MICHAEL KLARE
منذ اعتداءات 11 أيلول/سبتمبر تندفع الولايات المتحدة في الحرب على الارهاب الى درجة أن هذه الحرب باتت تبدو وكأنها الهدف الوحيد للسياسة الخارجية في إدارة الرئيس بوش. صحيح ان الرئيس الأميركي قد أكد مراراً أن تنظيم هذه الحملة الدولية قد صار من المسؤوليات الكبرى الملقاة على عاتقه، وبالرغم من توفر الوسائل الهائلة لهذا الغرض، فإن الحرب على الارهاب لا تبدو موضع الاهتمام الوحيد للادارة الأميركية.
في الواقع، حدد الرئيس الأميركي لنفسه، منذ توليه سدة الرئاسة، اولويتين استراتيجيتين أخريين هما تحديث القدرات العسكرية الأميركية وتطويرها والحصول على احتياطات نفطية إضافية من منابع النفط الأجنبية. ومع أن هذين الهدفين يعودان الى أسس ودوافع مختلفة فقد اندمجا مع الحرب على الارهاب لتشكيل استراتيجيا متماسكة توجه حالياً السياسة الخارجية الأميركية.
لم تكن هذه الاستراتيجيا الجديدة موضوع إعلان مبادئ ولا يبدو أنها صيغت في واشنطن بشكل واضح. لكن ما من شك في أن هذه الأولويات الثلاث مجتمعة قد عدلت الى أقصى حد من أشكال السلوك العسكري الأميركي، ولفهم طبيعة هذا التعديل يمكن القيام بتحليل بعض المبادرات التي اتخذتها الادارة الأميركية مؤخراً.
ففي العراق والخليج، بات من المؤكد أن إدارة بوش تحضر لعملية اجتياح للعراق الهدف منها طبعاً إسقاط السيد صدام حسين وإقامة حكم في بغداد موال للولايات المتحدة. وتحضيراً لهذه العملية تعزز وزارة الدفاع الأميركية وجودها العسكري في منطقة الخليج، والهدف المعلن من هذا الاجتياح المرتقب هو تدمير قدرات العراق على انتاج أسلحة نووية أو كيميائية أو جرثومية. لكن من الواضح أن واشنطن قد قررت إزالة أي خطر من شأنه أن يؤثر في انتاج النفط ونقله في هذه المنطقة. كما ان الأمر بالنسبة الى المخططين الأميركيين هو أن الاحتياط النفطي العراقي الكبير سيبقى في متناول اليد أي أنه لن يقع تحت السيطرة المطلقة للشركات الروسية أو الصينية او الأوروبية.
أما في آسيا الوسطى والقوقاز، فإن القوات الأميركية عندما انتشرت في المنطقة بعد فترة وجيزة من اعتداءات 11 أيلول/سبتمبر، كان هدفها الوحيد المعلن آنذاك هو مساندة العمليات العسكرية الموجهة ضد حركة “طالبان” في أفغانستان، وبالرغم من انهزام هذه الحركة بدا ان هذه القوات ستبقى في المنطقة من أجل انجاز مهمة أخرى. وبما أن الولايات المتحدة قد صممت على الوصول الى احتياط الطاقة الكبير في حوض بحر قزوين فإن هذه المهمة تقوم على الأرجح على حماية خطوط نقل البترول والغاز الى الأسواق الغربية. وما يعزز هذه الفرضية هو إيفاد مدربين عسكريين أميركيين الى جورجيا وهي المحطة الأساسية في خط انابيب النفط الذي يصل بحر قزوين بالبحر الأسود وبالمتوسط، إضافة الى القرار الأميركي اعادة تشغيل قاعدة عسكرية في كازاقستان على ساحل بحر قزوين.
في كولومبيا كان الهدف المعلن حتى زمن قريب من التدخل العسكري الأميركي هناك هو مكافحة تجارة المخدرات. لكن خلال الأشهر الأخيرة أضاف البيت الأبيض هدفين آخرين الى برنامج الدعم العسكري الأميركي فيها وهما محاربة العنف السياسي و"الإرهاب" الذي تلجأ اليه الميليشيات وحماية انابيب النفط التي تنقل البترول من الآبار الداخلية الى المصافي الواقعة على الساحل. ومن أجل تمويل هاتين الأولويتين الطارئتين طلبت إدارة بوش الى الكونغرس أن يوافق على زيادة حجم المساعدة العسكرية لبوغوتا، ومنها 100 مليون دولار مخصصة تحديداً لحماية أنابيب النفط.
في هذه الأمثلة، وفي الكثير غيرها في أماكن أخرى من العالم، نلحظ هذه الأولويات الثلاث المبينة أعلاه. لكن ما يسترعي الانتباه هو دمجها في استراتيجيا واحدة لا غير. وقد بات من المستحيل فهم التوجه العام للسياسة الخارجية الأميركية من دون الأخذ في الاعتبار العلاقة الضمنية في عملية الدمج هذه. لذلك من الضروري تحليل كل واحدة من الاولويات الثلاثة على انفراد قبل تحليل آلية اندماجها.
وهذا الهدف الذي حدده المرشح جورج دبليو بوش أثناء حملته الرئاسية أصبح مذاك أولوية مطلقة للحكومة. ففي خطاب ذي دلالة اساسية ألقاه في "سيتاديل" (وهي مدرسة عسكرية متميزة في شارلستون في ولاية كارولينا الجنوبية) في أيلول/سبتمبر عام 1999 شرح السيد بوش الطريقة التي ينوي اعتمادها لتنفيذ "عملية تحويل" الملاكات العسكرية الأميركية. فبعدما اكد أن إدارة كلينتون لم تنجح في تصويب البرامج العسكرية على أساس الوقائع المستجدة بعد انتهاء الحرب الباردة، تعهد المرشح الجمهوري القيام بإعادة تقويم كاملة للاستراتيجيا الأميركية من أجل "الشروع في بناء جيش القرن المقبل”.
وسيكون لحركة التغيير في الجيش هذه هدفان رئيسان، من ناحية أولى ضمان عدم تعرض أراضي اميركا للخطر عبر إنشاء درع مضادة للصواريخ وعبر الحفاظ على التفوق الأميركي في مجال الاسلحة المتطورة، ومن ناحية ثانية تطوير قدرة الولايات المتحدة على اجتياح بعض القوى الاقليمية المعادية مثل إيران أو العراق أو كوريا الشمالية. هكذا إذاً أكد السيد بوش تأييده تنفيذ مشروع الدرع المضادة للصواريخ لحماية الولايات الأميركية الخمسين إضافة الى "إحداث ثورة في الفكر العسكري" الذي ينزع الى جعل استخدام الكومبيوتر وأجهزة الالتقاط المتقنة والمعدات "الخفية" وباقي التقنيات المتقدمة أمراً منتظماً في ساحة المعركة. وفي رأي الرئيس أن هذه السياسة تؤمّن التفوق الأميركي "على مدىً طويل".
وفي اطار الهدف الثاني، عبّر بوش عن رغبته في تطوير القدرة الأميركية على "إنزال قواتها"، وبمعنى آخر القدرة على نشر قوات كبيرة على أراضٍ بعيدة تكون قادرة على الانتصار على أي عدو. ومثل هذا الطموح يتطلب تجهيزات جديدة مثل أجهزة الالتقاط المتطورة والطائرات بدون طيار، إنما يتطلب أيضاً تقليص حجم الوحدات لجعل عمليات انتشار في حجم أقل من الدعم اللوجستي. يجب أن نكون قادرين على إيصال قواتنا الى أبعد مكان ممكن في غضون أيام أو أسابيع بدلاً من أشهر عدة [...] وعلى الأرض يجب ان تصبح قواتنا الثقيلة أكثر حركية ووحداتنا الخفيفة أكثر فتكاً، على أن يتمتع الجميع بسهولة الانتشار” (١).
وما ان تولى مهامه حتى أصدر السيد بوش تعليماته فوراً الى وزارة الدفاع كي تبدأ بتنفيذ هذه الاجراءات. ففي أوائل العام 2001 صرح الرئيس قائلاً: "بناء على طلبي شرع وزير الدفاع السيد دونالد رامسفيلد في دراسة معمقة حول القوات المسلحة الأميركية. وانا أترك له كامل الحرية لاعادة النظر في الوضع القائم من أجل التوصل الى وضع تصور أفضل لبنية جديدة مخصصة للدفاع عن أميركا وحلفائها." وتستند هذه البنية الجديدة في شكل واسع الى التكنولوجيات الحديثة لكن توجهها الرئيسي يبقى تحقيق القدرة على الانزالات السريعة للقوات العسكرية. وفي استعادة للعبارات التي استخدمها في خطاب سيتاديل اعتبر السيد بوش أن القوات البرية الأميركية ستكون "أكثر حركية واشد فتكاً" وان القوات الجوية ستكون "قادرة على ضرب أهداف بعيدة بدقة متناهية" وأن القوات البحرية ستتمكن من "إنزال قواتنا بعيداً داخل الأراضي البرية” (٢).
وقد باتت هذه الأهداف هي التي تحدد توجهات الموازنة على المدى الطويل في البنتاغون، وهكذا عندما قدم السيد رامسفيلد مشروع موازنة الدفاع للسنة المالية 2003 (تبدأ في الأول من تشرين الأول/أكتوبر من السنة السابقة) والتي بلغت 379 مليار دولار (بزيادة بلغت 45 مليار دولار عن موازنة العام 2002 ) صرح قائلاً: "إننا في حاجة الى قوات مسلحة تتمتع بسرعة الانتشار ومتكاملة كلياً في ما بينها، قادرة على الوصول سريعاً الى ساحات القتال البعيدة وعلى التعاون مع قواتنا الجوية والبحرية لضرب أعدائنا بسرعة وبدقة وبطريقة مدمرة" (٣). وإذا ما توافرت وسائل إضافية فعلاً للدرع المضادة للصواريخ وللحرب على الارهاب فبالتأكيد ان القدرة على إرسال القوات العسكرية هي التي ستحدد الاستثمارات وتنظيم القوات المسلحة في السنوات المقبلة.
وبعد 11 أيلول/سبتمبر طرأ مفهوم جديد على الفكر الاستراتيجي الأميركي، وهي الفكرة القائلة إنه يجب أن يكون للولايات المتحدة القدرة على استخدام القوة بشكل احترازي ضد قوى معادية قادرة على استخدام بعض أسلحة الدمار الشامل. وفي الواقع أكد البيت الأبيض أنه قد يكون من الضروري شن هجومات وقائية من أجل الدفاع عن المواطنين الأميركيين في وجه التهديد الذي تمثله "الدول المارقة”. وإن بدا بديهياً بالنسبة الى الجميع أن هذا التأكيد يمثل تغييراً جذرياً في الاستراتيجيا الأميركية، إلا أنه منسجم تماماً مع هدفي الادارة الآخرين وهما تأمين عدم تعرض الولايات المتحدة للاعتداءات وتطوير قدراتها على اجتياح القوى المعادية وإخضاعها.
أما الأولوية الثانية بالنسبة الى الادارة، أي الحصول على احتياطات نفطية جديدة من الدول الأجنبية، فقد جرى تفصيلها للمرة الأولى في تقرير "المجموعة الوطنية لتطوير سياسة الطاقة” National Energy Policy Development Group الذي نشر في 17 أيار/مايو عام 2001. فهذا التقرير الذي أعده نائب الرئيس ديك تشيني يضع استراتيجيا الهدف منها الاستجابة لتزايد الحاجات الى النفط في الولايات المتحدة خلال السنوات الخمس والعشرين المقبلة. وإن كان التقرير يتحدث عن بعض الاجراءات الآيلة الى التوفير في استهلاك الطاقة فإن العديد من اقتراحاته تهدف الى زيادة الاحتياطات الأميركية في مجال الطاقة.
وبمجرد نشره أثار تقرير تشيني نوعين من الجدل. اولاً لأنه يشير الى زرع محطات تنقيب في حقول الألسكا الوطنية، إنما أيضاً لأن واضعيه كانوا على علاقة مسبقة بشركة “أنرون” المفلسة حالياً. وهذا الجدل ساهم في التعتيم على وجوه أخرى في التقرير وخصوصاً تلك المتعلقة بما تدعو اليه سياسة الطاقة الجديدة هذه من تدخلات فعلية على الصعيد الدولي، والتي لا تظهر بوضوح الا في الفصل الأخير (“تعزيز التحالفات الدولية”) حيث يقترح العمل على تدارك الحاجة الوشيكة للنفط عبر زيادة عمليات استيراده.
وبحسب التقرير أن الارتهان الأميركي للسوق النفطية الخارجية لمجمل الحاجة الاستهلاكية يجب ان يرتفع من 52 في المئة عام 2001 الى 66 في المئة عام 2020 (٤) كما ان الاستهلاك الاجمالي سيزداد هو بدوره مما سيحتم على الولايات المتحدة أن تستورد 60 في المئة من النفط في العام 2020 زيادة عما تستورده اليوم ليرتفع بذلك من 10.4 ملايين برميل يومياً الى حوالى 16.7 مليون برميل (٥). والوسيلة الوحيدة لتحقيق ذلك تقوم على اقناع الموردين الأجانب بزيادة انتاجهم وأن يبيعوا أكثر من الولايات المتحدة.
غير ان معظم الدول المصدرة لا تملك الموارد المالية اللازمة لتطوير بنياتها النفطية التحتية، أو أنها ترفض السماح لزبائن أميركيين بالتحكم بإنتاجها في مجال الطاقة. وبناء عليه فإن التقرير الذي يعي هذا الأمر ينصح البيت الأبيض بأن يجعل من زيادة الواردات النفطية "اولوية في سياستنا التجارية والخارجية” (٦). ومن أجل تلبية حاجات البلاد ينصح التقرير الادارة بنوع خاص أن تركز على هدفين.
يقوم الهدف الأول على زيادة الواردات من دول الخليج العربي ــ الفارسي التي تملك حوالى ثلثي الاحتياط النفطي العالمي. وبما أن ما من منطقة أخرى في العالم تستطيع أن تزيد انتاجها بهذه السرعة ينصح التقرير ببذل جهود ديبلوماسية ناشطة ترمي الى إقناع السعودية وجيرانها بالسماح لشركات أميركية بأن تتولى ادارة الأعمال المهمة من أجل تحديث بناها التحتية.
أما الهدف الثاني فالغاية منه "تنويع" الواردات الأميركية جغرافياً وذلك بغية الحد من الانعكاسات الاقتصادية لأي انتفاضات مفاجئة في مناطق معروفة بعدم الاستقرار الدائم. فالتقرير يوضح أن "تركيز الانتاج النفطي في منطقة واحدة من العالم قد يساهم في عدم استقرار السوق”. وفي النتيجة "أن تنويع مصادر التزود بالنفط هو ذو مرتبة أولى في الأهمية” (٧). ولتنفيذ هذه السياسة يقترح التقرير تعاوناً وثيقاً مع الشركات الأميركية في مجال الطاقة يكون الهدف منه زيادة الواردات من حوض بحر قزوين (وفي نوع خاص من أذربيجان وكازاقستان) ومن الصحراء الافريقية (أنغولا ونيجيريا) ومن أميركا اللاتينية (كولومبيا والمكسيك وفنزويلا).
غير أن تقرير تشيني ينسى أن يحدد ما يفترض بأي قارئ على حد أدنى من الاطلاع أن يستنتجه، وهو أن جميع المناطق المشار اليها كمصادر ممكنة للنفط هي مناطق غير مستقرة أو أنها تكنّ مشاعر قوية معادية لأميركا، إن لم يكن الاثنتين معاً. وإذا كان صحيحاً أن قسماً من النخبة في هذه المناطق يؤيد ربما تطوير التعاون الاقتصادي مع الولايات المتحدة فإن فرقاء آخرين من شعوبها ترفض في الغالب هذه الفكرة اما لدوافع وطنية واما لأسباب اقتصادية أو إيديولوجية. وهكذا فإن المحاولات الأميركية الهادفة الى شراء مزيد من البترول من هذه الدول قد تواجه بقوة بمختلف أشكال المقاومة التي يمكن أن تصل الى حد اللجوء الى الارهاب أو الى مختلف أنواع العنف. ولذلك فإن التقرير ينبه الى انعكاسات ذات طابع أمني لها أهميتها القصوى في اطار الاستراتيجيا الأميركية الدولية.
وهنا بالضبط ينكشف التوازي البديهي بين الاستراتيجيا العسكرية وسياسة إدارة بوش في مجال الطاقة. ففي الواقع ان سياسة الطاقة الهادفة الى السماح للولايات المتحدة بالوصول الى الاحتياطات النفطية الواقعة في مناطق عدم استقرار دائم لا يمكن أن تكون واقعية الا بمقدار ما تكون الولايات المتحدة قادرة على إيصال قواتها العسكرية الى هذه المناطق. وسواء أكان المسؤولون السياسيون قد توصلوا الى هذا الاستنتاج أم لا فإن ما لا شك فيه أبداً هو أن القيادات العسكرية العليا قد استنتجته من جهتها.
فوزارة الدفاع تعترف في التقرير الصادر في أيلول/سبتمبر عام 2001 في المجلة العسكرية Quadrennial Defense Review بأن "الولايات المتحدة وحلفاءها سيبقون مرتهنين في مصادر الطاقة للشرق الأوسط" (٨) وأن هذا المصدر قد يتعطل بفعل مختلف الوسائل العسكرية. وتصف مجلة (QDR) هذه آنذاك أنواع الأسلحة والقوات التي ستحتاجها الولايات المتحدة لمواجهة هذه الأخطار، وتحديداً تلك التي عدّدها بوش في التصريحات الواردة آنفاً. ويخلص التقرير الى أن الاستراتيجيا العسكرية الأميركية "تعتمد على قدرة القوات الأميركية على ارسال قواتها الى العالم أجمع” (٩).
والأولوية الثالثة بالنسبة الى إدارة بوش هي الحرب على الارهاب التي أعلنها الرئيس في خطابه أمام الكونغرس في 20 أيلول/سبتمبر عام 2001، أي بعد تسعة أيام من اعتداءات نيويورك وواشنطن. وهذه الحرب لن تكون محدودة بسلسلة ضربات تأديبية أو بمعركة ضخمة بل تستدعي "حملة مفتوحة" تمتد الى مسارح عمليات متعددة الى أن يتم "اكتشاف كل مجموعة ارهابية ذات بعد عالمي ووقف نشاطها وتدميرها”. وفي ما بعد وسّع الرئيس بوش دائرة حربه على الارهاب في اتجاه إيران والعراق اللذين يمثلان خطراً بسبب عزمهما على تطوير أسلحة نووية وكيميائية وجرثومية.
إن استراتيجيا من هذا النوع تفرض بذل نوعين من الجهود، أولهما على مستوى المخابرات وذلك بغية اكتشاف الشبكات الارهابية وتعطيلها، والثاني على المستوى العسكري بغية تدمير بؤر الارهابيين ومعاقبة الدول التي تحميهم. وإذا ما بدا هذان العملان حيويين فإن الجانب العسكري منهما هو لفت اهتمام القادة أكثر من غيره. والحال أن هذا الجانب يلتقي بالتحديد تماماً مع الأولويتين الأخريين للادارة.
وهكذا فإن الطريقة التي خيضت بها حرب أفغانستان هي خير دليل على القدرة على "إنزال القوة" التي تحدث عنها الرئيس بوش في خطابه في سيتاديل في العام 1999. فقبل بدء الحملة نقلت الولايات المتحدة جواً كميات من الاسلحة والتجهيزات الى الدول الحليفة لها ونشرت اسطولاً هائلاً في بحر العرب. وقد خيضت الحرب البرية بواسطة قوات مشاة قليلة تساندها قاذفات واسعة المدى مجهزة بأسلحة توجه عن بعد بالغة الدقة. وقد تم التشديد على قدرة القوات البرية على المناورة وعلى استخدام أجهزة مراقبة عالية التقنية تسمح بتحديد موقع العدو سواء نهاراً ام ليلاً.
وعلى الأرجح ان عملية من النوع نفسه ضد العراق تستدعي نشر عشرات الألوف من الجنود في أماكن رئيسية من البلاد تؤازرها عمليات قصف مكثف. ويوضح أحد كبار الضباط لصحيفة “نيويورك تايمز” أنه بخلاف ما جرى في العام ١٩٩١ "لن يكون من الضروري أن نحتل الأراضي لنحمي جوانحنا، بل أن الأمر سيتم بمزيد من الحركة السريعة لقواتنا كي تركز على أهداف محددة” (10). وكما حدث في أفغانستان فإن الاجتياح سيعتمد على استخدام مكثف للوحدات الخاصة تقاتل الى جانب القوات المسلحة المنشقة.
باتت الحرب على الارهاب إذاً تساهم في الجهود الأميركية الهادفة الى تأمين الوصول الى منابع النفط وخصوصاً في منطقة الخليج وفي حوض بحر قزوين. وهكذا تبدو الحرب في أفغانستان وكأنها امتداد للحرب السرية في السعودية الدائرة بين معارضي النظام الملكي الحاكم والعائلة المالكة التي يدعمها الأميركيون. فمنذ ان قرر الملك فهد إثر اجتياح العراق الكويت في العام 1990، السماح للأميركيين استخدام أراضي بلاده كقاعدة لهم لمهاجمة العراق، نهض بعض المتطرفين السعوديين بقيادة السيد أسامة بن لادن، بحركة نضال سرية تهدف الى اطاحة الملكية والى طرد الأميركيين من البلاد. وبناء عليه فإن الرغبة الأميركية في تدمير شبكة “القاعدة” في أفغانستان تبدو وكأن دوافعها هي ضرورة حماية العائلة المالكة السعودية من أجل ضمان حصول الأميركيين على نفط هذه البلاد (١١).
ويلاحظ تطور من النوع نفسه في المنطقة المحيطة ببحر قزوين. ففي عهد الرئيس كلينتون أقامت وزارة الدفاع علاقات لها مع القوات المسلحة في كل من أذربيجان وجورجيا وكازاقستان وقرغيزستان وأوزبكستان كما بدأت بتأمين السلاح والتدريب لها (12)، لكن منذ 11 أيلول/سبتمبر، تضاعفت هذه الجهود بقوة، فإذا القواعد الموقتة في أوزبكستان وقرغيزستان في طريقها لأن تصبح معسكرات نصف دائمة. كما ان الولايات المتحدة تساعد في "إعادة تأهيل قاعدة جوية ذات أهمية استراتيجية" في قازاقستان.
وبحسب وزارة الخارجية أن الهدف من هذه المبادرة هو " تطوير التعاون بين الولايات المتحدة وقازاقستان إضافة الى إقامة قاعدة عسكرية اميركية مشتركة التسليح في هذه المنطقة الغنية بالنفط” (13) كما أن الولايات المتحدة ستساعد أذربيجان في تكوين أسطول عسكري في بحر قزوين حيث وقعت أخيراً أحداث عدة بين بواخر أذربيجانية للتنقيب عن النفط وبعض البوارج العسكرية الإيرانية. وإذا ما كانت هذه المبادرات تبرر بضرورة تسهيل مشاركة هذه الدول في الحرب على الارهاب فإنها أيضاً تشكل جزءاً من الجهود الأميركية الهادفة الى تأمين محيط محمي لانتاج البترول ونقله.
فأياً تكن النيات الأساسية للزعماء الأميركيين فإن الأولويات الثلاث هذه لدى الحكومة في مجال الأمن الدولي، أي تطوير القدرات العسكرية والتفتيش عن مصادر جديدة للنفط والحرب على الارهاب، قد اندمجت لتشكل هدفاً استراتيجياً واحداً. وسيكون من الصعب أكثر فأكثر تحليل كل من هذه التوجهات على حدة. والطريقة الوحيدة لوصف هذه النزعة الشاملة بالتحديد في الاستراتيجيا الأميركية هي في القول بأنها تشكل هدفاً احادياً يمكن تلخيصه بأنه "الحرب من أجل فرض الهيمنة الأميركية". وإن بدا من المبكر الآن تقويم انعكاسات هذا الدمج في هدف واحد على المدى الطويل، الا أنه يبقى من الممكن القيام بجملة ملاحظات.
فأولاً بمجرد أن تدمج هذه التوجهات فإنها تولد دينامية أقوى مما هي عليه لو انها لم تلتقِ. وفي الواقع من الصعب جداً انتقاد استراتيجيا تتمتع بهذا القدر من الحيوية بالنسبة الى الأمن القومي. فلو أنها عُرضت كلاً على حدة لكان من الممكن أن تُفرض عليها بعض القيود الخاصة. فمثلاً يمكن المطالبة بالحد من الموازنات العسكرية أو بخفض عديد القوات المنتشرة في المناطق الغنية بالبترول. لكن عندما توضع هذه المظاهر جميعاً تحت راية مكافحة الارهاب يصبح من غير الوارد التفكير في مناقشتها، وعندها يصبح من المتوقع أن تلقى سياسة البيت الأبيض بعض الدعم في الكونغرس وفي أوساط الشعب الأميركي.
لكن وللأسباب نفسها تحمل هذه الاستراتيجيا خطراً لا يستهان به للمزيد من التصعيد والمغالاة والتورط. فهي في الواقع قد تفضي الى سلسلة من العمليات العسكرية لزمن لا يمكن تحديده لتصبح أكثر فأكثر معقدة وخطيرة وتتطلب عندها استخدام وسائل وقوات متزايدة دائماً. وهذا هو بالتحديد نوع الاستراتيجيا التي حذّر منها بوش أميركا قبل انتخابات العام 2000 لكن يبدو أنه عازم مذاك على اعتمادها. وعلى كل حال، يبدو أن هذا هو ما يحدث في الخليج وآسيا الوسطى وكولومبيا. ففي هذه الحالات الثلاث هو هذا الدمج بين التوجهات الثلاثة ما يزيد من صعوبة الحد من التورط الأميركي.
والاختبار الأكثر جدية للنموذج الذي يدافع عنه البيت الأبيض قد يتم في العراق. فالرئيس الأميركي لا يخفي عزمه على اطاحة الرئيس صدام حسين وتنصرف وزارة الدفاع الى وضع الخطط للاجتياح الأميركي. وقد حذرتها العديد من الدول العربية من أن هذا الاجتياح قد يوسّع رقعة الفوضى والعنف في مختلف أرجاء الشرق الأوسط. كما ان مسؤولين كباراً في البنتاغون قد أبدوا تحفظاتهم عن التكاليف والمخاطر التي يتطلبها ابقاء وجود أميركي مهم في العراق بعد اطاحة نظام بغداد، لكن لا يبدو أن هذه التحذيرات تلقى آذاناً صاغية في البيت الأبيض الذي يبدو أنه قرر، مهما حدث، مهاجمة العراق.
--------------------------------------------------------------------------------
* أستاذ في جامعة هامبشاير، ماساتشوستس، مؤلف كتاب:
Resource Wars : the New Landscape of Global Conflict, Metropolitan Books, New York, 2001
١ الوثيقة متوافرة على موقع:
www.georgewbush.com/speeches/defense/citadel.asp (2 décembre 1999) .
2 من كلمة ألقيت في قاعدة نورفوك البحرية في 13/2/ 2001. المرجع:
www.whitehouse.gov/news/releases/text/20010213-1.html.
3 جامعة الدفاع الوطنية، واشنطن العاصمة، 31/1/2002 المرجع:
www.defenselink.mil/cgi-bin/dlprint.cgi
4 راجع:
National Energy Policy Development Group,Washington, DC, mai 2001, p. x et chap. 8, p. 3.
5 راجع:
U.S. Department of Energy, Energy Information Administration, International Energy Outlook 2002, Washington, DC, 2002, pp. 183, 242.
6 المرجع المذكور آنفاً:
National Energy Policy Development Group,op. cit. chap. 8, p. 41.
7 المرجع السابق، الفصل الثامن، ص 6 .
8 راجع:
U.S. Department of Defense, Quadrennial Defense Review Report, Washington, DC, 30 septembre 2001, p. 4.
9 المرجع السابق، ص:43
10 صحيفة “نيويورك تايمز” في 28/4/2002.
11 المرجع:
The Geopolitics of War , The Nation, 5 novembre 2001. Lire aussi ? Line in the Sand: Saudi Role in Alliance Fuels Religious Tension in Oil-Rich Kingdom ?, The Wall Street Journal , 4 octobre 2001.
12 راجع:
Michael Klare, Resource Wars: The New Landscape of Global Conflict, Metropolitan Books / Henry Holt, New York 2001.
13راجع:
U.S. Department of State, Congressional Budget Justification: Foreign Operations, Fiscal Year 2003, Washington, DC, 2002, p. 309.
تشرين الثاني/نوفمبر 2002
جميع الحقوق محفوظة 2001© , العالم الدبلوماسي و مفهوم