|
إستقيموا يرحمكم الله !
عبد اللطيف حصري
الحوار المتمدن-العدد: 4185 - 2013 / 8 / 15 - 14:49
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لا يمكن حمل الحديث عن تفرغ البعض للدعوة الإسلامية على محمل الجد، فلا رموز الحركة الإسلامية صحابة رسول الله ولا أهالي أم الفحم كفار قريش. فللوقوف على أسباب انسحاب الحركة من بلدية أم الفحم لا بد من العودة قليلا إلى الوراء ورصد عملية الصراع الأيديولوجي الفكري للحركة، مرورا بانشقاقها عام 1996، وصولا إلى بوادر انشقاقها الحالي مع الفارق الشاسع بينهما. اعتقد البعض أن الحركة بصدد إجراء مراجعة نقدية لمجمل طروحاتها وان الانسحاب من البلدية يندرج في إطار هذه المراجعة، لكن حقيقة غياب المحاسبة الذاتية وغياب النقد الذاتي بشكل عام لمصلحة "السمع والطاعة" المعمول بها اخوانيا، جعل سلوك الحركة أشبه بسلوك فيل داخل متجر للبلور، وما اندفاعها إلى خطاب مذهبي متشنج خاصة في المسائل الإقليمية سوى احد مظاهر هذا السلوك، ولنا عودة لاحقا إلى متجر البلور. لقد أخفقت الحركة الإسلامية في أهم طروحاتها الفكرية، وخاصة في مشروع "المجتمع العصامي" وفي مكمله الثقافي "الإسلام هو الحل"، بمعنى أن الانسحاب جاء كتحصيل حاصل لصراع وتناقض حاد بين النص الديني وبين السياق السياسي للعمل الجماهيري، وقد دفعت الحركة سابقا ثمنا باهظا لهذا الصراع، وأعني الانشقاق الطولي عام 96، أي الانشقاق الذي أفرز حركتين إسلاميتين بعلاقات تصادمية وتصالحية باضطراد، ففي حين قدمت الشمالية النص الديني على السياق السياسي، فان الخطاب السياسي تصالح مع النص الديني لدى الإسلامية الجنوبية إلى حد معقول، وفي اعتقادي هذا هو جوهر الصراع الأيديولوجي بين الحركتين وجوهر الصراع داخل كل حركة على حدة، وفي حقيقة الأمر كلا الحركتين يعلم أن إمكانيات وحدتها من جديد معدومة تماما لما تتسم به الأولى من راديكالية والأخرى من براغماتية. في واقع الأمر لم تكن العلاقة داخل الشمالية بين النص الديني وبين السياق السياسي تصادمية بشكل مطلق، ففي الأمور المجتمعية توافقت الرؤية الدينية إلى حد ما مع العمل السياسي، وخير مثال على ذالك خوض الحركة لانتخابات البلدية رغم كون البلدية جزء لا يتجزأ من وزارة الداخلية ومن المؤسسة الإسرائيلية، في الوقت الذي اتخذت موقفا صداميا من فكرة الاشتراك في انتخابات الكنيست. ومع ذلك يمكن القول أن التصالح المحدود للنص الديني مع السياق السياسي من خلال العمل البلدي، وفر الأرضية الخصبة لبروز تيار براغماتي داخل الحركة الإسلامية، مما دفع بالنخب الاخوانية المتشنجة إلى اتخاذ مثل هذا القرار الحاد، أي قرار الانسحاب من بلدية أم الفحم. بداية لا بد من الإشارة إلى أن حدة التصادم أو التصالح بين النص الديني والسياق السياسي تعود بالأساس إلى المرجعيات الفقهية، فكلما كانت المرجعيات وسطية وتعتمد القرآن الكريم والسنة النبوية، كلما كانت درجة التصالح أعلى. أما الابتعاد بالمرجعيات الفقهية إلى الفكر الوهابي والتكفيري ابتداء من ابن تيمية مرورا بحسن ألبنا وسيد قطب وانتهاء بالقرضاوي والعريفي، فلا بد للنص الديني أن يتصادم بشكل عنيف مع السياق السياسي،وهذا هو حرفيا ما يحصل اليوم داخل الحركة الإسلامية وما يدفعها قسرا خارج البلدية. لا يمكن اعتبار حقبة رئاسة الشيخ رائد للبلدية مثالا جيد لهذا الصراع، لأن البلدية كانت تدار عمليا بجهاز بيروقراطي محترف وتوجيه من مجلس شورى الحركة على غرار مكتب الإرشاد للإخوان المسلمين، لذا كانت عملية الفصل بين النص الديني وبين السياق السياسي ناجحة إلى حد ما، سيما وان الحركة جاءت بانجازات ملموسة بعد أزمة حادة في الحكم المحلي، لكن إلى جانب تزفيت الشوارع والبنى التحتية كان على الحركة أن تقدم برنامجا تربويا وثقافيا، وهو ما حاولت فعله من خلال أسلمة أو على الأصح أخونة المجتمع. مما عمق الصراع بين النص والسياق وبات بالإمكان رؤية تيار براغماتي يتبلور داخل الحركة مع نهاية حقبة الشيخ رائد وبداية رئاسة الشيخ هاشم عبد الرحمن، والذي وجد المعادلة الصحيحة لتصالح النص الديني مع السياق السياسي، مع عدم الانصراف من طروحات الحركة، ولكن من خلال مرجعيات أكثر اعتدالا ووسطية، الأمر الذي سرعان ما اصطدم بالجوهر الراديكالي للحركة، ما حدا بالنخب المتشنجة إلى إقصائه. ولا شك أن نفس السيناريو يتكرر اليوم مع الشيخ خالد حمدان رغم اعتباره حتى الأمس القريب من أقطاب التيار الراديكالي، بمعنى انه بخلاف الشيخ رائد لم يجلس الشيخ خالد حمدان في مكتب الإرشاد، ولم يرتكن إلى الجهاز البيروقراطي، وإنما دخل عمليا معترك العمل البلدي ليجد نفسه في صدام مباشر مع النص الديني الذي قدمه سابقا. وان كان الانشقاق الأول عام 1996 طوليا وأفرز حركتين متصادمتين أيديولوجيا، فان الانشقاق الحالي اقرب إلى انشقاق أفقي لا بل ويحمل ملامح طبقية، فرغم انه يعيد إنتاج أسباب وعوامل الانشقاق الأول، على خلفية الفشل الذريع لمشروع "المجتمع العصامي" والإخفاق المريع لمكمله الثقافي "الإسلام هو الحل"، إلاّ أن النخب الاخوانية حصنت نفسها تنظيميا وجعلت كل من يقترب من التيار البراغماتي يتبخر من الحركة رويدا رويدا، لتقليل أضرار الانقسام الأفقي. وعمليا بات مشروع "المجتمع العصامي" أحد ملامح انغلاق الحركة بدلا من انفتاحها، وأداة حصانة اقتصادية للنخب الاخوانية دون غيرها، فرغم امتلاكها لما يربو على ثلاثين جمعية ورغم أنها دعّمت مشروعها بتجربة اقتصادية مثل بنك المنار وثم جمعية إعمار، إلاّ أنها لم تضف للفئات الوسطى المنتجة بالمعنى الواسع للكلمة أي شيء، أو على الأقل لم تخفف من معاناتها ولم تستطع إخراجها من دائرة تأثير وسحق السوق الرأسمالية الإسرائيلية، لا بل أن النخب المستفيدة من "المجتمع العصامي" ليس فقط أنها لم تتجاوز السياق الإسرائيلي للسوق، وإنما تطورت من خلاله، ومن خلال ارتباطات المشروع الخارجية، ما انعكس ثراء وسيولة نقدية على هذه النخب متجاوزة بذلك مكانتها الإنتاجية، وتهميشا تاما للشرائح الواسعة من حرفيين وتجار وصناعيين، والذين أدركوا أن مستوى مشاركتهم في مشروع "المجتمع العصامي" تماما كالتغميس خارج الصحن. لقد أطلقت الحركة الإسلامية شعار "الإسلام هو الحل" كمكل ثقافي للمناعة الاقتصادية المرجوة، علما أن الشعار هو شعار إخواني بامتياز، مراهنة على التمايز والتباين بين الفهم الشعبي والفهم النخبوي الاخواني للشعار. ففي حين يفهم العامة وحتى الكوادر البسيطة داخل الحركة مقولة "الإسلام هو الحل" بمرجعيات وسطية تعتمد القرآن الكريم والسنة النبوية، فان الفهم النخبوي يذهب إلى مرجعيات تكفيرية تستند إلى الوهابية والى جناح سيد قطب في الإخوان المسلمين، مما خلق حالة من التصادم الداخلي لفهم الشعار ووظيفته في تهذيب السلوك المجتمعي، فليس صدفة أن انحياز الحركة الإسلامية محليا، إقليميا وعالميا إلى أكثر عناصر الإسلام السياسي تعصبا ينعكس عنفا شديدا داخل المجتمع. وبالعودة إلى متجر البلور المذكور أعلاه، بالإضافة إلى أضواء الفضائيات العالمية وردهات الفنادق الديلوكس، فان حقيقة إخفاق شعار "الإسلام هو الحل" وفشل "المجتمع العصامي"، لم تساعد في إعادة هيكلة سلم أولويات الحركة الإسلامية، وبدلا من دراسة الواقع العنيف والمتردي للبلد، اندفعت الحركة إلى مساحات ابعد من الموقف السياسي، نحو خطاب مذهبي متشنج لا أبالغ إن قلت انه يصل حد التكفير، والهروب من القضايا المحلية نحو القضايا الإقليمية لكن مع بوصلة جديدة واستعداء الشيعة وحزب الله وإيران وسوريا، وبنفس الوقت محاولة نزع شرعية الآخر كبديل للحوار والنقاش الحضاري. ففي أكثر من معالجة للموضوع السوري، وأكثر من مداخلة في الشأن المصري، يعود الشيخ رائد صلاح في محاولة شفافة ومكشوفة لنزع شرعية مواقف الحزب الشيوعي واليسار المبدئية، ويكرر القول :"أن قله شاذة وهامشية قالت الدين أفيون الشعوب"، وفي الحقيقة كثيرا ما يبدو القول خارج السياق وغير مرتبط بالموضوع، إلاّ أن لجوء قائد مثل الشيخ رائد إلى هذا الأسلوب التحريضي والتجريحي بهدف تشويه ماركس ومن ثم تشويه الشيوعيين واليسار، يقتضي المسائلة وإماطة اللثام عن هذه المغالطة المقصودة. بداية اعتقد أن الشيخ رائد تناول القول "الدين أفيون الشعوب" تماما على غرار القول "ولا تقربوا الصلاة"، أي باجتزاء مقصود من السياق، فان ماركس بقوله أعلاه لم يتطرق إلى الدين الإسلامي من قريب أو بعيد، وإنما حاول فضح الاستغلال الرأسمالي وتواطؤ الكنيسة مع الاستغلال واستخدام الدين في تعميق الاضطهاد، لا بل يمكن القول انه أنصف الدين أكثر من رجال الكنيسة بقوله :"الدين هو القلب في عالم بلا قلب، وهو الروح في ظروف خلت من الروح، انه زفرة الإنسان المضطهد، انه أفيون الشعوب"، ويكفي للقارئ الموضوعي أن يتأمل قول ماركس ليقف على حقيقة محاولة تشويهه وحرف الأنظار عن الاستغلال الطبقي إلى موضوعة الإيمان والإلحاد. وبنفس الإصرار يكرر الشيخ القول :"قلة شاذة وهامشية" وهو ما ارفضه جملة وتفصيلا، فقد جاءت الماركسية لتقول أن الثورة البروليتارية هي الحل للاستغلال الطبقي، ولا يستطيع احد الادعاء أن الطبقات الكادحة من عمال وفلاحين ومهمشين ومحطمين هم قلة، لا بل هم أكثرية ساحقة في كل المجتمعات، ولا يمكن ادعاء هامشية هذه الفئات لأنها هي الفئات المنتجة في المجتمع، رغم أن حصتها من الإنتاج هي الأقل كونها مستغلة (بفتح الغين)، أمّا موضوعة "شاذة"، ففي اعتقادي راح الشيخ يبحث عن الشذوذ في المكان الخطأ، فليس في أدبيات الشيوعيين واليسار فتاوى على شاكلة فتوى إرضاع الكبير، ولن تجد أي تبرير لدعارة وفجور قطعان المرتزقة السائبة في سوريا تحت مسمى فتوى جهاد النكاح، وبدلا من محاولة نزع شرعية الآخر كان أجدر بالشيخ أن ينزع أشتال أفيون الإفتاء الصهيوني التي نبتت في حديقته الخلفية، وظهرت مؤخرا على شكل فتاوى تكفير أبناء جلدتنا العرب الدروز. عادة يتدافع المصلون خلف الإمام للاصطفاف تلبية لدعوته : استقيموا يرحمكم الله. لكن كثيرا ما يفوتنا انه يدعو للاستقامة الدينية والأخلاقية أولا وقبل الاصطفاف للصلاة، فانسحبوا كما تشاؤون، ولكن استقيموا يرحمكم الله.
#عبد_اللطيف_حصري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سقط الاخوان ! فهل يعيد إسلاميو فلسطين حساباتهم؟ (2)
-
سقط الاخوان ! فهل يعيد إسلاميو فلسطين حساباتهم؟ (1)
-
ام الفحم: مراجعة عامة عشية الترانسفير
-
في سباق مع الزمن اسرائيل تسعى لحسم قضية القدس
-
هل تعد اسرائيل لعدوان جديد على لبنان؟
-
ليبرمان بين اغراق غزة واحراق ام الفحم
-
إحتضار حل الدولتين
-
هل تهز هزة هاييتي ضمير الانسانية؟؟
المزيد.....
-
الجهاد الاسلامي: ننعى قادة القسام الشهداء ونؤكد ثباتنا معا ب
...
-
المغرب: إحباط مخطط إرهابي لتنظيم -الدولة الإسلامية- استهدف -
...
-
حركة الجهاد الاسلامي: استشهاد القادة في الميدان اعطى دفعا قو
...
-
الجهاد الاسلامي: استشهاد القادة بالميدان اجبر العدو على التر
...
-
أختري للعالم: هدف الصهاينة والأميركان إقصاء المقاومة الإسلام
...
-
اسعدي أطفالك بكل جديد.. ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي 2025 ع
...
-
شاهد: لحظة إطلاق سراح الأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود وتسليمه
...
-
تسليم الأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود للصليب الأحمر في خان يو
...
-
تردد قناة طيور الجنة الجديد على القمر الصناعي النايل سات وال
...
-
مستعمرون يقطعون أشجار زيتون غرب سلفيت
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|