|
الإستعارة في اللغة السياسية
سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر
(Oujjani Said)
الحوار المتمدن-العدد: 4182 - 2013 / 8 / 12 - 17:56
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كل متتبع للغة السياسية سيلاحظ انها تمتح وتستعير من جميع الحقول والميادين لايجاد الدلالة السياسية اللازمة عند معالجة قضية او اشكالية معينة سواء ذات شان دولي اوذات شان عام داخلي . هكذا سنجد ان اللغة السياسية والخطاب السياسي تتعامل مع جميع الحقول ، وبدون استثناء ، و بدليل ان اللغة السياسية والخطاب السياسي لم تكن في يوم من الايام لغة وصفية خالصة والاّ لأمكن اليوم مع تقدم الاعلاميات ، الاستعاضة عنها برموز ، وترجمتها آليا في الكمبيوتر . لكن لغة السياسة والخطاب السياسي كانت دائما ودوما لغة متعددة المستويات والمراجع . فهي لغة يختلط فيها الوصف بالتقييم ، والتدوين بالامر ، والرصد بالتوصية . وهي لغة تقتبس من الحيوان و من الصناعة والعلم والدين كما تقتبس من التكنولوجية والشعر والفن والاسطورة . وبما ان السياسة هي قفل ومفتاح الكل الاجتماعي من حيث فن تسيير وتدبير لمختلف مظاهر الحياة الاجتماعية ، فخطابها منفتح على الخطابات الاجتماعية القطاعية الاخرى كلها ، بمعنى انه يستقي ويستعير قاموسه ودلالته من هده الحقول مجتمعة . ان احد المداخل الممكنة لملامسة هذه الآثار القطاعية والاجتماعية المختلفة على اللغة والخطاب السياسي ، هو التعرف على دور الاستعارة في اللغة السياسية . ونحن لن نتطرق الى موقع الاستعارة في الخطاب السياسي هنا من زاوية ان الاستعارة بصمة بلاغية ، فالذي يهمنا هنا ليس بلاغية الخطاب السياسي ، كما تتمثل في توظيف الاستعارة / بل الاستعارة كآلية تعبيرية ضرورية اولا ، ثم محاولة استخراج ماهية السياسة من خلال رصد بعض المظاهر الاستعارية في لغتها . ان رصد الاستعارة في اللغة السياسية يضعنا مند البداية امام المستويات المعجمية والتركيبية والدلالية وليس امام المستوى الصوتي ، لأن الاستعارة لعبة الفاظ / وعلاقة بين معان ، ومقاربة بين مراجع المدلولات . فالحديث عن الاستعارة في اللغة السياسية يلامس في الدرجة الاولى المعجم ، ثم التركيب والاسلوب ثانيا ، ثم الدلالة والمعنى في مستوى ثالث . فكثيرا ما يتحدث عن السياسة بلغة العمل الفني ، حيث يشار الى الاعمال السياسية وكأنها من فعل ( فنان ماهر ) غالبا بالمعنى الواسع . سيضع كريستوفر " اللمسات الاخيرة " على مشروع اعادة رسم السياسة الامريكية في المنطقة ، كما يتحدث عن السياسة ايضا بلغة الرياضة ، اي بالاستعارة من الحقل الرياضي : " الجولة " الثانية من المفاوضات او المباحثات ... " الكرة " الآن في " ملعب " الطرف الآخر ... كما يجب ان تتحلى كل الاطراف في " اللعبة " السياسية " بروح رياضية " ... شكل القرار " ضربة قاضية " ... " الدورة " البرلمانية ... " الفريق البرلماني كذا ..لخ ويتحدث عن السياسة ايضا بلغة التعمير والبناء ، حيث تشبه الاعمال السياسية بعملية بناء او اصلاح للبناء : " تشييد " الاجماع الوطني ... " اعادة بناء " العلاقات العربية المتدهورة منذ زمان وليس فقط الآن ... " ترميم " العلاقات العربية – العربية ... " رأب " الصدع ...لخ . والاستعارة النسيجية واردة ايضا في اللغة السياسية والخطاب السياسي ، حيث يتحدث عن السياسة كصناعة : " صهر " الموقف ... " صياغة " الموقف ... " صنع " القرار الدبلوماسي ... " صنع " اغلبية برلمانية . سنجد ايضا ان الاستعارة الجنسية او الغرامية متداولة بدورها في اللغة والخطاب السياسي : الارتماء في " أحضان " الغرب الإمبريالي ... " اغتصاب " الحقوق ... " مغازلة " السلطة او الحكم او اصحاب القرار ... " التودد " للنظام ... " انتهاك " حقوق الانسان ... لكن ان اكثر اصناف الإستعارة تداولا في اللغة السياسية هي إستعارة الرياضة والحرب ، بل ان الإستعارة المهيمنة في هذه اللعبة هي الإستعارة الحربية واستعارة العنف : نجاح " ساحق " للإضراب ... وضع " خطوط حمراء " امام المتطرفين .., هذا مجرد " لغم " سياسي ... " الهجوم " الحكومي على القدرة الشرائية للمواطن ... " إستيلاء " الحزب الفلاني على المقاعد ... " خوض " النضالات الضرورية ... " ضرب " الحريات " النقابية ... " هجوم " الباترونة ... " التضييق " على تيار او جناح في تنظيم او حزب او نقابة ... " القضاء " التام على كل معارضة من داخل البرلمان او من خارجه ... " فصائل " الشغيلة ... " المعركة " السياسية ... " التحالفات " الحزبية ... " التراجع " التكتيكي لتيار او جناح في مؤتمر حزبي ... المساس ب " السلم " الاجتماعي ... " تهديد " الامن الداخلي ... " زعزعة " الوحدة الوطنية ... " الانسحاب " من البرلمان او الحكومة او مؤتمر ... هذا اضافة الى التداول الواسع لمصطلحات علم الحروب في الخطاب السياسي مثل " الاستراتيجية " ، " التكتيك " و " الخطة " . ان سؤالنا هنا هو : ما السّرّ في طغيان الإستعارة الحربية واستعارة العنف في اللغة السياسية وفي الخطاب السياسي ؟ . لقد بيّن لنا الإستعراض السريع لنماذج الإستعارة المتداولة في الخطاب السياسي إستشراء وطغيان الإستعارة الحربية ونذرة الإستعارية الغرامية . فهل السياسة في عمقها اقرب الى الحرب والعنف منها الى الغرام والحب ؟ قبل الاجابة عن ذلك ، لابد من الاشارة الى ظاهرة فريدة وغريبة تختص بها الدول العالم ثالثية وبالاخص منها الوطن العربي ، وهي طغيان المصطلحات والمفاهيم ، بل التصورات العسكرية في مجالات الثقافة والتعبير كافة . فقد أخذ الجميع يتحدث اليوم بهذه اللغة العسكرتارية العنيفة من دون حرج ، مما يدل على ان العقول والنفوس العربية المريضة قد تعسكرت وتشرّرت ( الشر ) نظرا لأن في السياسة لا يوجد دائما حليف ولا يوجد دائما منافس ، بل يوجد دائما غريم خطره دائما اشد . لذا فقد تعسكر الجميع ، وطغت على لغتهم السياسية في مجملها المصطلحات العنيفة مثل " الأمن " الغدائي والفكري ، بل "الامن " الثقافي والفكري ، " الحملات " الاعلامية ، " المعارك " الاقتصادية ، " الغزو " الفكري ، " تطويق " المشاكل الاجتماعية ، " فك " الارتباط مع تنظيم او مجموعة ، " فك " الاشتباك بين القضايا ، " تصفية " الجو السياسي ، " الجبهة " الثقافية او الداخلية ، " تمشيط " الجبهة الداخلية ، " ردع " المعارضة ، " الدفاع " الاجتماعي و " التدخل " الحاسم ...لخ ، بل لقد طاولت اللغة العسكرية ميدان الرياضة واحتلته احتلالا كاملا تقريبا : " الدفاع " " الهجوم " " الجناح الأيمن " " الجناح الأيسر " " الاحتياط " " الشوط الاول " " الشوط الثاني " " الاحتياط " ...لخ ... كما تسلّلت المصطلحات الحربية الى (ميدان) السياحة نفسه ، حيث أخذ المشتغلون بها يتحدثون في وصف المجمّعات السكنية عن " الخطوط الاولى " اي ( الجبهة )، ويقصدون بها المجموعة السكنية المشرفة مباشرة على البحر ، ثم الخطوط الثانية والثالثة وهكذا . كذلك تمتح وتستعير اللغة السياسية دلالاتها من المصطلحات الحيوانية التي برع فيها كثيرا المحجوبي احرضان حين كان يردد " الّي أمّو نعجة ياكلو الذئب " اي من أمّه نعجة يأكله الذئب ، وهي كناية على الفطنة المعارضة للبلادة ، فاحرضان كان دائما ذئبا مفترسا لأولئك الذين كانوا يمنحونه وعشيرته صوتهم في الانتخابات . وهي نفس المصطلحات استخذمها عبد الاله بنكيران عندما وصف اعداءه فؤاد عالي الهمة والمجيدي بالتماسيح والعفاريت للتغطية في فشله . اذن لا تنفرد اللغة السياسية استيرادها المستمر للمصطلحات الحربية والعسكرية ، و إن كان حضورها قويا وشبه كلي في هذه اللغة . فاللغة السياسية اذن ، تعكس طغيان المصطلحات والمفاهيم العسكرية في الثقافة المعاصرة كلها ، لكن ربما كان ما يؤهل لغة السياسة – اكثر من غيرها – لتقبل نموذج الحرب والإستعارة الحربية ، هو ماهية السياسة نفسها . فالأخيرة بالمعنى العام ، هي العلاقة بين محتلف مفاصل الكل الاجتماعي ، فهي القفل والمفتاح بالنسبة لهذا الكل . وبمعنى خاص ، فالسياسة فن ادارة وتدبير مسار هذا الكل الاجتماعي ، ومن حيث ان السياسة هي رهان اجتماعي كلي حول حيازة الخيرات والمنافع والرموز والحظوة والمكانة المرموقة والجاه ، فإنها تصبح مدار هذا الصراع ، والصراع حول السلطة هو في الوقت نفسه صراع حول حيازة الخيرات والمنافع والرموز ، وهذا يعطي نوعا من الحظوة والأولوية للمجال السياسي باعتباره مفتاحا ، ليسبغ عليه طابع الصراع والحرب ، لذلك نؤكد ان الإستعارة الحربية في السياسة ،هي استعارة عضوية وليس استعارة طارئة . اي ملازمة للفعل للخطاب واللغة السياسية .
#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)
Oujjani_Said#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
- امرأة عند نقطة الصفر -
-
الطب والامبريالية في المغرب
-
حين يصبح الانقلاب والتزوير مشروعا
-
منظمة -- حزب -- تيار
-
ادوات اشتغال المخزن
-
دراسة تحليلية لماهية المخزن -- المخزن عقيدة وليس مؤسسة .
-
جدل عن غياب العاهل محمد السادس خارج المغرب
-
الطريق الاستراتيجي الثوري للدولة الفلسطينية
-
المسار الاعرج لمنظمة ( التحرير ) الفلسطينية
-
بين جبهة وجبهة خمسة وثلاثون سنة مرت
-
برنامج حركة 3 مارس
-
كتمان العلم والحق في الاسلام ( علماء ) فقهاء السوء
-
اساطير الاولين
-
مشروعية الملكية اساس استمرارها
-
الاتجار بالديمقراطية يضر القضايا الوطنية
-
البطالة
-
الجهة المتقدمة -- الحكم الذاتي
-
سوق ترويج الوعود والآمال
-
اللغة وفن التمويه والتضليل
-
هل تخلت واشنطن عن تدعيم مقترح الحكم الذاتي باتجاه الاستفتاء
...
المزيد.....
-
كوبا تندد بإعادة واشنطن تفعيل -سجل القيود- وتصفه بـ-الاستفزا
...
-
من القاهرة.. بيان عربي يرفض تهجير الفلسطينيين ويؤكد ضرورة إع
...
-
إستونيا تحذر واشنطن و-الناتو- من خسارة أوكرانيا مكامن المعاد
...
-
السودان.. عشرات القتلى والجرحى إثر قصف لبعض الأحياء وسوق صاب
...
-
وفاة الرئيس الألماني الأسبق هورست كولر: أول رئيس ألماني دون
...
-
تسليم الرهينتين بيباس وكالديرون للجيش الإسرائيلي
-
الرهينة ياردين بيباس يعانق عائلته بعد 484 يوما في الأسر
-
الجفاف يدق ناقوس الخطر في لبنان. بحيرة القرعون في مشهد مخيف
...
-
الملف الفلسطيني والتهجير على طاولة -السداسية العربية- في الق
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونتسك
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|