أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم اونبارك - -ذاكرة الجسد- لأحلام مستغانمي أو حينما تبوح الكتابة بعشق الوطن















المزيد.....


-ذاكرة الجسد- لأحلام مستغانمي أو حينما تبوح الكتابة بعشق الوطن


ابراهيم اونبارك

الحوار المتمدن-العدد: 4186 - 2013 / 8 / 16 - 08:16
المحور: الادب والفن
    


لهذه الرواية، في كياني، عشق غريب، إلى درجة أن فقداني للنسخة الأولى التي نسيتها بإحدى مآرب السيارات بالعاصمة الرباط قبل إتمامها، جعلني أغدو مهرولا بين بائعي الكتب باحثا عن نسخة ثانية تمكنني من الوصول إلى الرعشة الكبرى، رعشة إنهاء القراءة ومعرفة مآل الألم والفرح الذي يسكن الكاتبة بين ثنايا الكتاب. آنذاك، أكاد أجزم أنني لم أكن قارئا ارتكب جريمة عشق فصول هذه الرواية، بل كنت أنا خالدا، زيادا، كنت أحلام وهي تقطر ما يحلو لها من المداد: مداد الحلم، مداد الشهوة، مداد قسنطينة، مداد الكتابة...كنت بأدق العبارات، جزءا لا يتجزأ من رواية اخترت لها أحلام مستغانمي "ذاكرة الجسد"، وأنا اخترت ألا يكون لها عنوان، مثلما يحلو لإحدى شخصيات الرواية أن تهدي مؤلفاتها لمن تحب بدون توقيع. تستحق رواية أحلام أن تكون بلا عنوان، لأنها تحتمل كل العناوين.
"...امرأة بحجم هذا الوطن."، تعشق أحلام مستغانمي أن تدس هذه الجملة، غير ما مرة، بين ثنايا أوراقها، لكن الحقيقي أن رواية "ذاكرة الجسد" ليست مجرد "رؤوس أحلام، رؤوس أقلام"، إنها رواية بحجم الوطن. ذاك الوطن الذي يسكن الكاتبة منذ الوهلة الأولى إلى حين التأريخ للنهاية في مكان يحمل أكثر من دلالة.
ورغم أن الكاتبة تتحدث على لسان أبطالها، أن الكتابة قتل، وأن من نحب، يمكننا أن نتخلص منه بمجرد الكتابة عنه، لأن هذه الأخيرة هي تلك الرصاصة الخارجة من مسدس كاتم للصوت، تنقل المحب إلى متواه الأخير وبدون ضجيج. فلا أظن أن الكتابة عن رواية أحلام مستغانمي هذه المرة، يسري عليه المنطق ذاته، مثلما لا يسري على أحلام نفسها. لأن الموت والحياة في هذه اللحظة سيان، بل كان ولعي بالكتابة عنها هو أن أخبر الموت قسرا أو طوعا، أن الذي يحلم أو يكتب لا يمكنه أن يموت.

على طول الصفحات، بقي خالد خالدا، إلى حد أنه وحده الذي لم يمت، وحده الذي لم يتزوج من "لا لا ..." على وزن " سي.."، وحده الذي اعتزم أن يحافظ على مبادئه وعشقه للوطن ولقناطر وجسور قسنطينة، قبل أن يختزلها في لوحات ويهديها لرمز من رموز الغربة، لكاترين. كأن لسان حاله يقول: "زيارتي أخيرا لبلدي، لقنتني درسا أخر مفاده أن الوطن لا يُختزل في لوحات، وأن الوطنية ليست شعارات ترفعها حناجر مأجورة، الوطن يحتاجنا لنعيشه ويعيشنا، نعيش فيه ومنه وله وعليه.
خالد وحده الذي ظل صامدا، أما زياد، رمز الشهامة الشرقية وعاشق الكلمة النفاثة إلى عمق الذكرى وكنه الحرف المسكون بنضال بريء وحلم تحريري لا ينتهي، فقد مات مثلما تنبأ له بذلك صديقه القسنطيني. أن يموت زياد، "بدون زيادة ولا نقصان"، ويترك أمتعته(موسيقاه، تقاليده الموسومة في لباسه) يفتح في الرواية أفاقا، أفضت إليها قريحة أحلام، بوعي أو بدون وعي. لم أرى في علاقة خالد بزياد، مجرد " حمل هم الحرية المشترك" فحسب، بل رأيت هيكل حلم شرقي بكل تشكيلاته وتلويناته وإخفاقاته، سيما القضية الفلسطينية وعلاقتها بقضايانا نحن، في الدول المغاربية.
خالد، لم يكن يسكن قسنطينة بالمعنى الفعلي، ناضل ثم رحل بعد ترك ذراعه اليسرى هناك. دفنها في بلده دون أن يدفن عشقه للجزائر، سكن خالد دروب وأزقة باريز، سكن في وطن بحجم الماضي، رسم بريشاته وألوانه، أبدع في بلد جاء يوما ليسلب من الوطن الأم سيادته. لهذا، لاغرو أن يعيش خالد سكيزوفرينية مفرطة، ما لبث يعترف بها بتعبيرات، صرحت بها الكاتبة أحيانا وأخفتها أحايين أخرى. كيف لا؟ وهو الناظر في جسور بلد فولتير كأنها جسور مدينته الأم. وجد في فضاءات باريز وفي كاترين، بل وفي شراب فرنسا ولغة موليير كثيرا من توجساته وتجسيدا لأحلامه الكثيرة. بل كاد اللقاء بين خالد و"حياة/ أحلام/الحلم/العشيقة" ألا يتم لولا الحضن الباريزي. فهو الذي استقبلهما مها وأحتضنهما معا، ورحب بجنونهما معا.
هنا تبدو فرنسا ذاك الصديق/العدو، رمز الحب والكراهية، تسبب الألم بقدر ما تشفيه، تأخذ بقدر ما تعطي، فيها تعلم خالد سرا وجوديا قوامه أن التقسيم الثلاثي للزمن لا طائل من ورائه. لأنه(أي التقسيم)، يحافظ على لائحة متهافتة للأعداء والأحبة، والدليل على ذلك، أن الذين يستنزفون البلد اليوم أكثر، ليس هم أولئك الذين حارب "السي طاهر وخالد..." ضدهم قصد إرغامهم من أجل الانسحاب من أرض "أماه"(الأم باللكنة القسنطينية)، بل ظهر جيل جديد من "الوطنيين المزيفين"، ذاك الجيل الذي تمنى ألا يفقد خالد ذراعه، ليس عطفا أو رحمة به، أو حتى اعترافا له بنضاله، وإنما من أجل إتقان التصفيق لهم. لأنهم أتقنوا لعبة خيانة الوطن، وبدؤوا يحرقون ما تبقى فيه من حلم وأمل مثلما يحرقون سجائرهم الكوبية في صالونات باريز. وفي لحظة تشعرنا الكاتبة أن الأعداء الذين ترعرعوا في أوطاننا، تهيئوا ، منذ مدة، لوأد وبتر، ليس أجسادنا كما فعل المستعمر، وإنما لبتر أحلامنا وقطف ما تبقى من رغباتنا وذكرياتنا في كل محفل وفي كل مأتم وفي كل كرنفال.
لهذا، لم تكن أحلام تكتب عن قضية وطن، بل كانت تكتب عن ألم اكتسح كل ما لحقه الاستعمار المزدوج، الطعن المزدوج، الصمت المزدوج...وظل ينتقل بين أيدي تقني النهب والسارقة، الراقصون على الجرح الموشوم بدم الذكرى والذاكرة.
الرواية بأكملها كتبت بقلم أنثوي على لسان "خالد"، وخالد كتبها لتاريخ أنثوي، تاريخ امرأة بحجم الوطن، تلك التي لم يعرف خالد نفسه منذ البداية حتى النهاية، أيهما يسكن الأخر. هل تسكنه أم يسكنها، أم أن المعادلة بسيطة: لا أحد يسكن الأخر:هي، هو والوطن، كل منهم تائه في غربته، هذه الغربة التي اخترها بعضهم طوعا، وبعضهم أرغم على ذلك. حتى الوطن أجبر على هجر وطنه بعدما هُجر من طرف أبنائه.
المرأة التي كانت تخاطبها "أحلام" على لسان "خالد"، ربما هي نفسها، غيرها، ربما هي المرأة القسنطينية، ربما الجزائرية، بل ربما هي المغاربية، الكثير مما قيل حدث ويحدث، وما زال يطفو على سطح فضاءات وجنبات وأجساد نساء، ارتأين ألا يكون سجنهن هو "الكدية" مثلما وقع لخالد وياسين وغيرهما من السجناء. بل هن سجينات أوطان عشقت ألا تعشق إلا أجسادهن، مع اجتثاث لذاكرتهن وتركهن بدون تاريخ، بدون حلم، سواء المهاجرة أو المستقرة، المتحررة أو المحافظة، الثائرة على الوضع أو المنبطحة...جلهن محكومات بسيرورة من النسيان المزدوج، نسيان ذواتهن، ونسيانهن من طرف المجتمع المستبد في ذكوريته.
ولا سر في ذلك، إن كان خالد لا يستطيع حتى رسم حبيبته كما هي، بتضاريس جسدها ومفاتن شفتيها، بل يكتفي دوما، بمخاطبتها جسورا وقناطر. المرأة المغاربية إذن، جسر للعبور وجسر عابر في الآن ذاته. هي مثلما يعرفها خالد، حسان، مولاي شريف..."رمز السرير"، فيها تتكدس معاناة الرجل وفيها يتم إفراغها. لذا، ظلت علاقتها في الرواية بخالد، مدا وجزرا، حبا وكرها، قبولا ورفضا...إلا أنها تتقن في نهاية اللعب مغامرة الظفر بمعصم الانتصار، لتترك الرجل في أنينه، في ذكراه، يرتوي من عشق وهمي. لكن انتصارات المرأة المغاربية لا اسم لها، مثلما لم تحمل البطلة أي اسم، تارة هي حياة، وتارة أخرى هي أحلام ..لأنها ولدت من أب توفي دون أن يحتفل مع أبنته بطقوس التسمية.
والمرأة، مع أحلام مستغانمي، لها أكثر من دلالة، فهي الجسد الذي بمقدوره أن يتذكر، ليس فقط ماضيه وأولئك الذين مروا من هنا، بل تصبح فيها ومعها سمفونية الماضي، الحاضر والمستقبل سيان، تتكتل الأزمنة لتصبح زمنا واحدا. ليكون جسد المرأة والحالة هذه، جسدا ذكيا، نبيها، ماكرا وخادعا مثلما أراد ماكيافيلي للحاكم أن يكون في دولة لا حدود فيها بين الديكتاتورية والديموقراطية...إن جسد المرأة سجن كل من سولت له نفسه ارتكاب جريمة العشق في حق امرأة تتقن الاختفاء في عز الظهور، على شاكلة عشقية كونديرا في رائعته المعنونة ب"الجهل". تحيلنا الكاتبة إلى طرح فلسفي لا يتسع المقام للتفصيل فيه الآن، وقد أسسه بشكل جلي، الفيلسوف الهولاندي باروخ سبينوزا، حينما قال: " لا نعلم بعد ما يستطيعه الجسد". وفعلا، فالأحاسيس والغرائز والرغبات المتضاربة والمتناقضة، التي تعج بها الرواية، كانت تتحدث بدل المنطق العقلي المعتاد. فالوطن، النساء، الأصدقاء، الفن، القراءة، الكتابة...كلها غرائز ورغبات مبعثرة، تأتينا بحجم أحزاننا وأفراحنا ونلخصها على بياض الورقة.
وللوطن مكان، بل هو المكان الذي علَّم الكاتبة مخاض الكتابة، لكن، ما معنى الوطن؟ وما حدوده وتجلياته؟ هل الوطن فعلا واقع معيشي أو حلم مفقود، أو وهم استثنائي؟ الرواية تطرح في عمقها أكثر من تساؤل حول هذا الوطن. خالد يسكن فرنسا وتسكنه الجزائر، فما هو الوطن الحقيقي إذن؟ أعطته باريز لوعته الفنية وفي الآن ذاته، عشق قسنطينة. فما هي المدينة التي تأتيه ولو في الحلم على شاكلة وطن؟
بطرحها لإشكالية الوطن، تعيد أحلام إحياء سؤال الكتابة عن الأمكنة: فعن أي مكان نكتب؟ ألا يمكن للجسد أن يكون هو المكان، هو الوطن وهو الكتابة؟ هل الأمكنة التي نسكنها هي منبع إحساس الكتابة- إن كان لها إحساس-أم نكتب عن تلك التي سكنَّها؟ أم نكتب عن تلك التي نطمح العودة إليها أم تلك التي نحلم في استيطنها يوما؟ ألم تستقر ذاكرة الكاتبة في نهاية المطاف على وطن اسمه الورقة؟ ففيها قطرت مدادها وفيها نالت شهادة ميلادها، فيها أحيت أعراسها ودفنت عشاقها وتخلصت من أبطالها واحدا تلو الأخر، مثلما يتخلص المخرج والسيناريست من أبطالهما في فيلم سينمائي.
أظن أن الورقة هي الوطن الوحيد الذي يغفر لنا زلاتنا ويتحمل حماقتنا وجنوننا. ولاشك أن جنون أحلام انفجرت هناك حيث البياض، مثلما أشار إلى ذلك نزار قباني في اعترافاته، مبدعا أشد إبداع في ذلك، واصفا رواية أحلام قائلا: " ..إن الأعمال الإبداعية الكبرى لا يكتبها إلا مجانين..".
إن الإستقرار على الورقة كوطن، سيحمي الروائي(ة) من الأوصاف المجحفة في حقه(ا). كأن نصفه بكونه يحمل مشاعر متناقضة حد العشوائية المفرطة، أو نسأل كاتبة " ذاكرة الجسد" مثلا: متى كنت حزينة ومتى كنت مسرورة وأنت تكتبين؟ ومتى كان أبطالك في قمة فرحهم أو في أقصى معاناتهم؟ لاشك أن ما ستصمت عنه الكاتبة سيقوله البياض المسكون بين السطور، وما لم يقله البياض سيرسمه خالد، لأنه وحده سيعود إلى الجزائر بعدما تزوجت العشيقة ومات زياد وقُتل حسان واستمر نهب هذا الوطن.





#ابراهيم_اونبارك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدرس الفلسفي بالمدرسة المغربية وأزمة الفكر النقدي


المزيد.....




- دراسة تحليلية لتحديات -العمل الشعبي الفلسطيني في أوروبا- في ...
- مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
- اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار ...
- كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل ...
- -الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر- ...
- الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية ...
- بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص ...
- عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
- بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر ...
- كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم اونبارك - -ذاكرة الجسد- لأحلام مستغانمي أو حينما تبوح الكتابة بعشق الوطن