|
وكر الشيخ
وليد الحلبي
الحوار المتمدن-العدد: 4211 - 2013 / 9 / 10 - 20:15
المحور:
كتابات ساخرة
في ستينيات القرن الماضي، أدمنت على قراءة مقالات كان ينشرها الكاتب المصري الساخر (محمود السعدني) في مجلة روز اليوسف على ما أذكر، بعنوان (يوميات حشاش)، إذ كان يبدأ مقاله بموضوع معين، ويختمه بموضوع ليس له علاقة بالموضوع الأصلي، مروراً بمواضيع عدة ربما بلغت العشرة، بدون أن تكون لأي منها علاقة بالمواضيع الأخرى،وأحسب أن الرجل كان يريد أن يقول أشياء ربما كان من الحرج قولها في ذلك الزمان، فلجأ إلى حيلة أنه يكتب بدون تركيز وكأنما هو تحت تأثير الحشيش، فلا ملامة عليه إذن ولا تثريب أمام السلطات، فقد رُفِع عنه القلم. ومع أنني لم أعرف حشيشة الكيف في شبابي، ومن المعيب لي أن أعرفها في كهولتي، إلا أن هذا المقال سوف يبدو، نظراً لتنوع الأفكار الواردة فيه وتفككها وتناثرها، وكأنه (يوميات حشاش). عندما أعربت عن نيتي قضاء إجازتي في شرم الشيخ، قامت عليّ قيامة أسرتي وأصدقائي، واتهموني بالتهور واللامبالاة، رغم علمهم بمتابعتي أخبار المحروسة دقيقة بدقيقة، وكان ظنهم أن الداخل إلى مصر هذه الأيام مفقود، والخارج منها مولود. شرحت لهم بأنني ذاهب إلى شرم الشيخ فقط، فافترضوا أنني أجهل أنها في مصر، رغم علمهم هوسي بالجغرافيا. ضاق صدري بجهلهم، فاضطررت أن اشرح لهم بأن ما يدعى (شرم الشيخ) هو في الحقيقة مكان يصنف على أنه في مصر، لكن هذا التصنيف سياسيٌّ جغرافي وليس حقيقياً، إذ أن هذا المكان – لوقوعه على النهاية الجنوبية الشرقية لشبه جزيرة سيناء -، فهو محاط بسلاسل جبلية شديدة الوعورة، مما يجعل الوصول إليه مستحيلاً إلا عن طريق الجو، أو عن طريق بري وحيد تمكن السيطرة عليه بحاجز يحرسه عشرة من رجال الأمن المبتدئين، و بدايةً، فقد وعى جيلنا ذكر اسم هذا المكان بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 56، وبعيد حرب حزيران 67. بعد العدوان الثلاثي حصلت إسرائيل على حق مرور سفنها من مضيق تيران، وهو مضيق محصور بين البر المصري (شرم الشيخ) في الغرب، والبر السعودي (جزيرة تيران وجزيرة صنافير) في الشرق. كثر اللغط حول الجزيرتين، فتفرق دمهما بين القبائل، فمن قائل أنها سعودية، تنازل عنها الملك فيصل لمصر كي تقوم بمنع إسرائيل من الخروج من ميناء إيلات، وذلك نظراً لضعف إمكانيات المملكة العسكرية، ومن قائل أنها في الأصل مصرية، إلى جانب أقوال بعض الخبثاء بأن السعودية سمحت لإسرائيل باحتلالها كي تفاوضها عليها لاسترجاعها في مرحلة لاحقة مقابل معاهدة سلام معها، تماماً على غرار ما سمعناه للمرة الأولى – قبيل توقيع اتفاقية وادي عربة – أن إسرائيل كانت تحتل منذ حرب عام 67 أراضٍ أردنية شرق نهر الأردن، لم يكن أحد يعلم عنها أي شيء حتى ذلك الحين. لكن المؤكد فقط هو أن إسرائيل احتلت هذه الجزر وموقع شرم الشيخ في حرب عام 56، فخرجت سفنها من قمقمها ميناء (إيلات) باتجاه أفريقيا وآسيا، ثم خرجت منها بعد دخول القوات الدولية إليها، لكي تعيد احتلالها ثانية بعد حرب 67. بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 78، لم يعد لمصر حق التواجد في المنطقة سوى بشرطة مدنية، واستمر البحارة الإسرائيليون، إلى اليوم، يمخرون بسفنهم مضيق تيران، شمالاً وجنوباً، وهم يراقبون البرين السعودي والمصري بمناظيرهم المقربة، بينما يمدون ألسنتهم للأعراب الواقفين على الشاطئين. بعد تولي حسني مبارك الحكم عام 1981، انصب اهتمام الاستثمار الخليجي والعربي على إعمار موقع شرم الشيخ، والذي كان صحراء قاحلة، بالعديد العديد من الفنادق والمنتجعات التي بلغ عددها الآن أكثر من أربعمئة، والتي يفد إليها السياح الأوربيون برحلات مباشرة إلى مطار شرم الشيخ الدولي، أما الإسرائيليون فقد أصبحوا يفدون إليها دون الحاجة إلى جوازات سفر، فرخصة القيادة منهم تكفي، أليسوا أولاد عمومة؟، ونظراً لسهولة إحكام السيطرة على هذه المنطقة، نظراً لانعزالها الجغرافي الذي وفر لها ضمانة أمنية مطلقة، فقد اتخذها نظام حسني مبارك وكراً لاستضافة أصدقائه الإسرائيليين – بعد أن أصبح كنزهم الاستراتيجي – من أجل توقيع اتفاقيات تصب جميعها في مصلحة إسرائيل من ألفها إلى يائها، ومنذ ذلك الوقت وأنا أطلق على هذا الموقع اسم (وكر الشيخ)، مع أن الكثيرين عتبوا عليَّ، وقالوا بأن هذا الوصف عيبٌ وغير مناسب، ولا يليق بأديب مثلي!!!. لا علينا، ضربتُ بتحذيرات الآخرين عرض الحائط وقصدت الوكر. في مطار شرم الشيخ الدولي، سألني ضابط الجوازات – وهو برتبة مقدم – إذا ما كنت أتكلم العربية، فقلت: نعم. قال ما هو أصلك؟. كدت أقول له بأنني هربت من هذا السؤال السفيه منذ عشرين سنة، أفلا يكفي أنني أتكلم العربية؟، لكنني توخياً للسلامة وتجنباً للندامة، همست بصوت خفيض – خشية أن يسمعني أحد سواه –: ( فلسطيني يا بيه). في مصر هذه الأيام إن علم الآخرون أنك فلسطيني، فأنت مصنف على أنك حماس "العدو الجديد اللدود لمصر هذه الأيام عوضاً عن إسرائيل"، وإن قلت أنك سوري، فأنت من الجيش الحر الذي يريد إسقاط قلب محور المقاومة!!!، فكان جوابي همساً، ولولا أن الذي كان بين يدي ضابط الجوازات جواز سفر أمريكي، لكان أعادني على نفس الطائرة إلى مطار عمان، الذي كان سوف يعيدني بدوره على نفس الطائرة لا أدري إلى أين، وربما قضيت شهرين في الجو، بين مطار شرم الشيخ ومطار عمان وغيرهما من المطارات، أتفرج على بلاد الله مجاناً، ولكن الله سلم. في هذه اللحظات تذكرت كيف أُعِدت – عندما كنت شاباً فلسطينياً بوثيقة سفر"من غير اليوم" – مرتين: واحدة من مطار القاهرة إلى مطار دمشق عام 1971، والمرة الثانية من مطار عمان إلى مطار لارنكا في قبرص عام 1982، فسفر الفلسطيني حامل وثيقة السفر في بلاد العرب تجربة مذهلة مذلة لا يعرف حجم الذهول والذل فيها إلا من مر بها، أو مرت به، لا فرق، لكن الغريب في الشعور بالذل – وذلك بتجربة شخصية – أنه يخدر الأعصاب، فتهدأ النفس، وينسى الذي تعرض للإذلال ما هو فيه، وينصرف ذهنه إلى ذاك الذي يمارس ماسوشيته بإذلال الآخرين (أقصد الفلسطينيين)، ويتساءل بينه وبين نفسه عما إذا كان ذلك المتعجرف المتخشب أمامه ينتمي إلى الجنس البشري، أم إلى فصيل آخر من فئة ذوات الأربع، لكن والحق يُقال، فإن الفلسطيني الذي يمن الله عليه بجنسية محترمة، يفتقد هيبة المسافر المتميز، فقد كنتَ بمجرد دخولك كفلسطيني إلى صالة القدوم في أي مطار عربي، تحظى باستقبال حافل يشبه المهرجان، يحضره مدير المطار ومدير الجوازات ومدير الأمن وثلة من رجال المخابرات والأمن المركزي ورجال مكافحة الشغب والحجر الصحي والجمارك، وربما صحبتهم الكلاب البوليسية المدربة على تمييز رائحة وثيقة السفر دون غيرها من جوازات السفر،،، يتحلقون حولك، دافعينك – بمنتهى اللطف واللباقة والأدب – إلى نفس الطائرة التي قدمت على متنها، كي تعيدك من حيث أتيت – هذا إذا لم يُلقوا بك في التخشيبة إن كان موعد إقلاع طائرتك في اليوم التالي -، من ذلك أذكر أنه أصابني الإحباط ذات مرة عندما دخلت مطار شارل ديغول بجواز سفري الأمريكي لقضاء بضع ساعات في باريس، أتابع بعدها رحلتي. نسيت بأنني أحمل جواز سفر أجنبياً، فارتعدت مفاصلي قبل وصولي إلى موظف الجوازات الفرنسي – وهي فوبيا لا علاج لها، ربما ما زلت أعاني منها حتى الآن، كجميع الفلسطينيين حملة الوثائق، كلما اقتربت من موظفي الجوازات -، وتهيأت للأسوأ، لكن شعرت بالإحباط عندما أشار لي الموظف بإصبعه لكي أعبر، وذلك بمجرد أن رأى غلاف جواز السفر وأنا أرفعه بيدي المرتجفة، دون أن يكلف نفسه مشقة النظر في الجواز أو ختمه، أو حتى عناء التوقف عن محادثة زميله. ساعتها شعرت أنني افتقدت شيئاً لازمني طيلة حياتي: مهرجانات رجال الأمن، والحفاوة التي كنت أستقبل بها على أرض العرب، عندما كنت – ولا مؤاخذة من غير اليوم - فلسطينياً. نعود إلى صاحبنا سعادة البيه: نظرت في وجه سعادته، فوجدته مرتبكاً، إذ كان المسكين محاصراً من جهتين: من جهة بالرغبة في إعادتي على نفس الطائرة – الأمر الذي اعتاده مع كل فلسطيني، منذ كان شاويشاً -، ومن جهة ثانية بالسفارة الأمريكية التي يمكن لها أن تتسبب له في تأنيب شديد اللهجة من وزير الداخلية المصري شخصياً، إن هو فعل. ختم سيادة المقدم جواز سفري على مضض، وناولني إياه باحترام متصنع. لم أغضب منه أو أشمت به أبداً، بل أشفقت على سعادة البيه، فقد كانت تعابير وجه المسكين تنُمُّ عن أنه في موقف حرج، لا يُحسدُ أبداً عليه. لدى وصولي إلى الفندق، وكان الوقت صباحاً، لم أجد أحداً، حتى ولا الدومري (موظف كانت مهمته إشعال الفوانيس في شوارع دمشق قبل عصر الكهرباء)، فقلت في نفسي: يبدو أن النزلاء قد أطالوا السهر، وها هم يطيلون النوم، ولا بد سيستيقظون. في فترة ما بعد الظهيرة نزلت إلى بركة السباحة، فلم أجد فيها أحداً. قلت في نفسي: هؤلاء الأجانب بيض البشرة، يخشون على جلودهم من حرارة الشمس، ولا بد سيسبحون، لكن غابت الشمس وظهر القمر ولمّا يظهر أحد بلباس السباحة سواي. في صباح اليوم التالي عندما دخلت المطعم لتناول وجبة الإفطار، تأكد لي بأن نسبة الإشغال في هذا الفندق الراقي لا تتجاوز الخمسة بالمئة. معظم السياح هنا في شرم الشيخ، على قلتهم، هم من المواطنين المصريين في الأساس، أولئك الذين ربما آثروا التحول بإجازاتهم من الساحل الشمالي وباقي المدن الكبرى هرباً من الأوضاع الأمنية المتردية، أما باقي السياح فغالبيتهم من روسيا وإيطاليا، الدولتين الوحيدتين اللتين لم تحذرا رعاياهما من زيارة مصر، لذا تجد أن معظم لافتات المحلات التجارية مكتوبة باللغة الروسية، والبعض القليل منها باللغة الإيطالية، كما أن جميع الباعة تقريباً يتقنون اللغة الروسية، وإلى حد ما الإيطالية، أما اللغة العربية فلا أستطيع أن أحكم على إتقانهم إياها، لأنني كنت أخاطبهم بالإنكليزية خشية أن ينكشف أمري أنني من أصل فلسطيني، فأدخل في سينٍ وجيم. أعداد الباعة يتجاوز أضعاف أعداد المتسوقين، والجميع جالسون خارج محلاتهم، يتوسلون المارة العرب: اتفضل يا بيه، شرفي يا ست، أما للروس والإيطاليين، فلم أدرِ ماذا كانوا يقولون لهم. في الرحلات البحرية التي قمت بها إلى جزيرة تيران ورأس محمد – كي أرى بأم عيني مواقع الخيبات العربية – كنتَ ترى السيدات المحجبات، لابسات السراويل والقمصان ذات الأكمام الطويلة، يسبحن بمهارة جنباً إلى جنب مع الروسيات والإيطاليات المرتديات البيكيني، فتعجبُ من قدرتهن على العوم وهن في داخل هذه الأحمال الثقيلة من الملابس، وتتوقع أنهن بدونها، سوف يكن قادرات على عبور بحر المانش سباحة بدون توقف. أما تجربة الغوص ومشاهدة الرصيف المرجاني في البحر الأحمر، بأسماكه ذات الألوان الرائعة، وتكويناته الصخرية المذهلة، فربما تكون المتعة الوحيدة التي كسبتها من هذه الرحلة، طبعاً إلى جانب تشرفي بمقابلة سعادة البيه المقدم في المطار. تمر السفن الإسرائيلية وغيرها من سفن الدول الأخرى من مضيق تيران ورأس محمد شمالاً وجنوباً دون أي إزعاج، حتى من مراقب يحمل منظاراً مقرباً،،، وبينما كان الآخرون يسبحون ويمرحون، كنت أشم من حولي – عبر خط المياه الزرقاء – رائحة دماء الشهداء المصريين الذين سقطوا على هذه الأرض دفاعاً عن حقهم فيها، لكن تضحياتهم ذهبت سدى وكأنها لم تكن، وفي الوقت الذي كانت ترن في أذنيَّ أناشيد (الله أكبر فوق كيد المعتدي) و (والله زمان يا سلاحي)، و (حنحارب، كل الناس حتحارب)، في هذا الوقت بالذات كانت هناك أغنية تصدح من ميكروفون المركب، والركاب - العرب فقط - يتمايلون طرباً لسماعها، تقول كلماتها (إحنا شعب وإنتو شعب، رغم إنو الرب واحد، لينا رب وليكو رب)، فأدركت أن أرض الكنانة تتقدم هذه الأيام بسرعة الضوء،،، إلى الوراء. هكذا أنا دائماً، كما أعرف نفسي دون أن يخبرني أحد: سوداوي الطبع ، أستحضر النكد والهم والغم، بينما الآخرون في قمة الانبساط، يغنون ويسبحون، يسرحون ويمرحون. مساء، كان لا بد من جلسة أمام جهاز التلفاز لمتابعة ما يجري في بر المحروسة، وهنا تذكرت حديثاً دار بعد ظهر اليوم بيني وبين رجل مصري مسن، وذلك بعد أن وثقت أنه لن يشي بي لدى سلطات الأمن أنني لست مصرياً، إذ تحدثت معه باللهجة المصرية، فسألني الرجل: هل سمعت آخر نكتة؟ – وهذا سؤال يتكرر سماعه من أي مصري ظريف لو جلست معه لأول مرة -، فلما هززت رأسي بالنفي، انفرجت أساريره، وأدرك أن فرصته في الحديث قد واتته بعد أن كان قد أمضى يوماً مملاً صامتاً في دكانه، دون أن يبيع ولو بجنيه مصري واحد. قال: (يقولون أن رابطة أطباء القلب والشرايين في مصر قد أصدرت مؤخراً نصيحة للمرضى الذين يعانون من انخفاض ضغط الدم، بمشاهدة برامج التلفزيون المصري، وإذا كان تناول الطرشي والأغذية المالحة لا يفيد، فهم متأكدون بأن البرامج التلفزيونية المصرية هذه الأيام تنفع في هذه الحالة فترفع ضغط الدم، إذ يستعيد ذوو الضغط المنخفض ضغوطهم الطبيعية بعد جلستين أمام أية قناة تلفزيونية، وعلى الأكثر بعد أربع جلسات)، وتصنع الرجل طابع الجد وهو يتابع(زوجتي الحاجّة أم محمد – ربنا يخليها - كانت تعاني من انخفاض ضغط الدم الوراثي، وقد استعملت هذه الوصفة، وهي الآن ما شاء الله عال العال)، وقبل أن أبادر بسؤاله، بادرني وهو يضحك بخبث (لا، أبداً يا سعادة البيه، مع هذه النصيحة، وجه الأطباء – ربنا يكرمهم – نصيحة أخرى إلى ذوي الضغط العادي والمرتفع بتجنب مشاهدة البرامج السياسية من أخبار وتعليقات، والتوجه بدلاً من ذلك إلى المحطات الفكاهية، كـ"النيل كوميدي"، أو "زمان" التي تعرض أفلام الأبيض والأسود، أو أية قناة من قنوات "روتانا" بِتوع الهِشِّك بِشِّك)، ثم تابع العجوز وقد انقلب على ظهره ضاحكاً: ويقولون أيضاً أن برامج الفضائيات المصرية في المرحلة المقبلة ربما ستنفع في القضاء على فيروس الكبد الوبائي). هنا وأنا أحاول فتح جهاز التلفاز، تذكرت نصيحة ذلك الرجل الظريف، ومع ذلك – ولأنني لم أصدق روايته بالكامل – بل اعتبرتها مجرد نكتة فحسب، فقد شغلت التلفاز، وإذا بي – لا أراكم الله – أفاجأ بشعار مثبت أعلى شمال الشاشة يقول (Egypt fight terrorism) (مصر تحارب الإرهاب)، أجفلت، فغيرت القناة إلى غيرها، ثم إلى غيرها، فإذا بجميع القنوات تتبنى نفس الشعار، والمضحك في الأمر أن وزير السياحة كان يجلس في إحدى القنوات أمام محاوره وهو يتحدث بحماس (غير تلك التي في غزة) عن آفاق تنشيط السياحة، تلك التي يعتمد الاقتصاد المصري عليها وعلى قناة السويس، بعد اعتماده على الله وأمريكا. تساءلت في نفسي: في شعب تتجاوز نسبة الأمية فيه – طبعاً في اللغة العربية - الأربعين في المئة، لمن يوضع هذا الشعار؟، إنْ للمصريين، فغالبيتهم لا تقرأ العربية، ناهيك عن الإنكليزية، وإن كان للغربيين، فمن هو الأوربي أو الأمريكي الذي يشاهد قنوات تلفزيون مصرية؟. حتى هنا حاولت ألا يرتفع ضغط دمي، ولم أبالِ بالأمر، ربما متأثراً بنصيحة العجوز، لكن ما أصابني بالفزع، وجعلني أركض إلى الشرفة لاستطلاع الأمر، أن إحدى الفضائيات المصرية بزّتْ أخواتها الفضائيات، فتبنت شعاراً مرعباً ثبتته باللغة الإنكليزية أيضاً، على شمال أعلى الشاشة يقول:( Egypt under attack)، (مصر تحت الهجوم)، صدقوني والله، هذه ليست نكتة (وهي فضائية "البلد")، فاعتقدت أن هذه القناة ربما تكون قد سبقت غيرها في إذاعة نبأ هجوم عسكري على مصر، والذي ربما سوف يؤدي إلى نشوب حرب عالمية ثالثة، ومن الشرفة كنت أحاول استراق السمع، علني أسمع أصوات انفجارات وأزيز طائرات، أو أية أصوات أخرى مما نسمعه في الحروب، لكن الظلام كان مخيماً، والصمت مطبقاً، والقلة من النزلاء كانوا نياماً، فتذكرت أنني – حتى لو هوجمت مصر، ولم يبق فيها حجر على حجر، لا سمح الله – فأنا في أأمن مكان فيها:وكر الشيخ. مرت الإجازة تقريباً على خير، وأثناء المغادرة، وبعد أن وضعت حقيبة الظهر التي سأحملها بيدي في الطائرة على جهاز تفتيش الأمتعة، طلب مني موظف الأمن فتح الحقيبة، ففعلت. أخرج منها منظاراً مقرباً أحمله معي دائماً عند السفر،،، وضع المنظار على عينيه بالمقلوب، ففوجيء أن رأى المنظر تحت الجذر التكعيبي، وقبل أن يضحك عليه من يشاهدونه، أرشده مساعده إلى كيفية استخدام المنظار، فلما نظر فيه ثانية، دهش لدرجة التقريب الكبيرة،،، نزعه عن عينيه، ثم أعاده مرة أخرى لكي يتأكد مما يرى، ثم، وبخبرة المتمرس في شؤون الأمن والمناظير المقربة والمبعِّدة، المنافح عن سلامة الوطن، رفض أن آخذ المنظار معي، وطلب مني إعادته لوضعه في الحقيبة المشحونة في كابينة الشحن في الطائرة،،، ذهلت من هذا الطلب، فصرخت فيه: وهل تخشى أن أراقب بالمنظار كابتن الطائرة والمضيفات والركاب؟، فلما أدرك حجم انزعاجي من طلبه، وربما لمح جواز سفري في يدي، وبعد أن تدخل مساعدوه، سمح لي بوضع المنظار في حقيبة الظهر. عندها أدركت أن الله لا شك يحمي أرض الكنانة من كل سوء وأذية بفضل هذا الرجل وأمثاله!، الساهرين على أمن الوطن والمواطن!. بينما كانت الطائرة تقلع، سرحت بفكري بعيداً: فقد دخلت أرض المحروسة منذ أسبوع وأنا أمريكي الجنسية، فلسطيني المولد، عربي القلب، مصري الهوى، والآن أخرج منها وأنا لا أكاد أرى أبعد من أنفي رغم أن المنظار المقرب معي، لكنه لن ينفعني بعد اليوم. لقد تداخلت الاتجاهات في ذهني، فقد أضعت البوصلة. 7 سبتمبر 2013
#وليد_الحلبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نظارة من فييتنام
-
وزراء الدفاع،،، عن مصالحهم
-
وداعاً يا عرب
-
القداسة المزيفة
-
كفٌّ حنون
-
اعرف عدوك
-
بغل أبي فيصل
-
استنتاجات خنفشارية، من المظاهرات المليونية
-
حصاد اسبوع من الحقل المصري
-
قطرات الزمن المهتريء (شتتت النكبة الفلسطينية الأسرة الواحدة
...
-
المعارضة المصرية: ما لها، وما عليها
-
هل في الحزبية والأحلاف ديمقراطية؟
-
الدفاتر القديمة
-
لكل أمة طباع
-
نهاية جميلة
-
الرقدة الأخيرة
-
عندما تمنيت أن يأكلني الدب القطبي
-
عمى الاتجاهات
-
خدعونا ورب الكعبة
-
آيات الذكر الحكيم بين التفسير والتنبؤ
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|