|
شخصيات تسكن الذاكرة وتنبض بالحياة
راسم المدهون، ومحمد علي طه
الحوار المتمدن-العدد: 4190 - 2013 / 8 / 20 - 14:40
المحور:
الادب والفن
شخصيات تسكن الذاكرة وتنبض بالحياة بقلم: راسم المدهون، ومحمد علي طه 1. محمد علي طه (فلسطين – 48): تغريدة الصباح - من (إخْلادِلْنِكْ) حتى (زلاطْنا ريبكا) دخلتُ غرفتي في المدرسة الحزبية في مدينة صوفيا في آب 1978 وباشرتُ بترتيب ملابسي وحاجاتي وكتبي وأوراقي لأني سوف أقيم شهراً كاملاً مشاركاً في دورة لدراسة الماركسيّة، وفيما أنا منهمك بذلك رنّ جهاز الهاتف الأسود الذي ما انتبهتُ لوجوده من قبل حيث كان يرقد على طاولة خشبية بسيطة، فرفعتُ السماعة، وفوجئت عندما سمعتُ مُهاتفي يلفظ اسمي الثلاثيّ وبلهجة عربيّة فلسطينيّة، فازدادت دقات قلبي وكدتُ أقول: ولو... حتى هنا ! ولكن المفاجأة الجميلة حدثت عندما عرّفني بنفسه. كان ذلك صوت الشاعر الفلسطينيّ البارز عز الدين المناصرة الذي رحّب بي وطلب مني أن أرتب حاجاتي بسرعة وأن أغادر غرفتي إلى بوابة المدرسة. (ومن هناك خُذ تاكسي من المحطة وقُل له: (إخْلادِلْنِكْ)، يعني البرّاد أي الثلاجة وهو اسم محطة مترو معروفة في صوفيا، وسوف تجدني هناك في انتظارك!).) كان عزالدين المناصرة يومئذ يعدّ أطروحة الدكتوراة في الأدب المقارن في جامعة صوفيا، وكنتُ قد قرأتُ له مجموعاته الشعرية الجميلة: "يا عنب الخليل"، و "الخروج من البحر الميت"، و "قمر جرش كان حزيناً"، و "بالأخضر كفّناه"، وقصيدته الجميلة جداً "جفرا". ترجلتُ من سيارة الأجرة في محطة (إخْلادِلْنِكْ) فوجدتُ المكان اسماً على مسمى ووقفتُ على الرصيف دقائق قليلة حسبتها طويلة أراقب عشرات المسافرين الذين كانوا يترجلون من المترو دفعة وراء دفعة، وأنا أبحث عن عز الدين، الذي لا أعرفه ولم أره من قبل، وحينما هاتفني لم أسأله ماذا يلبس ولم يسألني ماذا أرتدي، فلا علامة ولا إشارة، فكيف سأعرفه أو يعرفني؟ وخطر لي أن أقف على نشز من الأرض وأنادي بصوت عالٍ: "هيه يا عز الدين! وينكْ خَيّا!؟" ولماذا لا أفعل ذلك والبلاد التي لا يعرفك أحد فيها ازعقْ واصرخْ فيها (مع الاعتذار لتحريف المثل الشعبيّ). وفيما أنا محتار جداً شاهدتُ رجلاً أسمر، متوسط القامة، نحيف الجسم، يداعب النسيم شعر رأسه الأسود، ويرتدي جاكيتاً أسمر في شهر آب ويتجه مسرعاً نحوي مبتسماً فأدركتُ أنه عز الدين المناصرة، الشاعر الكبير الذي صدر له بعد سنوات عدة مجموعات شعرية هامة منها: "كنعانياذا" و "رعويات كنعانية" و "لا أثق بطائر الوقواق" و"لا سقف للسماء"، وهو الناقد والباحث صاحب الدراسات النقدية الهامة في الأدب المقارن، والكاتب الذي جمع وحقق الأعمال الكاملة للشاعر الفلسطينيّ الشهيد عبد الرحيم محمود, وأصدر موسوعة عن الفن التشكيلي الفلسطيني. تعانقنا وتبادلنا القبلات ثم حدّق بي وسألني: محمد؟! فأجبته سائلاً: عز الدين؟! ركبنا معاً سيارة أجرة أوصلتنا، كما طلب، إلى بحيرة بان شيريفو الخلابة التي تبعد كيلومترات قليلة عن العاصمة وجلسنا في مطعم فوق مياه البحيرة اسمه (زلاطْنا ريبكا) و(زلاطْنا) في اللغة البلغارية معناه الذهب و(ريبكا) معناها السمكة أي مطعم السمكة الذهبية. سألني عن الوطن الذي لم يره منذ خرج من بلدته بني نعيم الخليلية، منذ (عام 1964)، وسألني عن حيفا وعكا والزيب، وحدثني عن نشاطاته في صوفيا وعن لقائه مع الكاتب المؤرخ والمفكر الفلسطينيّ د.إميل توما وعن صديقه عبد العزيز راكح أبو لحية (هكذا كان يسميه) ابن قرية اكسال الذي كان يدرس الطب في بلغاريا. كان لقاءً ممتعاً امتد عدة ساعات، تحدثنا فيه كثيراً في الأدب والشعر، عن البياتي والسيّاب والجواهري، وعن نزار قباني وأدونيس، وعن مجلة الآداب، ومجلة الطريق، ومجلة شعر، ومجلة فلسطين الثورة، ومجلة الهدف... وعن بيروت. وفيما نحن نتحدث ونأكل السمك الشهيّ ونشرب ما لذّ من الشراب البلغاريّ، لاحظتُ أنّ رجلين أسمرين يجلسان حول طاولة قريبة منّا ويصغيان باهتمام لحديثنا. قلتُ متوجّساً: هذان الرجلان، كما يظهر، يراقباننا. ضحك وقال: أنت في بلغاريا وفي (زلاطْنا ريبكا)، في بلد آمن. وبعد دقائق نهض أحد الرجلين وسار نحونا وقال: معذرة. حديثكما في الأدب أمتعني وأثار اهتمامي، وهذه الأسماء التي ذكرتموها أعرفها وبعضهم أصدقائي...، أنا شمران الياسري (أبو قاطع)، المحرر في جريدة (طريق الشعب) العراقية... فمن أنتما؟ 2. راسم المدهون (سوريا): شمران الياسري (أبو قاطع): قال لي بعد أن نجح في حشر جسمه في مقعد الصف: ستكون المرّة الأولى التي أجلس فيها على مقعد مدرسي فأنا لم أدخل مدرسة في حياتي. كان يصرّح بذلك ببساطة وهو ينفث دخان غليونه ويبتسم. كانت كلماته تثير استغرابي بسبب معرفتي به قبل أن ألتقيه بوصفه أهم كاتب شعبي عراقي، بل إن العراقيين الذين عاشوا سنوات السبعينات يتذكرون بكثير من الحميمية عاموده الصحافي الذي كان ينشره في "طريق الشعب" جريدة الحزب الشيوعي العراقي العلنية أيام شهر العسل القصير مع نظام صدام حسين . إنه العامود الذي كان يحمل عنوان "بصراحة أبو كاطع" وهذا هو اسمه الذي عرف به بين الجميع وطغى على اسمه الحقيقي شمران الياسري. هو فلاح من جنوب العراق، عاش سنوات شبابه الأول أميّاً إلى أن أدخلته الديكتاتوريات العراقية المتتابعة سجونها. هناك وجد نفسه بين المثقفين والكتاب الذين تعلّم على أيديهم القراءة والكتابة وانتقل منهما إلى تعلّم اللغة الإنكليزية. فيما بعد وحين ذهب كل منا إلى مكانه الأول لاحقته عيون العسس فاضطر إلى مغادرة العراق واستقر في براغ عاصمة جمهورية تشيكوسلوفاكيا السابقة. كان حسّه النقدي لا يقبل بما يراه بيروقراطية جماعته فاحتج وواجهوا احتجاجاته بقرار عقابي غريب: ممنوع التحدث مع شمران الياسري تحت طائلة العقوبة الحزبية. هكذا وجد أبو كاطع نفسه وحيدا في "مقهى العراقيين" في براغ. كان رفاقه وأصدقاؤه يجلسون قربه حول طاولات المقهى ويتجاهلونه ما دفعه إلى الإكثار من السفر بسيارته القديمة من براغ إلى بودابست حيث كان يقيم ولده جبران. تلك الطريق الطويلة بين العاصمتين كانت وسيلة هروبه من عزلة القرار الجائر بمقاطعته. مشواره الأخير بين العاصمتين كان نهاية حياته حيث انقلبت به السيارة وفارق الروح غريباً في بلاد غريبة. اليوم حين أتذكره أتذكر رسالته القصيرة والحزينة: (أنا كالأيتام على موائد اللئام، ليتنا يا صديقي عشنا في زمن آخر). تلك الرسالة بالذات أخذها مني "رفاقه" السابقون. قالوا لي: سوف نقوم بتكريمه وسنطبع مؤلفاته ورسائله الشخصية، وذهبوا ولكنهم لم يفعلوا شيئا من ذلك. هوالذي رأى. هو الذي كتب. وإليه في غيابه الذي يهزم حضور الصغار أهديت مجموعتي الشعرية الثانية "دفتر البحر" ذكرى حياة صعبة ولكنها تطفح بالنور. 3. راسم المدهون (سوريا): فخري مرقة (أبو أسعد): كان طويل القامة، ضخم البنية تحس قوّته منذ أن تضع يدك في يده مصافحاً فتتفاجأ بقوة يده التي لا تبدو لك متناسبة مع سنوات عمره التي كانت تغادر الكهولة وتمضي بخطوات حثيثة نحو الشيخوخة. قال صديقي (الشاعر عزالدين المناصرة) وهو يقدمه لي: هذا عمك أبو أسعد، أشهر رجال (الخليل) وهو ضيفنا هذه الليلة. أما أبو أسعد ذاته فلم يقل شيئا. كان يبتسم وحسب وكنت تشعر مع ابتسامته أنك تعرفه منذ زمن سحيق. تلك الليلة اليتيمة في حضرة أبو أسعد لا تمحوها النار من الذاكرة خصوصاً أنه يعرف كيف يستدرج حوادث حياته العريضة والغنية وكيف ينتقي من سجلاتها تلك الحكايات المفعمة بالدلالات . قال أبو أسعد ضاحكا وهو يرتشف بمتعة من كوب الشاي: عمي، أنا أبو أسعد، فخري مرقه من قضاء الخليل.شرطي عتيق وشيوعي عتيق أيضاً. لا تسخروا. أعرف أن الشيوعي والشرطي يتناقضان ومع ذلك هذا هو الحال. حكايات كثيرة سردها على مسامعنا أبو أسعد في تلك الليلة لكن أكثرها طرافة هي حكايته مع الشرطة البريطانية في مدينة عكا، قال: كان ذلك في أواخر الثلاثينات وكنت في شرطة عكا. كنت مكلفاً بنقل البريد الرسمي إلى قيادة شرطة اللواء في مدينة حيفا. كان الجو صيفيا مشرقا وكنت على دراجتي النارية أمّر بالقرب من كروم ومزارع حين لمحت شجرة تين ضخمة تزدحم أغصانها بالثمار. أوقفت دراجتي إلى جانب الطريق وقطفت حبات من شجرة التين العجوز، حلوة المذاق، شهية ولا أستطيع مقاومتها. تلك الوقفة أغرتني بالجلوس قليلا في فيء الشجرة العجوز. هكذا صعد إلى خاطري هاجس ألح علي بأن أفتح البريد الحكومي لأعرف ما به. كان الفضول يحثني لمعرفة ما ينقله بريطانيو عكا إلى قيادتهم خصوصا وأن عملهم كرجال شرطة يتعلق بالفلسطينيين. هكذا استعرضت رسائل البريد كلها فلم تثر اهتمامي إلا واحدة كتب عليها بالإنكليزية "سري للغاية". حين فتحتها عرفت أنها كانت موجهة من قائد شرطة عكا إلى القيادة العامة لشرطة لواء الجليل تطلب إليها اعتقال مجموعة من نحو ثلاثين رجلا ممن وصفتهم بالخطرين على الأمن والسلم العام والتعاون مع الثوار. كل ذلك قادني إلى قراءة الأسماء وفجأة تسمّرت أمام اسمي وقد كتب إلى جانبه: شرطي في عكا. هكذا لم يعد من خيار. قررت بسرعة أن "أصادر" البريد وأن أنقله معي إلى الجبل حيث الثوار. نام أبو أسعد تلك الليلة في ساعة متأخرة. ولكنني بعد الخامسة صباحا بقليل سمعت دبيب أقدام في الصالون فذهبت لأستطلع الأمر: كان أبو أسعد بكامل ثيابه يتمشّى ويداه معقودتين وراء ظهره. حين سألته إن كان متضايقاً من شيء ابتسم وقال بهدوء: لا كل الموضوع أنني تعودت الاستيقاظ باكراً منذ كنت في سلك الشرطة . قبل عام تقريباً جمعني مع الصديق الروائي والصحافي فيصل حوراني غداء في بيت (عربي عواد) وذهب الحديث بنا إلى الماضي ولا أعرف كيف وصل بنا إلى أبو أسعد فخري مرقة. كان الحاضرون يستذكرون مزاياه وكانت سيدة البيت (أم فهد) زوجة عربي تذرف دموعا صامتة قالت في نهايتها: هكذا كان أبي. عندها انتبهت أنها ابنته، إبنة فخري مرقه الذي انتصر على فتاوى الإخوان والتحريريين بتحريم تزويج بناتهم للشيوعيين فـ "تبرع" ببناته الثلاث وزوجهن لثلاثة من بينهم عربي عواد. الهوامش: 1. محمد علي طه: تغريدة الصباح، جريدة (الحياة الجديدة)، رام الله، فلسطين، 5/3/2013. 2. راسم المدهون: جريدة المستقبل، بيروت، 12/12/2013.
#راسم_المدهون،_ومحمد_علي_طه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|