محمد فيصل يغان
الحوار المتمدن-العدد: 4212 - 2013 / 9 / 11 - 11:25
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
نشير بداية إلى أنّنا اخترنا مصطلح نمط للتمييز والقطع مع ما قد يحمله من دلالات مصطلح (العقلية), فالأوّل لاشخصاني إن صح التعبير على عكس الثاني الذي يفيد بدلالات شخصانية تصنيفية بحق البشر إذ تربطه بمفهوم العقل في مستواه الثاني أواصر قربى. في حين أنّه يمكن للبعض إطلاق المقولة التالية عن العقلية, إلا أنّها لا تستقيم في حق النمط: (وفي الوقت الذي لا نقتدر على تغيير عقليتنا بإرادتنا, فإنّها غير قابلة للتحطيم من الخارج. فقد نجبر على أداء أعمال معاكسة لاقتناعاتنا, أو على إظهار عقيدة معينة, ولكن لا يمكن أنْ نُكره على الاعتقاد حقا وعلى استبطان العقيدة المفروضة علينا من الخارج وتحويلها إلى اقتناع داخلي) - جورج طرابيشي, نقد نقد العقل العربي, نظرية العقل, دار الساقي بيروت -
من مناقشات سابقة للآليات العقلية المتاحة للإنسان في إنتاج المعرفة (انظر سلسلة مقالاتي المنشورة في نفس الموقع), وجدنا أنَّ النمطين الرئيسين اللذين يسودان النماذج المعرفية هما النمط الحدسي أو الباطني العرفاني والنمط العقلي الموزون. ومع ظهور المدارس الفكرية, وأهمية المنطلقات المؤسسة لهذه المدارس والتي تناقلها الأعضاء من جيل إلى جيل, نصا شفهيا أو مكتوبا, ظهر النمط البياني (حسب تعريف الجابري) متداخلا حينا ومتوازيا أحيانا مع النمطين الأوليين. وعليه يمكن تصنيف الأنماط مبدئيا إلى:
أ- النمط المعرفي المدرسي-البياني
ب- النمط المعرفي الحدسي – الغيبي
ت- النمط المعرفي الموزون أو ما اصطلح عليه بالعقلانية
بخصوص التسميات, فقد آلينا اختيار تسميات (المدرسي, الحدسي - الغيبي, الموزون) لكشف الطبيعة العمومية لهذه الأنماط, والتنبيه إلى حقيقة أنَّ العقل البشري قد وظف هذه الأنماط الأساسية بالتزامن والتوازي, بدرجة أو بأخرى, ضمن أنظمة معرفية تحددها الشروط الموضوعية والتاريخية المحيطة, فإذا ما ساد أحد هذه الأنماط على النتاج الثقافي الرسمي في مرحلة معينة, وطبع العقل في تلك المرحلة بطابعه لأسباب تاريخية وموضوعية خاصة (مثال النمط المعرفي المدرسي-البياني الذي ساد على النظام المعرفي العربي الإسلامي للفئة الموالية للنظام السياسي القائم في الإمبراطورية الإسلامية , أو النمط الحدسي - الغيبي الذي ساد على النظام المعرفي المؤسس للمعارضة لذلك النظام) - الجابري, تكوين العقل العربي - فإنَّ هذا لا يبرر تعميم هذه الأنماط واعتبارها نظاما معرفيا خالصا وخاصية من خواص العقل المعني, فليس هناك في تاريخ البشرية جمعاء نظاما معرفيا نقيا يقوم بمجمله على نمط واحد, والأمثلة التي سنستعرضها لاحقا ستؤكد هذه الحقيقة. وعليه, فالتعريف التعسفي للعقل على أنّه أحد هذه الأنماط السائدة في مرحلة ما, يعكس موقفا مسبقا مبنيا على نظرة إيدولوجية عنصرية, فوقية أو دونية نسبة لانتماء الكاتب. وكنا قد وضًحنا في سياق تعريف العقل (أنظر مقالي المعنون تعريف العقل), العلاقة الجدلية ما بين النمط الذي يوظف فيه العقل-الأداة وبين الموضوع.
إنّ تجاهل حقيقة وحدة العقل البشري في مستواه الأوّل (أو ما يسمى بالعقل المكوٍن بتشديد و كسر الواو) كمعطى ثابت, وحقيقة تنوع المستوى الثاني (العقل المكوٌن بتشديد و فتح الواو) بتداخل الأنماط الثلاثة المذكورة بتشكيلات مختلفة تحدد شكل النظام المعرفي السائد في مكان وزمان محدد, تشكيلات متغيرة تحددها الظروف التاريخية والموضوعية, يؤسس لنظرة أحادية تهدف لحجب الحقائق وتبرير أوضاع تاريخية قائمة مؤقتة بطبيعتها, على أساس أنَّ هذا النمط لهذا العقل هو ثابت من ثوابت كونية إلهية وأن تقدم بعض المجتمعات وتخلف البعض الآخر, وحتى التمايز بين الطبقات في المجتمع الواحد هو مشيئة إلهية مقررة ومن العبث أن نحاول تغييرها.
يتمحور مشروع الجابري و مريديه من بعده و آخرون من قبله حول كون العقل العربي مدرسيا بيانيا في جوهره, وأنَّ إنتاجه الثقافي لا يتجاوز علوم اللغة والدين (إذ إنَّ العقل المدرسي العربي يقتصر تعريف العلم على هذين المجالين فقط), وأنَّ الغيبية-العرفانية والعقلية- البرهانية (حسب تسميات الجابري) هي غزو من الخارج, وبناء على هذا التعريف النمطي الأحادي, تتحدد أشكالية العقل العربي بصراع هذه العقول النمطية الثلاثة التي تتقاذف العقل العربي كالكرة فيما بينها. كما يُنعم هذا التعريف بالصفة العقلية - البرهانية على العقل الأوروبي من خلال مقارنات للحظات معرفية منزوعة من سياقها التاريخي.
وبهذا الخصوص, أي بخصوص (عقلانية) العقل الإغريقي – الأوروبي, فان التخريجات المقترحة من قبل الجابري في كتابه تكوين العقل العربي لمفاهيم العقل الكوني عند الإغريق والإله عند المسيحيين الأوروبيين, لا تعفي (العقل الإغريقي – الأوروبي) من كون المدرسية, والحدسية - الغيبية, عناصر أصيلة في تشكيل النظم المعرفية لهذا (العقل) في مراحل تاريخه المتعددة وحتى اليوم. فهذه التخريجات تعكس انتقائية يفرضها موقف إيديولوجي ينكره ويستنكره الجابري ولكنه حاضر على مدى مشروعه.
إنَّ الظروف التاريخية والموضوعية المصاحبة لظهور الفكر الحدسي - الغيبي الإغريقي, وكذلك تلك المصاحبة لظهور وانتشار المسيحية في أوروبا, والأدوار التي لعبتها, تختلف اختلافا جذريا عن ظروف ظهور وانتشار الإسلام والأدوار التي لعبها في المجتمعات العربية الإسلامية. فالمسيحية التي ابتدأت في فلسطين كحركة سياسية, ومطالبة شخص يسوع بالحكم كونه من بيت داود - د. كمال الصليبي, البحث عن يسوع, قراءة جديدة في الأناجيل, دار الشروق للنشر والتوزيع - اندحرت وانكفأت إلى الخارج, وتحولت تدريجيا من حركة سياسية قائمة على دعوى إصلاح المؤسسات الإجتماعية-الدينية القائمة في حينه, بالعودة إلى الدين القومي اليهودي, تحولت دعوى ألإصلاح هذه إلى دعوة لديانة أممية ترفض أو على الأقل لا تشترط الإيمان بالتمايز اليهودي (شعب الله المختار), وبالأخص على أيدي أتباع يسوع ممن نشأوا في بيئة غير يهودية (القديس بولص وقد نشأ في الأناضول التي سادت فيها الثقافة الهيلينية) - من أجل رؤية مغايرة للعالم والإنسان, حميد باجو, شبكة المعلومات الدولية -
وخلال رحلتها الطويلة عبر الشرق الهيليني والإمبراطورية الرومانية, وصولا إلى أوروبا, شكلت المسيحية مضمونها الفكري بتشرب خليط من العقائد والفلسفات من عبرانية وأفلاطونية وأرسطية, التي عايشتها هذه الحركة المسيحية, فتحت عنوان المحبة الهيلينية للحكمة - تكوين العقل الحديث, جون هرمان راندل - نقرأ النص التالي (أصبح حبّ اليونان للمعرفة من مقومات التقليد المسيحي ولكنه انعكس كتعقيد فكري عقائدي أكثر مما أخذ شكل إيمان قوي بالذكاء الإنساني) وتحت عنوان الأفلاطونية نقرأ من المرجع نفسه (وبالرغم من أن مفكري القرون الوسطى عرفوا ما كتبه أرسطو أكثر بكثير من معرفتهم لما كتبه أفلاطون, فقد كانوا مع ذلك أفلاطونيين أكثر منهم أرسطوطاليسيين.) وأيضا تحت عنوان الزهد الديني الشرقي نقرأ (تعاقب آباء الكنيسة فيما بعد ووضعوا اللاهوت المسيحي بجميع تفاصيله تحت تأثير متزايد للأفلاطونية المحدثة). أي أن الأنماط المعرفية الثلاثة (كما سنرى بمزيد من التفصيل لاحقا) تداخلت في تشكيل النظام المعرفي للعصور ألوسطى في اوروبا حسب ما أملته ألظروف ألتاريخية والموضوعية للمرحلة, تماما كما تتشكل كافة النظم المعرفية الانسانية.
أمّا الإسلام, فكان بالأساس ومنذ نشوئه, مشروع دولة أممية قائمة على مرجعية دينية بسيطة ومعروفة (الحنيفية), والمضمون الفكري للإسلام تطور وتشكّل كما هو معروف كضرورة تاريخية في ظلّ الدولة الإسلامية, وبجزء كبير منه, لخدمتها في إدارة هذه الإمبراطورية المتوسعة بسرعة البرق (تطوير علوم الشريعة والفقه), هذا من جانب, ومن جانب آخر للحفاظ على شرعية النظام الجديد (علوم العقيدة) أمام الهجمات السياسية المستترة بغطاء فكري فلسفي.
ومع اشتراك المنابع بين الفكرين, إلا أنَّ الأدوار التاريخية والاجتماعية التي لعبتها (المؤسستان) كانت مختلفة.
ما نود قوله هنا, أنّ مقارنة تجليات العقل البشري في الشرق الإسلامي والغرب المسيحي وكذا الإغريقي في لحظات تاريخية مختلفة (العربي الإسلامي في الفترة القروسطية مع الأوروبي في العصور الحديثة, والإغريقي في العصور القديمة), وبمعزل عن النسق التاريخي, تحجب وبالضرورة وحدة العقل البشري, وتؤدي لتشكيل انطباع خاطئ مؤداه اختلاف العقل باختلاف البشر.
الهدف من هذه السلسلة, هو إثبات حقيقة وحدة العقل البشري من خلال إثبات وحدة المستوى الأوّل للعقل ولاتاريخيته النسبية ومن ثم, اثبات نسبية تداخلات أنماط المستوى الثاني في لحظة ثقافية معينة, وطبيعة هذه التداخلات التاريخية, ترسيخا للحقيقة القائلة بأن أي شعب, إذا أراد, يستطيع أنْ يتطور وأنْ يتقدم بلا حدود بشرط استيعاب حقائق التاريخ وتفهم واقعه التاريخي, وطبيعة القوى الداخلية والخارجية الفاعلة والمحددة لهذا الواقع, وأنّه غير محكوم عليه مسبقا بمكانة محددة على سلم الأمم.
في مقالات قادمة سنقوم بتقديم بعض الأمثلة من مناحي مختلفة للثقافة الإنسانية, قديمها وحديثها, عربية وأوروبية, ونقوم من خلال تشريح هذه الأمثلة بتوضيح وإثبات ما نرمي إليه.
#محمد_فيصل_يغان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟