|
مهمة الدين الخلقية
كامل علي
الحوار المتمدن-العدد: 4192 - 2013 / 8 / 22 - 11:58
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الدين والحكومات - المحرمات الجنسية - تأخر الدين - التحول العلماني (إن الوظيفة الخلقية للدين هي أن يحافظ على القيم القائمة، أكثر مما يخلق قيماً جديدة) الدين دعامة الأخلاق بوسيلتين أساسيتين هما الأساطير والمحرمات؛ فالأساطير هي التي تخلق العقيدة فيما وراء الطبيعة، ثم يكون من شأن هذه العقيدة أن تضمن بقاء أنواع من السلوك يريد المجتمع (أو يريد الكهنة) بقاءها؛ فما يرجوه الفرد في السماء من ثواب وما يخشاه لديها من عقاب يضطره اضطراراً أن يذعن للقيود التي يفرضها عليه سادته أو جماعته؛ فالإنسان ليس بطبعه مطيعاً رقيقاً طاهراً وليس شيء كالخوف من الآلهة - وذلك بعد القهر الذي خضع له الفرد قديماً فأنشأ في نفسه الضمير - أخضع الإنسان لهذه الفضائل التي لا تتفق وطبيعته إخضاعها مطرداً صامتاً؛ فأنظمة الملكية والزواج تتوقف إلى حد ما على العقوبات الدينية وهي تميل إلى فقدان قوتها في العصور التي يسود فيها الشك الديني؛ بل الحكومة نفسها التي هي أهم أداة اجتماعية اصطنعها الإنسان، وأبعد أداة عن طبيعة الإنسان، كثيرا ما استعانت بالتقوى وبالكاهن، كما فعل أذكياء الهراطقة مثل نابليون وموسوليني اللذين لم يلبثا أن كشفا عن هذه الحقيقة؛ ومن هنا كان ثمة "ميل إلى قيام دولة دينية كلما نشأت الدساتير"؛ فلئن كانت قوة الرئيس البدائي تستمد الزيادة من السحر والعرافة، فإن حكومتنا(يقصد الكاتب الحكومة الامريكية) نفسها تستمد بعض القوة من اعترافها السنوي "بإله المهاجرين". وأطلق أهل "بولنيزيا" كلمة "تابو" (ومعناها التحريم) على ما يحرمه الدين؛ فلما تقدمت المجتمعات البدائية بعض الشيء، اصطنعت هذه الحُرُمات الدينية مكان القوانين المدنية؛ وكانت صيغة التحريم عادةً سالبة: فبعض الأفعال وبعض الأشياء أعلن عنها أنها "مقدسة" أو "نجسة" وكان اللفظان في الواقع يعنيان نذيراً واحداً، وهو أن تلك الأفعال أو الأشياء لا يجوز لمسها؛ "فتابوت العهد" مثلاً كان محرماً، ويُروى عن "عُزّى" أنه سقط صعقاً عند لمَسِه لمنعِه من السقوط؛ ويؤكد لنا "ديودورس" عن المصريين القدماء أنهم أكلوا بعضهم بعضاً إبان المجاعة، فذلك آثر عندهم من الاعتداء على تحريم أكل الحيوان الذي اتخذته القبيلة طوطماً لها؛ وإنك لتجد في معظم الجماعات البدائية عدداً كبيرا جداً من هذه المحرمات، فكلمات معينة وأسماء معينة ما كان لها قط أن تُنطق، وأيام معينة وفصول معينة كانت من المحرمات بمعنى أن القتل لم يكن يؤذن به خلالها؛ وكل معرفة البدائيين بحقائق الغذاء وبعض جهلها بتلك الحقائق، كان سبيلها إليهم تحريمات معينة أقامها الناس على ألوان الطعام، فهُم لم يلقنوا مبادئ الصحة عن طريق العلم أو عن طريق الطب العَلماني بقدر ما لقنوها عن طريق الدين. وكانت المرأة أهم ما اتجه إليه التحريم عند البدائيين فآلاف الخرافات نشأت عن المرأة لتجعلها، آناً بعد آن، مُحرمَة اللمس، خطرةً، "نجسة"؛ إن منشئ الأساطير في أنحاء العالم لم يكونوا أزواجاً موفقين، لأنهم متفقون جميعاً على أن المرأة أساس الشر كله، فلم يقتصر هذا الرأي على الديانتين اليهودية والمسيحية، بل جاوزهما إلى مئات من الأساطير الوثنية؛ وأدق التحريمات البدائية كان خاصاً بالمرأة إبان حيضها، فكل من لَمسها أو كل ما لمسها في هذه الفترة فَقدَ فضيلته إن كان إنساناً، وضاعت فائدته إن كان غير ذلك؛ فحرمَّ "الماكوزى" Macusi من أهل غيانة البريطانية على نسائهم أن يستحممن إبان حيضهن خشية أن يُسَممن الماء، كما حرموا عليهن الذهاب إلى الغابة في مثل هذه الفترات، حتى لا تعضَّهن الثعابين غراماً بهن؛ حتى الولادة كانت عندهم نجسة، وكان على الأم بعدها أن تطهر نفسها في كثير جداً من الطقوس الدينية؛ والعلاقة الجنسية حرام في معظم القبائل البدائية، ليس فقط إبان فترات الحيض، بل كذلك أثناء الحمل والرضاعة، ولعل هذه التحريمات قد أنشأها النساء أنفسهن بما لهن من إدراك سليم وما يبغين لأنفسهن من وقاية وراحة، لكن الأصول سرعان ما تُنسى، وتنظر المرأة فإذا هي "مشوبة" وإذا هي "نجسة"؛ وانتهى بها الأمر إلى أن توافق الرجل على وجهة نظره، وراحت تشعر بالعار في حيضها، بل في حملها؛ ومن التحريمات وأمثالها نشأ الحياء ونشأ الشعور بالخطيئة، والنظر إلى العلاقة الجنسية على أنها نجاسة، وكذلك نشأ التقشف وعزوبة الرهبان ونشأ إخضاع النساء. ليس الدين أساس الأخلاق، لكنه عون لها، فقد يمكن تصور الأخلاق بغير دين، وليس الأمر النادر أن تتطور الأخلاق في طريقها إلى التقدم بينما يبقى الدين لا يأبه لها، أو يقاومها مقاومة عنيدة؛ ففي الجماعات الأولى، وفي بعض الجماعات المتأخرة، كانت الأخلاق فيما يظهر على أتم استقلال عن الدين، وفي مثل هذه الحالة لا يُعنى الدين بقواعد السلوك، بل يُعنى بالسحر والطقوس وتقديم القرابين، والرجل الطيب عندئذ هو من يؤدي محافل الدين أداء المطيع، ويمدها بماله في ولاء وإخلاص؛ والدين بصفة عامة لا يَرعى الخير المطلق (إذ ليس هناك خير مطلق)، بل يرعى معايير السلوك التي وطدت نفسها بحكم الظروف الاقتصادية والاجتماعية؛ وهو كالقانون يلتفت إلى الماضي ليستمد منه أحكامه، وهو قمين أن يتخلف في الطريق كلما تغيرت الظروف وتغيرت معها الأخلاق؛ فقد تعلم الإغريق مع الزمن أن يمقتوا مضاجعة المحارم، مع أن أساطيرهم كانت ما تزال تمجد الآلهة الذين يفعلون ذلك، والمسيحيون يصطنعون نظام الزوجة الواحدة بينما إنجيلهم يُحلل تعدد الزوجات؛ وامتنع الرق امتناعاً تاماً بينما المتدينون كانوا يدافعون عن قيامه بشواهد من الإنجيل لا تُنقض؛ وفي يومنا هذا نرى الكنيسة تقاتل قتال الأبطال لتقيم تشريعاً خلقياً قضت عليه الثورة الصناعية قضاء مبرماً لا شك فيه؛ فالعوامل الأرضية هي التي تسود آخر الأمر، والأخلاق توائم بين نفسها وبين المستحدثات الاقتصادية شيئاً فشيئاً، ثم يتحرك الدين كارهاً فيوفق بين نفسه وبين الأخلاق الجديدة ؛ إن الوظيفة الخلقية للدين هي أن يحافظ على القيم القائمة، أكثر مما يخلق قيماً جديدة. ومن هنا كان من علامات المراحل العليا في كل مدنية أن يحدث التجاذب بين الدين والمجتمع؛ يبدأ الدين بمَدَد من السحر يقدمه للناس في حيرتهم وارتباكهم؛ ثم يصعد إلى قمة مجده بمَدَد من وحدة الأخلاق والعقيدة يقدمها للناس فتجيء هذه الوحدة معُينة أكبر العون للسياسة والفن؛ ثم ينتهي بقتال يفنى فيه فناء المنتحر دفاعاً عن قضية الماضي الخاسرة؛ ذلك لأنه كلما تقدمت المعرفة أو تغيرت تغيراً متصلاً، اصطدمت بالأساطير واللاهوت اللذين يتغيران تغيراً بطيئاً بطئاً لا يُحتمَل؛ وعندئذ يشعر الناس برقابة رجال الدين على الفنون والآداب كأنها أغلال ثقيلة وحائل ذميم، ويتخذ التاريخ الفكري في مثل هذه المرحلة صيغة النزاع بين العلم والدين"؛ والأنظمة التي تبدأ في أيدي رجال الدين، مثل القانون والعقاب، والتربية والأخلاق، والزواج والطلاق، تميل نحو الإفلات من رقابة الدين لتصبح أنظمة دنيوية، حتى ليعدها الدين أحياناً خارجة عليه، والطبقات المستنيرة تطرح وراء ظهورها اللاهوت القديم، ثم- بعد شيء من التردد- تطرح معه التشريع الخلقي؛ عندئذ تصبح الفلسفة والأدب مناهضة لرجال الدين، وترتفع حركة التحرير إلى عبادة العقل عبادة المتفاني، تكبو فيما يشبه الشلل الذي تسببّه خيبةُ الأمل إزاء كل عقيدة وكل فكرة؛ ويتدهور السلوك الإنساني إذا ما سُلِبَ دعائِمَه الدينيةَ، فينقلب ضرباً من الفوضى الأبيقورية؛ بل إن الحياة نفسها، وقد حَرَمتها ما فيها من إيمان يبعث العزاء في النفوس، تصبح عبئاً ثقيلا للفقير الشاعر بفقره، وللغني الذي مَلَّ غناه آن معاً، وفي النهاية ينحدر المجتمع وتنحدر معه عقيدته الدينية نحو السقوط معاً في ميتة واحدة كأنهما الجسد والروح، على أنه سرعان ما تنشأ أسطورة أخرى بين الناس إذ هم ينوءون تحت هذا العبء الفادح، أسطورة تَصبّ الأمل الإنساني في قالب جديد، وتمد الجهد الإنساني بحماسة جديدة، ثم تبنى مدنية جديدة بعد أن تنقضي قرون في حالة من الفوضى.
#كامل_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لعنة الذهب ألأسود-4
-
طرائق الدين
-
وظائف الملائكة
-
المعبودات الدينية
-
الدين : الملاحدة البدائيون ومصادر ألدين
-
مسنجر بين الجنّة وجهنّم - 1
-
آساطير ألأولين- ألنساء ألأمازونيات
-
آساطير ألأولين - ألشامانية
-
آساطير ألأولين- يونس والحوت
-
أساطير العالم ألحديث
-
آساطير ألأولين: ألإله ألمُخلِّص
-
آساطير ألأولين- الفردوس المفقود
-
أساطير ألأولين- قابيل وهابيل-الصراع بين المزارع والراعي
-
آساطير ألأولين- خلق ألإنسان
-
آساطير ألأولين- خلق الكون
-
آساطير ألأولين- حكايات جدتي وأسطورة أيتانا والنسر-2
-
آساطير ألأولين- حكايات جدتي واسطورة أيتانا وألنسر-1
-
آساطير ألأولين- عقائد ما بعد الموت-5
-
آساطير ألأولين- عقائد ما بعد الموت-4
-
آساطير ألأولين- عقائد ما بعد الموت-3
المزيد.....
-
لوباريزيان: سجن 3 طلاب أرادوا إنشاء دولة إسلامية بفرنسا
-
“هالصيصان شو حلوين”.. اضبط تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024
...
-
“شاور شاور”.. استقبل تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 على ال
...
-
قصة الاختراق الكبير.. 30 جاسوسا معظمهم يهود لخدمة إيران
-
بالفيديو: خطاب قائد الثورة الإسلامية وضع النقاط على الحروف
-
السفير الديلمي: كل بلدان العالم الاسلامي مستهدفة
-
مقتل وزير اللاجئين في حركة طالبان الأفغانية بانفجار في كابول
...
-
المرشد الأعلى الإيراني: الولايات المتحدة والنظام الإسرائيلي
...
-
المرشد الأعلى في إيران يعلق على ما حدث في سوريا
-
بابا الفاتيكان يوجه رسالة للقيادة الجديدة في سوريا
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|