها في كل سنة عند محلها , فان حقوقهم تجب من وجوه شتى ) .
وفي اعتقاد الباحث فوزي البدوي ان اتخاذ المامون للمعتزلة ادوات لتنفيذ اهدافه السياسية هذه يفسر برغبته في ان يتولاها ممن ينتمون الى السنة عموما . وهو امر اقل مدعاة للغضب من اتخاذ علويين لتنفيذها .ومما زاد من شرعية التجاء المامون الى المعتزلة وتقريبه لهم ما كان من الصلة بين الاعتزال واتخاذ المذهب الحنفي في الفقه ... لقد التقت مصالح المامون بمصالح المعتزلة لخدمة سياسية علوية كانت ترمي في جوهرها الى جمع شمل الخلافة .وهو مانلمسه في وصية المامون لاخيه المعتصم بان قدم ( ابا عبدالله بن ابي داوود فلا يفارقك واشركه في المشورة في كل امرك فانه موضع لذلك منك ) .
( 4 ): حرية التفكير
ان المصادر القديمة لم تتحدث عن المحنة بما يوحي انها امتحان لما نسميه اليوم ب ( حرية التفكير او التعبير ) . وذلك لان المسالة لم تطرح في هذا المستوى اطلاقا , بل بقيت باعتبارها ( محنة ) او ( نكبة ) داخل اطار الجماعة الاسلامية وضمن مقولات ( الايمان ) و ( التكفير ) والخروج على الدولة و (الطاعة ) و (العصيان ) .
وهي لم تطرح باعتبارها من قضايا حرية التفكير الا لدى جيل النهضة الحديثة المتصلين بقيم الليبرالية الغربية كما عرفت في نسختها العربية . هؤلاء الذين لم يعرفوا الحرية الا كشعار لايستند الى نظرية في الحرية بصفة عامة , والحرية في مجال الدين بصفة خاصة. انما تتمثل في الصراع داخل الفضاء الديني الواحد من اجل ميراث النبوة , صراع على من يكون وريث الانبياء هل هم الخلفاء ام العلماء ؟. وما فشل المامون ومن جاء بعده الا دليل على فشل رجال الدولة في بلورة ماهو الاسلام ؟وما فشل الاعتزال في فرض تصور معين للاسلام الا ايذان بفشل كل محاولة لتماهي العلماء بالسلاطين مستقبلا وايذانا باستقلال كل منهم بسلطته .
فالصراع في المحنة كان في الواقع صراعا حول السلطة في مفهومها الواسع فتخلى العلماء للسلاطين عن الحكم في مقابل حصولهم على (الحاكمية ).
ان المطالبة بحرية الضمير كانت من مطالب الاقليات الدينية المنبثقة عن حركة الاصلاح اللوثري . وفي فشلها في انتزاع اعتراف الكنيسة الكاثوليكية ستنشا مطالبتها بهذه الحرية , حرية الضمير التي ستجد دعما قويا لها من فلاسفة القرن الثامن عشر , ومن البرجوازية , والارستقراطية ذات المنحى الليبرالي والعقلاني , ومن انتصارها الفعلي بدءا من الثورة الفرنسية وميلاد المجتمع الحديث .
ان المحنة لاتعبر عن اشكالية الحرية في مجال الديني فالاسلام الكلاسيكي لم يعرف هذه المفاهيم التي سعت الليبرالية العربية في عصر النهضة بسذاجتها الى ان تجد لها حضورا في الفكر الاسلامي الكلاسيكي . والمتدينون الذين يرون في هذه المحنة انتصارا لحرية الفكر ضد السلطة الجائرة , انما يعبرون عن اشكالية المرحلة التاريخية الراهنة في صراع القوى الاجتماعية اليوم . ويعكسون بالتالي موازين قوى اجتماعية وسياسية مختلفة .الحرية الدينية لم توجد في الماضي (في المجتمعات الاسلامية ) , لكنها قد توجد في المستقبل . وهو يستدعي اتخاذ علاقة راديكالية مع تراثنا الديني والسياسي , وذلك لان كل كلام في الحرية في المجال الديني ( كما علمنا الدرس الهيجلي ) انما هو كلام في الدولة , وهو ايضا كلام في الدين .لان حرية التفكير في المجال الديني تستدعي بالضرورة الانخراط في اسئلة العصر الكبرى . وان ينظر المتدين الى هذه الحرية باعتبارها انخراطا في العقلانية النقدية الحديثة تحريرا للذات وقبولا بحرية الاخرين .
الحرية في مجال الفكر الديني هي مغامرة قبل كل شيء , تستدعي نمطا جديدا من المؤمنين يدركون ان الله حر يخاطب احرارا بخطاب هو خطاب الحية بالمفهوم الهيدغري للكلمة .
لذا يؤكد الباحث البدوي ان المسلم اليوم مدعو الى ان يعيد تاويل الاسلام وعقائده انطلاقا من مبدا الحرية . ومن التزام اخلاقي جديد والتزام معرفي تفرضه اشكاليات الحقبة الراهنة . وان يعيد احياء سنة متكلمي السلف فينخرط في حوار حقيقي مع تيارات الفكر اللاهوتي الفلسفي المعاصر بمختلف اتجاهاته ,كما فعل ارنست بلوخ وربط بينها وبين الماركسية باعتبارها الشكل التاريخي المعين لهذا الامل . او كما فعل يورغن مولتمان في رده على مشروع بلوخ هذا في كتابه ( ثيولوجيا الامل ) معيدا تاويل المسيحية انطلاقا من النزعة الاخروية فيها باعتبارها منبع الامل والحرية محولا اياها من مجرد ايمان يبحث عن تعقل ذاته الى امل ينشدهذا التعقل .
وكما ان كل كلام في الحرية هو كلام في الدين , فان كل كلام في الحرية هو كلام في الدولة والسياسة كذلك . والصلة واضحة ذلك ان حرية التعبير في سياق الحريات في العصر الحديث انما هي جزء من حريات كثيرة ومتصارعة .وهي تدفعنا الى صلب المشكلة السياسية , لان هذه الحرية تجد نفسها في موقف حرج بين حرية التفكير التي تريد ان تكون مطلقة وبين حرية الفعل التي لايمكن ان تكون على هذا النحو من الاطلاق . ذلك ان الحرية في عصرنا تنجب دوما حريات اخرى تصارعها وتذكرها بهشاشتها . واذا كان المقصود بحرية التعبير , التنازل عن الحق في الدعوة الى دين معين او مذهب في الفكر معين , وحمل الناس عليه برفق واقناع ,فان الامر سيتجاوز انذاك مجرد الاعتقاد الفردي والحريات الفردية الى التعبير العام عن الراي . ولن تكون الحرية الدينية الا صورة من صورها الكثيرة .وهذا التنازل عن ممارسة الحق يدفع اليه توضيح حدود استعمال العنف والقوة العامة , اي الدولة في حماية هذا الحق وبيان حدوده .وهذا الحق هو جزء من العقد السياسي الذي يجعل الحقوق امرا متبادلا بين الافراد مما يعني ان هذه الحرية تجد اساسا في الاعتراف المتبادل بين مختلف الارادات الحرة
داخل اطار مجموعة سياسية تقبل الاعتراف بان السياسة تقوم على مبدا التعارض وقبول الحل الوسط . وتجيد التفريق بين التنازل الناتج عن التعارض , والتنازل بما هو خضوع ورهبة .
ان الحرية في مجال الدين والتعبير عنه لن تصير بعد ذلك سوى بعد ثقافي وقوة اجتماعية لاسبيل الى نكرانها .وسيقوى الايمان بحرية التعبير في مجال الدين وستزداد مشروعيته حين ندرك في ظل هذا النظام التعاقدي ان الدين ليس هو وحده المنتفع بذلك .
الحريات هي ظاهرة جديدة نشات تاريخيا في غير هذا المحيط العربي الاسلامي .ولا حرج من الاقرار بذلك .
ان الدعوة الى الحرية في مجال الدين يجب ان يكون فرصة تاريخية نادرة لمؤمنين المعاصرين من اجل تاويل جديد للدين وفهم جديد اللدين انطلاقا من مبدا الحرية والامل ,واستيعابا لظروف عصرنا الجديدة وقوفا في وجه هيمنة سلطة الدولة الحديثة الاخطبوطي .
#وليد_يوسف_عطو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟