مرت الاشتراكية عبر تاريخها الطويل بتطورات جمة على مستوى النظرية، أو على مستوى الممارسة ،وقد اتسمت مرحلة ما قبل الماركسية ، إما بالطابع العفوى للحركة ،والتنظيمات الفضفاضة ،والنضال النقابى والإصلاحى…أو بالتجارب الاجتماعية المنعزلة بعيدا عن قسوة المجتمعات الأكبر . وقد كانت الحركات الاشتراكية فى هذه المرحلة إما حركات إصلاحية تستهدف تجميل وجه الرأسمالية ، أو حركات رجعية تحاول العودة لنوع من علاقات الإنتاج ما قبل الرأسمالية ، أو ثورية تسعى لنسف الرأسمالية على الفور ، واستبدالها بالاشتراكية ، وربما الشيوعية أيضا.
وقد اكتسبت كلمة الاشتراكية ومن بعدها الشيوعية أيضا كم هائل من التنوع فى المعنى حتى أن الكلمتين من فرط ابتذالهما فقدتا أى معنى ، وفقدتا من ثم وظيفتهما اللغوية فى التعبير عن معنى محدد يتواصل من خلالهما مستخدميهما للتفاهم حول مدلولهما ، و أصبحت لذلك لا أفضل استخدامهما عموما ، فالحزب الهتلرى النازى كان يسمى نفسه بالاشتراكى القومى كما ادعت الحركات و الأنظمة الناصرية والبعثية وغيرها الانتساب إليها ، و أصبحت الستالينية مرادفا للشيوعية، وظهرت ألوان و أنواع من الاشتراكية ترتبط بالفكر القومى أو الدينى البورجوازيين الفاشيين ، فأى من كل هؤلاء من الذين انتسبوا سواء للاشتراكية أو للشيوعية يستحقون يستحقون النسب إلى أى منهما ، وهو أمر لا يمكنا حسمه على وجه القطع . إلا أن ما يمكن أن نلاحظه أن كل هذه المذاهب والحركات والأنظمة كان هناك ما يجمعها من عامل مشترك أعظم ، ألا و هو عبادة وتعظيم وتقديس الدولة برغم ما يفرق بينها من تفاصيل ومرجعيات ، وهو ما يفرقها عن ألوان أخرى اعتقد أنها أكثر ارتباطا بجوهر الاشتراكية والشيوعية كما حلم بها رواد ها، و هو الذى يعنى التحرر الإنسانى النهائى من كل أشكال القهر والاستغلال والاغتراب ، وهى الاتجاهات اللاسلطوية المختلفة التى تقلص دور الدولة لأقصى حد أو تنفيه ، ومن ثم التى لا تفصل ما بين الاشتراكية والديمقراطية التى نجدها فى الفكر الماركسى الغير لينينى ، والحركات اللاسلطوية المختلفة ، ومدارس اليسار الجديد .
وهكذا وبصفة عامة كان الاشتراكيون والشيوعيون ما قبل الماركسية ، صناع نماذج هندسية للمجتمعات الاشتراكية ،وقد حاول بعضهم وضعها موضع التنفيذ فى مستعمرات محلية صغيرة منعزلة عن المجتمعات الرأسمالية ،وبعضهم أخذ يبشر بأن الاشتراكية لن تتحقق سوى بتطور وعى البشر إلى الحد الذى يصل بهم لرفض استغلال وقهر البشر لبعضهم البعض ،وحتى يصل بهم للاقتناع بلا أخلاقية الملكية الخاصة ، و مدى ما تسببه للبشر من تعاسة وعبودية ،وبعضهم أخذ يفنى أعماره فى حبك المؤامرات من أجل الاستيلاء على السلطة السياسية ،وهكذا فأنهم جميعا يملكون نماذجهم النظرية المختلفة ،ويظنون أنها الضمان النهائى لسعادة كل البشر وإلى الأبد ،وهو ما يناضلون من أجل فرضه على الواقع الاجتماعى ،الأمر الذى لابد و أن يقطع بضرورة استبدادهم السياسى ،حتى ولو كانوا ضد أى شكل من أشكال القهر نظريا.فأنهم عمليا لابد أن يستبدلوا سلطة قاهرة جديدة بالسلطة القديمة ،وسيلتهم الوحيدة والممكنة لتطبيق نموذجهم المسبق رغم أنف ظروف الواقع الاجتماعى ، و التى سرعان ما تلفظ هذه النماذج النظرية المنفصلة عنه ،والتى لا تتوافق والضرورات التى تحكم حركة المجتمع،ومن هنا فإن ما هو مشترك بين كل هؤلاء هو خياليتهم (طوباويتهم)،وابتعادهم عن العلمية فى الفكر والممارسة،ومن هنا كان الفشل المزمن هو قدر كل الحركات الاشتراكية،وهو ما حاولت الماركسية أن تتلافاه.
مرحلة تأسيس الماركسية
ـــــــــــــــــ
جاءت الماركسية لترفض كل هؤلاء، فالاشتراكية لدى مؤسسيها ليست دعوة تقبل أو ترفض،وليست نموذجا اجتماعيا سابق التصميم ،وإنما شكل التقدم الاجتماعى الذى لابد و أن يتطور إليه المجتمع البشرى بعد اجتيازه المرحلة الرأسمالية،وهو أسلوب للإنتاج سيقوم نتيجة الوصول لمستوى معين من تطور قوى الإنتاج بقسميها، قوة العمل ووسائل الإنتاج ، سيفرض تطور علاقات الإنتاج لشكل أكثر تقدما ،لتتناسب مع المستوى الجديد لقوى الإنتاج .ولما كانت الطبقة العاملة هى قوى العمل صاحبة المصلحة فى التقدم الاجتماعى فى المجتمع الرأسمالى ،فإن الإرادة الثورية الواعية تكتسب قوتها المادية عبر تبنى تلك الطبقة المنظمة لها ،إلا أن هذا ليس سوى أحد الشروط لإحداث التقدم الاجتماعى المستقبلى ،إلى جوار العديد من الشروط الأخرى ،وبالتالى فإن التطور للشيوعية لن يحدث إلا فى أكثر بلدان العالم الرأسمالى تقدما ،نتيجة توافر الشروط الموضوعية لهذا التغيير ،وبشرط توافر الشروط الذاتية لهذا التغيير والتى تتلخص فى المدى الكافى من الوعى والتنظيم الذى يجب أن تصل إليه الطبقة العاملة لكى تصبح قادرة على إحداث التغيير الاجتماعى.ومن هنا فأن هذا التغيير سيحدث مستقلا بشكل نسبى عن إرادة البشر ووعيهم .طالما سلمنا بأن الوجود الاجتماعى هو الذى يخلق الوعى الاجتماعى ويسبقه.إلا أن هذا التغيير لن يحدث فى نفس الوقت دون هذه الإرادة الواعية لدى من لديهم المصلحة فى التغيير .
فالشيوعية لدى كل من مؤسسيها هى أسلوب للإنتاج تتحرر فيه قوة العمل من عبودية العمل المأجور ، وكل عبودية أخرى .وهذا الأسلوب سيولد كحل للتناقضات التى ستنفجر مستقبلا فى المجتمع الرأسمالى .ما بين قوى إنتاجه المتقدمة وعلاقات إنتاجه المتخلفة ، وهو التناقض الذى سيتجسد فى الصراع الطبقى ما بين البورجوازية والطبقة العاملة ، والذى سيجسده البشر على مستوى الوعى والإرادة فى صورة حركات سياسية واقتصادية ونقابية واجتماعية وفكرية وثقافية.
ومن هنا فالحركة الشيوعية العلمية لا يمكن إلا أن تكون حركة أكثر شمولا من مجرد حزب سياسى لحركة اجتماعية أوسع ، فهى من زاوية معينة حركة فكرية فى الأساس تستهدف توجيه الصراع الطبقى لصالح التقدم الاجتماعى والقوى الاجتماعية التى تتبناه ،بكل أبعاد هذا الصراع السياسية والاقتصادية والنقابية والاجتماعية والفكرية والثقافية ،وذلك من خلال التأثير النسبى لما تحمله تلك الحركة من وعى اجتماعى على الوجود الاجتماعى الذى تعمل فيه ، وبمعنى آخر زيادة حدة الصراع الطبقى وتعميقه من أجل حسمه لصالح التطور الاجتماعى نحو الشيوعية.
وقد أخذت الماركسية تتطور و تنمو فى ارتباط حميم باللحظات التاريخية الواقعية ،فكلما حدث تغيير ما فى الظروف الواقعية ، سواء فى اتجاه المد والنهوض ، أو فى اتجاه الجذر والانحسار ،كان كل من مؤسسيها يطرحان ما يلائم هذه الظروف من أفكار نظرية أو مهام عملية ،التزاما منهما بالجوهر النقدى والعلمى لما يبدعانه أو يكتشفانه من نظريات أو أفكار .على اعتبار أن هذه النظريات أراد لها المؤسسون أن تكون ذات طابع علمى لا يمت إلى طبيعة كل من الميتافيزيقا أو الأيديولوجيا أو الدين بصلة .بكل ما يمكن أن يحمله أيا منهم من دوجمائية .إلا أن هذا التراث لم يكن علميا فحسب ،إذ جاورته كذلك أفكار أيديولوجية ،قد تحولت تعبيراتها النصية إلى ما يشبه النصوص الدينية المقدسة ، وتحول مبدعوها لأنصاف آلهة، وخصوصا لدى العقليات النصية التى تحتكم فى كل شئ إلى النص مادام ينتمى للنسق الفكرى الذى تتبناه وتتعصب له.وذلك على عكس العقليات النقدية التى يتحرر نشاطها العقلى من عبودية النص والتقليد ،لتمارس نقدا مستمرا للواقع والفكر على السواء .
وبالرغم من الطابع النقدى الحاسم للماركسية ،فأن التلاميذ والمؤمنين فيما بعد فى إطار صراعاتهم فيما بينهم ،أخذوا يتراشقون بالنصوص والنصوص المضادة.المنزوعة من سياقها التاريخى ،والمقطوعة الجذور بالظروف الواقعية التى أفرزتها ،وذلك ليثبت كل منهم صحة رأيه ،بدلا من الاحتكام للمنهج العلمى الذى تبنته الماركسية ،فحققت نجاحها فى فهم الواقع .كشرط جوهرى لتغييره .وهكذا أنزوى الجانب العلمى فى الماركسية لتحل بدلا منه أنماط من الأيديولوجيات المتمركسة ، يستند واضعوها فى دعواهم إلى نصوص ما كتبها كل من ماركس و إنجلز ومن جاء بعدهما من الاتباع لينين وتروتسكى وماو وغيرهم ، فى ظل ظروف تاريخية معينة ،لا تنطبق بالضرورة على كل الظروف .أو تأويلات ما لتلك النصوص من قبل فقهاء الدين الجديد الذى لون القرن العشرين برموزه.
والحقيقة هى أن التراث الماركسي هو إفراز عبقرى لكل ظروف القرن التاسع عشر مجتمعة سواء على مستوى الواقع أو الفكر فى أكثر بلاد غرب أوربا تقدما فى ذلك الوقت ،وقد تركت عليه هذه الظروف بصماتها الواضحة ،والحقيقة الأخرى هى أنه فضلا على أن العالم ليس هو غرب أوروبا فحسب فأن الكثير من معالم هذا القرن قد تغيرت كثيرا فى القرن العشرين ، فضلا على أنها حبلى بتغيرات حادة فى القرن الواحد والعشرين، مما يستدعى تطويرا نقديا خلاقا لهذا التراث، وبمعنى آخر إعادة صياغة الماركسية لتتناسب مع ظروف القرن القادم.
والحقيقة الأخرى هى أن هذا التراث يتضمن جزأين أساسيين، الأول ـ وهو الأكثر أهمية ـ المنهج العلمى، بما يتضمنه من مادية وجدلية وتاريخية، والجزء الثانى هو الاستخدام التطبيقى لهذا المنهج العلمى بكل ما أنتجه من أفكار ونظريات، وهذا الجزء تشوبه الانحرافات عن المنهج المعلن نفسه، ففى بعض الأحيان لم يطاوع كل من ماركس و إنجلز الأداء فشابت نصوصهما أحيانا المثالية والصورية و الميتافيزيقية ..على سبيل المثال لا الحصر قوانين الجدل الشهيرة فى كتاب جدليات الطبيعة لإنجلز.
إلا أننا مهما وجهنا من نقد لهذا التراث، فإن هذا لن يقلل من أهميته، وأن كون جوهره المنهجى لم يفقد طابعه العلمى بعد، وإن كان بلا شك يحتاج لتطوير خلاق، يتجاوز جوانبه الضعيفة والشائخة. وإذا كان هذا التراث قد نشأ بواسطة عبقرية فردين انهمكا فى عملية استيعاب نقدى لأرقى ما توصلت إليه البشرية من فكر وعلم وثقافة فى القرن التاسع عشر، وقد أخذا على عاتقيهما خوض الصراع الفكرى مع منتجى كل هذا الإنتاج، وهم الذين لم يكونوا يتجاوزون المئات، والمتمركزين فى عدة بلدان بغرب أوروبا، فإن أية عملية لإعادة صياغة الماركسية ، تحتاج لجهود جماعية منظمة لآلاف المنظرين فى شتى بقاع الأرض بما يتناسب مع ما عرفته البشرية من توسع مذهل فى الأفكار والعلوم والثقافات، وضخامة عدد منتجى كل هذا الجهد الذهنى ، المنتشرين فى شتى أرجاء العالم ، فالمسألة الأكثر إلحاحا إذن هى تنظيم كل هذه الجهود النظرية المتناثرة غير المتصلة ولا المتفاعلة على مستوى العالم ، لكى تتركز وتتفاعل ، كبداية ضرورية لابد منها لحركة شيوعية جديدة، فعهد العبقريات الفردية قد انتهى منذ زمن بعيد فى شتى فروع العلوم.
أما الآن فعلينا التعرف على أبرز ما حدث من تغيرات فى العالم، وما تطرحه هذه التغيرات من إشكاليات نظرية، فى حاجة إلى إجابات نظرية جديدة.
* تحولت الرأسمالية من رأسمالية غير احتكارية، محدودة فى عدد صغير من البلدان الأوروبية، يغلب عليها رأس المال الصناعى، ذات طابع قومى ، تعمل فى إطار سوق تسوده المنافسة الحرة ، وتتعرض لأزمات دورية من تضخم وكساد ، إلى رأسمالية عابرة للقوميات ، سائدة فى شتى بقاع الأرض ، وتنقسم إلى رأسمالية متقدمة تتركز فى المركز (بلدان الشمال) ، و رأسمالية متخلفة تتركز فى الأطراف (بلدان الجنوب) ، إلا أن كلا الطرفين مرتبطان فى وحدة لا تنفصم ، و قد تحول الجزء الأعظم من البورجوازية من طبقة تعيش على الأرباح مقابل تنظيمها لعملية الإنتاج إلى طبقة تعيش على المضاربة على الأسهم والبضائع اكثر مما تعيش على الأرباح ، فى حين يتوسع الاقتصاد الرمزى بمعدلات اكبر بالمقارنة بالاقتصاد الحقيقى ، وقد تحولت البورجوازية من الطابع القومى الاحتكارى المرتبط بالدولة القومية لتصبح أكثر عالمية مما مضى ، وتعمل فى إطار سوق تسوده المنافسة عبر العالم غالبا ، معرض لأزمة ركود دائمة مع استمرارا كل من التضخم والبطالة . أننا نواجه رأسمالية ذات قدرة هائلة على التكيف مع عوامل تدميرها ، وقد نمت لها قوة هائلة وإمكانيات خيالية فى الاستمرار رغم أزمتها الممتدة … وهذه هى إحدى المفارقات التى تصاحب الرأسمالية فى طورها الأخير
وهذا استدعى ويستدعى دراسة جديدة لرأس المال فى ثوبه الجديد ، لإعادة اكتشاف التناقضات الجديدة فى آليات عمل الرأسمالية الحديثة ، والتى لم يعاصرها ماركس عند وضع "رأس المال".
* شهد العالم بعد الحرب العالمية الثانية بدايات ثورة تكنولوجية جديدة ، كان من نتائجها أن تحولت الطبقة العاملة حفارة قبر الرأسمالية ، من كتلة متجانسة من عمال الصناعة اليدويين ، ذوى الأجور المتقاربة ، وظروف المعيشة المتشابهة ، إلى كتلة غير متجانسة تماما ، تضم نوعيات متباينة من العمالة المأجورة ، من حيث نوع العمل ومستوى الأجور والتفاوت الحاد للعائدات على نفس الإنتاجية فى البلدان المختلفة والتعليم والثقافة والوعى، وظروف الحياة والعمل، فيتقلص باطراد حجم العمال اليدويين بالنسبة لعمال التجارة والخدمات، وأصبحت الطبقة العاملة تضم إليها فئات واسعة من الانتلجنسيا كالباحثين والمهندسين والفنيين ..، والذين ينتجون جزءا هاما من القيمة المضافة، ويخضعون للاستغلال الرأسمالى، إلا أن مستوى معيشتهم المرتفع، وثقافتهم ووعيهم البورجوازيان يمنعونهم من الامتزاج بالشرائح الأخرى للطبقة العاملة. وليس ذلك فحسب، فمع تحول العلم والمشتغلين به إلى عنصر من عناصر قوى الإنتاج ، أضيفت شرائح أخرى لقوة العمل المأجورة، خاضعة للاستغلال والقهر الرأسماليين، وهذا يستدعى بالضرورة النضال من أجل جذبهم لقضية التحرر الاجتماعى، ليس عبر نفس الشعارات القديمة، فهؤلاء ليسوا كالعمال الذين تحدث عنهم إنجلز فى كتابه الشهير (حالة الطبقة العاملة فى إنجلترا 1844-1846) ، ولكن جذبهم عبر برنامج مختلف يدفعهم للنضال من أجله إدراكهم لمصالحهم الحقيقية فى مجتمع بلا استغلال ولا قهر ولا اغتراب ، وأخيرا فأن هؤلاء لا يكفى لتحركهم الدوافع الاقتصادية فحسب ، بل لابد وان يرتبط تحركهم بتغير جذرى فى وعيهم المغترب إلى الوعى الشيوعى اللاسلطوى ، بكل شموله الثقافى والسياسى والاجتماعى والفكرى، وهذا يستلزم النضال أولا من اجل الهيمنة الأيديولوجية الشيوعية اللاسلطوية فى أوساطهم.
ومن ثم فالحديث عن ديكتاتورية البروليتاريا بمفهوم عمال الصناعة اليدويين التى كانت تجد مبررها باعتبارها تشكل أغلبية المجتمع الرأسمالى، باعتبارها الشعار السياسى الذى ما يزال مطروحا ، هو حديث عن ديكتاتورية الأقلية، وهو الأمر الذى ينطبق تماما على ثورة تلك البروليتاريا ـ التى تصبح ثورة الأقلية، وخصوصا فى ضوء تزايد معدلات البطالة الهيكلية وتضخم حجم الطبقة الوسطى، التى تقترب من أوضاع الطبقة العاملة، وازدياد حجم المهمشين اجتماعيا.
*تطورت السلطة البورجوازية من الديكتاتورية الواضحة والمباشرة، إلى الديكتاتورية غير الواضحة ولا المباشرة حيث ترسخت الحقوق الإنسانية والديمقراطية فى كل البلدان الرأسمالية المتقدمة على الأقل ، إلا أن هذا لا ينفى عن تلك الديمقراطية زيفها ، ولا ينفى عن تلك السلطة طابعها الطبقى ، ومن ثم الديكتاتورى وإن يكن مستترا، فقد تحولت الدولة البورجوازية من مجرد دولة حارسة لمصالح طبقتها ، إلى جهاز غاية فى الضخامة ، والتعقد، تجاوبا مع تقدم مجالات و أنشطة المجتمع البشرى الحديث، وتطورت وسائل قمعها الدموى المباشر من جيش وبوليس وقضاء وقيود مكبلة للحقوق الإنسانية والديمقراطية .. إلى وسائل قمع غير دموية ولا مباشرة، وأن كانت أكثر قدرة على القهر الطبقى، بالرغم من كل الحريات التى يحصل عليها أفراد الشعب وجماعاته ، بما فيهم الطبقة العاملة . أما استبدادها الأكثر جبروتا فتمارسه الآن عبر أشباح غير مرئية إلا لقلة من المثقفين ، الذين لم تخرب عقولهم بعد ثقافة الاستهلاك التى تروج لها أجهزة الإعلام التى تمارس الديكتاتورية فى أعلى درجاتها على متلقى ما تلقيه عليهم ، هؤلاء المثقفين الذين يدركون مدى ما تمثله من أضرار على وعى المقهورين عموما ، وبالتالى أصبح لا يمكن مقاومة الرأسمالية والتغلب عليها بنفس الوسائل التى عرفها كل من القرنين التاسع عشر والعشرين ، فلا مجال للمقارنة إطلاقا بين الجيوش المسلحة بالبنادق والمدافع ، والجيوش المسلحة بالدبابات والطائرات وسائر منتجات الثورة التكنولوجية الحديثة ، ولا مجال للمقارنة بين أجهزة أمن كانت لا تستخدم أى تكنولوجيا فى جمع المعلومات وبين أجهزة تستخدم هذه التكنولوجيا، ولا مجال للمقارنة بين وسائل تشكيل الوعى القديمة من صحف وكتب ومؤسسات الدين والتعليم فى ظل محدودية نطاق تأثيرهم ، وبين وسائل الميديا الحديثة من إذاعة وتليفزيون فضلا عن السينما والألعاب الرياضية وأخير وسائل التسلية الإلكترونية والإنترنت.
كل هذا يستدعى وبالضرورة إبداع وسائل مختلفة تماما، لإدارة الصراع الطبقى بشتى صوره، سواء على مستوى التنظيم الثورى ، أو على مستوى وسائله المختلفة فى مقاومة تأثير وسائل البورجوازية ، أو حتى الثورة باعتبارها الحدث الفاصل بين نمطين للإنتاج، والتى لا بد وان تحدث عبر سيناريو مختلف تماما عن الانتفاضات المسلحة أو الحرب الشعبية المميزة لما قبل القرن الحادى و العشرين .. الخ ، فربما يكون العصيان المدنى هو الأقدر على مجابهة الجبروت الهائل للدولة البورجوازية وهذا يستلزم جهودا تنظيمية ودعائية هائلة من خلال حركة اجتماعية منظمة بشكل مختلف عما اعتدنا عليه من تنظيمات ، وتستخدم آليات داخلية فعالة ومؤثرة، وهى أمور لا يمكن تحديد كل هياكلها بدقة والتعرف على كل آليات عملها المتشابكة، وسوف يحاول المقال الإشارة إلى بعض ملامحها بعد قليل.
* تطورت علوم القرن التاسع عشر الطبيعى المتميزة بالحتمية و الإطلاقية واليقينية واستقلال الذات عن الموضوع ، إلى علوم القرن العشرين الطبيعية التى تعرف الاحتمالية والنسبية وعدم اليقين ـ وعدم استقلال الذات العارفة عن الموضوع الخاضع للمعرفة ، وهذا يستدعى تطورا للمادية الجدلية وخاصة فى مبحث المعرفة . وكذلك فان عملية ابتذال الماركسية وتحويلها لمذهبية جامدة، حولت المادية التاريخية من منهج فى فهم المجتمع البشرى، لنظرية أحادية الجانب شابتها الحتمية والميكانيكية ، وأصبحت كل الظواهر التى لا يمكن تفسيرها طبقيا أو اقتصاديا ، تقولب فى القوالب الجاهزة للنظرية فى صياغتها الأكثر شيوعا . على سبيل المثال المادية التاريخية بالنسبة لنا منهج علمى فى قدرته على التحليل الموضوعى لحركة المجتمع وطبقاته، إلا أن استخدام هذا المنهج فى تفسير سلوكيات الأفراد باعتبارهم أفراد هو ابتذال ، باستخدام النظرية فى غير موقعها، وهو يشبه بالضبط استخدام قوانين نيوتن فى الطب أو الزراعة، ومن هنا يجب الفصل بين المنهج المادى الجدلى التاريخى نفسه فى محتواه النظرى ، وبين الاستنتاجات الفكرية الناتجة عن استخدامه بشكل غير صحيح، وهو الأمر الذى حول الماركسية إلى شئ مبتذل وجامد.
* بالرغم من رغبة مؤسسى الماركسية فى ربط الشيوعية بالعلم منهجا وحقائق، إلا أنهما لم يتخلصا تماما من النماذج الطوباوية المتفائلة التى تميز بها القرن التاسع عشر، فعلقت بتراثهم المبكر الكثير من الأفكار الطوباوية، والتى كانت تتناسب مع طبيعة الإنتاج الرأسمالى البسيط الذى كان سائدا فى هذا الوقت ، والذى كان ما يزال يحمل الكثير من شوائب الإنتاج الحرفى ، من صغر الوحدة الإنتاجية ، و محدودية السوق ، وبساطة إدارتها ، وسهولة تنظيمها ، وهذا التراث هو ما تتمسك به الكثير من التيارات الماركسية الأصولية ، إلا أن التراث المتأخر حمل الكثير من الواقعية بعد ذلك، ليتناسب مع نمو وتعقد كل من الدولة والإنتاج البورجوازيين.
إن أهم التطورات التى لحقت بالعالم فى عصرنا هذا، هى أن عملية الإنتاج والتوزيع والتبادل، قد أصبحت معقدة للغاية. وتعتمد على وحدات ضخمة للإنتاج وتعمل لسوق ضخم، وتحتاج لجيوش من الإداريين والمهنيين بشتى تخصصاتهم ، والذين تتراكم لديهم الخبرات، وتتحسن كفاءتهم فى العمل ، بثبات مواقعهم فى العمل ، وهى أمور مختلفة تماما عن كل ظروف الإنتاج السابقة ، والتى لم تكن بحاجة إلا لبعض المنظمين هم فى الغالب ملاك وسائل الإنتاج أنفسهم ، والذين من الممكن أن يحل محلهم العمال بسهولة ، حيث لا يوجد أى فرق جوهرى فى قدرة كلا الطرفين على إدارة وحدات الإنتاج ، حيث كانت الحسابات مجرد مسك للدفاتر ، وليست علم قائم بذاته ، لابد وأن يكون هناك من يتخصص فيه ويمارسه كما هو الحال الآن.
أما الآن وفى ظل ظروف الإنتاج الحديثة ، فإنه لابد من إيجاد صياغة جديدة لتنظيم عملية الإنتاج وإدارة المجتمع ككل ، تضمن سلطة المنتجين الفعلية على وسائل الإنتاج ، وهو ما لا يمكن تصوره إلا فى تنظيم لجماعات المنتجين والمستهلكين فى أشكال تتميز بخصائص كل نظام تعاونى وهى ديمقراطية الإدارة ، وباب العضوية الطوعية المفتوحة ، والعائد على الإنتاج والمعاملات ، والعائد المحدود على الملكية العائدة للمجتمع ككل وعدم استخدام العمل المأجور، وهو ما يضمن إدارة أفضل اقتصاديا مع ضمان عدم تحكم البيروقراطية فى كل من الإنتاج والمجتمع ، وهو شكل يمكن أن يشمل كل الأنشطة البشرية .. وهذا يعنى أن يقتصر دور الجهاز الإدارى للمجتمع على الاستقطاعات المالية من الوحدات الاقتصادية المختلفة ، والأنشطة الاقتصادية الفردية، وذلك لممارسة دور المجتمع فى الضمان الاجتماعى لأفراده ، والوظائف العامة من تشريع وتنفيذ وقضاء، وممارسة الرقابة والتخطيط الاجتماعيين ، ومتابعة تشريع وتنفيذ القوانين المنظمة لهذه الأنشطة، وتوجيهها لتحقيق المصالح الاجتماعية العامة ، وإحداث التوازن بين المصالح المختلفة ، بواسطة النظم المالية من استقطاعات ودعم و تسعير وتنظيم لتوزيع كل عناصر الإنتاج . فعدم قيام الإدارة الاجتماعية العامة بأى دور اقتصادى مباشر ، إلا لما هو ضرورى للقيام بالوظائف العامة والاجتماعية ، هو الضمان الأساسى للقضاء على تحكم البيروقراطية واستغلالها ، فالدولة الناتجة عن الثورة الاشتراكية وفقا للماركسية هى دولة مضمحلة متقلصة لأقصى حد ، ووفقا لللاسلطوية هى لا دولة ، ومن هنا لا يجب أن تنمو وتتضخم من خلال ملكيتها و إدارتها لوسائل الإنتاج ، وهى العملية التى لا علاقة لها باللاسلطوية والماركسية الأصيلة التى تفترض الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج ، وانتفاع قوى العمل بما تسيطر عليه جماعيا من وسائل إنتاج ، باعتبار قوى العمل مكونة من منتجين أحرار من كل عبودية، بما فيها عبودية العمل المأجور أيا كانت للأفراد أو المؤسسات أو الدولة. وإذا كان المجتمع ككل يحتفظ لنفسه بحق التصرف فى كل وسائل الإنتاج عبر تنظيمه الإدارى العام ، ففى نفس الوقت، فإن جماعات المنتجين المنظمة ديمقراطيا وتعاونيا تستغل وتنتفع جماعيا بهذه الوسائل، وهو ما يضمن فى النهاية أن تتوزع الثروة المنتجة على قوة العمل كل بحسب العمل المبذول فى إنتاجها ، من خلال جماعات للمستهلكين منظمة ديمقراطيا وتعاونيا.
إن هذا يعنى تنظيم المجتمع سياسيا عبر آليات مناقضة تماما لما هو معروف عن النماذج التى كانت تدعى بالاشتراكية ، فحيث يجب أن يكون التنظيم الإدارى للسلطة الجماعية لأفراد المجتمع على كافة المستويات ، لمجالس منتخبة انتخابا حرا مباشرا تفويضيا يكون دورها هو تنظيم و تسهيل ممارسة السلطة الجماعية لأفراد المجتمع ، والذين يملكون حق إقالة مفوضيهم فى هذه المجالس فى أى وقت و محاسبتهم و تكليفهم و توجهيهم و إحلال آخرين محلهم ، و حق حل هذه المجالس أو سحب الثقة منها ، بل على كل هيئات الإدارة أن تعقد جلساتها علانية ، وأن يتاح للأفراد وجماعاتهم الاطلاع على أنشطتها، وأن تتشكل المؤسسات البديلة عن الجيش والشرطة المحترفين من ميليشيات شعبية مسلحة ومنظمة ومتطوعة وخاضعة لهيئات الإدارة المنتخبة ..هذا هو المبدأ الحاكم فى كل تنظيم اجتماعى بالإضافة إلى ضرورة اللامركزية بحيث تكون الوحدات الأساسية للمجتمع متمتعة باستقلال ذاتى واسع النطاق ، مع ضمان توافر ضمانات الممارسة الديمقراطية و الحقوق السياسية والمدنية لكل أفراد المجتمع ، و ذلك على عكس كل هذه المجتمعات التى كانت تدعى بالاشتراكية التى سادتها بيروقراطية متخمة بالامتيازات على حساب قوى العمل الحقيقية، وإن ما حدث هو نتيجة طبيعية لتحويل الملكية الاجتماعية إلى ملكية الدولة، والدولة العمالية لديكتاتورية بوليسية لحزب يتحدث باسم الطبقة العاملة، ويدعى أنه ممثل لديكتاتورية البروليتاريا.
لعل أبرز اليوتوبيات التى تأثرت بها الماركسية وميزت الحركات الطوباوية، هى الفكرة التى تبشر بمجتمع يخلو من أى جبر اجتماعى على أفراده ، أى فى النهاية لا مجتمع ، حيث يسلك أفراده وفق الجبر الذاتى لكل منهم ، فهم أحرار تماما فى أن يعملوا أى عمل يريدوه ، أو لا يعملوا إطلاقا ، وأن يحدد كل فرد لنفسه قيمه وقوانينه وأخلاقه ، وفوق ذلك فإن الجميع يحصلون على كافة احتياجاتهم بصرف النظر عن ما يسلكوه ، ولعل هذا الحلم الجميل يتناسى أن الأفراد ليسوا فقط إفرازا لظروفهم الاجتماعية الاقتصادية ، إذ أنهم يسلكون كأفراد أيضا بناء على محصلة للعديد من العوامل البيولوجية والتربوية والثقافية، ومن هنا لابد من وجود شكل ما للجبر الاجتماعى على هؤلاء الأفراد يحمى أفراد المجتمع وجماعاته من أمراض وشرور المنحرفين من أفراده وذلك بحق المجتمع بتحميل الأفراد مسئولية أنفسهم وقراراتهم وسلوكياتهم ، فالمجتمع لا يمكن أن يستمر فى الوجود ، إذا ما أصبح عرضه لأهواء أفراده وأمراضهم ، إن ما يمكن تحقيقه واقعيا هو زوال القهر والاستغلال والاغتراب ، بالقضاء على اللطة المنفصلة والمتعالية عن حرية الأفراد ، وأن أقصى ما يمكن تحقيقه فعليا ، هو الوصول للتحرير الكامل للإنسان ، بشرط ألا يتعدى على حقوق وحريات الآخرين ، وبشرط أن لا تكون حريته على حسابهم ، و أن يتحمل مسئولية هذا التعدى إذا ما أقترفه . فالقوانين وان كانت طبقية الطابع إلا أنها تحمى الضعفاء والشرفاء الذين من الممكن أن يتعرضوا لأذى الأقوياء و الوضعاء على نحو عام ، فيمكن مثلا أن نعتبر أن القوانين التى تعاقب على القتل والاغتصاب ما هى إلا قوانين تحمى حياة وأجساد البشر من القتلى والمغتصبين فى أى مجتمع بصرف النظر عن طبيعة المجتمع الطبقية ، وليست مجرد تعبير غير مباشر عن مصالح طبقية معينة ، ومن ثم فالجبر الاجتماعى ضرورة بعد إفراغه من طابعه الطبقى والسلطوى ،وبعد تحويله لسلطة غير منفصلة عن حرية الذين يمارس عليهم هذا الجبر .
اتجاهات ما بعد التأسيس
ـــــــــــــــــــــ
أ – الاتجاهات الإصلاحية
لقد عرفت الحركة الاشتراكية من قبل ومن بعد مؤسسى الماركسية ، الإصلاحية والنضال النقابى ثم البرلمانى فيما بعد مع الحصول على الحقوق السياسية، والتنظيمات الفضفاضة هلامية الطابع، وغير المهيأة للقيام بأى دور ثورى، وإنما يقتصر دورها على قيادة الكفاح الاقتصادى ثم البرلمانى، والمحدودين بتحسين شروط الاستغلال الرأسمالى، وتمثل هذا فى الكثير من الحركات الاشتراكية، والتى كانت أكثرها نجاحا الحركة الاشتراكية الديمقراطية، والتى بالرغم من وصولها للسلطة مرارا وتكرارا فى معظم بلدان غرب أوروبا فإنها لم تفعل من شئ سوى تجميل الوجه القبيح للرأسمالية ، وإطالة عمرها ، وذلك بتسكين الصراع الطبقى وتمييعه بدلا من زيادة حدته ، وإخفاء التناقضات ما بين البروليتاريا والبورجوازية بدلا من إبراز هذه التناقضات ، كل هذا من خلال سياسات إصلاحية ، هى فى الجوهر حلول جزئية مؤقتة لأزمات الرأسمالية الدورية .
فالسياسات الكينزية هى السياسات الفعلية لكل الحكومات الاشتراكية الديمقراطية ، التى مهما تنوعت برامجها ، فإنها لا تهدف سوى إلى ازدياد الطلب العام ، وذلك من خلال التوسع فى الإنفاق العام ، وهى لكل ذلك تفترض ضرورة تدخل الدولة بتأميم المؤسسات الخاسرة ، أو ذات الربحية الضعيفة ، ودعم بعضها الآخر على نحو ما يعرف باشتراكية الدولة ... ولأن الحل الكينزى كان حلا ناجحا لأزمات الكساد الدورية ، فإن الاشتراكية الديمقراطية بوجه عام ، شهدت فترة صعود تاريخى منذ الثلاثينيات ، وإلى السبعينيات من القرن العشرين .. إلا أنها أخذت فى الانحدار بعد ذلك ، والاقتراب تدريجيا فى سياستها وبرامجها من سياسات وبرامج الأحزاب الليبرالية ، وبالتالى فقدت طابعها المميز عن هذه الأحزاب .
والأساس المادى لأزمة الحركة الاشتراكية الديمقراطية فى العالم بأسره ، هو دخول الرأسمالية منذ السبعينات فى أزمة من الركود التضخمى ، الأمر الذى أصبحت معه السياسات الكينزية غير صالحة ، فمنذ الثمانينات وحتى الآن ، ومهما كانت نوعية الحكومة فى أى من دول المركز أو الأطراف ، فأنها تتجه نحو الخصخصة والتراجع عن تدخل الدولة فى عملية الإنتاج ، وهو الأمر الذى يعنى زوال اشتراكية الدولة أيا كان نوعها ، ومنذ هذا التاريخ ومهما كانت نوعية الحكومة ليبرالية أم اشتراكية ، فإنها تسحب كافة المكاسب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، التى حصلت الطبقة العاملة وسائر الطبقات الشعبية عبر تاريخها ، فيما عرف بنموذج دولة الرفاهية ، وبدأت مع التسعينات بوادر عودة الوجه القبيح للرأسمالية الوحشية ، الذى عرفه القرن التاسع عشر .وكان الأساس الموضوعى لسقوط الكينزية هو الديكتاتورية العالمية للسوق التى لا تستطيع معها أى حكومة اشتراكية ديمقراطية مهما خلصت نيتها أن تفرض الضرائب على رأسالمال ومن ثم الإنفاق الاجتماعى العام جذبا للاستثمار ومنع الرأسمال من الهرب عبر الحدود إلا أن علينا أن نفرق بين نوعين من الإصلاحات، الأولى الإصلاحات الانتهازية التى تهدف إلى تمييع الصراع الطبقى ، وتخفيف حدة التناقضات العاملة داخل التشكيلات الاجتماعية الرأسمالية ودعم البيروقراطية الحكومية ، وتلك الإصلاحات الهدف منها هو حل أزمات الرأسمالية لا القضاء عليها .. والثانية الإصلاحات الثورية التى تهدف إلى تطوير قوى الإنتاج بقسميها ، قوة العمل ووسائل الإنتاج ، لأقصى حد ممكن فى إطار نفس العلاقات الإنتاجية الرأسمالية ، وهو الأمر الذى يعنى وصول أزمة الرأسمالية لنقطة الحل الثورى.
فعلى سبيل المثال يعتبر تأميم وسائل الإنتاج فى ظل نفس السلطة الرأسمالية ، هو نوع من رأسمالية الدولة ، يصبح من أخطر سلبياته خداع قطاعات واسعة من العمال بأنهم يملكون قطاع الدولة ، إذا تتوارى فيه عملية انتزاع فائض القيمة منهم ، أما لصالح البيروقراطية أو البورجوازية ، وراء، هذا الستار الكاذب ، وبالتالى فإن عمليات التأميم مهما اتسعت ، تعتبر نوعا من الإصلاحات الانتهازية ، هدفها حل أزمات الرأسمالية أولا ، وخداع العمال ثانيا ، بصرف النظر عن دور التأميمات أحيانا فى دفع تطور قوى الإنتاج فى ظل ظروف تاريخـية معينة.
أما التعليم العام المجانى على سبيل المثال ، فانه يصبح ذو محتوى ثورى ، لأنه يعنى تطوير قوى العمل ، وامتلاكها القدرة الفعلية على استيعاب العلم والثقافة الضروريين ، لممارسة إدارة وسائل الإنتاج والسلطة السياسية فى المجتمع، كما أن القضاء على شوائب العلاقات ما قبل الرأسمالية ، يعنى زيادة درجة رسملة المجتمع ، وفتح الطريق لتطوير قوى الإنتاج .كما تحتل قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان بندا هاما فى الإصلاحات من هذا النوع حيث يتاح للطبقة العاملة فرص أعلى لنمو قدراتها التنظيمية ، وهكذا فان النضال من أجل مثل هذا النوع من الإصلاحات ، وخصوصا فى بلدان الأطراف، هو عمل ثورى من الدرجة الأولى ، ما دامت لا تتوافر فيها بعد الأسس المادية ولا الذاتية للثورة الاشتراكية.
ب- الاتجاهات الثورية
فى مواجهة الاتجاه اللاثورى الذى اخذ ينتشر فى الدولية الثانية، وفى ظل الظروف الروسية الخاصة، حيث الدولة الاستبدادية التى ما كانت لتسمح حتى بالنشاط الإصلاحى والنقابى والبرلمانى ، وفى مواجهة الحركة الشعبية، وبالتأثر بها فى آن واحد ، وفى مواجهة الاقتصادية النقابية ، برزت البلشفية كتيار سائد فى الحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية ، وما تفرع عن أصولها النظرية من فروع متصارعة فى شتى بقاع الأرض ، ( الستالينية والتروتسكية والجيفارية والتيتوية والماوية .. الخ ) ، والتى تتميز مهما اختلفت فيما بينها بالعديد من السمات المشتركة ، أبرزها الطوباوية ، والتى تعنى وضع نماذج اجتماعية مسبقة، والسعى نحو فرضها على واقع لا تتلاءم معه ، مما يعنى ضرورة تبنيهم لأساليب استبدادية وقهرية لا محالة ، ومعنى ذلك التنازل عن الطابع العلمى للاشتراكية ، وغيرها من السمات التى نستطيع حصر أهمها على النحو التالى :-
*أدخلت البلشفية الإرادية فى عملية التغيير الاجتماعى ، وبالتالى أصبحت المسألة الرئيسية لدى معظم المذاهب الفرعية هى الاستيلاء على السلطة السياسية ، بواسطة حزب ممثل لـ ووصى على وبديل عن الطبقة الثورية ، وهو ما يشكل عودة مستترة للبلانكية ، و الاستيلاء على السلطة السياسية سواء بانتفاضة مسلحة ، أو حرب تحرير شعبية ، أو حتى بانقلاب عسكرى ، هى مسألة تكنيك سهلة نسبيا ، من الممكن أن تنجح لو استخدمنا تكتيكها بشكل جيد ، بصرف النظر عن الظروف الموضوعية للواقع ، إلا أن تغيير التشكيلة الاجتماعية للمجتمع عملية أصعب بمراحل ، لأنها تفترض توافر أسس مادية مستقلة عن أى وعى أو إرادة، بل إن هذه الأسس تخلق هذا الوعى، وتشحذ تلك الإرادة ، وتجعلها ممكنة التحقق .
ولأنه فى ظل ظروف تاريخية خاصة جدا ، نجحت البلشفية فى الاستيلاء على السلطة السياسية ، فى ظل ظروف روسيا المتخلفة ، وبسبب نفس هذه الظروف ، والتى لم تكن تتوافر حسبها لا الأسس المادية أو الفكرية للاشتراكية ، وقد كان البلاشفة يراهنون على نجاح الثورة العمالية فى الغرب المتقدم ، مما كان سيساهم فى تعويض تخلف روسيا ، وعندما لم تنجح هذه الثورة لسوء حظ الجميع ، بدأت عملية الردة عن المثل العليا الاشتراكية ، وأفرزت هذه الظروف نموذجا اجتماعيا يتناسب فعليا مع ظروف التخلف السائدة ، بكل ما استدعته هذه العملية من استبدادية السلطة ، وقد تكرر هذا النموذج بصور مختلفة نسبيا حتى شملت بلدان هذا النموذج ثلث المعمورة، وخضع له ما يربو عن نصف سكان العالم .
*وبفضل هذا النجاح المدوى للبلشفية فى استيلائها على السلطة ، أصبح التفسير البلشفى للماركسية هو التفسير الأكثر شيوعا وسيادة وانتشارا ، و ما تفرع عنه من فروع ، وانزوت تفسيرات أخرى ، كانت شائعة فى الجناح اليسارى للدولية الثانية بزعامة روزا لوكسمبرج وبانيكوك ، و جناح الوسط بزعامة كاوتسكى ، وذلك فى خضم التقديس الحماسى للتراث البلشفى ، وما وضعه من نظريات ، وما نشأ عنه من نماذج، بصرف النظر عن فشله فى إحداث التغيير الاجتماعى المقصود.
* ولأن البلشفية أدخلت الإرادية فى صلب الماركسية ، فكانت لابد وأن تبدع فكرة الحزب الطليعى ذى القيادة المركزية الصارمة ، والذى يتم على يده صنع الثورة ، هذا الحزب الذى يتكون قلبه من ثوريين محترفين، يشكلون جهازه البيروقراطى ، ويمارسون على الأعضاء سلطة كهنوتية لا حدود لها ، لا تقبل الاختلافات فى وجهات النظر ، وتتعامل مع الأفكار وحامليها كما يتعامل معها أتباع الديانات المختلفة ، بمنطق التحريم والإباحة.
وقد قدمت البلشفية هذه الصيغة الجديدة للتنظيم ، تحت عبارة متناقضة منطقيا ، ومستحيلة التطبيق عمليا ، ألا وهى المركزية الديمقراطية ، فالمركزية تعنى بكل وضوح خضوع كافة مستويات الحزب ومنظماته المختلفة للمركز ، وخضـوع المستوى الأدنى للمستوى الأعلى ، وتتحول هذه المركزية وبالضرورة فى ظل ظروف العمل السرى ، إلى ديكتاتورية مطلقة للمركز ، وتسلط الكهنوتية البيروقراطية ، وعبادة القيادة ، والتى قد تخفف من آثارها بعض الشىء ظروف العمل العلنى ، أما الديمقراطية فتعنى المساواة الكاملة بين الأعضاء فى كافة الحقوق، ومنها اتخاذ القرارات الخاصة بعمل التنظيم ، وهو الأمر الذى يستدعى ضرورة معرفة هؤلاء الأعضاء لكافة المعلومات عن نشاط الحزب ، وهو الأمر المستحيل فى ظل ظروف العمل السرى وخصوصا مع كبر حجم التنظيم ، وهى الظروف التى تفرض بالضرورة ، تشكل الحزب من قلب محترف بيروقراطى هرمى الشكل ، حفاظا على أمان العمل .
وفى الديمقراطية تخضع الأقلية للأغلبية مع الاحتفاظ بحقها فى الدفاع عن رأيها وتسيده ، وهو الأمر الذى لم تعرفه التجربة حتى الآن ؛ فالأقلية إما أن تقمع أو تطرد أو تنشق ولا مجال لخيار آخر ، وذلك حرصا على الوحدة الفكرية الصلدة التى لا تتسامح مع أى خلاف فى وجهات النظر .
وفى مواجهة نظرية لينين ولدت نظرية روزا لوكسمبرج ، ولا يصح أبدا عند مقارنة النظريتين ، أن ندعى أن نجاح نظرية لينين وفشل نظرية روزا تاريخيا ، يعنى صحة الأولى وعدم صحة الثانية ، فالفشل والنجاح هما نتاج ظروف متداخلة ومتفاعلة ، فأى نتيجة هى محصلة مجمل شروط التفاعل بين الأسباب التى أدت إليها . ثم لابد وأن نقيم نوعية النجاح الذى وصلت إليه اللينينية. وهل كان يمكن أن تضمن تحرر حقيقى للبشر عبر الديكتاتورية والعسكرة والقهر . أم أن النجاح الذى حققته فعليا هو مجرد وصول الحزب للسلطة ، وتحوله لسلطة قاهرة جديدة فشلت فى تحقيق أهدافها المعلنة لوجود ثمة تناقض بين الهدف والوسيلة.
إلا أنه تبقى الانتقادات التى وجهتها روزا لوكسمبرج إلى المركزية صحيحة، والتى انطلقت من حقيقة أن التغيير الاجتماعى هو فعل طبقة واعية ومنظمة، وأن الثورة ليست الاستيلاء على السلطة بوسائل مختلفة، بل إنها اللحظة التى يصبح فيها الصراع الطبقى بين الطبقات الرجعية والطبقات الثورية ، لا مفر من حله إلا بانتزاع الطبقة الثورية ككل وليس حزبها للسلطة السياسية، ومن هنا لا ضرورة للفصل بين منظمات الطبقة السياسية والاجتماعية وبين هذه الطبقة ، إذ لابد وأن يشكلا نسيجا من مستوى واحد تتفاعل سداه ولحمته ، أو بمعنى آخر ، حملة الوعى الأعلى أى الطلائع الثورية باعتبارهم الأكثر وعيا ، وحمله الوعى الأدنى باعتبارهم أقل وعيا . ويأتى فى صلب الجدل بين وجهتى النظر مسألة المركزية الديمقراطية ، حيث اعتبرت روزا أن المركزية المطلقة ونظام الطاعة الحديدى ، يشكلان بذرتا البقرطة والديكتاتورية كما يمكن إضافة الفساد ، وليس ذلك وحسب ، بل وكل الأمراض التى عرفتها التنظيمات الثورية عبر تاريخها ، ومما لا شك فيه أن التجربة أثبتت صحة هذه الاستنتاجات ، كما أثبتها المنطق ، فبيروقراطية الحزب خارج السلطة ، تشكل بيروقراطية الدولة والحزب فى السلطة ، وفى النهاية فإن البيروقراطية هى خميرة الفساد والتحلل للحزب والدولة ، والفشل فى تحقيق الأهداف الثورية .
صحيح أن طبيعة الأمور تفترض أن أى جماعة بشرية وبالتالى الطبقات ، لا يمكن أن تنجح فى أداء مهامها دون ألية موحدة تجمع كل الخيوط التنظيمية فى يدها تعبيرا عن وحدة هذه الجماعة ، ومما لا شك فيه أن قيام الطبقة العاملة بشكل عفوى مفاجئ بالاستيلاء على السلطة السياسية ، دون وجود عناصر من التنظيم تجمع قواها ، وتوجهها للهدف ، لهو مجرد حلم طوباوى مستحيل ، وتكتيك ثبت عقمه ، إلا أن ضرورة العمل المنظم ، وأهمية الآلية الموحدة شئ ، والمركزية والبيروقراطية شئ آخر .
وانطلاقا من ضرورة تنظيم الطبقة العاملة على نحو ديمقراطى تماما ، وفى نفس الوقت الاعتراف بضرورة وجود آلية موحدة تحدد آليات تنفيذ القرارات التى تتخذ بطرق ديمقراطية ، وترجمتها إلى قرارات يومية تفصيلية واجبة الطاعة ، فإن الشرط الجوهرى فى هذه القيادة أن تكون منتخبة ديمقراطيا ومفوضة فى حدود اختصاصها ومهامها التنظيمية ، وأن لا تتبوأ مركزها عبر أى آليات بيروقراطية ، كما أن بساطة الإدارة يعنى تقلص حجم البيروقراطية لأقصى حد ممكن ، وهو الأمر الذى لا يتحقق إلا فى شكل تنظيمى لا مركزى لأقصى حد ممكن . ومن هنا فإننا نرى أن الطبقة المنظمة يمكن أن تكتسب تنظيمها هذا من خلال العديد من التنظيمات المتنوعة ، التى ينظم كل منها شكلا ملائما له من أشكال الصراع الطبقى ، فيصبح لدى الطبقة العاملة العديد من التنظيمات السياسية والنقابية والثقافية والفكرية والاجتماعية ... الخ ، ترتبط فيما بينها فى علاقات متشابكة أفقيا ورأسيا.
وبالطبع فإنه يجب أن يكون لكل نوع من هذه التنظيمات ما يلائمها من هياكل تنظيمية ووسائل نضالية وأهداف ونمط عضوية ونظم مالية .. إلخ ، ولضمان أن تخلو كل هذه التنظيمات من تحكم البيروقراطية ، وأن تسير آليات عملها وفق ديمقراطية مباشرة حقيقية ، فإنها لابد وأن تتكون من وحدات بناء تنظيمية أساسية ، على أن تكون صغيرة الحجم ، مستقلة ذاتيا فى إدارة شئونها الداخلية ، وممارسة نشاطها ، على أساس من الديمقراطية والمساواة الكاملة بين أعضائها.
ولضمان صغر الحجم فالنمو يعنى الانقسام ، عندما يصبح الحجم معوقا للعمل وفق الديمقراطية المباشرة ، وأن تنسق هذه الوحدات على المستويات المختلفة فيما بينها من خلال مندوبين منتخبين ديمقراطيا ، يحق لمن انتدبوهم سحب الثقة منهم فى أى وقت .. وهكذا دواليك من القاعدة إلى القمة .
إن نوعية القيادة المطلوبة لتنظيم الطبقة العاملة هى القيادة الديمقراطية والفكرية التى لا تستمد نفوذها وقدراتها من أى مراكز بيروقراطية ، أو من كونها طليعة بأى شكل ما ، وإنما تمارس قيادتها من خلال قدرتها على الإقناع الفكرى ، الذى يوجه الطبقة بكل منظماتها إلى الفعل الثورى أو الإصلاحى .
* لقد حولت كل الحركات اللينينية بكل فروعها الستالينية والتروتسكية والماوية والجيفارية وغيرها ، الشيوعية العلمية ، إلى أنساق أيديولوجية جامدة ، تقترب من الأديان ومذاهبها المختلفة ، وأصبحت تقدم كاملة بكل ما فيها من علم ومنهج فلسفى وأفكار سياسية واجتماعية ، كوحدة فكرية صلدة ، لا تقبل أى تعديل أو اختلاف ، وقد قدمت كل هذا التراث على تنوع ما فيه على أنه أيديولوجية الطبقة العاملة ، وأنه ما نشأ إلا تعبيرا عن وجودها التاريخى ، ومصالحها الطبقية ، وما لا أستطيع فهمه هو ما علاقة المادية الجدلية أو التاريخية على سبيل المثال بالطبقة العاملة ؟ وهل باختفاء الطبقة العاملة ستختفى تلك الفلسفة ؟ وأعتقد أن القضية مغلوطة تماما ، ومطروحة بشكل عكسى ، فلم تخلق أبدا الطبقة العاملة لا الفلسفة أو الاقتصاد السياسى أو الأيديولوجية السياسية حتى ، فهذه مهمة الفلاسفة والعلماء والمفكرين ، وجهدهم ليس انعكاسا ميكانيكيا لوجود الطبقة العاملة ومصالحها ، وإنما تفهم المسألة على أساس أنه لما كانت الطبقة العاملة صاحبة مصلحة فى التحرر من عبوديتها ، ولتحقيق تقدم اجتماعى ، وهى العملية التى لا يمكن أن تحدث إلا بارتباط هذه الطبقة بالعلم باعتباره فهم الواقع ، وذلك على أساس المفهوم الفلسفى الذى انطلقت منه الماركسية ، وهو أن الحرية هى فهم الضرورة ، إلا أن ضرورة هذا الارتباط لا يعنى الدمج تماما بين ما هو علم وما هو أيديولوجية ، فهذا الدمج يعنى تشويه العلم وتحويله لميتافيزيقا ، وعرقلة عمل الأيديولوجية فى رص صفوف الطبقة نضاليا . ولهذا المفهوم نتيجة مهمة وهى ضرورة الفصل بين النضال السياسى ومنظماته وأهدافه وجماهيره .. الخ ، وبين النضال الفكرى ومنظماته وأهدافه وجماهيره كذلك .. وذلك على عكس العملية الاندماجية بين العلم والأيديولوجية ، وهى التى عرقلت نمو العمل السياسى وتطور الفكر والعلم.
* لقد عرفت كل تلك الحركات، سواء أكانت تعمل سرا أو علنا، وسواء أكانت فى الحكم أو فى المعارضة، سلسلة من الأعراض المرضية المتشابكة والمترابطة فى وحدة لا تنفصم حلقاتها، حيث يفرض بعضها بعضا ، بحيث لم يخل منها حزب من الأحزاب ، سواء أكان نخبويا أم جماهيريا ، صغيرا أم كبيرا ، فى السلطة أو خارجها .. وهذه هى بعض حلقات السلسلة :ـ
أ – لأن البشر الواقعون فى الاغتراب وهم الأغلبية الساحقة فى المجتمعات الطبقية، لابد وأن يبحثوا عن الثابت والنهائى والمطلق والمقدس ، فنجد أنهم حتى وهم يتبنون المادية الجدلية ، يستبدلون مقدسات بمقدسات ، ونصوصا بنصوص ، ويتورطون فى تحويل العلم إلى ديانة ، فيعبدون أشخاصا ورموزا ونصوصا ، ويغرقون فى دوجمائية تعيق أى إبداع ، وميتافيزيقا تشوه أى فهم صحيح للواقع ، رغم المادية الظاهرة ، والجدلية المعلنة .
ب- ولأنهم مثاليين و طوباويين فى الحقيقة بالرغم من واقعيتهم الزائفة ، فإنهم يستهلكون أعمارهم ، ويبددون طاقتهم ، ويبعثرون جهودهم فى صراعات نظرية ، وأحيانا حول قضايا تاريخية معزولة عن الواقع المعاش ، بعيدا عن القضية الأهم فى نظر الماركسية ، وهى تغيير العالم نحو المزيد من التقدم الاجتماعى والإنسانى على كافة المستويات.
ج- ولأن متبنى الدين أو الأيديولوجيا أو الميتافيزيقا ، يظن بإمكانية الوصول لليقين ، وبأنه ومن يتبنون أفكاره يمتلكون وحدهم الحقيقة ، فإن ذاتيتهم الفردية والتنظيمية ، وما تعنيه من روح فردية وحلقية مدمرة ، تدمر كل جهودهم أدراج الرياح .
د- ولأسباب مختلفة ، بعضها ذكر وبعضها لم يذكر ، تسود اللاأخلاقية التى تصل إلى حد الميكيافيلية فتصبح كل الوسائل مشروعة ومبررة من أجل غاية لا يمكن أن تنفصل ميكانيكيا عن الوسائل المؤدية لها ، فالوسيلة والغاية كالسبب والنتيجة ، طرفا علاقة جدلية ، يترابطان ويتبادلان التأثير والمواقع .
هـ- ومن هنا يأتى تمجيد التآمرية ليس فقط ضد السلطة والعدو الطبقى ، بل وضد الرفاق الآخرين ما داموا لا ينتمون لنفس الحلقة أو التنظيم ، وضد الكتل المخالفة والتنظيمات الأخرى على نفس الجهة من المتاريس.
*وأخيرا فالعنف على سبيل المثال الذى يقرنه البعض بالثورية هو و إن كان قابلة التاريخ حقيقة ، فأنه ليس الوسيلة الملائمة للتحرر النهائى المنشود، وإن كان من وسائل التغيير الاجتماعى على وجه العموم ، ذلك لأن العنف لا يمارسه إلا من يستطيعونه من القادرين على حمل السلاح والمهيئين لذلك جسديا ونفسيا ، وهؤلاء لابد وأن يخضعوا لتراتبية عسكرية ، تصبح الطاعة العمياء لمن هم أعلى والاستبداد بمن هم أسفل قانونها الأساسى ، ففى الصراع المسلح لا يملك أحد ترف الاختلاف والمناقشة ، ويكون الاحترام لمن يملك القوة لا لمن يملك الحق هو القاعدة المسلم بها من الجميع . وأخيرا والأهم فأن من يمارسون العنف سيصبح لهم بحكم تملكهم وسائل الإكراه المادى السيادة على من لا يملكون تلك الوسائل ، و من ثم الامتيازات بحكم هذه السيادة .. هذا هو قانون البلطجة الذى صبغ كل التاريخ البشرى المكتوب ( من يملك القوة المسلحة يملك الحق فى الحكم على من لا يملكوه ، وانتزاع الفائض الاجتماعى من منتجيه ) ، وإذا كان التحرر الحقيقى هو نفى للبلطجة من المجتمع البشرى ، فلابد وأن يكون الطريق إليه ليس باستبدال من يحتكرون العنف بآخرين يرفعون شعارات التحرر . وإنما بفعل جماعى منظم من المقهورين قادر على إصابة آلة العنف بالشلل . فعل ينهى العنف والقهر والإرهاب من العلاقات البشرية ، فالحركة الوطنية الهندية لم تطرد الإنجليز من درة تاجهم وإمبراطوريتهم بالعنف المسلح ، ومن ثم فالهند هى الوحيدة من بين كل دول العالم الثالث التى لم تجرب استبداد الزعماء الوطنيين بشعوبهم ، وما زالت تمارس الديمقراطية البورجوازية رغم كل ما يحمله المجتمع الهندى من مشاكل وتناقضات ، برر ما هو أقل منها بما لا يقاس أشد أنواع القهر والاستبداد . ربما كان هذا بسبب ثقافة تقدر وتقدس قيمة الحياة فلا تؤذى أى كائن يملكها حتى ولو كان حشرة فما بالك بإنسان ، إلا أن هذا لا يعنى أن المجتمع الهندى لا يعرف العنف على الإطلاق ، فقد قتل المهاتما غاندى على يد متعصب هندوسى تربى أصلا على عدم إيذاء أى كائن حى وتعصب لما تلقاه من تلك الثقافة ، فإذ به يقتل شخص فى مقام غاندى الذى كرس حياته لترسيخ اللاعنف فى العلاقات الإنسانية وهو جوهر تلك الثقافة نفسها . و فى هذا إشارة عامة على محدودية الأثر الثقافى عموما . و لا يجب أن ننسى أن الستالينية فى الاتحاد السوفيتى وشرق أوروبا لم تسقط بالعنف ، وقد واجهت القوى الديمقراطية أعتى أشكال الدولة استبدادا وجبروتا ، وسقطت تلك الدول عبر العصيان المدنى كما تتساقط قصور الرمل بفعل الأمواج . وتحطم سور برلين وتوحدت الألمانيتين فورا رغم اختلاف النظامين سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ، وتفاوت مستوى المعيشة ونوعية الحياة فى كل منهما ، بفضل اقتحام الجماهير العزلاء للسور وتحطيمه رغم كل آلة العنف التى كانت تحرسه . فى حين تتلكأ الوحدة الأوربية ، وماتت الوحدة العربية بفضل البيروقراطيات الحاكمة ، وتبريرها هذا التلكؤ بالاختلافات السياسية والثقافية والاجتماعية ، و تفاوتات مستويات المعيشة ، ونوعيات الحياة سواء بين البـلدان الأوربية أو بين البلـدان العربية .
ج- الاتجاهات القومية
وقعت وتقع الغالبية الساحقة من الحركات والتنظيمات الاشتراكية ، فى خطيئة أساسية ، هى كونها ذات طابع قومى صرف ، بالرغم مما تدعيه من أممية ، وربما يكون هذا ناتجا عن أن النضال السياسى لابد وأن يوجه ضد سلطة سياسية محددة ، مازالت قومية حتى الآن ، وهو ما يسبب مشكلة نظرية وعملية لأى حركة ثورية أممية ، وفى النهاية غرق الجميع فى القومية ، سواء أكانوا يقولون بإمكانية الاشتراكية فى بلد واحد أو من القائلين بعدم إمكانها إلا عالميا ، أو من تركوا النضال الطبقى لينغمسوا فى النضال الوطنى والقومى ، وأخذوا يبشرون بإمكانية التحرر الوطنى ، والتنمية المستقلة ، وضرورة فك الارتباط بين المراكز والأطراف ، وخلطوا بل وماثلوا أحيانا ما بين القومية والاشتراكية ، فكل هؤلاء يتناسون المعضلة الآتية :
أن علاقات الإنتاج السائدة فى عالمنا هى العلاقات الرأسمالية ، بالرغم من أنها سائدة بشكل أكثر نقاء ، ومتطورة لدرجة أكثر تقدما فى المركز الصناعى المتقدم فى بلاد الشمال ، وبأشكال متفاوتة فى النقاء ، ودرجات أقل تقدما فى الأطراف متوسطة التصنيع فى الجنوب، إلا أنه بسبب من وحدة السوق الرأسمالى عالميا فأن طبيعة المرحلة الثورية الراهنة فى كل تلك البلدان المتقدمة والمتخلفة هى الثورة الاشتراكية بلا شك .. برغم أن الأسس المادية والفكرية للاشتراكية قد لا تتوافر فى الكثير من هذه البلدان ، وخصوصا فى بلاد الأطراف شديدة التخلف ، فأن اجتيازها مرحلة بناء الأسس المادية والفكرية للاشتراكية ، وعلى رأسها تطوير قوى الإنتاج ، والتخلص من بقايا العلاقات ما قبل الرأسمالية ، لن يكون سوى بمساعدة بلدان المركز المتقدمة عندما تنجز ثورتها الاجتماعية ، والتى يكون الانتقال للاشتراكية فيها ، مرهون بالشروط الذاتية للثورة من وعى وتنظيم الطبقة الثورية .
وإذا كان تطوير قوى الإنتاج فى الأطراف مرهون بالاستقلال عن السوق الرأسمالى العالمى بكل ما يعنيه من تطور لا متكافئ ، وإعادة بناء مركب (مراكز / أطراف) أو (تقدم / تخلف) ، فإن ما يقف فى مواجهة الثورة الاشتراكية فى بلد واحد ، أو الثورة الوطنية التى تسعى لهذا الاستقلال ، ولو نسبيا عن السوق الرأسمالى ، هو الحصار الرأسمالى من الخارج ، والذى إن لم يكن عسكريا ، فسيكون اقتصاديا على الأقل ، وهو الأمر الذى يساعد على تعجيل تدهور السلطة الثورية ، شعبية كانت أم عمالية ، إلى سلطة بيروقراطية ، نتيجة التخلف العام لقوى الإنتاج ، الذى يساعد على إعادة إنتاجه وتعميقه الحصار الإمبريالى ، وذلك بالحرمان من إمكانات السوق العالمى أولا ، وثانيا فإن هذه السلطة تضطر للاستبداد السياسى فى الداخل حماية للدولة المحاصرة ، مما يساهم فى المزيد من التدهور العام ماديا وفكريا ، وأخيرا فإنه مهما يطول الزمان ، فإن الموت انسحاقا فى النهاية بين سندان قوى الثورة المضادة ، والبيروقراطية الحاكمة نفسها من جهة ، ومطرقة الإمبريالية العالمية التى لن تتسامح مع خروج جزء من العالم من تحت سيطرتها من جهة أخرى هو المصير الأكثر احتمالا . وقد حققت الإمبريالية بالفعل نصرها على كل أشكال الخروج من تحت سيطرتها ، بفضل تملكها وسائل الإنتاج الأكثر تقدما فى العالم ، والتى تجاوزت أفق الدولة القومية ، واستفادتها من إمكانيات السوق العالمى بكل اتساعه ، وهو ما يلائم علاقات الإنتاج الاشتراكية.
هذا هو السيناريو الذى حدث خلال الخمسة والسبعين عاما الماضية، سواء فى الدول التى كانت تسمى اشتراكية ، أو أنظمة التحرر الوطنى، والتى لم يبقى منها الآن ، إلا لافتات بلون احمرار الخجل لا احمرار الثورة . وهو الأمر الذى تدفع الظروف الموضوعية لتكراره ، طالما يعمل قانون التطور اللامتكافئ تأثيره ، فى نقل الرأسمالية أزماتها إلى أضعف حلقاتها ، وهو ما يدفع الطبقات الشعبية فى هذه الحلقات الضعيفة إلى الثورة ضد الرأسمالية ، والتى لا تستطيع فى نفس الوقت تجاوزها إلى الاشتراكية.
ومن هنا تحل بيروقراطية الدولة محل كل من البرجوازية الضعيفة والعاجزة والطبقة العاملة الضعيفة والعاجزة ، لكى تحقق ما لم تستطعه كلاهما ألا وهو تطوير قوى الإنتاج سواء أكانت اللافتة اشتراكية أو وطنية .. وفى إطار أسلوب إنتاج لا هو بالرأسمالى تماما ولا هو بالاشتراكى مطلقا . تلك الأشكال المختلفة قد تجاوزتها فعليا قوى الإنتاج المتطورة ، مما أدى لانهيارها تقريبا فى معظم بلاد العالم .
الأساس المادى لفشل هذا الطريق هو أن الإنتاج المادى تجاوز فى معظمه إطار الدولة القومية ، و أصبحت تسيطر عليه تماما الشركات متعدية الجنسية ، وحيث أن أفضل وضع لإنتاج السلعة ، وبحيث تحقق أفضل ربحية ممكنة وبشكل اكثر كفاءة هو أن تنتج وتسوق ويتم استهلاكها عالميا.
إن نظرة فاحصة على تاريخ تطور الرأسمالية، وأشكال تدخل الدولة فى عملية الإنتاج فى العالم خلال المائتى عام السابقة تؤدى إلى مجموعة من الاستنتاجات. تبرهن على أن الاشتراكية نفسها ، أو التحرر الوطنى يصبحان حلمان مستحيلا التحقق سواء فى بلد واحد، أو مجموعة بلدان منعزلة عن السوق الرأسمالى العالمى ، اللهم إلا إذا كانت هذه البلدان المركز الصناعى المتقدم نفسه ، والذى يعنى انتصار الثورة الاشتراكية فيه ، حسمها على مستوى العالم بأسره .. فهذا المركز المتقدم يبلغ تعداد سكانه 20% من تعداد سكان العالم ، وينتج حوالى 80% من الإنتاج العالمى ، ويبلغ حجم التجارة العالمية بين أقطاره حوالى 70% من حجم التجارة العالمية ويسيطر على حوالى 70% من الإنتاج العالمى من خلال الشركات العملاقة العابرة للقوميات ، والتى تملك من النفوذ والإمكانيات المادية ، وتسيطر على قوى إنتاج تفوق بمراحل معظم ما تملكه بلاد الأطراف ، وهو بذلك الحاكم غير المباشر والفعلى للعالم .. بكل ما يعنيه هذا من عالمية كل من علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج .. ورغم كل التناقضات والصراعات الإقليمية والقومية والمحلية بين البورجوازيات المختلفة ذات الطابع الثانوى .. إلا أن ما بينها وبين الطبقة العاملة من تناقضات أساسية ، يتجسد فى كون أن التناقض الطبقى بكافة أشكاله بينهما ، أصبح تناقضا عالميا يتجاوز الأطر المحلية والقومية الإقليمية الضعيفة ، ولن يحسم فعليا إلا على مستوى العالم بأسره ، وهو الأمر الذى تتخلف عن اللحاق بمستواه الطبقة العاملة على كل جبهات الصراعات الفكرية والسياسية والنقابية ، وهو ما يعرضها للمزيد من الاستغلال والقهر والاغتراب ، فعندما تكون المفارقة هى أن تتواءم الرأسمالية مع العالمية وتعجز الطبقة العاملة عن ذلك ، ينجرف العالم يمينا ، ولا حل لهذه المعضلة إلا بأن تحول الطبقة العاملة صراعها الطبقى بكافة أشكاله إلى الساحة العالمية ، فيتجه العالم يسارا .
ويبقى السؤال الجوهرى ، كيف؟ وتكمن الإجابة فى أنه بالرغم من كل الصعوبات العملية والنظرية الهائلة ، يتمثل الحل فى أن تخوض الطبقة العاملة صراعها الطبقى ، ككتلة واحدة عالمية ، ضد رأسمالية أصبحت تزداد عالمية ، فليس أمامنا سوى بذل جهود خارقة وجبارة ، قد تستغرق عقودا من الزمن ، لتوجيه الصراع الطبقى ، بكل أشكاله ، عبر حركة عالمية فعلا ، لتخطى كل تلك العقبات التى تحاول دون الوصول للهدف ، وهو تطور الطبقة العاملة العالمية لطبقة واعية ومتحدة ومنظمة ، أو نستسلم لبربرية فعلية ، وانهيار شامل للحضارة البشرية تجرف الرأسمالية العالمية البشرية نحوه ، ومن ثم فلا أمل لنا فى الخلاص من هذا المصير المظلم نحن سكان الأرض إلا بالثورة العالمية .. ولا يوجد طريق ثالث ممكن .
فالمجتمع البشرى شأنه شأن الأشياء المادية ، سواء أكانت طبيعية أم اجتماعية ، هو عبارة عن عملية شديدة التعقيد بين مكونات مادية أصغر ، وان هذه العملية لا تعنى سوى ترابط هذه المكونات ، وتبادلها الفعل والفعل المقابل ، لتكون وحدة الشىء المادى ، الذى نتعرف عليه من خلال مظاهر مختلفة بعضها ثانوى وبعضها أساسى ، وفى حالتنا هذه فان العملية التى تكون جوهر الوجود الاجتماعى ، هو الإنتاج المادى ، والذى يتكون من عمليتين أو علاقتين علاقة المجتمع ككل مع الطبيعة ، وهى تحدد مستوى قوى الإنتاج ، وعلاقات أفراد المجتمع بينهم خلال هذه العملية ، وهو ما يعرف بعلاقات الإنتاج ، وكلتا العمليتين تتطوران عبر التاريخ ، فى ترابط كامل فيما بينهما وتحول الأشياء لأشياء أخرى ، يعنى أولا انتهاء العملية التى كانت تكون الشىء المتحول منه ، ونشوء عملية جديدة بين مكونات جديدة أو تغير طابع العملية بين نفس المكونات القديمة وتكون من نتيجة هذا نشوء الشىء الجديد المتحول إليه.
فالمجتمع الرأسمالى هو عملية بين الطبقة العاملة البورجوازية ، وعند تحوله لمجتمع آخر ، فان العملية والأطراف التى تجرى بينها تلك العملية تتغير تماما ، لتتكون عملية جديدة بين مكونات أخرى هى جماعات المنتجين فى المجتمع الاشتراكى .
فالمجتمع الرأسمالى العالمى هو من زاوية عملية انتزاع فائض القيمة من الطبقة العاملة العالمية ، لصالح الرأسمالية العالمية .. وهو من زاوية أخرى، عملية ترابط متبادل بين المراكز الصناعية المتقدمة، والأطراف المتخلفة ، أو بمعنى آخر بين المجتمعات القومية والمناطق الإقليمية المختلفة ، التى تكون المجتمع البشرى العالمى ، وتتواجد نفس العلاقة داخل الدولة الواحدة بين مناطقها المتقدمة والمتخلفة ، وهذا نتيجة فعل قانون التطور اللامتكافئ المصاحب لتطور الرأسمالية ، وبالتالى فان أى تغيير لهذا المجتمع العالمى الواحد برغم كل ما فيه من تناقضات و تفاوتات ، يعنى إنهاء العمليات التى تكونه ، وتكون عمليات جديدة هى بالضرورة نفى للمكونات القديمة (البورجوازية والطبقة العاملة – المراكز والأطراف – التقدم والتخلف – الريف والمدينة - .. الخ )
الأمر الآخر الذى يؤكد وحدة المجتمع البشرى برغم كل ما يعمل فيه من تناقضات حادة وما يظهر لنا فيه من المفارقات الصارخة بين الترف الفاضح والمجاعات البشعة ، بين الإسراف الفاحش فى إهدار الموارد وبين الندرة ، بين التقدم العلمى المذهل و التأخر الفكرى الهائل، ما بين رأسمالية متطورة وعلاقات إنتاج ما قبلها ، ما بين التكنولوجيا المتقدمة والبدائية .. الخ ، وبرغم ازدياد حدة النزاعات القومية والعنصرية والدينية و الإقليمية ، وبرغم الحروب التجارية بين الرأسماليات العالمية ، هو أن العملية الأخرى التى تكون المجتمع البشرى، وهى علاقة المجتمع بالطبيعةـ لتحويلها لمنتجات مادية عبر عملية الإنتاج ، وهى العملية التى كانت حتى عهد قريب ، تتم بشكل محلى أو قومى فى الغالب الأعم ، فأنها قد أصبحت تجرى الآن على مستوى الكرة الأرضية بأسرها ، وهو الأمر المرتبط بالمستوى الذى وصلت إليه قوى الإنتاج من تقدم ، وإن أى تراجع لهذه العملية إلى مستوى المحلية أو القومية ، هو تراجع لمستوى قوى الإنتاج ، وبمعنى آخر التخلف الاجتماعى ، وهو الأمر الذى يخالف الهدف الجوهرى لليسار ، والذى لابد أن يهدف إلى البحث عن سبل التقدم الاجتماعى والذى من أهم شروطه تطور قوى الإنتاج وعلاقاته .
فعمليات إنتاج أى سلعة فى العالم لا تتم إلا عبر العالم بأسره ، وبعكس الحالة فى المجتمعات السابقة على الرأسمالية ، حيث كانت تتميز معظم المنتجات بالطابع المحلى ، وبالتالى كان من الطبيعى أن تنعزل تلك المجتمعات المنعزلة عن بعضها ويتطور كل منها على حدة ، أما فى حالتنا هذه فإن أى تغيير أو تطور حقيقى لابد وأن يكون عالميا ، حيث تتعمق عالمية نمط الإنتاج الرأسمالى يوما بيوم وهذا لا ينفى أنه اتسم بالعالمية منذ أول لحظات وجودة رغم ارتباطه بالدولة والفكر القومى فى نفس الوقت ، وهو ما يجعل ضرورة تغييره كليا وعبر العالم هى الإمكانية الوحيدة المتاحة ، رغم كل صعوباتها الظاهرة ، وهى مسألة مشروطة بمستوى وعى وتنظيم ووحدة الطبقة العاملة العالمية ، بالمعنى الواسع للكلمة، الذى يتسع ليشمل كل من يقوم ببيع قوة عمله مقابل أجر ، ولا يتحكم فى إدارة وسائل الإنتاج ، ويقع تحت القهر والاستغلال الرأسماليين ، ويعانى الاغتراب من جراء عبودية العمل المأجور . على أن تكون هذه الوحدة نواة لوحدة أكبر تضم كل المضطهدين والمقهورين والمستغلين . فإذا كانت البورجوازية تاريخيا قد قادت العالم بأسره فى قفزة هائلة نحو التقدم .. فإن على هذه الوحدة الأممية أن تقود العالم لقفزة أخرى لمزيد من التقدم والحرية والإخاء والمساواة والعدالة.