|
العرس
عبد الستار البلشي
الحوار المتمدن-العدد: 4179 - 2013 / 8 / 9 - 00:40
المحور:
الادب والفن
بأكوام من المال تزوج الأبله ابن الحسب والنسب الجميلة الفقيرة، أو بالأحرى زفوها مكرهة إليه، هو من كانت كل النساء لديه سواء، فهو منذ بلوغه الحلم كان يطلب الأنثى كأنثى، لا يعنيه فى كثير أو قليل نصيبها من الجمال ناهيك بأى اعتبار اجتماعى آخر. ولولا صولاته البلهاء وتهجمه على كل غادية ورائحة حتى شاعت فضائحه فى البلدة لما دار بخلد أهله مسألة زواجه من الأصل، لكنهم وقد انعقدت نيتهم على تزويجه ولأنهم أول من يعلم باستحالة زواجه ممن تدانيهم فى الثراء أو الأصل حتى لو كانت دميمة، لم يروا بأسا من تزويجه بفقيرة شريطة أن تكون جميلة. لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث، فقد كانت العروس "فاطمة بنت معووجة" مطروحة منذ فترة كخيار أول فى حال إقدامهم على زواجه الذى أصبح مع الوقت مسألة محسومة. على الفور تم الاتفاق على كافة التفاصيل وتحديد موعد الزفاف بعد شالاتفاق على مهر فاق أكثر أحلام أهل العروس شططا وتقديم شبكة ثمينة تتفق وقدر أهل العريس. ***** ليلة العرس كان العريس محط أنظار الجميع؛ تحرسه عيون الأهل متوجسة، وتعد عليه عيون المدعوين حركاته ولفتاته كمادة محتملة للتندر والبهجة. لكنه خلافا لكل التوقعات بدا من أول الليل متزنا، لا يلفت النظر فيه سوى حركته النشطة زيادة بعض الشئ عما يلزم، وفرحته الغامرة التى تطفح بها كافة أساريره، والتى لم يحاول التحكم فيها ورسم القدر الواجب من الجدية. فى الإجمال فاجأ أهله والناس جميعا بشخص غير من يعرفونه. شخص يعرف كيف يحتفى بالمدعوين، وكيف يتجاذب أطراف الحديث على نحو عابر من فرد إلى آخر كتحية غير مباشرة منه للحضور. الحالة الوحيدة التى شذ فيها عن صورته الجديدة، كانت فقط عندما جلس بجوار عروسه ولامست ساقه ساقها؛ عندها ـ على رغمه ـ تكور ما بين ساقيه وعراه توتر فاضح، حاول جاهدا اخفاءه ولملمة نفسه، لكن عيون الصبية الأشقياء فطنت له وتبادلوا فيما بينهم الإشارات الساخرة والضحكات المكتومة، حتى تمكن بعد جهد كبير من إخماد فورته، ومن ثم قام من جانب عروسه. وعاد كما كان مرحا مبتهجا. وعند انتصاف الليل أقدم على مغامرته الكبيرة؛ عندما وثب فى خفة إلى النصبة حيث الراقصة، وظل يراقبها ـ طويلا ـ عن قرب، ليفاجئ بعد ذلك الجميع بمشاركته إياها الرقص، وكانت هى المرة الأولى التى نراه فيها يراقص امرأة بهذا القرب. كان الموقف فى جملته مباغتا ومعبأ باحتمالات شيطانية واعدا بالإثارة. لكنه ببساطة متناهية تجاوز كل توقعاتنا، وخلص من الهواجس التى تتطاير من حوله، وانخرط فى وصلة من الرقص الخالص، دون أدنى اهتمام منه بشعلة النار التى تتراقص على بعد ذراع منه. بدأ الرقص بخطوات مرتبكة يضرب بها أرض النصبة ضربات لا انتظام فيها ولا تمت للرقص بصلة، حتى دفعته الراقصة فى صدره بدلال طالبة منه الابتعاد حتى لا يفسد عليها شغلها ويفسد الليلة كلها، لكنه ابتسم فى سماحة وواصل رقصه واقترب منها حتى كاد يلاصقها، وهى تتلوى بين ذراعيه تقريبا وترمى صدرها للخلف غامزة بعينها فى إغراء عابث، حتى بدأ أهله يتململون فى مقاعدهم ويتبادلون النظرات فى قلق داعين الله أن تمر هذه الليلة على خير، وتهامس المدعوون فى فرح خبيث: اقتربت النار من البنزين، وسنعيش ليلة من ليالى العمر. وبتواطئى لم يرتبوا له، بدأ المدعوون يصفقون له تصفيقا موقعا ويهتفون فى إغراء: ارقص . . قرب. وكانت الشرارة التى بدأ بها جسده فى التخلص من توتره وسابق تخشبه وأصبح سلسا طيعا لنداءات الناس. و بلا دربة اندفع فى رقص بلدى لا يميزه عن غيره سوى عنف الحركة و فجاجتها و النشاز الواضح الذى أثار موجات من الضحك. وقليلا. . قليلا بدأ رقصه يخرج عن إيقاع المصفقين لينتظم فى إيقاع غير مسبوق، انفصل به عن الرقص المتعارف عليه، ودخل عالما يخصه وحده، استسلم فيه لرقصته الخاصة، رقصة جاءت على غير منوال سابق ولا تحدها قواعد معروفة. لم تكن على قدر كبير من المهارة، بقدر ما كانت امتثالا وتجليا لما يعتمل فى صدره من فرح وتشوف ونزوع إلى التحقق. أوغل فى الرقص حتى الذهول، و نأى بعيدا عن العروس والأهل والراقصة والناس أجمعين. منطلقا كالمهر لا يلوى على شىء فى فضاء لا وجود فيه لغيره. كان الناس قد كفوا من فترة عن التصفيق عندما عجزوا عن مجاراة رقصة لم يألفوها وعيونهم تتابع فى افتتان حركة الجسم والقدمين المحكومة بتناغم غير خاف وغير مألوف، ولم تسلم العروس أيضا من الحالة التى شملت الجميع، لكنها الوحيدة التى كانت تجاهد كى ترسم الامتعاض على وجهها فى مغالبة منها لما كان يكتسحها من انبهار. وفى آخر الليل وهم يزفونه سيرا على الأقدام إلى شقته القريبة بعد انتهاء الحفل، عاد لما كان عليه أول الليل، بل كان أكثر ثباتا وهو يسير منتصب القامة مزهوا بنفسه وبعروسه الجميلة التى كانت تسير متخشبة بجواره، حتى فصل باب الشقة بينهما وبين الباقين. ***** فى غرفة النوم، وعلى خلفية من نصائح الأهل، ابتسم فى أريحية ردا على ما أبدته عروسه من ضيق عندما حاول مساعدتها فى خلع طرحة الزفاف، وظل يتابعها عن بعد حتى غيرت كامل ملابسها ثم لاذت بالسرير. تمدد بجوارها فولته ظهرها. حاول الاقتراب منها فتباعدت عنه بما يشبه الخوف. مد يده إلى كتفها العارى فهزته فى رفض. نفخ فى ضيق، وتمدد على ظهره فى عجز حتى غلبه النوم. تكرر الأمر لليلة الثانية ثم للثالثة على التوالى. نفس السعى المترفق والمشحون بالرجاء منه، ونفس الرفض الحاسم من الزوجة التى زايلها مع الوقت وجلها، وتحول ضيقها إلى صد واضح، ثم إلى نفور لم تعن ببذل أى جهد لإخفائه. جبهته الحقيقة سافرة، وتلقى طعنة رفضه الباتر فى ألم، وأسلمه لليأس إحساس جارف بالهوان. ***** عجز عقله البسيط عن تفسير سبب هذا النفور العدوانى منها، وعز عليه مجاهرة الأهل به. ***** فى الليلة التالية كف عن طلبها، ورفضا برفض ولاها ظهره، فتلقت إعراضه هذا برضى، متمنية أن يكون بداية لإعراض ممتد وأن لا يكون مجرد يأس عابر أو السكون الذى يسبق نفاذ الصبر منه، حتى مرت هذه الليلة دون أن تصدر عنه أدنى حركة. أثار دهشتها تكرار نفس الشئ فى الليلة التى تلتها واستوقفها كذلك تخشبه الكامل على وضعية واحدة ـ فى طرف السرير ـ مكنتها من التقلب فى الفراش بحرية كاملة، خصوصا وأن تقلبها هذا لم يصادف بأى رد فعل منه. ثم لم تلبث أن كفت عن التحسب فى تحركها، ولم تعد تتحفظ فى ملبسها أو سلوكها، لكن ما أصبح أقل ترحيبا منها، أو بالدقة ما أصبح يثير بعضا من غيظها هو التفاته الكامل عنها سواء كانت فى كامل ملابسها أو متخففة فى ملابس النوم، أو إذا ما انحسرت الثياب عن جسمها قصدا أو بغير قصد، وحتى عندما تصحو من النوم شبه عارية تجمعهما ذات الوسادة، تجده أكثر نأيا متحصنا بقوقعته كحيوان بحرى. أصبحت قليلة النوم حادة الطبع متقلبة المزاج، تنفر منه إلى حد النقمة وصب اللعنات عليه من وراء ظهره، أو تقبل عليه وتقترب منه إلى حد التودد والمراودة الصريحة، وهو لا يزداد إلا تكدرا وإمعانا فى النأى والعناد. استمر هذا الطراد الصامت العقيم بينهما حتى كانت هذه الليلة، التى استيقظت فيها مذعورة على صوت انتحاب صادر عنه. ارتجفت من وقع بكائه، وانقبضت روحها من هول ما يحمله من حزن. تقلبت على الفراش لفترة يداخلها إحساس بقلة الحيلة، ثم ما لبثت أن سحبت نصفها التحتى متكدرة واستندت بظهرها على شباك السرير. رنت إليه طويلا بشفقة يخالطها الألم، ثم مالت ناحيته متكئة على كوعها، ونادته لأول مرة باسمه، فوجدته ـ خلافا لظنها ـ نائما. مدت إليه يدها وهزته برفق. صحا من نوم بدا ثقيلا ولم يلتفت إليها. سألته بقلق: خير؟ هل آتيك بكوب من الماء؟ لم يرد. انحنت عليه حتى لفحت أنفاسها الحارة رقبته، وهتفت به فى حنو: مالك ؟ فعض على شفته السفلى بقوة، وهو يحاول ـ جاهدا ـ السيطرة على انتفاضات جسده، وكبح دموعه التى انسابت ساخنة ـ على وجهه ـ على الرغم منه.
#عبد_الستار_البلشي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مطاردة
-
حكاية الرجل و النمر الذى تحول كلبا
-
صباح باللبن
المزيد.....
-
فيلم صيني بيلاروسي مشترك عن الحرب العالمية الثانية
-
-آثارها الجانبية الرقص-.. شركة تستخدم الموسيقى لعلاج الخرف
-
سوريا.. نقابة الفنانين تعيد 100 نجم فصلوا إبان حكم الأسد (صو
...
-
من برونر النازي معلم حافظ الأسد فنون القمع والتعذيب؟
-
حماس تدعو لترجمة القرارات الأممية إلى خطوات تنهي الاحتلال وت
...
-
محكمة برازيلية تتهم المغنية البريطانية أديل بسرقة أغنية
-
نور الدين هواري: مستقبل واعد للذكاء الاصطناعي باللغة العربية
...
-
دراسة تحليلية لتحديات -العمل الشعبي الفلسطيني في أوروبا- في
...
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|