أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - سلام عبود - الذاكرة السردية تنتقم جنسيا: الحجاج الثقفي















المزيد.....


الذاكرة السردية تنتقم جنسيا: الحجاج الثقفي


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 4179 - 2013 / 8 / 9 - 02:54
المحور: الارهاب, الحرب والسلام
    


لا يوجد اسم عربي في تاريخ القتل أشهر من اسم الحجاج. ربما يختلف الناس في مبرّرات وحجم البطش الذي مارسه، لكنهم لا يستطيعون تكذيبه، حينما يقول إنه" لم يقتل إلا لمصلحة الخليفة". أمـّا الخليفة عبدالملك بن مروان فيوجز مصالح القتل قائلا: " إذا رابك ريب من أهل العراق فاقتل أدناهم يرعب منك أقصاهم"، لذلك يجيبه الحجاج:"إني والله لا (أداويهم) إلا بالسيف".
هجاه وعاداه عدد من شعراء تلك الحقبة: مالك بن الريب، أعشى همدان، عمران بن حطان، قطري بن الفجاءة، وكعب الأشعري، وكاد أن يفتك بشاعرين: محمد النميري، الذي تغزّل بأخته، وجرير، الذي أكثر من مدحه، وكان قبل ذلك في صف عيدالله بن الزبير. مدحه الفرزدق كثيرا، ثم هجاه في حضرة خصمه سليمان بن عبد الملك. أذل وقتل فقيه عصره التابعي سعيد بن جبير، وكاد أن يبطش بتابعي آخر هو الحسن البصري. طارد محدثا وراوية كبيرا هو محمد بن السائب الكلبي . تمرد عليه قائد كبير من قادة الفتح في الجيش الأموي: عبدالله بن الأشعث، وزعيم قبلي كبير، ابن الجارود. وخرج عليه عامل المدائن مطرف بن المغيرة بن شعبة ( ابن زوج أمه). ناصب العداء وأهان وأذل آل المهلب بن أبي صفرة، قادة جيوش العراقين والفتح، والعقبة الكبرى، التي حالت دون قضاء الخوارج على سلطة بني أمية. خاصم سليمان بن عبدالملك، أخا الخليفة الوليد. أخمد انتفاضات الزنج، وقضى على قطري بن الفجاءة وشبيب الشيباني، أعظم قادة الخوارج، اللذين دوّخا بني أمية، وكادا أن يضعا نهاية للحجاج.
الأنسي الوحيد، الذي سجل له التاريخ نصرا معترفا به على الحجاج، كان أكثر المعارضين بعدا عن السيف، التابعي سعيد بن جبير. وهو فقيه من أصل حبشي، أرغمه الحجاج على قبول القضاء، لكي يدنس مكانته ويبقيه تحت هيمنته. لكنه لم يلبث أن وجد في ثورة ابن الأشعث فرصة للتخلص من هذا العبء. أوقعه سوء حظه بيد الحجاج في أواخر أيامه، فقام الحجاج بقتله. كان آخر ما قاله، في مناظرته الأسطورية مع الحجاج، هو: " اللهم لا تسلطه على قتل أحد من بعدي"، فاستجاب الله لدعائه. كان انتصار ابن جبير على الحجاج رمزيّا، ويقال إنه كان نفسيا أيضا، لأن الحجاج ظل يعاني من مشهد ذبح ابن جبير - بضعة أيام- حتى لحظة مماته. تلازم دعاء ابن جبير وموت الحجاج لا يخلو من الإعجاز حقا. وهو إعجاز يحتمل الأوجه كافة. فربما يكون جزءا من إرادة الباري العطوف، مالك الأرواح؛ ويحتمل أن يكون جزءا من إرادة السارد العطوف، مالك الأخيلة. مات كلاهما في رمضان من عام 95 هـ، ابن جبير في الحادي عشر منه، والحجاج في الحادي والعشرين منه، وقيل لأربع خلون منه. والأقدار لا تمهل ولا تهمل أحيانا.
عاش الحجاج حوالي ثلاثة وخمسين عاما، قضى منها في القيادة ما يقرب من ثلاث سنوات في الحجاز، وعشرين عاما في العراق. كانت جميعها سنوات نكدات. وصلت أعداد قتلى العراقيين فيها، على رأي المتشددين، ألف ألف، عدا من مات في الحروب. أحس ضحاياه، لطول وشدة ظلمه، أنه تواطأ مع القدر حيا وميتا، بتحالفهما على صد غضب المظلومين. تناقل الناس سرا خبر( أمنية) موته مرارا، واحتفل العراقيون بـ "عرس" موته مرتين، الأولى سهوا، والثانية حينما أفلح القدر في انقاذ الحجاج من الوقوع بأيدي كارهيه، وجعله يموت حتف أنفه.
لكل هذه الأسباب كان موت الحجاج ثقيلا على الذاكرة السرديّة، لأنه يشبه الهروب المدبّر. وكان لا بدّ للذاكرة الجريحة أن تنتقم، ولكن بأثر رجعيّ. استخدمت في عملية الانتقام وسائل الإعلام كافة: الخبر، الشعر، القصة، الرواية الشفاهية. ولم يتوقف الأمر عند وسائل الإعلام التقليدية الموروثة من العصور الغابرة، فقد لحقت بها الفضائيات والمسلسل التلفزيوني والرواية والانترنيت. ساهمت جميعها في صناعة تاريخ إرضائي ينتصر خياليا على الماضي المنتصر واقعيا.
أبرز أساليب الهجوم كانت تدنيس وتحقير شخص الحجاج. فقد وصفه كارهوه بأنه ضعيف الإيمان، ينال من آل البيت (ثلم ديني)، عبد (موقع عرقي)، دبّاغ وحجار (مهنة ومكانة اجتماعية)، سليل أبي رغال ( تحقبر قبلي وتذكير بخيانة قومية تاريخية)، اسمته أمه كليبا (تحقير شخصي). ومن أوصافه التحقيرية أنه كان جبانا، قصير الرجلين، أخفش أعمش(فساد واحمراروضيق في جفن العين، وسيلان الدمع)، مقصص الشعر، حقودا، حسودا، وقحا، يقتل على الشبهات، يتلذذ برؤية ضحاياه يقتلون.
لم تكتف الذاكرة السردية بهذا القدر من القدح. إن بشاعة تاريخ الحجاج ولـّدت رغبة في تصفية الحساب معه، خرقت حدود المنطق، وأباحت للخيال السردي التحرك بحرية تامة، من دون رقيب أخلاقي أو علمي. لذلك توجه كارهو الحجاج الى المخيال الحكائي. فجعلوا من ولادته لحظة غرائبية بشعة: ولد منقوعا بالدم، ولم يرضع إلا بعد أن طلي ثدي أمه بالدم! أما موته، الذي لم يفزبلذة انجازه أقوى وأخطر المقاتلين، بمن فيهم "أمير الموت" قطري بن الفجاءة، والفارس الفرد شبيب الشيباني، فقد تمّ على يد دويبة صغيرة غزت بطنه. وقد فضّل بعضهم أن تكون "الخنفساء"، زيادة في التشفـّي والاحتقار. وهناك من يؤكد أنهم سمعوا صراخ الحجاج حينما قـُبر، لأنه دفن قبيل أن يتمّ موته!! أما ذريته فقد انقرضت عن بكرة أبيها.
أمام إساءات القدر الغادر والماكر، تحتم على الذاكرة المنتقمة أن تجد وسيلة أكثر مضاء لرد الاعتبار للذات المخذولة. وكانت الوسيلة الوحيدة الممكنة، الناجعة، هي الانتقام جنسيّا.
لماذا جنسيا؟ كما أن الحشرة الحقيرة كانت سببا في هلاك الطاغية الكبير، فإن المرأة، الضعيفة اجتماعيا، التي لا تصلح إلا للزينة، ولا يجوز منحها الثقة والأمان والمشورة، كما أسرّ الحجاج للوليد بن عبد الملك، هي أصلح المخلوقات لتحقيق التوازن المفقود: الانتقام من المستبد، والبطش به وبصورته التاريخية. فإذا كان الحجاج، لظروف قدرية، لم يقع في أيدي خصومه الأقوياء، وترك للدويبة أن تفتك به، فإن محاولات النيل منه، في حياته، تـُركت للمرأة. فليس مشوقا أن يهان الحجاج من قبل فارس صمصام! لهذه الأسباب نُسجت حوله قصص وروايات محورها الرئيسي النساء، وجعلت المرأة إحدى نقاط ضعفه البارزة، وأكبر نكساته وعوراته قبل الموت وبعده. فكل ما كسبه بالسيف والدم تمّ استرداده مضاعفا على يد النساء.
تزخر سيرة الحجاج بمواجهات مع المرأة في صور متنوعة: المرأة المعارضة، المقاتلة، الزوجة، المطلـّقة، المختطفة، الواشية، السجينة. بعض النسوة كنّ من صنع الخيال، وبعضهن الآخر صحيح الأصل. وفي أحوال كثيرة قام الرواة بخلط الواقع والخيال، صانعين لوحة مركبّة، مشتهاة، موجهة لمصلحة تحقيق غاية واحدة: الاستمتاع بإذلال الطاغية، ولو بعد موته.
علاقة الحجاج بالمرأة نجدها مبثوثة في أقدم الأخبار التاريخية. فاسمه اقترن بظاهرة فريدة، لم يتوقف عندها الدارسون، اسمها "المرأة العراقية السجينة"
وعلى الرغم من غموض تلك الأخبار، إلا أن الحجاج يظل أكثر حاكم نقلت عن حقبته أخبار النسوة السجينات. فقد روي أن عدد السجينات في زمنه بلغ "ثلاثين ألف امرأة". وروي أن الرجال والنساء كانوا "محبوسين في موضع واحد"، وأن " قسم من النساء مجردات من الثياب". (العراق في زمن الحجاج - ص 210)، وذُكر أيضا أن سجون الحجاج " يحبس فيها الرجال والنساء مقيدين بقيد واحد"، ومن السجون التي خصصها للنساء (قصر المسيرين) في البصرة. إن كثرة عدد النساء، وتكرار أخبارهن في فترة الحجاج حالة تثير الدهشة، لكنها لا تتناقض مع الواقع، لأنها نشأت بفعل البيئة الثقافية العراقية، التي احتضنت الخوارج. فقد لعبت المرأة الخارجية دورا خطيرا، وإن لم يكن قياديا، لكنه كان موثرا في سير حركة التاريخ. فقد روي أن مقتل الإمام علي ابن أبي طالب تمّ بتدبير من الخارجية الحسناء "قطام"، التي حسبت أن خطتها صممت لكي تصلح حال الأمة، من طريق إزاحة رؤوس الانقسام السياسي كلها من دون تمييز. ولم يكن غريبا أن يتهمها باغضوها بممارسة البغاء. وفي الحقبة الحجاجيّة روي عن هذا التأثيرحين تعرض الدارسون الى سيرة الشاعر عمران بن حطان، الذي ذهب لإصلاح إيمان امرأة خارجية فصيّرته على مذهبها. وهي الحقبة ذاتها التي برز فيها دور غزالة الحرورية، مقاتلة وقائدة عسكرية الى جوار زوجها شبيب الشيباني، على رأس كتيبة مكونة من مئتي امرأة، كما يُروى. وفي الأخبار ذاتها نعثر على جهيزة، أم شبيب، وسط معمعان المعارك، وإن اختلف الرواة حول الاسمين. وفي المشهد الحربي ظهرت اسماء فارسات حسناوات، أمثال "أم العنبر" في جيش الضحاك بن قيس، و"أم حكيم" في جيش قطري، التي قتلت العام 78 هـ. وهي التي كانت ترجز عند القتال:
أخمل رأسا قد سئمت حمله وقد مللت دهنه وحمله
ألا فتي يحمل عني ثقله
( الاغاني 6- 150 وشرح مقامات الحريري 1- 91)
. وروى صاحب العقد الفريد أن الأساليب اللا أخلاقية التي اتبعها قادة بني أمية، أمثال زياد بن أبيه، وعبيد الله بن زياد، حدّت نسبيا، من مشاركة المرأة الخارجية في القتال. فقد كان عبيدالله بن زياد وأبوه قبله لايكتفيان بقتل الخارجيات، بل كانا يعمدان أيضا الى صلبهن عاريات. لذلك تقول إحدى الخارجيات: "لولا التعرية لسارعنا" الى الخروج للقتال. ولكن ذلك لم يقلل من حجم إسهام الخارجيات في المعارك. فقد روى الطبري أن عدد من أصيب من جند الضحاك في إحدى معارك العام 127 ضد الجيش الأموي في الكوفة بلغ " أربعة عشر فارسا وثلاث عشرة امرأة ".
ومن المفيد هنا الحديث عن ظاهرة فرعية فريدة، ومثيرة للانتباه، لم يتوقف الدارسون عندها بالتحليل أو التعليق، نجدها مبثوثة في ثنايا ظاهرة الخارجيات المقاتلات. فقد جرى نعت الخارجيات المقاتلات، المشهورات جميعا، بالحسن والجمال. وهذه صفة مميزة جرى التأكيد عليها عند الحديث عن الخارجية "قطام"، مخططة اغتيال الإمام علي. وهي الصفة عينها التي حملتها "غزالة". ووصفت " أم العنبر" بأنها " أجمل الناس". وروي عن "أم حكيم" أنها رفضت الاقتران بأشراف الخوارج، الذين طلبوا يدها للزواج، وأنها كانت ترجز قائلة:
ألا أن وجها أحسن الله خلقه لأجدر أن يلفي به الحسن جامعا
وأكرم هذا الجرم عن أن يناله تورّك فحل همّه أن يجامعا
( الاغاني 6- 150 وشرح مقامات الحريري 1- 91)
ويعثر المرء على روايات تشير الى أن "جهيزة" الخارجية، أم شبيب الشيباني، كانت من الجميلات أيضا. فقد وصفت بأنها حمراء، ذات طول وحسن. وهي من أبناء السبي، رومية الأصل، لم تـُسلم إلا قبيل ولادة شبيب.
عند تحليل هذه الحزمة من الأخبار نعثر على خيط روائي سرّيّ يربط الأحداث ببعضها، ربما يكون واضحا بقوة في خبر "قطام"، وعلى نحو أقل وضوحا في خبر وقوع عمران بن حطان في أسر امرأة خارجية وتبنيه فكرالخوارج على يدها. لقد نعتت قطام، المتآمرة الحسناء، بالعهر والفجور، وأنها كانت تبيع جسدها. وهي تهمة لا تتناسب عقليا مع الدور السياسي الخطير الذي لعبته، لكنه يصلح تبريرا لتسويغ جريمة قتل الإمام، على أنها حدثت تحت تأثير الفجور والإغراء الجنسي . فالحسن هنا نعت له غايات سردية، حاله كحال الروايات الجنسيّة الحجاجيّة. إن الحسن يشير الى صناعة صورة خيالية، مكتملة العناصر، للمرأة المتمردة من جهة، ويشير الى جعل الإغراء مبثوثا، ضمنا، في محيط حركة الخوارج، باعتبارها حركة مقاومة شعبية، عارضت مشاريع السلطة العائلية كلها، على الرغم من الاعتراف من قبل الجميع بتشددها السياسي والمعتقدي. هذا التشدد نجده ساطعا، لا في الأفعال والمصائر حسب، بل أيضا في مضامين الحوارات والمجادلات العقلية، التي خاضتها النسوة الخارجيات مع رموز البطش الأموي، كعبيد الله بن زياد والحجاج.
أما الملاسنات بين خارجيات والحجاج فكثيرة، أشهرها تلك التي قالت للحجاج إنه جعل "الناس يخرجون من دين الله أفواجا". والخارجية التي قالت له قبل قتلها " إأني لأستحي أن أنظر الى من لا ينظر الله اليه". وكل تلك الإشارات دليل على أن المرأة لم تكن عنصرا طارئا في البيئة العقلية والسياسية العراقية، بل كانت حاضرة فيه بقوة سجينة ومحرضة ومقاتلة ومحاججة.
وهي بيئة لا تشبه غيرها في هذا الجانب. فقد ذكر البلاذري في "أنساب الأشراف" (ص 343) " قاتلت مع عبدالله بن الزبير أربعون امرأة."، وهو عدد ذكر لإكبار دور المرأة، لكنه لا يضاهي حجم ودوافع دور المرأة المقاتلة في العراق.
حفظ الشعر العربي اسم غزالة في غير موضع، فقد ورد في ثنايا قصيدة لأيمن بن خريم بن فاتك الأسدي. أمّا الشاعر عمران بن حطان، الذي كان مطاردا من قبل الحجاج، فقد ذكرها معرضا وشامتا بالحجاج:
أسد علي وفي الحروب نعامة ربداء تجفل من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى بل كان قلبك في جناحي طائر
وفي الأبيات تلميحات الى معركة الكوفة، التي تمكن فيها الخوارج من الدخول اليها وقيام غزالة بالصلاة في مسجدها. لكن الغارة لم تفلح في اللحاق بالحجاج، الذي حالفه الحظ بالوصول مسرعا الى الكوفة والاحتماء بدار الإمارة. كانت هذه الأبيات باكورة الهجاء التحقيري، الذي استخدم المرأة للنيل من جبروت الحجاج. وقد أضحت هذه الرمزية مادة واقعية وحسية في المسلسل التلفزيوني " الحجاج بن يوسف"، حينما مُنح الحجاج فرصة إجراء مبارزة بالسيف مع غزالة! وهذه الطرفة الثقافية العصرية دليل على أن القراءات، في المجتمعات التي لا تملك سيطرة عقلية كاملة على وسائل الاتصال والتدوين، قد تخطئ في تفسير مغازي الأخيلة. بيد أن النيل من الحجاج بواسطة المرأة قابله استنكاف رجولي، لدى مناصري الحجاج، الذين أشهروا رواية مضادة تبطل هذه المبارزة، خلاصتها أن الحجاج رفض طلب غزالة الى النزال، لأنه يأنف أن يقاتل امرأة! إن الخيال العربي يقتتل مستخدما آخر مبتكرات العصر( الانترنيت والفضائيات)، بعد قرون على وقوع الحدث، مؤكدا على أن غياب العقل لم يزل حيّا على أرض الواقع.
احتلت الحياة الأسريّة للحجاج موقعا هاما في الصراع السردي، فظهرت اختلافات عميقة في عدد زوجات الحجاج، وفي أسمائهن، وفي أسباب زواجه، وفي طول معاشرته لهن وطبيعتها. فقد ذكرت المصادر أسماء أم كلثوم بنت عبدالله بن جعفر، وهند بنت المهلب، وهند بنت أسماء، وأم أبان وغيرهن. وذكر مصدر حديث هو جرجي زيدان "هند بنت النعمان"، ربما استنادا الى الأبشيهي. وأضافت مصادر الانترنيت، استنادا الى هند الزيدانية، هندا جديدة سميت هند بنت النعمان بن المنذر. وهي امرأة ترهبت في "دير هند الصغرى"بالكوفة، بعد معركة ذي قار، ( السنة الثانية للهجرة). قيل إن خالد بن الوليد زارها مبجلا، وزارها المغيرة بن شعبة والي الكوفة إبان حكم معاوية عارضا عليها الزواج، وكانت في طور الشيخوخة. والمغيرة هو زوج سابق لأم الحجاج، وقيل إن الحادثة جرى تأليفها، للسخرية من ميل المغيرة الى المفاخرة. وهند الصغرى هي أخت النعمان، وليست ابنته، كما تقول المرويات المسيحية. وقد ثبت الفريد بريمار في كتابه " تأسيس الاسلام" ص 288 ذلك الرأي، مستندا الى مصدر عربي، هو كتاب "الأغاني". لكن الكامل في التاريخ، يذكر خبر طلاق هند بنت المهلب ضمن أخبار سنة إحدى وتسعين. وربما أوحى اسم هند بنت النعمان الى بعضهم أن المعنية بالأمر هي هند اللخمية، أخت النعمان بن المنذر. وفي واقع الأمر أن هندا هذه لم تكن زوج الحجاج، بل كانت أخت زوجته أم إبان، وأم زوجته الصغرى. أمّا ما قيل في حق الحجاج من هجاء، على لسانها، فقد خصت به زوجها الفيض بن محمد الثقفي، على رأي من يصدق الرواية. وبهذا تشعبت الحكاية كثيرا، لكنها ظلت تضرب على الوتر نفسه: إذلال الحجاج جنسيّا، وتطويقه من الجوانب كافة.
لقد استعر الخلاف بقوة حول زوجته أم كلثوم، ابنة ابن عم الحسين، وأخت محمد أحد شهداء كربلاء. يؤكد منصفو الحجاج الواقعة بالقول إن الحجاج أغرى أباها بالمال. بينما ينكر معارضوه قيام هذا الزواج. وهناك من يقرّ به، لكنه يؤكد أنها طلقت بأمر من عبدالملك بن مروان. أما هند بنت المهلب، فزواجها ثابت لدى معظم الرواة، وأسبابه لها صلة بالسلطة والمكانة. وتؤكد الروايات أيضا طلاقها. فقد اتفقت المصادر على أن الحجاج طلب يزيد بن المهلب لمال بذمته يخص الخلافة. أما المصادر الموالية للحجاج فقد جعلت الحجاج يأمر بحبسه وتعذيبه لفسقه وزناه بامرأة متزوجة قتل زوجها ليفسق بها. وذكر ابن الأثير خبر تعذيب يزيد بن المهلب على يد الحجاج، وسماع هند صوته يتألم، فراحت تولول، مما دفع الحجاج الى تطليقها. وذكر كتاب الانساب للصحاري "أنه خشي أن تقتله". قيل عن هند إنها من عقلاء الناس، وقد رفضت أن تقبل مبلغ الطلاق الذي قدمه الحجاج لها احتقارا له. إن الخيال السردي جموح، لا يعترف بالتاريخ، ولا يتوقف عند حد، فقد مضى بعيدا صانعا مواجهة حادة وساخرة بين الحجاج وهند بنت المهلب، تقوم على مبدأ الاحتقارالجنسي، تستخدم فيها الأشعار للذم، ويُنعت فيها الحجاج بالبغل والكلب، ويؤمر من قبل عبد الملك بمرافقة هودج هند حتى الشام، لكي تتم زواجها بعبدالملك. وهذه الرواية، بتفاصيلها العجيبة، لا تعدو أن تكون خيالا تعويضيا، يهدف الى ترويح الذات المعذبة وإرضائها. وفي حقيقة الأمر تم طلاق هند من الحجاج عام 91 هـ، أي بعد موت عبد الملك بخمس سنوات. ولم يتوقف الأمر على هند بنت المهلب، فقد نسبت الحكاية ذاتها الى هند بنت النعمان أخت وأم زوجتيه، والى هند بنت أسماء، والى هند بنت النعمان بن المنذر في رواية رابعة، فتعاظم جانبها الخيالي. وربما أغرت هذه الروايات معدي مسلسل الحجاج التلفزيوني، الذين أضافوا طرفة خالية من الذكاء، جعلت الحجاج يعتزم الاقتران بسكينة بنت الحسين، التي خذلته عاطفيا أيضا. أما جرجي زيدان فيضع الحجاج في مواجهة زوجته، التي هي عنده هند بنت النعمان، التي تتآمر عليه لأنها تبغضه وتتمنى هلاكه (زيدان- ص 150). وربما يكون زيدان يعني هند بنت أسماء، التي يروى أنها كانت تحب في شبابها عبيدالله بن زياد والي العراق، لكنها أرغمت على الزواج بآخر. وفي رواية الدينوري في (الاخبار الطوال) أنها كانت زوجة ابن زياد قبل الحجاج. لقد أراد الحجاج أن يقوي نسبه بتلك المصاهرات العالية المقام، وكان له ما أراد. لكن المخيلة السردية التاريخية، قررت استلابه كل ما حصل عليه، وزادت في جرعة السلب حينما صيّرت تلك المصاهرات دليلا سلوكيا مهينا، يثبت خيبة الحجاج واضطراب حياته النفسية والجنسية.
لم تسلم أسرة الحجاج من الثلم الأخلاقي أيضا، فقد ذكر ابن قيم الجوزية في "أخبار النساء" (ص26 ) أن الشاعر محمد بن عبدالله النميري التقى زينب أخت الحجاج من أبيه، وهي في طريقها الى الحج، فاستحسن جمالها وتغزّل بها:
تضوع مسكا بطن نعمان إذ مشت به زينب في نسوة عطرات
وقد انقذه عبد الملك من غضب الحجاج. لقد خسر خصوم الحجاج هذه الواقعة المؤكدة، لسبب تعصبي. فقد وردت لدى ابن الجوزية، الذي لا يقرؤه خصوم الحجاج كثيرا. كما فاتتهم رواية المرزباني، التي تدعي أن " إبان بن الحجاج بن يوسف كان مأبونا" (فاسد الخلق)، ورد ذلك في "نور القبس" ج1 ص 68 . ويروي الاصفهاني في الاغاني ج 8 ص 135 أن حميدة (وربما هند بنت النعمان، التي كانت تحت ابن زنباع أيضا)أم زوجته، وهي زوجة سابقة لقائد الشرطة روح بن زنباع، كانت تتندر على الحجاج جنسيا. لكنه هددها حينما جاءته الى العراق:" إني كنت احتمل مزاحك مرة، وأما اليوم فإني بالعراق وهو قوم سوء، فإياك"، فوعدت بالكف. وهذا دليل جدي على درجة تأثير الدعاية في نفس الحاكم ومكانته. ولم يسلم الحجاج حتى من كره بعض الأمويين واحتقارهم. فقد وجدنا هذا في موقف سليمان بن عبدالملك منه في خصومته مع آل المهلب. ولم يكن موقف أم البنين بنت عبد العزيز، زوج الخليفة الوليد، أقل بغضا من مواقف غير الأمويات. فقد أصرت على مقابلته عند زيارته دمشق، ووصفته بأنه جبان وقاتل، وأنه احتمى بسيف الخلافة.
وللأسباب عينها نجد أن علاقة الحجاج بالنساء تصبح جزءا من قصص" ألف ليلة وليلة". فقد لعب الحجاج دور السمسار في القصة المسماة " نعمة ونعم". (ألف ليلة وليلة، ج2- ص288-دار العلم والمعرفة- مصر- 2004 ). وخلاصة الحكاية ان "نعمة"، ابن التاجر الكوفي الربيع، يتزوج بجارية جميلة اسمها "نعم". لكن الحجاج يعلم من طريق جواسيسه من النساء بجمالها، فيقرر اختطافها وإرسالها هدية الى عبد الملك لغرض إمتاعه، وتنجح خطته. لكن الأقدار السعيدة تمكن "نعمة" و"نعم" من الالتقاء وكشف مؤامرة الحجاج وإفشالها بمساعدة من الخليفة عبد الملك بن مروان.
ولم يكن تكرار اسم عبدالملك زوجا أو منقذا خاليا من الدلالة التاريخية أيضا. إن المرويات العربية، حتى المناصرة للأمويين، لا تنكر أن عبد الملك ، كما يذكر الاصفهاني، في الأغاني، ج20 " كان شديد الشغف بالنساء، فلما أسنّ ضعف عنده الجماع، وازداد غرامه بهن".
حكاية "نعمة ونعم" نجدها مصاغة عند جرجي زيدان بطريقة جديدة. فبدلا من "نعم" نرى "سمية"، وبدلا من" نعمة" نجد "حسن"، وهما كوفيان أيضا. لكن "سمية" لا تـُختطف من قبل الحجاج، وإنما يتم إغراء أبيها ودفعه الى تزويجها بالحجاج قسرا. وهذا يذكر بزواج أم كلثوم في الرواية التاريخية. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تصل المضاهاة حدودا أعلى حينما يقوم عبد الملك بن مروان، في اللحظة الأخيرة، بانقاذهما من براثن الحجاج الجنسية. وهنا يظهر تطابق جديد مع حكاية "ألف ليلة وليلة" ومع الرواية التاريخية الخاصة بطلاق هند بنت المهلب وأم كلثوم. ( زيدان – 202). وفي الأحوال جميعها، كان الحجاج، الذي ربح معارك السيف كلها، هو الخاسر الأكبر في مواجهة النساء كلهن، وهو المستذل الأكبر في المعارك الجنسية كافة.
إذا كانت الرغبة السياسية في التشفي هي من دفع خصوم الحجاج الى إذلاله جنسيا، فما دوافع زيدان ومطوري نصوص "ألف ليلة وليلة"؟ إن الخيال الروائي لا ينبع من فراغ، بل يستلهم البيئة والحدث التاريخي ويعيد تأسيسهما بطريقة مشوقة. هذا ما فعله زيدان، وهذا ما طبع قصص "ألف ليلة وليلة" وإضافاتها العربية والأجنبية، وهو عين ما قامت به السرديات العربية التاريخية، التي كانت تعيد إنتاج ما يتشوق الناس الى سماعه من مفارقات تاريخية طريفة، بالاستناد الى بعض ما يقدمه الواقع من أحداث، وبعض ما يوافق أهواء الناس. وتلك خصيصة الأدب الشعبي عامة.
النص الكامل- الجزء الثالث من موضوع ( الحجاج: صاحب العذاب)



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الزمالات الحزبية والتربية الشيوعية: مذاق الشر!
- من البابا أوربان الثاني الى البابا القرضاوي
- سلام عبود - باحث تربوي وناقد وروائي - في حوار مفتوح مع القار ...
- اتحاد السنّة والشيعة خطة تصعب مقاومتها!
- آبار للنفط وأخريات للأحقاد
- فرحة الزهرة وأحزانها: معادلات الموت والميلاد
- خطة صحية ناجحة، في خدمة الأموات فقط
- رحلة الموت السعيد من المنبع الى المصبّ
- ألغاز السياحة الدينية في زمن المفخخات
- موسم صيد الطرائد الشيعيّة
- مواكب عزاء لحماية الإثم السياسي!
- الطائفيّة أفيون الشعوب الإسلاميّة! (خطر احتكار الحقيقة دينيّ ...
- بعض ملامح الواقع العراقي على ضوء المنهج الفرويدي وعلم الاجتم ...
- ثورة عراقية في فن التزوير
- لقد ابتلع السنة الطُعم الشيعي، وابتلع اليسار الخيبة والتشرذم ...
- الثورة والكرامة بين الفلسفة والأخلاق والسياسة
- شاعر لكل البشر
- عدن: مرثية البحث عن الجنة!
- دور الاحتلال في رسم صورة الحاكم العراقي
- من يرسم حدود العراق ج2


المزيد.....




- -عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
- خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
- الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
- 71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل ...
- 20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ ...
- الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على ...
- الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية ...
- روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر ...
- هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
- عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز ...


المزيد.....

- لمحات من تاريخ اتفاقات السلام / المنصور جعفر
- كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين) ... / عبدالرؤوف بطيخ
- علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل / رشيد غويلب
- الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه ... / عباس عبود سالم
- البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت ... / عبد الحسين شعبان
- المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية / خالد الخالدي
- إشكالية العلاقة بين الدين والعنف / محمد عمارة تقي الدين
- سيناء حيث أنا . سنوات التيه / أشرف العناني
- الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل ... / محمد عبد الشفيع عيسى
- الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير ... / محمد الحنفي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - سلام عبود - الذاكرة السردية تنتقم جنسيا: الحجاج الثقفي