محمد السعدنى
الحوار المتمدن-العدد: 4192 - 2013 / 8 / 22 - 00:01
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
هكذا هى مصر دائماً حيرت الدنيا وشغلت الناس. إنها ذلك الكيان الفريد الفذ، كما يقول عنها جمال حمدان فى "شخصية مصر"، فهي بطريقة ما تنتمي إلى كل مكان دون أن تكون هناك تماماً. فهي بالجغرافيا أفريقية، ولكنها تمت أيضاً لآسيا بالتاريخ. هي في الصحراء وليست منها. فرعونية هي بالجد، عربية بالأب. ثم إنها بجسمها النهري قوة بر، ولكنها بسواحلها قوة بحر، وهي بجسمها النحيل تبدو مخلوقاً أقل من قوي، ولكنها برسالتها التاريخية الطموح تحمل رأساً أكثر من ضخم. وهي بموقعها على خط التقسيم التاريخي بين الشرق والغرب توشك أن تكون مركزاً وسطاً لثلاث دوائر مختلفة، العربية والإسلامية والأفريقية، وإذا كان لهذا مغزى، فهو إنها تجمع بين أطراف متعددة وأبعاد وآفاق واسعة، تحتويها جميعاً دون تناقض، بصورة تؤكد أنها "ملكة الحد الأوسط" وتجعلها "سيدة الحلول الوسطى".
كان هذا أول ماتبادر إلى ذهنى بينما أنا فى الطائرة أطالع مقال الكاتب الكبير "عبدالله ناصر العتيبى" فى جريدة "الحياة"، الإثنين 15 يوليو الجارى تحت عنوان "هل من الديمقراطية سعودة مصر؟" وهو يناقش الشأن العام فى مصر وحالة الاستقطاب الحادة الماثلة فى ميادينها ومواقف القوى الإقليمية والدولية منها، ثم رؤيته أن "ما يحدث في مصر حالياً يبيّن مدى هشاشة النظام الإقليمي ويعيد رسم خطوط التحالفات في المنطقة". ولقد بدأ الكاتب مقالته هكذا: "ظهر مواطن مصري تبدو على هيئته مظاهر البساطة والفقر ومحدودية التعليم على شاشة القناة الإخبارية الفرنسية "فرانس 24" خلال تقرير بثته الجمعة الماضي عن الحياة اليومية في ميدان رابعة العدوية، يقول: "مش حنمشي من هنا لحد ما يرجع الرئيس محمد مرسي. مصر دولة إسلامية، عايزينها زي السعودية!"، وبعدما أشار إلى وقوف السعودية إلى جانب الخيار الثورى للشعب المصرى ورغبته فى استعادة ثورته التى سرقها الإخوان، راح سيادته يتحدث عن حيرة النخب السياسية الإقليمية والعالمية فى التعاطى مع نتائج 30 يونيو قائلاً: "وما الثقة (غير العارفة) التي ظهر بها المواطن المصري البسيط في أول هذه المقالة إلا تأكيد على الحيرة (العارفة) للأنظمة في التعاطي مع متغيرات متلاحقة ومتغيرة يصعب قراءة نتائجها ونهاياتها. وليست الحيرة في بلدان الشرق فقط، فأميركا ودول أوروبا الغربية ما زالت تتعامل مع الثورة المصرية الثانية من منطلقين مختلفين، فحيناً هي خيار شعبي لا بد من مد اليد له، وحيناً آخر هي انقلاب ضد رئيس شرعي منتخب.
وهنا قد أتفق جزئياً معه، إذ أرى أن الحيرة الإقليمية وتلك الدولية فى توصيف الأحداث المصرية الأخيرة والتعاطى معها، كلاهما فعل عمدى عارف لاجاهل، فبعض المواقف الإقليمية فعل يتحسب لخطوته حسابات القوى الفاعلة دولياً، مؤجلاً قناعاته الذاتية وموجبات مصالحه الوطنية رهناً بما قد ترسوا عليه رؤى القوى الغربية الكبرى وماعساه يكون من مواقفها، أما الحيرة الدولية فليس مردها نظريات الحكم الغربية ولاتاريخ النظم السياسية فى المنطقة، أو ما استقرت عليه مفاهيم الدولة المؤسسية والقانونية،كما يرى الكاتب، إنما هى حيرة المصالح التى أعيتها السبل وفاجأتها الأحداث وأخافتها تجاربها السابقة من الانحياز للنظم السلطوية والديكتاتورية وكذا محاولاتها مسك العصا من المنتصف إنتظاراً لما تسفر عنه الأحداث فى مصر، وبما لايكلفها ثمناً لخسارة مصالحها مع شعب ثائر مصمم على استعادة ثورته وهويته من ناحية ومع تنظيم دولى للإخوان أسسته بريطانيا فى ثلاثينيات القرن الماضى إبان كانت عظمى ووظفته لصالحها الولايات المتحدة الأمريكية منذ سبعينيات القرن الماضى إبان أعلنت شعارها المضلل عن معركة مقدسة للإسلاميين لنصرة مجاهدى أفغانستان "المؤمنين" ضد الإتحاد السوفيتى "الملحد"، وتسببت بذلك فى تأسيس القاعدة ومنطلقات الإرهاب الدولى. وهاهى إدارة "أوباما" تكرر نفس الخطأ وترسم خرائط "سايكوس بيكو" الجديدة للمنطقة إعتماداً على الإخوان وتيارات الإسلام السياسى، فى إطلاق الحروب الطائفية الجديدة بين السنة والشيعة لتشغل العالم العربى بإحترابه وانقسامه وتخلفه وتحتوى نواتج ثورات الربيع العربى فتحوله خريفاً نازفاً يكرس لتسيد إسرائيل قوة إقليمية وحيدة بين فرقاء متحاربين متخلفين. إن التردد والحيرة الأمريكية مردها صاعقة المفاحأة التى أتت بها 30 يونيو لتفسد كل مخططاتها وتحبط إعادة رسم خرائط المنطقة وتسقط "مشروع الشرق الأوسط الكبير" الذى حاولته الولايات المتحدة الأمريكية على مدار العقود الثلاثة الماضية ولم تجد ضالتها إلا فى الإخوان المسلمين وباقى تيارات الإسلام السياسى الذين رفعوا شعارات "دولة الخلافة"، والحفاظ على المصالح الأمريكية وأمن إسرائيل، و"طظ فى مصر"، وقد حقق لهم نظام محمد مرسى بغبائه السياسى وتعاميه المرحلى شوطاً كبيراً فى تفكيك مصر وتقزيمها واحتواء ثورتها وتغييبها، فعمل لتكون مصر الضعيفة ولاية لا أكثر فى دولة الخلافة العثمانية، والتى تلقف إشاراتها "رجب طيب أردوغان" وتماهى معها فوقف ولايزال إلى جانب مرسى وجماعته وتنظيمه الدولى الذى حمى الإرهاب فى سيناء وزرع إسفيناً للوطنية المصرية لتفقد مصر 40% من أراضيها حلاً للمشكلة الفلسطينية التى اختزلها تنظيم الإخوان الدولى فى "حماس"، وكرس مرسى لذلك بإصدار العفو الرئاسى تلو الآخر لكل الإرهابيين الذين يحملون اليوم السلاح فى وجه الجيش المصرى ومعهم زمرة من حماس، توقفوا عن مقاومة إسرائيل وتفرغوا لتخريب مصر، لذلك تبدو حيرة الموقف الأمريكى وتردده، أيقف مع الإرهاب الذى صنعه بعدما انكشف المستور؟ أم ينحاز لمصالحه ويدعم مشهد الديمقراطية الحقيقية فى 30 يونيو الذى سطره أكثر من ثلاثين مليوناً من المصريين فى خروج تاريخى غير مسبوق، ليعيد لهم وطنهم وثورتهم وهويتهم ومصريتهم التى هى "ملكة الحد الأوسط"، لا مملكة التطرف والإرهاب والكذب والمخاتلة كما حاولها مرسى وجماعته.
إن هذا الخروج الكبير للمصريين لهو تمثيل للديمقراطية فى أنقى صورها، وأنا لا أراه تصويتاً بالأقدام أو بالشخوص قدر رؤيتى أنه ديمقراطية أصحاب الحق الأصيل فى طبعتها الحقيقية غير المزورة، حيث يمكن تسميتها بفائض الديمقراطية Hyper Democracy، ولا غرو أن تعطى مصر للعالم درساً جديداً فى معنى وممارسات الديمقراطية.
ويخطئ من يصور الأمر على أنه محاولة إنقلاب على مرسى والديمقراطية، فتلك مغالطة كبرى، فالأمر كان قد تجاوز مرسى والإخوان والديمقراطية، إلى صميم الدولة وهويتها وتماسكها وأمنها القومى ومستقبل أجيالها، وهذا هو الجانب القيمى فى الديمقراطية وهو يعلو على جانبها الإجرائى، أو"الصندوق". الديمقراطية ياسادة ليست هدفاً فى ذاتها، إنما هى وسيلة للحكم الرشيد وتحقيق مصالح الوطن والحفاظ عليه، فإذا ماتهدد ذلك كله، فلا معنى لديمقراطية تضيع معها مصر وتتفكك دولتها وتشوه هويتها وتهوى إلى مآلات الدولة الفاشلة.
إن الذين يصورون مايحدث فى مصر بأنه "شعب التحرير" فى مواجهة "شعب رابعة العدوية"، إنما يجاوزون الحقيقة، إذ الأمر هو الشعب المصرى كله فى مواجهة "الإخوان والمتأسلمين" ولا يجاوز عدهم بضع مئات الآلاف ممن غرر بهم خطاب التحريض والإدعاء والضلالة، ومن يصور 30 يونيو بأنه خروج للملايين بدافع الحاجة أو السعى لمجتمع الوفرة والكفاية مقابل مافرضته على الشعب المصرى سياسات الإخوان الفاشلة ونظامها المستبد من ندرة وكفاف، أو أنه هبة من أجل خلافات السياسة ضد نظام المرشد فى شططه وعسفه واستبداده وسلطويته، فهو لايرى إلا مايصوره وهم آلة الإعلام الإخوانية و"الصحويين" والمتأخونين من بعض دول المنطقة، ذلك أن هذا الخروج التاريخى العظيم كان دفاعاً عن كيان الدولة الوطنية الذى عرضته ممارسات الإخوان الحمقاء للتفكيك والتآكل، ولقد كان محاولة لاستعادة هوية مصر التى هى "ملكة الحد الأوسط"، مصر التى عاشت وعبر تاريخها مثالاً للوسطية والاعتدال والتسامح والتعايش وانفتاح الثقافة إسلامياً وعربياً وأورومتوسطياً وكوزموبوليتياً، وأراد لها نظام الإخوان أن تفقد هويتها وشخصيتها وحاول مسخها من دولة محورية فى إقليمها ورائدة فى عالمها إلى ولاية فى خلافة مزعومة. ترى هل من الديمقراطية تفكيك مصر وتبديد دولتها؟
#محمد_السعدنى (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟