|
نسطور والمدرسة الأنطاكية اللاهوتية بعيداً عن الطائفية السورية
سليمان سمير غانم
الحوار المتمدن-العدد: 4207 - 2013 / 9 / 6 - 21:17
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
لم يخلق نسطور والمدرسة السورية الأنطاكية اللاهوتية إلا فكر سوريا الأسبق، ولم يخزل نسطور والمدرسة الأنطاكية إلا أولاد سوريا. إذا كان كتاب أعمال الرسل (11:26) يشير إلى أنه في أنطاكية تم لأول مرة استخدام أو ظهور لفظ مسيحي وتبلوره وأنه كان هناك كنيسة في فترة مبكرة من زيارة بولس للمدينة وبشكل منظم كهنوتياً بتراتبية إكليركية ولديها نشاطات مهمة كالرحلات التبشيرية، التي بدأها بطرس وبولس وبرنابا؛ فكيف تستطيع كنائس متأخرة نسبياً محاكمة أنطاكية ورجالاتها لاهوتياً ونبذهم في تاريخ الكنيسة؟ عندما تتحدث اليوم عن مدرسة أنطاكية اللاهوتية في سوريا، خصوصاً في زمن الأسقف نسطور Nestorius كرمز للمدرسة اللاهوتية الأنطاكية في القرن الخامس الميلادي أو إذا ما عدنا إلى أركان أخرى في المدرسة سابقة لنسطور، أي عبر أساتذته ديودوروس الطرسوسي Diodore of Tarsus و ثيودوروس الموبسيوستي (المفسر) Theodore the Interpreter و إلى الاسم الآخر تيودوريت القورشي Theodoret of Cyrus؛ تصطدم بمواجهة عنيفة من أولاد المسيحية السورية، باستثناءات قليلة من قبل الكنيسة الآشورية التي تقر وتعترف بأهمية أو قدسية نسطور والمدرسة الأنطاكية. فليس موقف المدرسة الإسكندرية المصرية المناهض للمدرسة الأنطاكية السورية والمتسبب بمأساة نسطور بأقل من مناهضة المسيحيين السوريين للمدرسة الأنطاكية وفكرها.
هذا ما دعاني في البداية إلى القول بأن سوريا خزلت المدرسة الأنطاكية، خزلتها وتبرأت منها في كل النواحي حتى كإرث تاريخي بعيد عن الدين، أي عبر الاستفادة منه ثقافياً في العالم عبر الدراسات والمؤتمرات وحتى على الصعيد السياحي فيما بعد، لكن للأسف هذا لم يحصل من قبل السوريين، زاد عليه كارثة احتلال أنطاكية المركز السوري الوجداني المسيحي نفسها من قبل تركيا، وهو ما أدى إلى خسارة الأرض والثقافة. هو أمر معيب في نظري، خصوصاً أن نسطور اللاهوتي: هو معلم سوري مهم جداً في التاريخ الديني المسيحي، مشهور بتعمقه الديني وفهمه العالي للاهوت المسيحي، الذي أوصله ليتوج على الكرسي الرسولي للعاصمة الإمبراطورية في حينه القسطنطينية وهو أمر غير سهل، لم يصل إلى هناك مع أسماء سورية أخرى كيوحنا فم الذهب John Chrysostom لو لم يكونوا من أهم اللاهوتيين في زمانهم! نسطور هذا المعلم السوري، الذي ألفت عنه الكتب والردود ورسائل البحث في كل أنحاء العالم، مذكور أيضاً في كل كتب تراث الكنيسة المسيحية على مر الزمن، فقط في سوريا لم يكتب عنه كما يجب أن يكون؛ أي كإرث تاريخي ثقافي سوري بعيداً عن وجهة النظر الطائفية أو الدينية، التي يتم على أساسها اتخاذ المواقف من نسطور والمدرسة الأنطاكية. لا ننسى أن المسيحية ديانة سورية محلية ومن حاكم نسطور واضطهد المدرسة الأنطاكية أشخاص بعيدون عن أديان سوريا وطبيعتها اللاهوتية وبعيدون عن طريقة فهم السوريين للدين القائمة على المنطق العقلاني. لم يكونوا فقط غير سوريين، بل كانوا أيضاً يستقوون بالإمبراطورية الرومانية الغربية التوجه، التي لا تملك فهماً كافياً عن أديان سوريا، كان همها الاستقرار والوحدة السياسية فقط وتصرفت على أساسها في أغلب أحكام الحرمان الكنسية بحق آباء المدرسة الأنطاكية، بل كانت هي نفسها أي الإمبراطورية قد اعتنقت ديناً سورياً في ظل الغياب الروحي الذي كانت تعاني منه ألا وهو المسيحية! فكيف بها تحاكم من اخترع اللاهوت المسيحي! لا يمكن التعاطي اليوم مع نسطور والمدرسة الأنطاكية المحلية، إلا من وجهة نظر علمانية تعتبر نسطور إرثاً ثقافياً وتاريخياً سورياً مهماً وليس عبر النظر إليه كمصدر للشقاق والتنافر الديني المسيحي. أغلب من يدرس نسطور وغيره من أفراد المدرسة الأنطاكية، لا يمكن أن يتنكر للمعرفة العميقة في اللاهوت والدين المسيحي و الأدب و التواضع لأولاد هذه المدرسة السورية، التي لم يكن بإمكانها ترك العقل حتى لو كان لصالح اللاهوت و الغيب المسيحي، وكل ما قامت به هذه المدرسة هو عقلنة الخطاب الديني، باستخدام الثقافة العقلية في مقاربة النظرة للإله وللمسيح، وباعتراف الكثير من الباحثين المختصين، فالمشكلة بالنسبة للمدرسة الأنطاكية، لم تنحصر في نظرتها إلى المسيح التي اعتبرها أولاد المسيحية نظرة هرطوقية، بقدر ما كانت تحصيناً لمفهوم الإله أي الآب من التبسيط و التحديد، فأغلبهم ظل وفياً لقناعاته بإله متعالي سامي و الاحتفاظ بصورة عن الإله الكلي لا يشوبها التسطيح و التحجيم، و لم يكن الهدف أبداً الحط من النظرة أو المكانة للمسيح، فلقد بقي المسيح في نظرهم حتى آخر لحظاتهم أساس و قطب الكنيسة و الدين.
طبيعة المسيح في مفهوم المدراس الشرقية الكبرى؛ أنطاكية والإسكندرية:
عند النظر في مفهوم طبيعة المسيح بالنسبة لمدرسة الإسكندرية، المناهضة لمدرسة أنطاكية، والمتسببة بكوارثها السياسية، نظراً لتأثيرها في الإمبراطورية البيزنطية وقدرتها في التأثير على الأباطرة في تلك الحقبة، نلاحظ ما يلي؛
المدرسة الإسكندرية: كان تفكير اللاهوتيين في مدرسة الإسكندرية متركزاً بالأكثــر في لاهوت المسيح مع توكيد حقيقة الاتحاد بين لاهوت المسيح و ناسوته اتحاداً تاماً، وقد عرفوا هذا الاتحاد بأنه اتحاد سري، لا يمكن إدراكـــه، وبعضهم نظر إلى الطبيعة الإلهية بنوع خصوصي؛ فقال الكلمة التي صارت جسداً وما عنى بذلك سوى الاتحاد الحقيقي، بين لاهوت الكلمة وناسوته، وأن الإله المتأنس شخص واحد وليس اثنين، لأن كلمة طبيعة عندهم؛ بمعنى الشخص والأقنوم. ولكن أحداً من لاهوتيى الكنيسة الإسكندرية، لم ينكر الطبيعتين، بمعنى الجوهر اللاهوتي والعنصر البشري في هذا الوقت المبكر أيام انتشار “البدعة” النسطورية. ونظراً لامتداد “بدعة” آريوس ووجوب محاربتها، كان كلام الإسكندريين في لاهوت المخلص أكثر من كلامهم في ناسوته. وهكذا فإنهم سموا مريم والدة الإله، وقالوا إنها ولدت الكلمة المتجسدة وأنه أي المسيح تألم وصلب – مع أن الإله لا يتألم ولا يموت كما أن الروح الإنسانية، لا تتألم ولا تموت لأنها نفخة من الرب بحسب الدين.
مدرسة أنطاكية الدينية: كان تفكير اللاهوتيين في مدرسة أنطاكية على العكس مرتكزاً بالأكثر في ناسوت المسيح أولاً، فقد اهتموا كل الاهتمام بإبراز كمال ناسوت المسيح، وفى هذا السبيل مالوا إلى الفصل بين الطبيعتين في السيد المسيح، لكنهم أقروا بالوحدة بينهما، لكنهم كانوا يلحون على فكرة الاتصال الخارجي وتوخت مدرسة أنطاكية البساطة والإيضاح، فميزت بين اللاهوت والناسوت في شخص المسيح الواحد. مع أنها كانت تعتقد بأن المسيح واحد وليس اثنين، فإنها كانت ترفض التعليم بالاتحاد الطبيعي وبالمزج بين الطبيعتين. وكانت تعتبر اتحادهما إضافياً؛ بمعنى السكنى والارتباط حفظاً لكمال الطبيعة البشرية، التي زعم أبوليناريوس اللاذقاني أنها كانت ناقصة. وكانت تنكر على الناسوت خواص اللاهوت، كالحضور في كل مكان والقدرة على كل شيء وما شاكل ذلك، كما أنها أنكرت على اللاهوت أهواء الناسوت وآلامه كالولادة والتألم والموت. ولهذا السبب ابتعد الأنطاكيون عن كل تعبير يؤدي على زعمهم إلى مثل ذلك المعنى كتسمية العذراء والدة الإله وغيرها من العبارات التي عيَّنتها الكنيسة بعد ذلك صيانة للتعليم “القويم”. وقالوا بوجوب كمال الطبيعة البشرية، لأن لوقا يقول إن يسوع "كان ينمو في الحكمة والقامة" وأوجبوا السجود للناسوت لأنه متحد بالكلمة. ومن قولهم: "إنما نسجد للإرجوان من أجل المتردي به وللهيكل من أجل الساكن فيه، ولصورة العبد من أجل صورة الله، وللحمل من أجل رئيس الكهنة، وللمتخذ من أجل الذي اتخذه، وللمكوَّن من بطن البتول من أجل خالق الكل". ولا يجوز القول إن اللاهوتيين الأنطاكيين علموا بأقنومين؛ لأنهم قالوا بأقنوم واحد ذي طبيعتين متحدتين بلا امتزاج ولا اختلاط ولا تشويش.
ومع أن آباء الكنيسة الأنطاكية حاولوا إبراز الطبيعتين: الإلهية والإنسانية في المسيح. إلا أنهم في إطار ذلك كثيراً ما كانت يعمدون إلى التركيز بطريقة واضحة وفي كثير من الأحيان بطريقة فاصلة بين الطبيعتين. أغلب الباحثين يشير إلى أن المدرسة الأنطاكية اتبعت النهج الأرسطوي الوسطي في مقاربة المفاهيم اللاهوتية.
لقد رفضت كل مدرسة منهما الأخرى ورأت فيها خطراً وهرطقة تهدد الإيمان المسيحي القويم. فكنيسة أنطاكية رأت أن كنيسة الإسكندرية تتجاهل ناسوت المسيح وتضحي به، وكنيسة الإسكندرية اعتقدت أن أنطاكية تشكل خطراً على لاهوت المسيح. وهكذا في تتبعنا لقضية نسطور يصير من الجدير بالاهتمام تلمس هذا الاختلاف وتأثيره على رؤية كل من نسطور كرمز للمدرسة الأنطاكية وكيرلس كرمز للمدرسة الإسكندرية في النظر إلى المسيح واللاهوت في ذلك الزمن.
هكذا نرى كيف تبنت مدرسة الإسكندرية "الاتحاد الأقنومي" أو "الاتحاد الطبيعي" بين لاهوت السيد المسيح وناسوته، لتأكيد وحدة يسوع المسيح. بينما كانت بمدرسة أنطاكية تقبل نظرية "الحلول" أو "السكن"، بمعنى أن اللاهوت سكن في الناسوت، كما لو كان شخصين في واحد، وذلك بقصد توضيح أنه لم يحدث اختلاط بين اللاهوت والناسوت، ومن ناحية أخرى لتجنب نسب الضعف البشرى لماهية اللاهوت.
بالعودة إلى نسطور والمدرسة اللاهوتية الأنطاكية السورية:
مند بداية انتشار الدعوة المسيحية في سوريا وبعدها في البلدان المجاورة؛ حكمت اللاهوت المسيحي عدة أمور جدلية، تطورت مع الزمن لتتحدد عبر النقاش والتطور إلى قضايا واضحة محددة في العقل، بأطر صاغتها المناقشات التي جرت والتي كان يتم فيها اسقاط فكر المدارس الفلسفية ووجهة نظرها بماهية الإله وبالديانة والطقوس. في الديانة المسيحية من المعلوم أن ثلاثة أمور صاغت تطور الدين، وتقاسم الفرقاء لوجهات النظر اللاهوتية، وكان المناقشات والمجادلات تدور مند البداية حول مسألتين جوهريتين في المسيحية؛ الأولى: كانت النظرة إلى مفهوم الإله وعلاقة الابن بالآب. الثانية: كانت العلاقة بين اللاهوت والناسوت في المسيح والتجسد الأرضي. بدرجة أقل كان لدينا نقاشات بسيطة نسبياً حول الروح القدوس وانبثاقه ومساواته مع الآب والابن. هذا الجدل في سوريا على الأخص كان عائداً إلى وجود إرث ثقافي عقلاني كبير، لم يكن من السهل عليه هضم الغيب بعيداً عن العقل والمنطق، لذلك اصطدم بعدة نقاط إشكالية، لم يستطع تجاوزها من دون إعمال الفكر فيها. فنشأت القضايا اللاهوتية الانشقاقية في المسيحية التي كانت بأغلبها سورية المدارس وهذه الناحية يجب التركيز عليها كثيراً في مناقشة الإرث الثقافي السوري بشقية الديني والدنيوي.
نظرت المدرسة السورية المسيحية الراسخة إلى الإله على كونه المتعالي العصي على التحجيم الوثني، من هنا نظرت إلى المسيح نظرتها العقلانية الأخرى كالنظرة لأنبياء الله العظام في التراث الديني السامي؛ أي كنظرتها لإبراهيم و موسى و داؤود، لم يكن هذا التيار بقوة التيار الأول المؤله للمسيح، لكنه استمر كتيار موجود له أنصاره و أتباعه، و تذكر المراجع التاريخية الكنسية التي تتحدث عن التاريخ الكنسي المبكر، أسماء عدة فرق دينية في القرون المسيحية الثلاثة الأولى، كانت بأغلبيتها تنكر الثليث و تأليه المسيح مثل: الإبيونيين Ebionites التي كانت فرقة مسيحية من أصول يهودية ظلت متمسكة بشريعة التوراة. أيضاً لدينا الموناركيين Monarchians أتباع الأسقف بولس السميساطي. أيضاً كان هناك تواجد للغنوصيين Gnostics و الباسيليديين Basilidians (فرع من فروع الغنوصية)، بالإضافة لهذه الطوائف كان لدينا الآريوسيين أتباع آريوس Arianism و كل هده الطوائف كان تمثل التنكر للتثليث و تأليه المسيح الإنسان، فلقد ميزت هذه الطوائف بين ابن الله و ابن داؤود في شخصية المسيح.
من أشهر الأساقفة أو البطاركة السوريين القدماء الكبار الذين ثبتوا على التوحيد و نفي التثليث، نافين ألوهية المسيح أو بنوته الحقيقية للإله (بمعنى الانبثاق من الله و المساواة له في الجوهر): ديودوروس الطرسوسي أسقف طرسوس السورية و بولس السميساطي أسقف و بطريرك أنطاكية المعاصر و المقرب من زنوبيا ملكة تدمر، الذين كانوا يرون أو يشرحون بنوة المسيح لله على معنى مجازي؛ يرى بأن الله اتخذ يسوع الانسان المخلوق كابن له؛ أي تبناه، لا عبر صيغة أن المسيح مولود أو منبثق من الله، فالبنوة على قولهم بنوة مجازية لا تفيد أكثر من شدة القرب و الاتصال و الحظوة و المكانة الكبيرة لمنزلة المسيح لدى الإله و على نفس رأيهم كان لوسيان الأنطاكي أستاذ آريوس.
رؤية موجزة مبسطة لفكر نسطور العقائدي:
ثمة إشكاليتان أساسيتان في فكر نسطور اللاهوتي؛ وسوف نتعرض لهما بصورة موجزة هنا:
1. موقف نسطور من مفهوم والدة الإله Theotokos
من الواضح أن نسطور لم يكن هو – ولا حتى صديقه أنستاسيوس في القسطنطينة– أول من واجه هذا التعبير، إذ قد تعرض له ديودوروس الطرسوسي وثيودوروس الموبسيوستي وكلاهما رفضه – وإن كان ثيودوروس أقل قليلًا من معلمه ديودوروس الطرسوسي – تبعا لمدرسة أنطاكية في تصورها الكريستولوجي ونظرتها للإله الكامل الغير مختلط بالناسوت. في رأي نسطور فإن كلمة "ثيوتوكوس" لم تميز بدرجة كافية بين الناسوت واللاهوت في المسيح. ولقد قال في خطبته الأولى: "إنهم يسألون إن كان من الممكن أن تدعى مريم والدة الإله. لكن هل لله أم إذاً؟ وفي هذه الحالة يجب أن نعذر الوثنية التي تكلمت عن أمهات للآلهة. ويكون بولس الرسول عندها كاذباً لما قال عن لاهوت المسيح (عب 7: 3) أنه بلا أب، بلا أم، بلا نسب. لا يا أعزائي لم تحمل مريم الله. المخلوق لم يحمل الخالق، إنما حملت الإنسان؛ الذي هو أداة اللاهوت. لم يضع الروح القدس الكلمة، لكنه أمد له من العذراء المطوبة هيكلًا حتى يمكنه سكناه. أنا أكرم هذه الحلة التي استفاد منها من أجل ذلك الذي احتجب في داخلها ولم ينفصل عنها. أنا أفرق الطبائع وأوحد الكرامة. تبصر في معنى هذا الكلام. إن ذاك الذي تشكل في رحم مريم، لم يكن الله نفسه لكن الله اتخذه. وبسبب ذاك الذي اتخذ، فإن المتخذ أيضا يدعى الله".
من هنا ابتدأ نسطور بإنكار كون السيدة العذراء والدة الإله إذ قال: "إني أعترف موقناً أن كلمة الله هو قبل كل الدهور، إلا أني أنكر على القائل بأن مريم والدة الإله فذلك عين البطلان لأنها كانت امرأة والحال أنه من المستحيل أن يولد الله من امرأة ولا أنكر أنها أم السيد المسيح، إلا أن الأمومة من حيث الناسوت"، وهو بذلك قسَّم السيد المسيح إلى شخصين (طبيعتين) معتقداً أن الطبيعة الإلهية لم تتحد بالإنسان الكامل وإنما ساعدته في حياته فقط.
وهذا التفكير كان قد جرأه على أن يلغى عبارة من ترنيمة الثلاث تقديسات الكنسية وهي العبارة الأخيرة، ومن المعروف فى التقليد الكنسى أن الثلاث تقديسات هي التي تمجّد فيها الملائكة الرب الإله في ملكوت السماوات بترتيل ترنيمة الثلاث تقديسات: "قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ" (إشعياء 6: 3) وقيل إنها تسبيحة قديمة ترجع إلى عصر الرسل، قيل أنها نظمت من قبل يوسف الرامي ونيقوديموس عند تطييب جسد السيد المسيح إذ ظهر لهما ملاك يسبح المصلوب عند دفنه. (قدوس الله، قدوس القوى، قدوس الحي الذي لا يموت، الذي ولد من العذراء)
ويؤكد خصوم نسطور أنه قام بإلغاء عبارة من التقديسات وهي عبارة: " الذي ولد من العذراء "
بعض النقاط الرئيسية التي دفعت نسطور لرفض لقب والدة الإله:
_خوفه من الخلط بين المفهوم المسيحي لمريم العذراء والمفهوم الوثني للإلهات العذارى من قبلها في الشرق.
_مكانة مريم الكبيرة في عيون المسيحيين والخوف من التحول إلى عبادتها.
_رأى نسطور في اصطلاح أم الله شكلاً من أشكال الهرطقة.
2. فكرة الاتحاد بين شخصين في المسيح لدى نسطور:
هناك من يرى أن مشكلة نسطور الرئيسية هي في أنه آمن بأن ثمة شخصين مستقلين في المسيح، أي أن ما حدث هو اتحاد خارجي فقط في الصورة، مثلما قال بذلك ديودوروس الطرسوسي. وربما يظهر ذلك بوضوح من الفقرة المقتبسة فيما يتعلق بالميلاد من العذراء مريم في الفكرة السابقة. وفي خطبة أخرى نقلت عنه قال فيها:" إنهم يدعون اللاهوت معطي الحياة قابلا للموت، ويتجاسرون على إنزال اللوجوس إلى مستوى الخرافات المسرح، كما لو كان (كطفل) بعمر أشهر ملفوفاً بخرق ثم بعد ذلك يموت. لم يقتل بيلاطس اللاهوت – بل حلة اللاهوت. ولم يكن اللوجوس هو الذي لف بثوب كتاني بواسطة يوسف الرامي. لم يمت واهب الحياة، لأنه من الذي سوف يقيمه إذا مات. ولكي يصنع مرضاة البشر اتخذ المسيح شخص الطبيعة البشرية. أنا أعبد هذا الإنسان مع اللاهوت ومثل آلات صلاح الرب والثوب الحي الذي للملك".
غير أن هناك الكثيرون ينفون ذلك ويؤكدون أن نسطور لم يؤمن مطلقا بوجود مسيحين أو ابنين ودائماً ما يؤكد وحدة البرسبون (الأقنوم). "فبحسب مفهوم نسطور؛ إن عملية الاتحاد بين الهيئتين أو البروسبونين تمت عن طريق تبادل الهيئتين واختراقهما الواحدة للأخرى وبذلك أصبحت هيئة العبد هي هيئة الله وهيئة الله هي هيئة العبد وبذلك فإن هيئة العبد "يسوع" أصبح معبوداً ومكرماً كاللاهوت واللاهوت أصبح بدوره عبداً.
كان لنسطور وجهة نظر واضحة في قضايا عديدة ومن دون مواربة في المسيحية ومنها:
1- رفض عقيدة الإتحاد حسب الطبيعة أي رفض الإتحاد بين اللاهوت والناسوت .
2- إعتبار أن العلاقة بين اللاهوت والناسوت هي إتصال Conjoining وليس اتحاد -union-
3- إعتبار أن الكلمة ابن الله ، وأن يسوع هو ابن العذراء مريم . والتعليم بابنين وأقنومين (ابن الله – ابن الإنسان).
4- إعتبار أن الانسان يسوع مختار من الكلمة وقد أنعم عليه الله الكلمة بكرامته وألقابه ولذلك نعبده معه بعبادة واحدة.
5-يرفض تسمية السيدة العذراء والدة الإله ويسميها " أم المسيح" .... يرفض " ثيوتوكوس" وينادي ب "خريستوتوكوس" (والدة المسيح الإنسان).
يجمع الكثيرون على أن نسطور و بحسب تعاليم مدرسته الأنطاكية، كان يؤمن بتعاليم أستاذه ديودوروس الطرسوسي بالقول بمريم العذراء كوالدة للمسيح و ليس كوالدة للإله، لكنه لم يكن يريدها أن تؤدي إلى الانشقاق و أنه عندما حصل الجدال في العاصمة القسطنطينية حول طبيعة المفهوم، كان المتخاصمون فريقين؛ فريق يقول بأم الإله و فريق يقول بأم الإنسان و لحسم الجدال بطريقة وسطية قال نسطور بتسمية مريم أم المسيح ليهدأ من الشقاق الحاصل، لكن الطرف الآخر أصر عليه بتسميتها أم الله، و لم يقبل أن تكون أم المسيح كما قال نسطور على اعتبار أن أم المسيح في نظرهم تعني أم الإنسان.
6- إن الله ليس هو الفادي: وبالتالي يفقد الفداء قيمته وفاعليته ولا محدوديته.
7- رفض الاتحاد الأقنومي ( Hypostatic -union- ) :
ذلك لأن نسطور قد جعل في المسيح أقنومين منفصلين ومتمايزين، فكما أنه رفض الوحدة بحسب الطبيعة، هكذا رفض الوحدة بحسب الأقنوم، واعتبر أن الكلمة قد اتخذ شخصاً من البشر واتصل به في وحدة خارجية بحسب الشخص الخارجي أو الهيئة، التي هي في نظره صورة الله التي اتحدت بصورة الإنسان يسوع المسيح الذي سكن فيه الكلمة ووحده بكرامته وأسبغ عليه بألقابه.
مأساة نسطور:
من كل ما تقدم نرى كيف أن مشكلة مدرسة أنطاكية اللاهوتية ممثلة برمز نسطور، كانت مسألة أخلاقية عقلانية بعيدة عن عالم الدين الغيبي و استخداماته لأسباب دنيوية، و هذا كان أهم أسباب خسارة المدرسة الانطاكية في مواجهة الكراسي الرسولية الأخرى في الإمبراطورية، لاسيما كرسي العاصمة القسطنطينية و كرسي الإسكندرية، التي كانت تسعى لبسط نفودها على بقية الكراسي العالمية ومنها أنطاكية، نرى البطريرك كيرلس المعاصر لنسطور على رأس الكنيسة المرقصية، يرسل برسالة تحريض للإمبراطور ثيودوثيوس الثاني، يستخف فيها بأسماء آباء الكنيسة الأنطاكية، فعندما يذكر في الرسالة أعمدة اللاهوت الأنطاكي ك ديودوروس الطرسوسي، أو ثيودوروس الموبسيوستي، يكتب عبارة ما يسمي ديودوروس الطرسوسي أو ما يسمى تيودوروس المفسر و يصفهم في الرسالة التي أرسلها للإمبراطور بالمجدفين، من ثم يذكر بأن نسطور عبر تعاليمهم يريد ادخال تجديفهم في الدين، لكن الله عزله و يصف نسطور بالشرير! من هنا كيف نستطيع الموافقة على كلام كيرلس بحق المدرسة الأنطاكية بعد كل ما بدر منه من شخصنة؟
ولد نسطور في عام 380 ميلادي، في بلدة مرعش السورية شمال حلب، والتي كانت تسمى في اليونانية بجرمانيقي. ترسم للرهبنة في دير أوبريبيوس قرب أنطاكية ثم تدرج في المناصب الكنسية، حتى وصل إلى كرسي العاصمة القسطنطينية عام 428 ميلادي. في عام 431 ميلادي عزل عن الكرسي في العاصمة بعد إدانته في مجمع أفسس عام 431 ميلادي للأسباب التي ناقشناها في المقال، التي لم ترضي كرسي الإسكندرية ولا كرسي العاصمة، فتم عزل نسطور إلى الصحراء العربية قرب البتراء، من ثم تم نفيه إلى مصر، ويقال بالتحديد إلى قرية أخميم، حيث توفي مغموراً فيها بعد وحشة المنفي الطويلة في عام 449 ميلادي، وذلك بعد أن دفع ثمن الفكر والعقلانية غالياً. يسطح الكثيرون من فكر نسطور وما يمثله ويعتبرونه هرطوقياً وشيطاناً وشريراً، لكن إن دققوا بعقلانية بأفكار نسطور وطروحاته في اللاهوت أعتقد أنهم لن يستطيعوا نفي كل ما قاله، بل سيجدون الكثير من الأخطاء التي نبه إليها في اللاهوت وكانت تتداول بطريقة مغفلة من قبل الأتباع وكان محقاً في طروحاته، حيث تستخدم على نحو خاطئ حتى اليوم. يجب إعادة الاعتبار لنسطور وللمدرسة الأنطاكية التي يمثلها ومن قبل السوريين أنفسهم أولاً قبل غيرهم. وأخيراً فإن هذه المشكلة لابد أن نفهمها في سياق كل ما سبق ذكره بشأن الاختلاف بين مدرسة أنطاكية التي كان ينتمي إليها، وبين مدرسة الإسكندرية التي شكلت عدوه الرئيسي، عبر قراءتها كتاريخ ديني، ليس قراءاتها فقط عبر شقاق ديني طائفي. وأيضاً عبر ما يتعلق بالدنيوي أي بالصراعات لفرض السطوة والنفوذ الذي سعت له الإسكندرية في بلاط الإمبراطورية.
أغلب الباحثين في الغرب يولون عناية كبيرة عبر الأبحاث والدراسات التي يجرونها عن التوجه الفكري المسيحي لأولاد المدرسة الأنطاكية عبر أشهر آبائها السوريين من البدايات وحتى تبلورها في القرن الخامس الميلادي، حيث نرى مرحلة البداية التي انطلقت مع فكر لوقيان وبولس السميساطي، من ثم التبلور في فكر ديودوروس الطرسوسي وتلاميده؛ ثيودوروس الموبسيوستي، ميليتوس الأنطاكي، تيودوريت القورشي، يوحنا فم الذهب، نسطوريوس. لا يمكن لأي باحث كنسي أو علماني أن ينكر أن الغرب اعتمد نفس وجهات مقارباتهم اللاهوتية في الإصلاح الديني والنهضة الأوروبية، وهي النظرة العقلانية للدين عبر الفصل بين السماء والأرض، الانسان والله، عبر الاعتراف بمحدودية الانسان ولا محدودية ما يسمى السماء والله والغيب، لذلك يتوجب الاهتمام بتعميم المنطق والعقل في الأرض التي نعيش عليها. ختاماً نستطيع أن نلخص المشكلة التي لا يمكن تلخيصها بما قاله العلامة اللاهوتي المصري الأنبا غريغوريوس القبطي أسقف الدراسات العليا، الذي ذكر أن: الطابع العام الذي أصبح يميز الاتجاه الفكري في الإسكندرية ومدرستها هو النظرة الصوفية، بينما اتجاه مدرسة أنطاكية وأتباعها كان اتجاهاً عقلياً ومنطقياً.
Biblioghraphy
-La chiesa nel medioevo, Azzara..Rappetti, Bologna 2009. . -L’Enciclopedia dell’Antichità classica, Garzanti, Roma 2000 -Eusebius: The history of the church from Christ to Constantine. G.A. Williamson, trans. New York:1984
مراجع المقال:
(1) مذكرة علم اللاهوت المقارن - الكلية الإكليريكية اللاهوتية للقبط الأرثوذوكس - بقلم الأنبا غريغوريوس أسقف عام للدراسات اللاهوتية العليا والثقافة القبطية والبحث العلمى ص 87 .
(2) الأنبا إيسوزوروس كاتب كتاب الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة ج 1 ص 483 - 484 (3) سعد رستم، الفرق والمذاهب المسيحية
#سليمان_سمير_غانم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإكليروس العربي الإسلامي شاهد زور تاريخي وأخلاقي.
-
حران السورية: مدينة الإله القمر ومركز تراكم الإرث الديني؛ ال
...
-
حران السورية: مدينة الإله القمر ومركز تراكم الإرث الديني؛ ال
...
-
حران السورية: مدينة الإله القمر ومركز تراكم الإرث الديني؛ ال
...
-
مدينة الرها عاصمة الثقافة والتقاليد السورية الشرقية
-
أنطاكية عاصمة سوريا التاريخية و الثقافية لعشرة قرون.
-
ضياع الحقيقة المادية في المصادر التاريخية بين الأدلجة الديني
...
-
شخصيات فكرية من التراث الإسلامي (دراسة لنقاط و إشكاليات مغيب
...
-
شخصيات فكرية من التراث السوري قبل الاسلام (الهوية السورية ال
...
-
انعكاسات مرايا الشرق
-
نظرية الله المتهم البرئ.
-
الإله المتناقض في الإسلام (الله)
-
حكم المرتد بين وحشية المسلمين وهشاشة و تناقض عقيدتهم
-
معيار الأخلاق بين الثابت و المتحول (الدين و المجتمع)
-
يحصل في الشرق
-
المنتصر في التاريخ هو المقدس ( بيزنطة مثلا)
-
أبو لهب، أبو جهل، أصوات العقل في قريش و المصير المأساوي للأم
...
-
ملاحظات بسيطة على العلمانية في العالم العربي
-
ميثرا و طقوس العبادة الميثرائية في الإمبراطورية الرومانية
-
بين اقرأ واسأل يوجد قبر الأمة الفكري
المزيد.....
-
كيف يمكن إقناع بوتين بقضية أوكرانيا؟.. قائد الناتو الأسبق يب
...
-
شاهد ما رصدته طائرة عندما حلقت فوق بركان أيسلندا لحظة ثورانه
...
-
الأردن: إطلاق نار على دورية أمنية في منطقة الرابية والأمن يع
...
-
حولته لحفرة عملاقة.. شاهد ما حدث لمبنى في وسط بيروت قصفته مق
...
-
بعد 23 عاما.. الولايات المتحدة تعيد زمردة -ملعونة- إلى البرا
...
-
وسط احتجاجات عنيفة في مسقط رأسه.. رقص جاستين ترودو خلال حفل
...
-
الأمن الأردني: تصفية مسلح أطلق النار على رجال الأمن بمنطقة ا
...
-
وصول طائرة شحن روسية إلى ميانمار تحمل 33 طنا من المساعدات
-
مقتل مسلح وإصابة ثلاثة رجال أمن بعد إطلاق نار على دورية أمني
...
-
تأثير الشخير على سلوك المراهقين
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|