|
من نبض المخيم... المشاعر في الذاكرة الجمعية
عبدالعزيز الصالحي
(Abdalaziz Al-Salehi)
الحوار المتمدن-العدد: 4204 - 2013 / 9 / 3 - 01:23
المحور:
القضية الفلسطينية
لكل فرد ولكل جماعة هوية، ويكتسب الأفراد هوياتهم من الجماعة التي ينتمون إليها، جميع القيم والمباديء والأفكار الإيجابية والسلبية هي نتاج التنشئة والمحيط (المجتمع). ولكن بعد حالة الفقدان وتشتت المجتمع كيف تكون الهوية في حال تعريفها واضحة المعالم؟ اللآجيء الفلسطيني يعيش اليوم في مخيمات اللجوء ينتظر يوم العودة، وبالرغم من حب الفلسطيني لأرضه ونزعة عدم التنازل الموجودة داخل كل فلسطيني. بالإضافة لذلك فإن عنصراً أساسياً له دور في الحفاظ على هوية اللآجيء الفلسطيني الأصلية من الضياع، وهي الذاكرة الجمعية. في حالة اللاجئين الفلسطينيين، وخصوصاً من يقطنون المخيمات، يوجد "وعي" يعبر عنه بإشارات ورسائل مباشرة وغير مباشرة تنقل للأجيال الجديدة حول التهجير القسري وسرقة الأرض ومسيرة الهجرة، وهذا "الوعي" عادةً يمارس بين الأجداد والأحفاد أو بين كبار السن والجيل اليافع. ولربما كلمة "وعي" لا تعطي الوصف حقه إلا أنني لم أجد كلمة تصف عملية نقل الذاكرة، أي أن هذه العملية لا تقتصر على التلقين والإصغاء، هذه حالة من التفاعل الزمني بين الواقع والذكريات المحفورة داخل الأجداد تنقل بشكل غير مباشر لتترك آثارها على الجيل الجديد.
يعتبر هالوباكس أن الإطار الاجتماعي والذي تنشئه ثقافة مجتمع ما، يخلق نسق جمعي يجعل الخبرات الفردية قابلة للتذكر و للتفسير عبر رجوع الأفراد إلى الإطارات المرجعية الاجتماعية، بالتالي يجعل ذكرياتهم ذات طابع مرجعي جمعي. يعرف هالوباكس الذاكرة الجمعية بأنها ذاكرة الذاكرات الجماعية أو مجموع هذه الذاكرات في مجتمع بشري ما. ويميز بين مفهومي الذاكرة الجماعية والذاكرة الجمعية، إذ أن الذاكرة الجماعية هي لجماعة وحيدة معينة داخل المجتمع، أما الذاكرة الجمّعية فهي ذاكرة يجتمع تحت إطارها مختلف الجماعات المكونة للمجتمع ( كوساح، زهير. الحوار المتمدن، عدد 1755 - 2006 / 12 / 5 - 06:48). الذاكرة الجمّعية هي مجموع كل هذه الذاكرات الجماعية، بالتالي عند الحديث عن مجتمع اللآجئين الفلسطينيين فإننا نتحدث هنا عن ذاكرة جمعية. تعتبر الذاكرة الجمعية أحد أهم الأدوات لاستحضارالثقافة وفهم الماضي وتجلياته، لكن هذا وصف مجحف بحق الذاكرة الجمعية عند وصفه للفلسطينيين، فالفلسطيني لم يفقد ثقافته أو ماضيه، الفلسطيني بمجرد دخوله للمخيم أو حتى كونه يقطن المخيم هو يجسد هذه الذاكرة ويعيشها ويذكر العالم كل يوم بالجريمة الأكبر وهي سرقة أرضه وتهجيره ناهيك عن المجازر التي ارتكبت في حقه، بالتالي لا يمكن القول أن الذاكرة الجمعية لدى الفلسطيني هي عملية استحضار للثقافة. روشيل ديفيس حددت دور الذاكرة بشكل مباشر، بصفتها مرتبطة بالثقافة تسمح لنا بأن نفهم الماضي وتجلياته الحالية. وترى ديفيس أن حياة الكتب والمقالات حول حياة اللآجئين الفلسطينيين قبل عام 1948 هي ممارسة اجتماعية وثقافية لاستذكار الماضي (ديفيس، روشيل. "الكتب التذكارية الفلسطينية والسير الذاتية والجماعية"، 2007م). لكني أرى أن الذاكرة الجمعيّة لدى اللآجيء الفلسطيني لا تقتصر فقط على الأحداث أو على الصورة التي تصور له من أجداده والكتب، ولا تقتصر على الفلكلور والعادات والتقاليد فقط، بل إن هناك ما يميز الذاكرة الجمعية للآجئين وهو أن هذه الذاكرة خلقت ضميراً جمعياً لا ينبع من فكرة التهجير فقط، بل من المشاعر المتوارثة التي تغذي هذا الضمير الجمعي والذاكرة، فالظلم الذي واجهه اللآجئون من قبل وما زالوا يواجهونه كل يوم في مخيماتهم هو وبشكل تلقائي يذكرهم بحقهم المسروق والمنسي من العالم. دعوني أبسط الفكرة بقصة قصيرة حول محور الحديث هنا، في يوم عيد الفطر الماضي جلست أنا وجدتي "رتيبة" نتسامر ونتحدث عن الذكريات بشكل عام، وجرّ الحديث عرضاً لذكريات طفولتها، كان لكل ذاكرة وصف دقيق، لا يقتصر فقط على سرد الأحداث بل إن أكثر ما أدهشني هو تفاعل جدتي مع ذكرياتها، في وصفها للأعراس تبتسم جدتي وتذكر ما لبست وما وضعت على رأسها وكيف تم نقلها من قريتها (البرج) إلى القرية التي عاش بها جدي قبل التهجير (بيراماعين)، واللتان في كل الأحوال هجرتا ودمرتا وتقام عليهما اليوم واحدة من أكبر المستعمرات الصهيونية المستحدثة "مودعين". استحضار الذاكرة لم يكن أمراً عادياً هذه المرة، شعرت بأن ابتسامة جدتي كانت من الصميم، حديثها المتقطع لم يوجه لي فقط، شعرت بأنها تردد الذكريات والتفاصيل في عقلها، هي لم تنظر لي بتاتاً، كانت تنظر للحائط وتحرك يدها واصفةً كل لحظة كل شيء، كأنها ترسم ما ترى، إلى أن وصل الحديث للنكبة والتهجير، لا ابتسامة ولاحديث متقطع، حالة غضب وحزن ارتسمت على ملامح وجهها المتجعد لكبر سنها، حتى أن يدها لا ترسم الحدث، هي تشعر بالخذلان والحرقة والألم، وكأنها لا تريد أن ينقل الجرح لي أو أن أفهم ما تشعر، ولكن بكل بساطة ومن خلال انخفاض نبرة صوتها شعرت أن فقدان الأرض وسرقتها كانت الصدمة الكبرى والحادثة الأكبر التي غيرت مسار حياتها كما غيرت مسار سائر حياة اللآجئين.
في قصة أخرى أخبرني إياها شخص من الجيل الثاني - الذين لم يحضروا التهجير وإنما أبائهم عايشوه - ألح على أبيه لسنوات أن يذهب لزيارة قريتهم المهجرة (مجدل الصادق)، لكن الأب رفض رفضاً قاطعاً، حتى أن الشخص كان يتعجب لردة فعل والده، هو كان يعلم أن والده متأثر من حديثه عن القرية لكن هل يعقل أنّه لا يحن؟! هل يعقل أنه لا يريد زيارتها؟ّ! فما كان به إلا أن قام بأخذ والده دون أن يعلم الوالد إلى أين تذهب المركبة به، وعندما وصلوا صدم الرجل لرده فعل أبيه. يقول لي الشخص: "أنا عمري ما شفت أبوي ببكي، لما وصلنا مسك إيدي ونزل على ركبه" ويصف أن أباه جلس لمدة ربع ساعة على ركبتيه، منهاراً، لم يتكلم لم يتحدث، فقط تنهمر الدموع على وجهه لمدة ربع ساعة متتالية، ثم قام وبدأ يتفقد المكان ويقول: "هذه دارنا، هذه دار خالك صالح، هون كان بير أبو أحمد، كنت بدي أزرع الزيتون جنب الدار..." وعندما حاول مواساة والده قال له والده: "هذا جرحي، هذا جرحي..." هو لم يفهم من قبل لماذا كان يرفض والده زيارة الأرض، هو الآن بات يفهم بل ويشعر، آخر كلمات قالها لي في حوارنا: "تصور أن هذه الحادثة حصلت في الثمانينات من القرن الماضي، لكن بتصدق إن جرح أبي أشعر فيه وكأنه جرحي، هو جرح مش بس في وعي وفكري هو جرح في مشاعري..." وبعيداً عن المنطق العقلاني بأن ما حصل في فلسطين هو جريمة بحق الإنسانية وأن هذه الأرض تمت سرقتها من قبل الحركة الصهيونية، فإن هذه المشاعر المنقولة من جيل لجيل ومن قلب لقلب، تساهم في خلق ثقافة القوة لِحدّ الاستماتة بالتعلق في الأرض، فحرقة الماضي الآن أصبحت عامل يضاف إلى عامل المنطق وحقيقة الجريمة. محمد دكروب يرى أن الذاكرة الجمعية تخلق تعاقب السمات الحضارية عبر التطور التاريخي الطويل يمكن له أن يتم عبر طريقتين: إما بشكل إرادي وواعي، نتيجة للتأثير الذي يمارسه كل جيل على أفراده بواسطة التربية على سبيل المثال، وإما بشكل تلقائي لا إرادي أو لا واعي بواسطة الذاكرة الجماعية. (دكروب، محمد. "الانثروبولوجيا: الذاكرة والمعاش"، 1984م.) والأغلب في الحالة الفلسطينية أن الطريقتين تعملان معاً، فانتقال الذاكرة عبر الاجيال قائم وهو يشكل عامل أساسي في استمرار الذاكرة الجمعية، فيما واقع اللجوء والاحتلال يظل مغذياً لهذه الذاكرة الجمعية ودافعاً نحو مزيد من البحث عن الرموز التي تعزز الهوية سواء كانت هوية عامة شاملة، أو هوية جزئية تتعلق بالمخيم وواقع اللجوء. لربما تتاح لي الفرصة عن طريق كتابة هذا المقال أن كبار الباحثين مثل روزماري الصايغ وعادل يحيى قاموا بعملية توثيق الذاكرة الشفوية للجيل الأول على أتم وجه بدورهم، وهذا الأمر يعلمه تماماً كل من يبحث بين ذكريات اللآجئين وروايات اللجوء. إن هذا المقال البسيط يطرح فيما يتعلق بالذاكرة الجمعية للآجئين على أنها ليست كأي ذاكرة جمعية للجماعات في العالم، إذ أن الذاكرة الجمعية لمن يقطن المخيم هي مزيج بين الصورة المتخيلة ومشاعر الماضي من جهة وبين صورة المخيم الآن والمشاعر التي تولدت لدى اللآجيء من تراكم المعرفة والثقافة الثورية تجاه الاستعمار الصهيوني، بالتالي تصبح المشاعر هجينة بين الماضي والحاضر الأمر الذي يعزز حالة الوعي الجمعي التي تدفع اللآجئين أينما ذهبوا لاسترجاع أراضيهم المسلوبة وحقهم في الحياة التي سلبت منهم، كما أنه يعمل على خلق ظواهر اجتماعية ثورية لا تجدها إلا داخل المخيم الفلسطيني. دعوني أحدثكم عن ظاهرة ثورية فلسطينية في مخيم فلسطيني، فجر 26-8-2013م قامت قوات الإحتلال الصهيونية بمداهمة مخيم قلنديا في الضفة الغربية (القدس تحديداً)، اقتحمت القوات الصهيونية المخيم لاعتقال أسير محرر كان قد حرر في السنوات القليلة الماضية بعد أن أمضى تسع سنوات في السجون الصهيونية، وحدث في فجر ذلك اليوم مجزرة حقيقية إذ استشهد ثلاثة شبان من المخيم وأصيب ما يقارب العشرون شخص، أحد الشبان الثلاث على الأقل هو أسير محرر، أسير محرر يقاوم اعتقال أسير محرر فيستشهد هو ويؤسر الآخر مرة أخرى، هؤلاء الشبان الثلاثة خرجوا بدافع غريزتهم، غريزة الدفاع التي توارثوها عن أجدادهم، في ذلك اليوم ذكرت الصحافة الصهيونية كيف صدم الجنود بخروج الشباب والأطفال والعجائز وحتى بعض الفتيات للتعبير عن سخطهم على الاحتلال بكل ما يملكون من أدوات (حجارة، قوارير زجاجية، قوارير حارقة، خزان مياه...)، هذا التعبير هو انعكاس لضمير جمعي مشترك، وهذا الأمر لا نجده غالباً إلا في مخيم لجوء فلسطيني.
في حضرة غياب الشهداء: روبين العبد... جهاد أصلان... يونس جحجوح
#عبدالعزيز_الصالحي (هاشتاغ)
Abdalaziz_Al-Salehi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سوريا... تركيا... وبالعكس!!
-
الخطاب الصهيوني وآلية التلاعب بالعقول: الضحية نفس لوامة!!
-
ثلاث معيقات داخلية في اقتصاد السلطة الوطنية الفلسطينية
-
تلاشي وهج مدارس التنمية لعدم واقعيتها وعالميتها
المزيد.....
-
الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعتمد قرارا ينتقد إيران لتقليص
...
-
ZTE تعلن عن أفضل هواتفها الذكية
-
مشاهد لاستسلام جماعي للقوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك
-
إيران متهمة بنشاط نووي سري
-
ماذا عن الإعلان الصاخب -ترامب سيزوّد أوكرانيا بأسلحة نووية-؟
...
-
هل ترامب مستعد لهز سوق النفط العالمية؟
-
عاجل | مراسل الجزيرة: 17 شهيدا في قصف إسرائيلي متواصل على قط
...
-
روبرت كينيدي في تصريحات سابقة: ترامب يشبه هتلر لكن بدون خطة.
...
-
مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية يصدر قرارا ضد إيران
-
مشروع قرار في مجلس الشيوخ الأمريكي لتعليق مبيعات الأسلحة للإ
...
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|