وليد يوسف عطو
الحوار المتمدن-العدد: 4186 - 2013 / 8 / 16 - 12:48
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
(يمكن اعتبار العولمة بمثابة اعصار باغتنا في عقر دارنا ) .
د . نديم نجدي
مدخل :
عاشت شعوبنا ثقافة ثنائية حكمت وعينا لفترات تاريخية طويلة , مثل ثنائية الخير والشر ,وثنائية الجسد مقابل الروح ...
هذه الثنائيات رسخت اليقين التام عند عامة الناس بصحة افكارها وموروثاتها وعقائدها واديانها . الا ان هذا اليقين الجازم ,الكامن في لاوعي شعوبنا قد احدثت فيه ارتجاجا كبيرا العولمة وثقافتها الرقمية مثل الفيس بوك والتويتر والموبايل وغيرها , مما ادى بحسب الباحث د .نديم نجدي الى تحول قيمة الانسان من قيمة ميتافيزيقية يقينية مطلقة , الى قيمة استهلاك مادي معزولة عن القيم الاخلاقية , وحولت البشر الى اشباح ومجرد ارقام .وكما يكتب الباحث د .نديم نجدي في كتابه :
(جدل الاستشراق والعولمة - ط 1 -2012 – دار الفارابي – بيروت – لبنان ) :
العولمة وضعت الجميع تحت رحمتها , بما يجيز لنا القول اننا اصبحنا في الشرق والغرب خاضعين لمطحنتها التي لاتميز بين الناس ولا تفرقهم الى اجناس وقوميات واديان , مادام للجميع بطون وعقول صالحة للاستهلاك .
( 1) : العولمة اطاحت بالافكار الجاهزة
ثمة ارتباكا تعيشه الشعوب والامم في عالم اليوم , بعدما اطاحت العولمة بالقوالب الجاهزة والافكار المسبقة عن الاخر , مقلصة المسافات ومقوضة الحواجز القائمة ,بين الانا والاخر على النحو الذي صارت فيه العوالم متقاربة ومتجاورة الى حد , بات معه الكلام على الغريب النائي , ضربا من الغباوة . بعدما اضحى التفاعل بين الشعوب سمة راهنة , عززت التقارب ,ونقضت الكثير من الظنون المكرسة التي كانت في عقائد ايديولوجية متنابذة ومتصارعة .
لقد انجزت العولمة مهمة اخراج الناس من بوتقة الاوهام الايديولوجية التي ادت دورا سيكولوجيا مهما في تغذية نفوس الفقراء والمعدمين الحالمين بامال مشرقة , والتي كانت تعوضهم شظف العيش والحاجة الى ابسط مقومات الحياة المستقرة .وبذلك كان الاثر السلبي للعولمة في الفقراء والمهمشين الذين عدموا فرصة تعليق الامال على اوهام الوعد بعالم افضل ,ليفرض عليهم قبول العيش في واقع مرير , قامع لاي حلم خارج نطاق السوق العالمية ( الحرة ) ,والاقتصاد العصي على التحكم .
( ان العولمة خرافة تناسب عالما بلا اوهام , لكنها ايضا خرافة تسرق منا الامل ... ولا يسع المرء ان يسمي الاثر السياسي للعولمة بغير نقص الامال المفرط (بول هيرست – غراهام طومسون : ما العولمة ؟ - ترجمة فالح عبد الجبار – عالم المعرفة – العدد 273 -2001 ).
من هذا المنطلق نشهد موجة عارمة لمناهضة العولمة , لانها قوضت الاسباب التي جعلتنا نتصالح مع مرارة العيش في عالم ,لاحيلة لنا به , ولا طاقة لنا على تغييره , بعدما اماتت فينا الامل بعالم افضل , لمصلحة عالم كوني تحكمه سوق اقتصادية ( حرة ) ,لايمكن ضبطها ولا التحكم فيها .
لقد كان التفسير العقلاني القديم للاساطير البدائية يفيد بانها قناع يغلف عجز البشر ازاء جبروت الطبيعة , تعوض عن هذا العجز . وفي هذه الحالة لدينا خرافة تغالي في درجة عجزنا ازاء القوى الاقتصادية المعاصرة . وفي هذا الصدد يمكننا التكلم على ايديولوجيا حديثة قامت في اصلها على التبشير بموت المنطق الايديولوجي المتمثل بالحكايا الشمولية البعيدة تماما عن الواقع .
( 2 ) :
( تهدف العولمة الى ازالة قومية الاسواق التجارية )
ثمة وهم جديد اذا , لكنه مر هذه المرة , هدفه اخضاعنا وتطويعنا بسوط حقيقة كونية لايمكن التحكم فيها ,اسمها اليات السوق , حيث تفتتح لنفسها مسارات وتشق طريقها في العالم عبر ازمات مالية واقتصادية , وقعها سيء على البشر , لكنهاهي من ضرورات سيرورة الاقتصاد العالمي الجارف لكل شخص يقف امام طغيانه , حتى وان كان متسلحا بارادة التصدي ل (عولمة ) لايمكن مجابهتها مادامت تعبر عن اليات اقتصادية خارج نطاق السيطرة والتحكم . فالعولمة ثمرة انتاج تفاعلي , لا .. لارادة شخص مهما عظم شانه المالي , ولا شان لدولة قوية بها , ولا لشركة مهما جنت من ارباح وثروات , وهذه من مكامن خبث العولمة وقوتها التي يمكن ان تفيد راسمالا متمركزا في نطاق ضيق عند هذه الدولة ,او تلك الشركة ,الا انها تبقى عصية على تطويع وجهتها , ولااحد يمكنه ان يتحكم في تبطيء او تسريع وتائرها في قلب نظام العولمة الاقتصادي العابر للقارات والمتنقل بسرعة كبسة زر الانترنت والهاتف المحمول ...ان نظام العولمة قد ربط تحرير الاسواق بمبدا تقليص دور الدولة في الاقتصاد من خلال عدة ادوات , كالخصخصة ( التخصيص ) وتقليص العبء الضريبي على راس المال لتشجيع الاستثمار والانتقال عبر الحدود ..ان مظاهر العولمة تؤثر في مفهوم السيادة الوطنية , وفي دور الدولة القومية . وبحسب روبرت رايتش Robert Reich :
( تهدف العولمة الى ازالة قومية الاسواق التجارية ,ضمن استراتيجية , تهدف الى توحيد الانتاج الاجمالي للشركات , على مستوى عالمي ).
ان العولمة اخذت في تدمير الدولة القومية وهويتها , واصبحت هذه المجتمعات تمر في مرحلة تمزق نسيجها الاجتماعي وفي تمزق هويتها .فالعولمة هي نتيجة تراكم خبرات وتجارب انسانية , ادت الى هذا الزخم من المتغيرات الناجمة عن تطورات تقنية تكنولوجية , تبحث لنفسها عن صيغة نظام اجتماعي – سياسي ملائم , بات للدولة فيه وظيفة مغايرة عن التدخل المباشر , كما للفرد فيه غايات جديدة تناسب هويته الجديدة التي صار يتحدد الانتماء الى وطنيتها بمدى توفيرها لفرص عمل تضاهي الفرص المتوفرة في الاوطان والامم الاخرى .
شيئا فشيئا تفقد الحكومات قدرتهاعلى اخذ زمام المبادرة في توجيه تطور اممها . فمع ان تدفق السلع وراس المال قد اتخذ ابعادا عالمية , الا ان التوجيه والرقابة ظلتا مهمة وطنية . لقد صار الاقتصاد هو المهيمن على السياسة , وليس مصادفة ان نشهد في مطلع التسعينات من القرن العشرين ظاهرة , رجال اعمال يشغلون مناصب رفيعة , رئيس دولة , رئيس وزراء ,فهذا يدل بشكل قاطع على هيمنة الطابع الاقتصادي على السياسي بطريقة مباشرة وواضحة .
(3 ) :في العولمة استقلال الفرد عن الجماعة
لقد قوضت العولمة قواعد اللعبة القديمة , بطريقة تدعو الى اعادة النظر في دور الدولة ووظيفتها , ليس باعتبارها كضابط امن سياسي واقتصادي من خطر الخارج . انما كضابط ايقاع لضمان الانفتاح على الخارج ,بما يعود بالنفع الاكيد على المواطنين في الداخل .. بات على الدولة مشقة القيام بالمتوجب عليها فعله ,لكي تتلقف منجزات الثورة الرقمية كامر واقع عبر استراتيجيات خلاقة وخطط ذكية , تتسم برحابة الصدر تجاه الوافد الجديد من وراء البحار , عبر استعدادات ذاتية , تهيء المناخ المحلي لاستقباله , مستنفرا كل الطاقات القادرة على التخفيف من وقع الصدام الحاصل بين المحلي والاجنبي الوافد, وذلك بجعله متسقا مع الذات وليس دخيلا عليها . فالحصول على التلفاز والانترنت اضحى كالخبز اليومي للطبقات الوسطى ومن دون ذلك , حتى الفقراء اصبحوا يمتلكون شيئا من تلك الوسائط التي غيرت من طموحاتها وبدلت تحدياتها . وحتى القيم الاخلاقية اخذت بالتبدل . لقد اصبح تحصيل الكرامة والشرف كمعيار اخلاقي يرتبط بمدى استغناء الفرد عن الجماعة , لا بمدى اندماجه فيها والدفاع عنها .
اضحت قيمة الانسان في زمن العولمة تتحدد بمدى انفاقه واستهلاكه . فانت كائن اجتماعي بقدر ماتستهلك , وكلما تدنى مستوى انفاقك , تدنت مرتبتك الحضارية .لقد ادى سيادة النمط الراسمالي الاستهلاكي المعولم الى زعزعة التوازن القيمي المختل عند انسان اليوم لمصلحة نمط استهلاكي , لن يسد الفراغ ابدا
طالما اننا لم نعوض الجانب الروحي .
( 4 ) : الخاتمة
- هل العولمة تمثل حتمية تاريخية ؟
ان الحدة التي اتخذها شكل الاستفاقة الاصولية في الاطراف المهمشة من العالم , تعكس مدى شراسة انتهاك العولمة لحميمية امم وشعوب غير مستعدة لاستقبال هذا الوافد الثقيل بكم منتوجاته وبتنوعها وهي ستصاب بالعجز , نظرا الى الهوة الشاسعة التي تفصل شعوبا تتسم بخاصية التعلق المفرط بالهويةالتراثية , عن حداثة التكنولوجيا . لعل الدولة برمتها ماهي الا تجل لقيم انسانية انقضت لمصلحة واقعية سلع استهلاكية في سوق بدات تفرض قيمها, عبر تفكيك الاجتماعي وتحرر السياسي , وما الى هناك من حرية التفكير , وحرية الانضمام الى الاحزاب السياسية والانتخابات والاتجاه الى الديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الانسان . رغم ماتحمله هذه الشعارات من جاذبية الا ان وجهها الاخر يمثل التفكك الممسوك بستار اعلام له تاثير اقوى من اية قبضة حديدية , في عالم تكبله اليوم قفازات من حرير الديمقراطيات المحكومة عبر دكتاتورية اعلام سوق تجاري , له قدرة فائقة على تدجين العقول بطريقة دراماتيكية .ويمكن ان نسمي هذا تحولا خادعا , من شمولية انظمة سياسية اتبعت اسلوب القمع المباشر وبالقوة لتطويع ارادة الناس وخياراتها في طريقة الاكل والشرب والنوم والراحة , الى شمولية نظام السوق الذي اعتمد الدعاية والاعلام والاعلان كوسيلة اذكى من سابقاتها .واخبث منها في القبض على الحريات , من البطون ,وبطريقة ناعمة ,تجعل الشخص يبدو كما لو انه هو من يختار رغبته ونمط حياته , لكنه في الحقيقة ليس كذلك , لانه خاضع لقوى تدجين هائلة , تظهره حرا من حيث الشكل , لكن هي من يدفعه بقوة الزخرفة السوقية الى مثل الامتيازات المصنوعة ببراعة باتخاذها شكل سلعة معروضة في واجهة المحال التجارية بسلام .
#وليد_يوسف_عطو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟