أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حذام الودغيري - قراءة في اللاهوت العربي وأصول العنف الديني للدكتور يوسف زيدان الجزء الثاني.















المزيد.....


قراءة في اللاهوت العربي وأصول العنف الديني للدكتور يوسف زيدان الجزء الثاني.


حذام الودغيري
(Hadam Oudghiri)


الحوار المتمدن-العدد: 4188 - 2013 / 8 / 18 - 03:38
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


في غلاف الكتاب جاء الشق الثاني من العنوان : "وأصول العنف الديني" مكتوبا بحجم أصغر من شقه الأول "اللاهوت العربي"؛ ولعل هذا الشكل بخس من أهمية "أصول العنف الديني" عند القارئ المتسرع أو المتعود على الاتهامات الجاهزة، مما جعل البعض يقول "ظل الشطر الثاني من عنوان الكتاب غائما وغير مبرر سواء في مقدمة الكتاب أو في فصوله السبعة، وبدا وكأنه أقحم على الكتاب لاغراض تجارية، أو ان المقصود به فقط أصول العنف الديني في «تاريخ الكنسية القبطية الارثوذكسية».
ولكن الأمر لا يبدو كذلك، فتلك الواو بين الشقين هي واو المعية أو الجمع التي تعطي للشقين نفس الأهمية. ولعل الناشر أراد تسليط الضوء على المصطلح الجديد "اللاهوت العربي" أو لعل المؤلف أراد بذلك، أن يبقى البحث عن العنف داخل كل أجزاء الكتاب اجتهادا من القارئ "غير الكسول" وعملية فكرية متيقظة لترصده أنّى وجد. ولهذا فإننا نجد أن يوسف زيدان(أستاذ الفلسفة والتصوف الإسلامي) الذي أعطى تعريفا لمختلف المصطلحات التي أوردها، ولكثير من المفردات الشائعة التي لا نعرف أصلها أو لا نميز بين مرادفاتها؛ لم يأت بتعريف للعنف.
سنعطي إذن تعريفا للعنف، وسنرى كيف حاول بعض الثيولوجيين والفلاسفة والمفكرين الغربيين، في السنوات القريبة الأخيرة، البحث عن أسباب العنف الديني وعلاقتها بالتوحيد وعن العناصر المشتركة التي تجمع بين الديانات الإبراهيمية ، لتتجلى لنا أصالة نظرية يوسف زيدان وتميزها وقوّتها. فقد أصبح الموضوع محور الساعة وتصدر عشرات الكتب في العالم، كل عام، في محاولة لفهم وعلاج هذه الظاهرة التي تجلت بشدة يوم 11 سبتمبر 2003 وتتجلى يوميا في مظاهر أخرى.
يقترح القس البروتستانتي Frédéric Rognon تعريفا وسطا للعنف بين مفهومه الواسع جدا الذي يجعله في كل تجلّ للقوة أو السلطة، مثلا قيل : إن الإله الخالق في التوراة عنيف لأنه فصل بين النور والظلام، وبين المياه العلوية والمياه السفلية، ولأنه وضع ب"سلطة "النظامَ في الفوضى. وبين المعنى المختزل جدا في العنف الجسدي، الذي يتجلى في الموت البيولوجي وسفك الدماء والجروح والذي يحاول التملص من أنواع العنف الأخرى أو إخفاءها: وهي العنف العاطفي (التخويف، التهديد، الابتزاز، التأثير)، والعنف الهيكلي (الفقر، الظلم، الاستبعاد أو الإقصاء) وفي الأخير العنف الرمزي أو التقافي وهو كل ما يحمّلُ ويُمَرّرُ في القول والصورة وفي الإيديولوجيا ويستخدم لتبرير كل أنواع هذه الاعتداءات ولإضفاء الشرعية على الأشكال الأخرى للعنف. فيقول "العنف هو إنكار الآخر (أو االذات) بصفته إنسانا ذا كرامة. و هتكٌ واغتصاب لسلامة الآخر: الجسدية والنفسية والهيكلية والثقافية. والعنف دائما حاملٌ للموت، موجَّهٌ للموت، ولكن الموت يمكن أن يكون ماديا أو نفسيا أو رمزيا."
وهكذا يجمع الباحثون الغربيون و كما يظهر لنا أيضا من كتاب يوسف زيدان أنه إذا كانت مختلف الأديان تتسم بالعنف وكان العنف والحرب موجودان قبل وخارج التوحيد، فالشأن لم يكن يتعلق بالحروب الدينية؛ فالحروب القديمة في العالم الوثني كانت بدافع التعطش للغزو، و لم تكن بسبب كراهيتها لآلهة الجيران، ولا الرغبة في فرض معتقد على العدو. ولعل الاسكندر الأكبر وسايروس الفارسي قدما أفضل الأمثلة على التسامح في الديانات الشركية (الوثنية)؛ فلم يحاولوا أن يدمروا منهجيا الآلهة ومعبودات الأمم التي غزوها، أو أن يحلّوا محلها آلهتهم، بل إن بولس الطرسوسي حين وصل إلى أثينا بنى مذبحا لإله غير معروف وأعلن أن هذا المذبح مذبح إلهه الواحد،الأوحد، الحقيقي. أما العنف الهندوسي الحالي فهو ظاهرة حديثة، لم يسبق لها مثيل في التاريخ قبل ظهور التوحيد في الهند. ونادرا ما كانت دوافع العنف من قبل البوذيين رغبة في فرض روحانيتهم . كما أن العنف الأيديولوجي في القرن العشرين، يعتبر سليلا لعقائد التوحيد ، التي اقترضت منه هذه الإيديولوجيات مفهوم الحقيقة الواحدة الراسخة وعقيدة الخلاص.
أما بالنسبة للديانات الإبراهيمية ، ولعلهم يركزون هنا على المسيحية بصفة خاصة ؛ فإنها لم تكن سلمية تماما وبعيدة عن العنف إلا حين كانت منفصلة عن السلطة السياسية. فحتى اعتناق قسطنطين للمسيحية عام 313، رفض كثير من المسيحيين المشاركة في الحرب التي دعاهم إليها عدد من آباء الكنيسة مثل قبرصي، أكتانتيوس ، هيبوليتوس من روما ، مفضلين الاستشهاد. فالدخول في عهد القسطنطينية يمثل قطيعة وانقلابا كاملا مع التوجهات السلمية للقرون الثلاثة الأولى للمسيحية. فابتداء من مجلس آرل عام 314، أصبح رفض حمل السلاح يعاقب عليه با لحرم الكنسي. وإذا تم الحفاظ على التراث اليوناني، فقد كان ذلك بفضل العصر الذهبي للإسلام وليس إلى إلى كنيسة روما، التي عملت ما في وسعها زمن ثيودوسيوس وجستنيان للقضاء على هذه الثقافة الوثنية كما يتضح بطريقة شعارية تلنيش (إعدام ) هيباتيا آخر فلاسفة الإسكندرية، وهو تلنيش تم برعاية القديس كيرلس.
طبعا في الحديث عن العنف يُنظر بارتياب للإسلام المرتبط بشكل خاص بالسياسة، والذي يوسم في العقود الأخيرة أكثر من غيره بالإرهاب وبالعنف الديني، فالخميني يقول "إذا سمحنا للكافر بمواصلة دوره الضار كمفسد في الأرض حتى نهاية حياته، فسوف تزيد معاناته المعنوية . أما إذا قتلناه، فسنمنع الكافر من ارتكاب الآثام له، وسوف تكون وفاته خيراً له "، ويضيف : "أولئك الذين يتبعون تعاليم القرآن، يعلمون أن الإسلام يجب أن يطبق قانون القصاص وبالتالي لا بد له من القتل [...]. الحرب نعمة للعالم وللأمم. إن الله هو الذي يشجع الناس على القتال والقتل " حسب ما أوردته اللاهوتية Geneviève Harland.
أما الفيلسوف Jean Soler الذي أثار جدلا بكتابه "من الله؟ " في العام الماضي، واتهم بمعاداة السامية فإنه انطلاقا من كتاب "كفاحي" لهتلر الذي لم يكن ملحدا، بل كاثوليكي النشأة ، و لم يفقد الإيمان أبدا، يرى أن النازية هي النموذج العبري الذي لا يفقد حتى الإله" فهتلر هو قائد شعبه، مثل موسى وشعب الله المختار ليس الشعب اليهودي، ولكن الشعب الألماني. والنقاء العرقي يضمن تميز الشعب المختار، وبالتالي يجب حظر اختلاط الدماء. كما يذكر بقولة هتلر: "أعتقد أنني أعمل وفق روح الله القدير، خالقنا،لأنني بدفاعي عن نفسي ضد اليهودي، وأقاتل دفاعا عن عمل الرب." ألم يكن جنود الرايخ الألماني عن طريق الصدفة يرتدون حزاما مكتوبا على حلقته: "الله معنا" ...
ما الذي يميز الديانات الإبراهيمية التي أطلق عليها الفيلسوف يوسف زيدان مصطلح الرسالية؟
حسب يوسف زيدان: في الديانات الرسالية أو الرسولية الثلاث: 1ـ المعبود واحد، مهما تعددت صفاته وأقانيمه، وأسماؤه وهو يختص قوما بخطابه الإلهي وهو يصطفي رسله والمؤمنين به فيرفعهم فوق بقيةالناس؛ 2ـ يؤكد الدين اللاحق الدين السابق، بينما الدين السابق ينكر اللاحق ويستنكره ، أو بالأحرى، يفعل أهل الديانات ذلك في أنفسهم، ثم يفعلونه داخل كل ديانة على حدة، حين يجعلون المذهب معادلا للدين، فيصير الذين خارج المذهب خارجين عن العقيدة والدين.؛ 3ـ وفي كل ديانة شريعة هي وحدها واجبة الاتباع، وأهلها فقط المؤمنون وغيرهم غير مؤمنين. وسنرى كيف يحلل ويبدع ثلاثيا للعنف فيها.
أما القس البروتستنتي Frédéric Rognon فهو يضع ثمانية معايير مشتركة بين الديانات الإبراهيمية وهي: 1ـ زعم امتلاك الحقيقة 2ـ مركزية الربوبية 3ـ الكتاب المقدس4ـ الارتباط بالأرض (الموعودة-القدس) 5ـ دافع الخطيئة الأولى 6ـ النزوع الأخروي7ـ قيمة الاستشهاد (التضحية) 8ـ الترنسندنتالية للإله، معتبرا هذا المعيار الأخير، الأهم من بين سابقيه ويتساءل إذا كانت المفارقة والتعالي التام لله عن العالم سببا في التفرد والعنف.
وبعد النظر في هذه العايير ومقارنتها بمثيلاتها عند الديانات الأخرى يرى أن العلاقة القائمة بين التوحيد والعنف تتشابك فيها المقاربة (الصلة) والمفارقة (التناقض) : فالديانات التوحيدية لها تأثير متعدد الجوانب فهي تولد العنف (مبرّرا باسم الله)، وفي نفس الوقتت تنظم ذلك العنف (عن طريق التدجين والتوجيه)، وأخيرا تندّد بالعنف (محتجّة على الشرعية المتعسفة). وينتهي باستنتاجه إلى أن هذا التأثير تتقاسمه سواء الديانات التوحيدية أو الديانات الأخرى؛ وأن الديانات الإبراهيمية تتسم بالعنف حسب نوع علاقتها بالسلطة السياسية وأن العلاقة بين التوحيد والعنف تعتبر في نهاية المطاف ، عارضة، فهي قد تكون وقد لا تكون؛ مشيرا إلى التيارات اللاهوتية غير المبالية بأي غزو لسلطة الدولة في المسيحية والتيارات الصوفية في اليهودية (التي تهاجمها الصهيونية) و في االإسلام حيث أن روحانية الطرق الصوفية تتعلق بـ "الجهاد الأكبر"،أي الكفاح الداخلي ضد النفس ، وليس "الجهاد الأصغر" لخوض الحرب ضد "الكفار"
أما ما يميز ما جاء به المفكر Jean-Pierre Castel فهو أن الدين التوحيدي بزعمه امتلاك الحقيقة الواحدة ، و الاستبداد بالرأي (التفرد) ، قد أدخل دافعا غير مسبوق للعنف لم تعرفه الوثنية وهو الخوف من حرية الضمير، والخوف من الإرادة الحرة، والخوف من الهرطقة والبدع، والخوف من الأصنام. فالعنف التوحيدي هو ذاك الذي يريد أن يحمي المؤمن من خطر البدع والهرطقات، أو الذي يريد أن يفرض حقيقته للآخرين. هكذا يبدو التوحيد ازدواجيا، فهو يحث على الحب من جهة وعلى الإقصاء من جهة ثانية. وهناك أيضا "توقيع" خاص للعنف التوحيدي وهذا ما يميزه عن باقي أنواع العنف عند الإنسانية المعروفة وهو :الفخر، وانعدام الندم و التوبة عن أعمال العنف المرتكبة باسم الرب، المسيح أو الله ."
وهو لا يعني بهذا إنكار الأديان ولكن للتوعية من مخاطر هذه الازدواجية؛ فكما توضحه الأنثروبولوجيا الحديثة، قد تكون الديانات أصل الحضارة. وليس هناك محل للتشكيك في جمال إيمان معظم المؤمنين المتقيدين برسالة المحبة أكثر من شعورهم بالتفرد ، بينما العقائد والمؤسسات التي تدّعي امتلاك الحقيقة الواحدة، غير القابلة للمناقشة، لأنها إلهية، وتلح على هداية الآخر لمعتقدها فإنها تنقل العنف والشعور بالفوقية واحتقار الآخر.
وبعد هذه الجولة السريعة في عدد من الرؤى التي تطرقت للعنف الديني وعلاقته بالديانات الإبراهيمية (الرسالية) نقدم ملخصا شاملا ومختصرا لما أضافه يوسف زيدان في هذا الموضوع. و قد وضح للقارئ العربي أنه ينطلق "من زاوية التدين تحديدا ، لا الدين، . أعني من الزاوية التي يتعبد بها الناس، ويفهمون من خلالها الدين، الذي هو في حد ذاته نصوص لا تنطق بذاتها، وإنما ينطق بها الناس ويستنطقونها بحسب ما تنتجه العملية الجدلية (الدياليكتية) والحركة التفاعلية الدائمة بين الديانة ذاتها والمتديّنين بها...أي من منطلق نسق "التديّن" وحالاته المستمدة من "صلب" الديانات والمذاهب الرسالية الإبراهيمية باعتبارها تجارب فعلية في الواقع المعيش أي في الملكوت الأرضي."
أبدع الدكتور يوسف زيدان في ابتكار " ثلاثي العنف " الذي يتمحور في الإنابة والإبادة والخروج ، والذي نراه يصور بدقة عجيبة دوافع وآلية اللجوء إلى العنف عند أصحاب الديانات الرسالية:
1ـ الإنابة : رغم وجود لله الـ"ترنسندنتالي" ( فهو متعال بطبيعته على العالم ومفارق له)، يحتاج المتدين إلى الاتصال بالله والتواصل معه، عبر مراسم العبادة وعلى نحو محدود وصفوي في التجارب الدينية العميقة؛ إلا أن العموم يحتاجون إلى الصلة الدائمة بالإله عبر ممثليه في الأرض الذين ينوبون عنه وينطقون باسمه. ففي اليهودية، من صور الإنابة عن الله يتجلّى آدم كأب للنوع البشري، ثم الأنبياء بتفاوت درجاتهم والأحبار والربّيون... وفي المسيحية ناب السيد المسيح (الابن) عن الله (الآب) حينا من الزمان تم من خلاله الخلاص من الخطيئة الأولى، ثم ناب عن المسيح (الرب) الرسلُ (الحواريون) مروراً بالبابوات ووصولا إلى الكهنة. وفي الإسلام نجد الصحابة والتابعين وتابعيهم ...والإمام عند أهل السنة والإمام المعصوم عند الشيعة، والقطب عند الصوفية، ومن تحتهم نواب كالمفتي الذي يوقّع عن رب العالمين( ابن القيّم). كما أن الحاكم في الإسلام هو" ظل الله في الأرض ويستوجب السمع والطاعة". ويقوم بنظام "التمثيل" واحد أو أكثر من خيار الناس المختارين من الله أو الوارثين أو الموهوبين. إلا أن الإنابة موقوفة على الرجال دون النساء.
2ـ الإبادة: إله التوراة يدمرو يبيد الفاسقين، كما أباد يهوشع بن نون قرابة ثلاثين مملكة في حروب الرب، وفقا لرواية التوراة. كما وعد الرب : "لنسلك يا إبراهيم أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات" فكيف سيتحقق وعد الرب من دون محو وإبادة والأرض الموعودة تسكنها الأمم ، من غير أبناء الرب. و اعتمدت الديانة المسيحية نفس الصورة الإلهية التوراتية القديمة، وقد أفاضت الهرمنيوطيقا في تأويل الآيات الدالة على عنف الرب التوراتي وقسوته، باعتبارها ترمز للقدوسية الإلهية ولحقيقة أن الله هو خالق الكون. وفي القرآن ، بعض الآيات والسورجمعت فيها الألوهيةُ بين الأضداد حسب ما يقول الصوفية المسلمون.وهناك أيات تؤكد الإبادة الإلهية ، تحاشى المتكلمون وعلماء العقيدة الخوض في أمرها. والمراد هو أن "الوعي التديّني" في اليهودية والمسيحية والإسلام، يصوّر الله قائما بالكون وفاعلا للإبادة، وأن نائب الله في الأرض أو الناطق باسمه، ما دام يمثّله، فقد يدمّر مثله ويبطش. بل جعلت الآيات القرآنية بطش الإنسان مفعما بالجبروت، بينما بطش الله مشوب على شدته بالرحمة .
3ـ الخروج: ملمح أصيل من ملامح التجربة الدينية - السياسية. والمقصود بالخروج اصطلاحا، هو تلك البنية الكامنة في نمط التفكير الديني (الرسالي) والجاهزة دائما للعمل على المنوال ذاته وبذات الترتيب المفصّل: وهو يتميز عن الثورة، التي تعتبر نزوعا إنسانيا، بما يدّعيه من قداسة؛ فلا بد من الارتكاز على الدين ليصح الخروج. والخروج ينطلق من أن رأس الجماعة الخارجة هو الناطق بلسان الرب أو الإله أو الله القاهر فوق عباده (الإنابة) ؛ وأنه مؤيّد منه، فهو لا محالة منصور؛ ويستعمل النصوص الدينية المؤكدة لقهره تعالى وإبادته، شعارا له.
أما الأحكام العملية التي تلي الأطر النظرية فهي: 1ــ ا لحكم بضلال الأغيار (الآخرين) وبالكفر على المحيط الاجتماعي العام؛ 2ــ انبثاق جماعة إيمانية تجاهر بعقيدتها المخالفة للعقائد السائدة و اتخاذ ذلك الإيمان (النقي) مسوّغا لرفض ما عليه الغالبية (الجمهور) وداعيا للثورة على السلطة السائدة؛3 ــ اضطهاد محدود للجماعة المنبثقة ، المحدثة من جهة المجتمع القديم (مجتمع الكفرة الضالّين) يصاحبه إعلاء متوهّم للذات ( المؤمنة) الواقعة تحت الاضطهاد؛4ــ الهجرة والفرار والنقلة الجغرافية والارتحال بعيدا، 5ــ بناء مجتمع جديد مستقل على هيئة دولة وليدة، تتغذى على إيمانها وكراهيتها للمجتمع الذي انبثقت منه.
وأول ما عرف من خروج في التوراة هو خروج النبي إبراهيم وابن أخيه لوط وبعض أهلهما من بلد الشرك، وأشهره خروج النبي موسى باليهود من مصر وقد أفردت له التوراة "سفر الخروج". وكذلك كان خروج السيد المسيح باسم الرب على السلطة اليهودية المستقرة في أورشليم، وكان صلبه حسب الأناجيل بناء على ما اقترفه من خروج. ثم قامت الكنيسة باعتبارها جسد المسيح وارتبطت بالسلطة السياسية بعد أن عصتها طويلا، ثم صارت المسيحية من بعد ، سلطوية وإمبراطورية ومحلا لانبثاق جماعات "خروج جديدة، تم وصفها بالهرطقات.
وكذلك خرج النبي محمد ص بدعوته إلى الإسلام ، وهاجر المسلمون إلى الحبشة ثم المدينة، وجاهدوا وغلبوا المشركين فكانت دولة الإسلام. وفي فجر الإسلام، خرج"المُحكِّمة" الذين سموا بالخوارج باسم الإيمان النقي وهم النائبون عن الله بشعار " لا حكم إلا لله" بهدف القضاء على الفساد السياسي وقتل رموزه الأربعة ومنهم الإمام علي ...ثم توالى خروج الشيعة في زمن الخلافتين الأموية والعباسية. وسمي خارجيا "كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه"
ويعتبر تنظيم القاعدة مثالا لهذا الخروج .

وهكذا يتم الدخول في جدلية العلاقة بين الدين والعنف والسياسة؛ وقد استعار زيدان من الفلكيين القدماء مصطلحات بديعة ومُلَطِّفة ترمز إلى تعاقب الفصول وتداول الدول تتمثل في الاعتدالين الخريفي والربيعي والانقلابين الشتوي والصيفي ليبين الحركية القائمة بين أجرام السياسة والدين والعنف ومداري الدين والسياسة ...
كتب ما يتعلق بهذه النقطة بدقة وبخبرة مذهلتين، لذا لا يمكن تلخيصه فهو متكامل وكلّي وتنبغي قراءته برمّته؛ ويجعلنا نفهم بعمق وفعالية الآليات التي تتبعها الجماعات الدينية المتطلعة إلى الحكم السياسي، سواء من التاريخ البعيد أو المعاصر؛ منذ انبثاقها إلى نهايتها أو تفاقم أوضاعها ؛ حيث تضطرب الحركة الجدلية الثلاثية، وتحولها من صورة "الجدل" إلى حالة "الدوّامة" التي تختلط فيها الأدوار وتتبدّل المراكز، فيكون السياسيّ دينيا وعنيفا ويكون الديني سياسيا وعنيفا، ويكون العنف دينيا وسياسيا. وهذا ما يشهده العالم في الآونة الأخيرة إذ يحدث عنف تبادلي، عنف وعنف مضاد.

وفي محاولة استشراف أفق التعايش السلمي العادل بين الدين والسياسة وتجنب دخول الطرف الثالث ( العنف) في هذه الدائرة ، فإن زيدان أتى بحلول اتهمه البعض بأنها حلول "إنشائية ". ولكن القارئ المتنبه للتاريخ والمتأمل لحالات انتشار الأديان وتعايشها السلمي في المجتمعات، سيوقن أنها مسألةُ تربية وتوعية وإرادة مجتمع وبالتالي فهي قابلة للتطبيق والنجاح. تتجلّى هذه السبل إذن في :
1ـ الفهم والتفهّم: وهويتضمن الاعتراف بالتشابك القديم والاشتباك بين الدين والسياسة؛ فيأتي عامل "الفهم" بينهما ليؤكد الطبيعة المستقلة والتجاورية بالضرورة، لكل منهما وبديلا لظاهرة ( التعدّي) المتبادل بين الدين والسياسة. فعلى (السياسي) أن يعلم أن مجالات عمله وفعاياته التفصيلية القائمة على قاعدة "الإمكان" ليست بديلا مغنيا عن النوازع "المطلقة" التي يتبنّاها الدين ويؤكدها. وفي المقابل، لابد لما هو (ديني) أن يعترف للسياسي بحدود مشروعة للحركة، على الأقل في حقه لعمليات الضبط الاجتماعي، وفي تعامله مع العالم ( الخارجي) الذي تتنوع فيه الديانات والعقائد والمذاهب. أما التفهم فهو ذاك الذي يفسح المجال لقبول الآخر والاعتراف بحق الاختلاف. "وقد أن الأوان لتفهم الظواهر الدينية الوليدة ذات الطابع الانبثاقي، والكف عن محاولة رأدها بقوة في مهدها، لأن الذي يحدث عادة، هو أنه من بين بضعة انبثاقات يتم وأدها سياسيا بنجاح متخيّل، تفر موجة دينية وليدة، وتتسلح بميراث دفين من القهر المتوالي للموجات السابقة، والانبثاقات الموءودة، فيتضاعف عندها الحقد تجاه المجتمع، مجتمع الساسة والعوام. وتتأكد لديها الرغبة التدميرية والإزاحة التامة للسلطة القائمة، التي تراها الجماعة ا لدينية المحصورة المحظورة متمثلة في الشيطان."

2ـ الإظهار بدل الاستتار: وهو يقتضي الإقرار والاعتراف بالتعددية ، وبتنوع التجربة الإنسانية تنوعا غير محدود و والحرص على التحاور العلني الدائم بين الاتجاهات جميعا. "فكم من شخص أو جماعة أو مجتمع، تطورت اتجاهاته من النقيض إلى النقيض، أو تعدلت توجهاته من درجة إلى أخرى بفعل الحوار العلني، وبفضل زمن ليس بالطويل."

3ـ الضبط المتوازن: ويبدأ سواء من جهة السياسة أو الدين، بترك مساحة لحركة الأفراد والجماعات و مساحة للحرية الإنسانية الواجبة. وهو ما يقود على المدى الطويل، إلى عمليات ضبط ذاتية، من دون ضغط، يرتضيها أفراد المجتمع لنفسهم بأنفسهم.فتكون أعمق أثرا من أنماط الضبط المتشددة وشعاراتها. "ولاسيما أنه بسبب العولمة صرامة الأنظمة السياسية الضابطة ، سوف تهددها دائما مظاهر الحرية الإنسانية في بلدان أخرى، بينما تهدد هذه الحريات المتاحة في البلدان الأخرى أحوال القهر الاجتماعي في البلد المتشدد دينيا الذي ينظر للمجتمعت الحرة ( المتحررة) على أنها مجتمعات كافرة يلعب بها الشيطان. فيحدث الصدام المسمى بالإرهاب."
4ـ التعاون الدولي: لا يمكن للعالم أن يواجه تجليات العنف باسم الدين ( الإرهاب) والعنف في مواجهة الظواهر الدينية، باسم محاربة العنف الديني، وهو نوع آخر من ( الإرهاب)، إلا بتعاون دائم ومستمر بين دول العالم. ذلك أن هذه ا لعمليات صارت لها تجليات عابرة للدول والقارات ولم تعد مقصورة على الحدود السياسية الداخلية . "وقد أدى العنف الأمريكي المبالغ فيه، باسم محاربة عنف الإرهاب الديني الإسلامي إلى مزيد من العنف".

وفي سياق كتاب "اللاهوت العربي وأصول العنف الديني" لابد أن نتوقف عند مفهوم "العلمانية " التي تدعو إلى احترام مختلف الديانات والاستماع إليها وحق تواجدها في النقاش العام، لكن دون أن تفرض قوانينها على المجتمع" إلا أن مفهوم العلمانية يختلف من بلد لآخر وفي بعض الدول الأوروبية هناك من يحافظ على دين الدولة (المملكة المتحدة)، في حين أن بلدانا أخرى مع الإقرار بمبدأ الحرية الدينية ، فإنها تنحاز لصالح دين معين أو تشارك في الحياة الدينية، بتمويلها. و في معقل العلمانية ، فرنسا، قال ساركوزي عام 2007 : ليست للعلمانية القدرة أن تقطع فرنسا من أصولها الكاثوليكية.
ما رأي يوسف زيدان إذن في العلمانية؟ بعد أن قدم تعريفا لمفهوم العلمانية الملتبسة الدلالة، فهي كانت تعني في اليهودية، صفة لليهودي غير المتدين، (الذي يظل مع عدم تدينه يهوديا لأن أمه يهودية )، و في المسيحية، الاتجاه المعني بالعمل في العالم ، لا بالخدمة الإكليريكية، أما عندد المسلمين فتعني الإلحاد والكفر والزندقة و الرّدّة؛ اعتبرها مفهوما فارغا، إذ أن "الفصل بين السياسة والدين، سيبقى دوما مثلما كان دائما، محض توهّم تبدّده حقائق التاريخ العقائدي للديانات الرسالية الثلاث ( الإبراهيمية) التي امتزج فيها الدين بالسياسة امتزاجا شديدا، يصعب معه في كثير من الأحيان ، تمييز ماهو سياسيّ مما هو ديني. " وأعطى نماذج كثيرة تؤكد صلة السياسة بالدين .
تنتهي رحلتنا في هذا الكتاب القيم ، وننهي هذه المقالة في ظل ما نشهده في العالم من صراعاتجيوسياسية تحتدم باتخاذها طابع التدين، بكلمة André Malraux الشهيرة والصحيحة : "إن القرن الحادي والعشرين سيكون صوفيا روحانيا (صوفيا)، أو لن يكون! "



#حذام_الودغيري (هاشتاغ)       Hadam_Oudghiri#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- برتولد برخت حياة جاليليو (الفصل 1، المشهد 1) عن الإيطالية ( ...
- ألدا ميريني قصيدتا -ليدا - و - فانّي- (مترجمتان عن الإيطالية ...
- لوتشو دالاّ كاروزو (الأغنية الشهيرة) عن الإيطالية
- إدموند روستان، - سيرانو دو برجراك- (الفصل 2، المشهد 8) ( متر ...
- قصيدتان ل ألدا ميريني ( مترجمتان عن الإيطالية)
- قصيدة -شاعرة- ل إيلدا ميريني (مترجمة عن الإيطالية)
- قصيدة -حبّ- بابلو نيرودا (مترجمة عن الإيطالية)
- قصيدة -الحب- لويس أراغون (مترجمة عن الفرنسية)
- لماذا تنبغي قراءة -اللاهوت العربي وأصول العنف الديني- للدكتو ...
- حول التحقيق مع الدكتور يوسف زيدان أمام نيابة أمن الدولة العل ...
- حبٌّ لا يسكن نفساً حرّة، لا يُعَوّل عليه... قراءة في - ظل ال ...
- نظريات الحب من خلال - مأدبة - أفلاطون
- قصيدة -جُمَلٌ سَلْبِيّة لِبذْرَةِ عُبّادِ شمس- للشاعر الصيني ...
- لمحة عن تطوّرات الشعر الإيطالي الحديث
- الصرخة ( II ) ألان جينسبيرغ ( ترجمة عن الإنجليزية)
- الأصدقاء ل دينو بوزاتي ( ترجمة عن الإيطالية)
- امرأة ككل النساء ورجل يقدّس الحياة قراءة في النبطي للدكتور ي ...


المزيد.....




- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
- إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
- “ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في ...


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حذام الودغيري - قراءة في اللاهوت العربي وأصول العنف الديني للدكتور يوسف زيدان الجزء الثاني.