|
تأثير نوبل نجيب محفوظ على الترجمة من العربية إلى الإسبانية
خالد سالم
أستاذ جامعي
(Khaled Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 4198 - 2013 / 8 / 28 - 20:07
المحور:
الادب والفن
ليس غريباً على أحد أن الترجمة تحاول وصل الشعوب والثقافات ببعضها، وهو دور لعبته على مدى التاريخ إضافة إلى المصالحة واللقاء بين الشعوب وكونها ركيزة للإتصال بين الثقافات. بيد أن المفكر الإسباني أورتيغا إي غاسيت لخص كل هذا في جملة مقتضبة في قوله إن الترجمة عبارة عن رحلة تحترم اللغة والثقافة اللتين يترجم منهما. وأضاف قائلاً إن رفض الآخر له ترجمة إجتماعية وثقافية بقدر قبول ما لدى ما هو خارجي في الثقافة نفسها عبر الترجمة اللغوية. وربما يعضد فكرة هذا الفيلسوف الإسباني وضع الولايات المتحدة الأمريكية بخصوص قبول أعمال كتبت بلغات أخرى وهو ما يشير إليه إحصاءات اليونسكو ففي نهاية الثمانينات، على سبيل المثال، كان عدد العناوين الأجنبية التي إستقبلتها دور النشر الأمريكية 817 عنواناً مترجماً من إجمالي يزيد بقليل عن عشرين ألف عنوان تخرجها دور النشر الأمريكية سنوياً، ويرتفع هذا الرقم إلى 1.151 عنواناً من إجمالي 37 ألف عنوان تقريباً في المملكة المتحدة، بينما يصل إلى 9.000 عنوان في إسبانيا من إجمالي 50 ألف عنوان رأت النور في هذا البلد تلك الفترة، وهذا الرقم يضع إسبانيا في المركز الثالث من حيث النشر والأول من حيث الترجمة . بادئ ذي بدء أود الإشارة إلى أن الترجمة نشاط إنساني قديم قدم لغة الإنسان، ويمكن التأكيد على أنها موجودة منذ أن بدأ الإتصال بين الجنس البشري، وهو ما يؤكد عليه منظر الترجمة جورج شتينر حيث يقول :" إن الإنسان يسلم نفسه للترجمة، بكل ما يعني اللفط تماماً، في كل مرة يتلقى فيها رسالة شفاهية ". ولهذا يجب ألأخذ بعين الإعتبار أن الترجمة هي عملية إتصال لغوي. وعليه فإن الترجمة عبارة عن إعادة إنتاج رسالة لغة المصدر عبر لغة مستقبلة وذلك بواسطة المقابل الأكثر قرباً والأكثر طبيعيةً فيما يتعقلق بالمعنى وبالأسلوب. وعند ترجمة العمل الأدبي من الضروري نقل المعنى والمفاهيم إلى اللغة الجديدة، مع الحفاظ على شكل وانسجام النص الأصلي فمن الضروري أن يشكل النص الجديد جسماً واحداً متجانساً، وإلا يكون مجرد جمل متفرقة، وأعني بهذا أن الترجمة الحرفية ممنوعة في النصوص الأدبية. وفي هذا السياق يقول بالنتين غارثيا يبرا "إن القاعدة الذهبية لأي ترجمة تكمن في نقل كل ما يقوله النص الأصلي، والإمتناع عن قول ما لم يقله النص الأصلي، إلا أن يتم نقل كل هذا بالإستقامة والطبيعية التي تسمح بها لغة الترجمة". ورغم هذا فإن المترجم يخرج عن هذا القاعدة في الكثير من الأحيان، إذ يخالف نية الكاتب، في بعض الأحيان، عبر الحذف أو الترجمة الخاطئة. من المؤكد أن مولد الترجمة غير معروف بدقة ككل ما يحيط بأصل الإنسان، ولكن يوجد إجماع على أن الترجمة الشفاهية أو ما نسميه اليوم بالترجمة الفورية ولدت قبل التحريرية. وتعود أولى النصوص المترجمة إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد حيث توجد بالأكادية والسومرية معاً، وكانت هناك حركة متبادلة وعلاقة مشتركة بين الفراعنة والسومريين والأشوريين لعبت فيها الترجمة دوراً هاماً وإن لم تصلنا نصوص مكتوبة تؤكد وجود ترجمة في تلك الحقبة من تاريخ البشرية. كما يجب الأخذ بعين الإعتبار قدماء المصريين كان لهم تأثير واضح في الحضارة اليونانية وهذا التأثير لا يمكن أن تقوم له قائمة بدون الترجمة. وعلى أساس هذا الإتصال والتلاحم شهدت اللغتان العربية والإسبانية مولد الترجمة المنهجية في أوروبا مع مولد مدرسة طليطلة التي أنشأها ألفونصو العاشر أو الملك الحكيم وظلت تعمل خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر فنقلت ما استطاع مترجموها ترجمته من العربية إلى اللاتينية وإلى اللغات الرومانثية. وبالرغم من أن الترجمة في حد ذاتها لم تكن، في تلك الأيام، نظاماً، بل وسيلة للتمكن من أعمال مكتوبة بالعربية، فإنها جعلت من إسبانيا نقطة إلتقاء بين الشرق والغرب، عبر النقل بين اللغتين اللتين نحن بصدد الترجمة بينهما في هذه الندوة. ولكي ندرك أهمية هذا الدور الذي لعبته العربية في الترجمة إلى اللغات الأوروبية يكفي أن نسوق معلومة ذات دلالة كبيرة في هذا السياق وهي أن لفظ تُرجُمان العربي ظل مسيطراً طوال القرن الثامن عشر على تسمية هذه المهنة بالفرنسية إذ كان يطلق عليه truchement وكان بالإسبانية truchiman . لا أريد الخوض كثيراً في هذا المجال فكل الحضور يعرفون مسيرة الترجمة من العربية إلى لغات أوروبا عبر إسبانيا، وان كان هذا يكتسب أهميةً خاصةً نظراً للسبب الذي يجمعنا هنا اليوم في كلية الألسن بكل ما لها من تاريخ منذ أن أنشأها رفاعة رافع الطهطاوي وترجم لنا أولى الكتب التي نقلت من الفرنسية إلى العربية، من بينها إقتباس أول نص كان اللبنة الأولى للفن الروائي العربي. في البداية يجب التنويه بالدور الريادي للمستعربين الإسبان في ترجمة نتاج العربية الأدبي إلى الإسبانية، ولا يزال هذا الدور شبه مقصور عليهم، فغالبية الأعمال التي نقلت من العربية إلى الإسبانية تمت على يد هذه الشريحة من المترجمين، أعني أساتذة العربية وآدابها بالجامعات الإسبانية، ونادراً ما نجد ترجمة لهاوٍ من خارج السرب. أذكر على سبيل المثال لا الحصر الأساتذة بدرو مارتينيث مونتابيث، ومارثيلينو بييغاس، وفدريكو أربوس، وماريا خيسوس بيغيرا، وماريا لويسا برييتو غونثاليث، وروسا مارتينيث ليو، وميلاغروس نوين، وإنغريد بيخارانو، وكلارا توماس، وسيرافين فانخول ….القائمة طويلة يصعب حصرها في الوقت المخصص لهذا البحث. ومن خلال كمية ونوعية الأعمال المترجمة من العربية إلى الإسبانية يبرز الدور الذي تلعبه حركة الإستعراب الإسباني إذا ما قورن بنشاط المتخصصين في آداب الإسبانية في الجامعات العربية، غير أن اللائمة لا يجب أن تلقى هنا على المتخصصين بل على عوامل وظواهر لها علاقة بالتخلف والقصور الجماعي، لا ضرورة للخوض فيها الآن. من الأمور المدهشة التي حدثت في هذا السياق كان استضافة جامعة إقليم الباسك لمؤتمر في ذكرى حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب، وكان هذا بفضل الأستاذ المصري صلاح سرور، ما يؤكد مجدداً على الإهتمام الذي يثيره نجيب محفوظ ونتاجه في الوعي الثقافي الإسباني. وهناك نية في ترجمة بعض أعماله إلى اللغة الباسكية- وبذلك يكون نجيب محفوظ قد ترجم إلى اللغات الرسمية الأربعة في إسبانيا: القشتالية أو الإسبانية، والقطالونية والباسكية الجاليقية، وبالطبع لن تكون الترجمة عن العربية مباشرة، ولكنها محاولة تستحق التشجيع والتقدير رغم أنها ستكون عرضة لمخاطر الترجمة عن لغة ثالثة. وأود أن أشير إلى أن ما ترجم من العربية إلى الإسبانية لا يمكن عرضه في صفحات قليلة كهذه، إذ نحتاج إلى عام دراسي كامل لدراستها وتحليلها لغوياً للتعرف على نقاط الضعف والتقصير فيها قبل إجادة المترجمين لدورهم في هذا الصدد، ولهذا سأكتفي بعرض سريع لوضع لما أسميته بالظاهرة المحفوظية في عالم الترجمة. لقد أسفر فوز نجيب محفوظ عن ظاهرة يمكن أن نطلق عليها "الظاهرة المحفوظية"، في كافة اللغات الحية، وأعني هنا أن ثمة إهتمامًا بالأدب العربي أخذ يشق طريقه في لغات العالم، وعلى رأس هذه اللغات اللغة الإسبانية. وأعتقد أن القبول على أعمال نجيب محفوظ في إسبانيا لا يضاهيه وضع مماثل في بلد آخر في العالم. وهذا وضع يستحق التأمل والتحليل، أعني الإهتمام الذي تثيره أعمال نجيب محفوظ لدى قراء الإسبانية. والمراقب لهذه الظاهرة في إسبانيا يدرك تماماً الفارق الكبير بين ما ترجم قبل وبعد عام 1988 - العام الذي حاز فيه محفوظ جائزة نوبل- كماً ونوعاً. فقبل تلك السنة كانت ترجمة الأعمال الأدبية العربية محصورة في دائرة الإستعراب، إذ كانت تتم على يد المستعربين ولهم، لتظل تهوم في دائرة مغلقة. أما الأعمال التي كانت تترجم خارج هذه الدائرة فكانت رغم عددها المحدود تتم عبر لغة ثالثة، خاصة الإنجليزية والفرنسية. هذا بالإضافة إلى أن معظم الدراسات أو جلها كان يدور حول الأندلس تاريخاً وأدباً. وبفضل هذه الظاهرة أصبح هناك "جيش" من المترجمين المتخصصين في الترجمة من العربية، بعد أن كان هذا النشاط مقصوراً على عدد معروف من المستعربين، أعني بهم أساتذة الأدب واللغة العربيتين في الجامعات ومراكز البحث الإسبانية. كما أسفر عن إهتمام دور لم تقم من قبل بنشر أعمال مترجمة عن العربية، إذ اهتمت بترجمة الأدب العربي، من بينها دار كاتيدرا Catedra وبلاثا إي خانيسPlaza & Janes وألكور Alcor (مارتينيث روكا(Martinez Roca ودائرة القراء Circulo de lectores، وإيكاريا Icaria، وإيداسا Edhasa … هذا بالإضافة إلى دار ليبرتارياس التي خصصت إحدى من سلاسلها لترجمة الأعمال العربية، وعلى رأسها الرواية، وهي مجموعة "القبلة" التي يشرف عليها الروائي المعروف خوان غويتسولو، والتي خرجت من عباءتها دار ويرغا إي فيرّو Huerga & Fierro لتخصص مجموعة "الكلمة" للأعمال المترجمة من العربية. هذا دون الخوض في نشاط دار كانتآرابيا CantArabia التي قامت أساساً على النشر من أجل النشر دون أن تضع في عين الإعتبار الربح والخسارة إذ تصل كتبها بلا مقابل إلى المهتمين بالثقافة العربية، لتصبح بمثابة دار خيرية، وتمثل حالة فريدة في عالم النشر والترجمة، وهي كما تعلمون للمستعربة الجادة التي نشرف بها في هذه الندوة كارومن رويث برابو. ومن المؤكد أن هذه الظاهرة أسفرت عن تحسن في أداء مترجمي العربية بعد أن أصبح هناك قبول ملحوظ على أدب العربية، أي أنها أخذت طابع الإحتراف من منطلق تجاري، يؤخذ فيه بعين الإعتبار مبدأ الربح والخسارة، وهذا أمر مشروع بالنسبة لمؤسسة بها موظفون يتقاضون رواتباً. غير أن هذه الإرتفاع المفاجئ أو الإنفجار Boom أسفر عن عجلة في النشر وبالتالي في الترجمة فور حصول نجيب محفوظ على الجائزة، وكانت هذه السرعة وراء قيام بعض دور النشر بترجمة ونشر بعض أعماله من لغة ثالثة إلى الإسبانية، وهذا النوع من الترجمة له خطورته المعروفة إذ تتكرس الأخطاء ووتتضاعف. ولعل المثال الواضح في هذا الإطار هو ما قامت به دار ألكور (مارتينيث روكا) Alcor (Martinez Roca) ودار إيكاريا Icaria في فترة وجيزة- بعد شهر أو شهرين من حصول محفوظ على النوبل- بترجمة ونشر روايتي " زقاق المدق" و"ميرامار"، ولكنها كانت ترجمة عن الإنجليزية وجاءت مليئة بالأخطاء. في هذا السياق تحضرني حالة إذ كانت صحيفة "البائيس" قد كلفتني بعمل عرض لإحدى روايات نجيب محفوظ وعند إعداد الدراسة أدركت أن النص الإسباني ينقصه فصلين عن الأصلي، ولحسن الحظ كان النص الإسباني قد وصلني ولا يزال في المطبعة قبل أن يأخذ شكل كتاب، أي في مرحلة البروفة، كما أنني كنت أعرف المترجمة فتكلمت معها لأستفسر منها عن سبب إسقاط هذين الفصلين من الرواية، وفي نهاية المطاف اعترفت بأنها ترجمت عن الترجمة الفرنسية وليس عن النص العربي، رغم أن مستواها في العربية كان جيداً ويسمح لها بإخراج ترجمة لا بأس بها، ولكن البحث عن الطريق السهل حملها على الترجمة عن الفرنسية رغم أن العقد كان واضحاً في بنوده إذ يقر أن الترجمة ستكون من العربية مباشرة. ولكن المشكلة تكمن في أن المترجم الفرنسي تخطى هذين الفصلين لأسباب لا نعرفها، وإن كنت أعتقد أنها سقطت سهواً. ولكن المشكلة التي واجهتنا كانت أن دار النشر قد أعلنت عن تاريخ صدور الرواية، وأمام هذا المشكلة نشرت العرض في الجريدة وكان الناشر نزيها فتحمل الخطأ وانتظر الإنتهاء من الترجمة ونشر الكتاب خارج الموعد المعلن…! لقد ذكرت هذا المثال لأدلل على مخاطر الترجمة عن لغة ثالثة، وهو جلي إذ يوضح تكرار الأخطاء دون قصد، هذا بالإضافة إلى تكريس الأخطاء التي يرتكبها المترجم الذي يلجأ إلى لغة ثالثة. ولكن هذا النوع من الأخطاء لا يذكر مقارنةً بنصوص ترجمت بشكل جيد، فقد كنت شاهداً على ترجمات ناجحة قامت بها مترجمات بدرجة كبيرة من العشق والتواطؤ أوالإندماج التام مع النص العربي، وعليهن ينطبق مبدأ الترجمة بأن على المترجم أن يحس بالنص لغوياً وثقافياً، هذا دون أن ندخل في تعريف المترجم. ونكتفي بالإشارة إلى أن كل من يتكلم أو يتقن لغتين ليس قادراً على الترجمة، فعُدة المترجم صعبة المنال. هذا بالإضافة إلى أن الإحساس بالنص يعني الإقتراب من الأخر والتعاطف معه حتى وإن لم يتقاسما القيم والأفكار نفسها. وعندما يحدث هذا فإن نجاح الترجمة يصبح مضموناً وتؤدي الترجمة الدور المرجو منها، وهذا ينطبق على الكثير من الأعمال الروائية التي ترجمت من العربية إلى الإسبانية. وأعتقد أن نجاح الترجمة يعتمد إلى حد كبير على درجة تفاعل المترجم مع النص، أي مع العمل الأصلي. وقد يعترض البعض على هذا قائلين إن المترجم ليس مطالباً بالتفاعل مع النص الأصلي، وقد يلازمهم بعض من الصواب، ولكنني أرفض المترجم الآلة، وإلا لأعطي النص للحاسب الآلي كي يقوم بهذا العمل، ومعروف أن هناك برامج ترجمة متعددة اللغات. ولهذا فإن هذا الجانب السلبي للمترجم لا يتوفر، لحسن الحظ، في مترجمي الأعمال الأدبية. والترجمة عمل يجب أن يضمن حباً من قبل المترجم للنص وللثقافة التي يترجم منها، وهذا أمر يتوفر في معظم مترجمي الأدب العربي إلى الإسبانية، وهم مستعربون ومهما يبدي بعضهم عدوانية تجاه ما هو عربي فإنه عندما يجلس إلى النص يتعامل معه بحب، فالإنتقادات هي من منطلق أخوي ومن صاحب المهنة لمن حوله. ودفاعي هنا عن الترجمات التي تمت إلى الإسبانية ليس من منطلق الزمالة بل من خلال الإطلاع والمتابعة الشخصية- لا أزعم أنني أتقن الإسبانية لأصل إلى مستوى إبن اللغة المتخصص بالرغم من حياتي الطويلة في إسبانيا وكتابتي بهذه اللغة- والكتابات النقدية في الملاحق الأدبية وخاصة القراء، فالحكم الأول والأخير هو القارئ، أو حسن إستقباله للعمل المترجم، ولم تعد مسألة تمييز الصحيح من الخطأ هي الفيصل في هذا الصدد، باستثناء القضايا اللغوية. وجدير بالذكر أن الترجمة من العربية عملية مضنية لأسباب يعلمها كل من عمل في هذا المجال، وأعني بترجمة النص الأدبي وليس الترجمة الشفهية أو الفورية، فالفارق بينهما كبير. ولعل أبرز أسباب صعوبة نص من العربية يكمن في تعدد المستويات اللغوية في اللغة العربية وثرائها، إضافة إلى قضايا أخرى من بينها ترجمة الجمل العامية التي كثيراً ما تظهر في نتاج العديد من الكتاب العرب. والسؤال الذي يطرح في هذا الصدد: إلى لغة أو لهجة من لهجات الإسبانية يجب ترجمة مثل هذه الجمل المأخوذة من العامية؟ هل إلى اللغة القشتالية أم إلى اللهجات الأندلسية أو الإكستريمية؟ حري بنا أن نذكر أن الظاهرة المحفوظية صاحبتها ظاهرة أخرى لكاتب عربي آخر هو أمين معلوف وإن كانت حاله مختلفة، إذ أن أعماله تترجم مباشرة من الفرنسية- اللغة التي يكتب بها- إلى الإسبانية، وهذا الأمر يمثل تبعية ثقافية إسبانية لفرنسا فهذا الكاتب اللبناني المقيم في فرنسا يمثل ظاهرة في عالم الفن الروائي في فرنسا، ويمكن إعتباره صرعة أدبية. إلا أن إستيراد كتبه وترجمتها إلى الإسبانية يدخل في حسابات الربح والخسارة إذ أن نجاح كتاب في فرنسا يشير إلى نجاحه المحتمل تجارياً في إسبانيا. وبالرغم من ذلك فقد لفت نظر قراء الإسبانية إلى الأدب العربي، وهناك من لا يفرق بينه وبين نجيب محفوظ فكثيرون من العامة يشيدون به على أنه المصري حائز جائزة نوبل. وحالة نجيب محفوظ تشبه حالة أخرى هي حالة الكاتب الألباني إسماعيل قدري الذي أثار في إسبانيا إهتماماً بأدب الألبانية منذ أن إنتقل للعيش في باريس لظروف سياسية معروفة. لم تضف جائزة نوبل إلى أدب نجيب محفوظ جديداً، إذ حازها وهو في سن متقدمة- 77 عاماً-، ولكنها أخرجت هذا الكنز إلى النور ومعه لفتت إنتباه العالم إلى أدب يتمتع بخواص الآداب العالمية. ومن هذا المنطلق ترجمت أعمال لكتاب عرب آخرين فازداد عدد الأعمال المترجمة إلى الإسبانية بدرجة ملفتة للنظر. وأصبح الكاتب يتقاضي حقوقاً عن مؤلفاته بعد أن كانت تترجم بدون إذن مسبق أو يقوم الكاتب العربي بسداد رسوم النشر بعد أن يتنازل المترجم عن أتعابه للدار!. وهذا وضع يدين لنجيب محفوظ به كافة الكتاب العرب الذي ترجمت أعمالهم إلى الإسبانية بعد حصوله النوبل. إلا أن هذا النور سرعان ما خمد بريقه، مع حلول عام 1992، وهذا ما يؤكده واقع مبيعات دور النشر المهتمة بالأدب العربي، وذلك لأسباب يجهلها الناشرون، فالقصة العربية المترجمة يطبع منها ألفا نسخة وغالباً لا توزع عن آخرها. فالكاتب الوحيد الذي تباع أعماله بشكل منتظم هو نجيب محفوظ، وهناك عدة طبعات لبعض رواياته. ويليه في ذلك اللبناني الفرنسي أمين معلوف. ورغم ذلك فإن إهتماماً ملموساً بكتاب وكاتبات من دول المغرب العربي ظهر في الأفق بعد حرب الخليج، وخاصة تلك الكاتبات اللائي يثرن قضايا تتعلق بالمرأة والإسلام وحقوق المرأة في الإسلام والأصولية، وعلى رأسهن الكاتبة المغربية فاطمة مرنيسي والصحفية الجزائرية … غزالي التي حازت أكثر من جائزة إسبانية، ودور النشر الإسبانية تتحرك هنا في إطار الصرعة الغربية الخاصة بالإهتمام بقضايا الساعة المتعلقة بالعرب وبالإٍسلام السياسي. هذا بالإضافة إلى بعض الكتاب المغاربيين الذين يكتبون بالفرنسية مثل الطاهر بن جلون الذي خرج إلى الضوء في إسبانيا في مطلع التسعينات بعد فوزه بجائزة أدبية فرنسية كبيرة، هي جائزة كونكور. ومن الملاحظ أن حرب الخليج أيضاً كانت سبباً آخر في الإهتمام بالسرد العربي والدراسات الجادة عن العلاقات بين الوطن العربي والغرب، فالسنوات التي تلت تلك الحرب شهدت نشر كتب مثل "أوروبا والإسلام" للمفكر التونسي هشام جعيط، و"الإستشراق" للمفكر الفلسطيني الأمريكي إدوار سعيد، و"أعمدة المعرفة السبعة" لتي. إيه. لورانس، و"ازمة المثفقين العرب" لعبد الله العروي. وإن كانت غالبية هذه الأعمال كانت قد نشرت منذ سنوات طويلة. والوضع في إسبانيا أفضل بكثير منه في بلد كبريطانيا المعروف بتاريخه الإستعماري الطويل في الوطن العربي، فهناك كتب نجيب محفوظ مكدسة حسب تقرير نشرته إحدى الصحف العربية الصادرة في لندن،. ويقول هذا التقرير إن العامة في بريطانيا يرون أن اللغة العربية ليست لغة أدبية، وأنها لغة يهدد صدام حسين الغرب بها. وبالرغم من هذا الإهتمام في إسبانيا بالسرد العربي فإن الساحة ينقصها الكثير من الكتب المترجمة من العربية إلى الإسبانية. وقبل أن نلقي باللائمة على الآخرين علينا أن نبحث عن حل لهذا الخلل فليس من المنطقي أن يعامل أدب مثل الأدب العربي بهذا الشكل المحدود، وأعتقد أن الخلل عندنا، وليس عند الآخر. فماذا فعلنا نحن العرب كي ينتشر أدبنا في الغرب بصفة عامة؟ الإجابة معروفة: لا شئ. وكان حرياً بنا أن نستغل الصحوة التي صاحبت الظاهرة المحفوظية في العالم، وفي إسبانيا بشكل خاص. فهذه الظاهرة نفسها هي التي أدت إلى قيام السينما المكسيكية باقتباس عملين من أعمال نجيب محفوظ وهما: زُقاق المِدَق، و"بداية ونهاية". ومن الملاحظ أن الأدباء العرب لا يقدمون أنفسهم إلا نادراً، وقلما نجد وفداً أوكاتباً عربياً في المهرجانات الأدبية الإسبانية. وكنت شاهداً على أكثر من إتفاق على ترجمة أكثر من قصة لكتاب عرب في مثل هذه المحافل بعد تعريف جيد بالكاتب وبقيمته الأدبية في بلده، وهذا جهد فردي لا يقدر عليه شخص بمفرده، ويبقى في حيز المغامرة. ويضاف إلى ذلك صعوبة إنتشار الكتاب المترجم بصفة عامة، وكذلك إزدواج التكاليف، حقوق التأليف وحقوق المؤلف التي تجهد دور النشر عامةً. كما أن العرب عامةً لا يهتمون بترجمة نتاج أدبائهم، فحسب علمي، لا توجد مؤسسة أو دولة عربية قامت بتقديم الدعم لمشروع ترجمة الأدب العربي إلى الإسبانية، بل إن وجدت هذه المعونة فإن مصدرها أوروبي دائماً فهناك مشروع "ذاكرة المتوسط" الذي تموله المؤسسة الثقافية الأوروبية عبر مدرسة طليطلة للترجمة الذي نشر ما يقرب من عشرة أعمال وسير ذاتية لكتاب عرب. والعرب من واقع الحال لا يهتمون بذلك، فهناك في مدريد حوالي أربع عشرة سفارة عربية، لم تقم إحداها بتقديم دعم من أي نوع أو حجم لكتاب عربي مترجم إلى الإسبانية، وان كان قد حدث هذا الدعم فكان على نفقة المؤلف، وهي حالات فردية ومحدودة. أذكر أن بعض دور النشر التي تهتم بنشر الأعمال المترجمة من العربية، وهي في غالبيتها دور صغيرة ومتواضعة، حاولت لدى السفارات العربية أن تبيع لها بعض المجموعات التي نشرتها من الأدب العربي، ولكن المحاولة ذهبت أدراج الرياح، رغم أن العملية قد لا تتعدي المائة ألف بيزتة أو السبعمائة دولار. ومن المؤكد أن الكتاب العربي المترجم إلى الإسبانية يفتقر إلى الترويج والدعاية، فبدونهما يصعب وصول إلى القراء في بلد مشهود له بالإرتفاع في عددهم. وهذا لا يعني خلو الساحة من بعض المحاولات لكنها تبقى في إطار المحاولة الفردية بعيدةً عن الجماعية أو المؤسسية المنظمة والمنتظمة. لهذا علينا إعادة النظر في كل هذه القضايا، وألفت الإنتباه هنا إلى مهمة المعهد المصري في مدريد إذ يجب أن يعاد النظر في دور هذه المؤسسة المصرية التي أنشأها طه حسين أساساً للتعريف بثقافتنا ودراسة التراث العربي في الأندلس، إذ أن كل ما يقوم به لا يخرج من إطار الدفع الذاتي من إقامة معارض فنية ومحاضرات لايكاد يحضرها أحد، دون الإستفادة من المطبعة التي يملكها، فقلما يترجم أويطبع فيه كتاب-لمن يرد فليتصفح قائمة مطبوعاته. والغريب أن معظم الذين يصلون إلى إدارة هذا المعهد بعد صراع طويل وخفي من أجل ذلك درسوا في إسبانيا، لكنهم بين عشية وضحاها يتحولون إلى موظفين فور وصولهم. فلم يضع أحدهم خطة للنشر أو الترجمة والنشر رغم أن المعهد عامر الموظفين وفي مطبعته عاملون أكفاء، وأعتقد أن الوقت قد حان لوضع إستراتيجية لترجمة ونشر أدبنا العربي. إننا مقصرون في التعريف بأدبنا الجيد، وكل ما تم في إسبانيا من ترجمة لأعمال عربية تم بمبادرة شخصية دون أي نوع من الإستراتيجية. كل هذا يحدث في الوقت الذي تقلص فيه دور معهد التعاون مع العالم العربي في مجال نشر الأعمال الأدبية المترجمة من العربية، وهو الدور الذي كان يضطلع به سلفه المعهد الإسباني-العربي للثقافة الذي عقد مؤتمراً للترجمة في عام 1988 قبل أن يلفظ أنفاسه ويتحول إلى مؤسسة ذات صبغة سياسية أكثر منها ثقافية. شئ آخر أود الإشارة إليه هنا هو أن اللغة الإسبانية كانت من أولى اللغات الأوربية، إن لم تكن الأولى، التي إستقبلت أعمال نجيب محفوظ ويرجع الفضل في هذا إلى مستعرب جليل، بيننا اليوم في القاهرة، هو مارتينيث مونتابيث الذي قام بترجمة "همس الجنون" ثم نشرها في عام 1959. وكانت من أولى الترجمات الأوروبية لنجيب محفوظ. وفي هذا الإطار تحضرني واقعة أخرى ففي عام 1964 نشر الأستاذ بدرو مارتينيث مونتابيث نشر، في المعهد المصري بمدريد، كتاباً بعنوان "سبعة قصاصين مصريين" يضم قصصاً قصيرة وملخصاً للسيرة الذاتية لهؤلاء الكتاب المصرييين السبعة، من بينهم نجيب محفوظ، ولم يدر بها أحد تقريباً إلى أن حصل محفوظ على النوبل فانقض عليها القراء وعلى رأسها الصحفيون يوم إعلان ذلك الحدث. أذكر أنني عشت تلك اللحظة في مقر المعهد المصري حيث إمتلأت ردهته بالصحفيين الذين يريدون الحصول على أي شئ عن نجيب محفوظ. طبعاً كان أمراً يثير للفرحة والحزن في آن واحد. وبعد الإهتمام الذي أولاه مارتينيث مونتابيث لنجيب محفوظ في نهاية الخمسينات جاء المستعربان مارثيلينو بييغاس وماريا خيسوس بيغيرا ليواصلا هذه المهمة إبتداءً من عام 1969 بترجمة ونشر قصص متفرقة في مجلات مثل مجلة Revista de Occidente أو ضمن مختارات مثل مجموعة "قصص عربية من القرن العشرين" التي نشرتها دار Magisterio espanol. وفي عام 1974 نشرا مجموعة " Cuentos ciertos e inciertos قصص حقيقية وغير حقيقية" لنجيب محفوظ في المعهد الإسباني-العربي للثقافة. وبعد هاتين الواقعتين نجد أن الفارق كبير بين عدد ونوعية الكتب التي ترجمت لنجيب محفوظ نفسه قبل وبعد حصوله على النوبل، ففي بحر السنوات العشر الأخيرة إقترب عدد أعماله المترجمة من العربية إلى الإسبانية إلى من الثلاثين عملاً، ما بين رواية وقصة وقصيرة، إلى جانب ظهور عشرات الدراسات والمقالات الصحفية والمؤتمرات عقدها مختلف الجامعات والمؤسسات الثقافية. والمترجم عادة مجهول الهوية، فمن النادر أن يحتفظ القارئ باسم المترجم، والمديح دائماً يوجه إلى المؤلف، رغم أن دور المترجم لا يقل أهمية عن دور المؤلف.
#خالد_سالم (هاشتاغ)
Khaled_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عالم الأندلسيات محمود مكي يترجل إلى الآخرة من بلاد الأندلس
-
الغيطاني وجدلية المجرد والمحسوس في -متون الأهرام- *
-
الشاعر رفائيل ألبرتي : تأثرت بالشعر العربي الاندلسي وغارثيا
...
-
الإسلاميون والديمقراطية في مفترق طرق
-
سورية في قلب أم الدنيا
-
الرؤيا في شعر البياتي
-
لا تجبروا جيش الشعب المصري على أن يكون فاعلاً على غرار جيوش
...
-
أزمة اللغة في -المسرح الجديد- في إسبانيا
-
مشاهد بعد معركة الإخوان المسلمين
-
العرب بين الإنتحار واللهو بتطبيق الشريعة: مصر على شفا جَرف ه
...
-
من البنية إلى البلاغة في السميوطيقا البصرية
-
التأليف الموسيقي في خدمة الصورة السينمائية (الخطاب الموسيقي
...
-
توظيف وتطبيق العلامات المسرحية
-
حركة الإستعراب الإسبانية من الداخل
-
مكان الطقس في سميوطيقة العرض
-
السارد في المسرح
-
سميولوجيا العمل الدرامي
-
الشاعر أوكتابيو باث في ذكراه:على العالم العربي أن يبحث له عن
...
-
المسرح والخيال
-
عبد الوهاب البياتي محلقًا عبر أشعاره وحيواته في العالم الناط
...
المزيد.....
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|