شاكر حمد
الحوار المتمدن-العدد: 4177 - 2013 / 8 / 7 - 22:35
المحور:
الادب والفن
(2)
بدأ الفنان رحلته الفنية منذ أيام الخطوط العبثية على الطين ... ( يدي الأكثر صدقا والأعمق ثقةَ بددت خرسي. في الطين إكتشفت كياناَ خفياَ آخرغير الذي أحمله, ينطلق بقدراته؛ ما إن أمد يدي وأحفر السطح المتاح. هل قيضت لي تلك الواقعة العفوية أن أكون فناناَ وحفاراَ فيما بعد؟..) ذاكرة الفنان تحمل كنزاً من الرقيمات الطينية والنقوش الفضية, الحرفة الموروثة في سلالة الأسرة, حرفة النقش اليدوي على الذهب والفضة ومن ثم التطعيم بالمينة, وتحديداَ المينة السوداء على الفضة, حرفة الأب .ويمكن إعتبار سيرة الفنان –اللونية- إمتداداَ لثقافته الحِرَفيّة في المينة , وتكمن قيمتها السحرية في الأدوات ؛ ملاقط ,مبارد , بواتق صهر, مواد لحام , حوامض وأملاح ومواقد للنيران وكوَر. أي مشغل الورشة- غير المرسم الأنيق - . والورشة المتوهجة بهذا التشغيل تهيئ لعناصر التوصيل اليدوية – البدنية للتعامل بالمواد المحترقة والمنصهرة والسائلة في قوالب. وبالتالي إنتاج مادة مبهرة وعالية القيمة. أتصور أن الفنان أحب مهنة الصياغة لقيمتها التأريخية- المقدسة في ثقافة الطائفة المندائية أولاَ, وقيمتها الجمالية العالية بقيمة الذهب ثانياً. يعمل الصاغة في ورش شبه مظلمة, كالأقبية السرية, حفاظاً على بقاء خصائص المهنة وأسرارها في محيط الأسرة والطائفة.- أتيح لي أن أتعرف , عن قرب , على هذه الورشات في البصرة , بحكم رغبتي في معرفة هذه الأجواء الخاصة, أيام كنت مدرباً لقسم المعادن في مركز الأشغال اليدوية في البصرة - وسط هذه التقاليد وطقوسها اليومية وشخوص رجالها الكبار- أساتذة المهنة – نشأ الفنان - أستذكرهنا أن يحيى الشيخ كان أكثر طلبة درس الكرافيك نشاطاَ في مادة الحفر على الزنك وحفر الخشب للطباعة , في سنوات الأكاديمية. وكان يستحضر معه أقلام حفريستخدمها الصاغة . يتحدث الفنان عن سنوات اكاديمية الفنون الجميلة في بغداد (للأعوام 62- 66) وإلى الأساتذة الكبار الثلاثة وهم البولوني رومان آرتموفسكي والمقدوني فكتور لازسكي والعراقي فائق حسن..أي الفن الأوربي المعاصر. وللأمانة التأريخية نقول أن هؤلاء الثلاثة غيروا إتجاهات الفن العراقي نحو التجديد في مفهوم بناء اللوحة؛ أدخل آرتموفسكي فن الكرافيك بتقنيات الطباعة الحجرية (ليثوغراف) والحفر على الزنك والحفر على الخشب الصلب للطباعة – وبتعدد وتنوع الأساليب والتقنيات. وأدخل لازسكي فن الجداريات و تدريس العناصر والإنشاء التصويري. ومعهما لايمكن إغفال فائق حسن , مدرس مادة الألوان, وإسلوب عمل المدرسة الفرنسية.
الجديد في دروس هؤلاء هو النهج التجريبي وتدريس أصول الحداثة وما بعد الحداثة, في الألوان والتقنية والجداريات وتحضير السطوح بالمواد الخشنة والكولاج وحرق السطوح الزيتية , أي تربية أصول التحرر من القوالب الكلاسيكية.. ينبغي التأكيد هنا على أن الموجة الستينية ,في الفن التشكيلي, تأثرت الى حد بعيد بأساليب هؤلاء الأساتذة وبموجة المعارض الشخصية لشاكر حسن آل سعيد – في مجموعة ورقيات بعنوان(معاريج) – جمع معراج- بالألوان المائية وبالأسود والأبيض وبحجوم كبيرة. ومعرض كاظم حيدر – معرض ملحمة الشهيد - وسعدي الكعبي وأسماعيل فتاح الترك ورافع الناصري ومعرض جماعة المجددين ومنهم الفنان يحيى الشيخ والعديد من المعارض الأوربية التي أقيمت في بغداد, لكن أهم المعارض الشخصية المقامة في بغداد عام 64 هو معرض آرتموفسكي في قاعة الواسطي , والذي قدم رؤيا جديدة في أعما ل ورقية كبيرة الحجم وبالأسود والأبيض من معطيات المدرسة البولندية في التجريد... يقول يحيى الشيخ في سيرته(تكللت السنة اليتيمة في السعودية عام 66 برسومات حرة بعيداً عن مراسم الأكاديمية ومناخ الأصدقاء وتقييماتهم...... رهاني كان على تجريبية إزدادت تبلوراً عبر عمل يومي إنتهى الى مجموعة ورقية بالألوان المائية " كواش" آنذاك كانت رسومات رومان آرتموفسكي وشاكر حسن المائية قد أكدت حضورها.)
إتسمت الموجة الستينية بالتجاوز على الأنساق التقليدية,إختفت الواقعية والإنطباعية ما عدا خالد الجادر لخصوصية إنطباعيته التعبيرية المتأثرة بإنطباعية الفرنسي كوكوشكا,في الواقع أن الفن العراقي لم يقم على أسس واقعية - أكاديمية , بإستثناء بعض المحاولات الفردية الإنطباعية. .ويمكن القول أن المعارض الستينية الحداثوية قضت على النتائج التي توصلت إليها جماعات الرواد, وخلعت معطف ( جماعة بغداد للفن الحديث) وعناصرها المكانية – رموز بغدادية وإسلامية- وإستلهام تكعيبية بيكاسو وتجريدات بول كلي شرقية الطابع. خطوط مستقيمة وإنكسارات ومنحنيات – نمط جواد سليم وشاكر حسن في الخمسينيات... ليودع هذه المرحلة في معرض يسبق معرض الورقيات المائية وآخر لوحة بحجم كبير بعنوان ( عائلة مشردة وقمر) وفيها محاولة جدية و( موضوع ومضمون ) وأسلوب يبتعد عن التكعيبية التي ميزت الحقبة الخمسينية . أظهر هذا العمل هاجس القلق الفكري في بحثهِ عن لغة تشكيلية, تواجه الموجة التحديثية الصاخبة... بعدها ينفرد شاكر حسن بعالمهِ المشار إليه في التجريد والتنظير- تأويل المنجز الحرفي للتأمل التصوفي-
الطاقات التجريدية , الشبابية, الباحثةِ عن التغريب وجدت في تقنيات الخامات البدائية كالصفائح ومواد الخردة والخشب والقش والليف والحبال والصوف والكولاج بكل أنواعه , عالماً متحرراً من القيود والشروط – التقليدية- في تصميم اللوحة وسطحها وفراغاتها وقد تحولت التجارب إلى أسئلة من قبيل( لماذا تؤطر اللوحة؟ لماذا لاتدخل الفجوات والثقوب المحروقة في سطح اللوحة؟ لماذا لاتحرق اللوحة بالكامل؟ لماذا لانستبدل الصبغات اللونية بمواد أخرى؟ من ذلك تجربة صالح الجميعي في إستخدام صفائح الزنك المهملة بعد إنتهاء صلاحيتها في مطبعة ثنيان حيث كان يعمل فيها .
والأهم في هذه المرحلة (إلغاء الألوان) والعمل باللونين الأبيض والأسود او بأحدهما فقط . بإختصار كان دور آرتموفسكي حاضراً وبالأخص في معرض المجددين .
طرح آرتموفسكي مفهوماً جديداً لسطح اللوحة الورقية وتقنية الألوان المائية في مسوحات متدرجة من الشفافية الى العتمة , إلغاء الخطوط الحادة وإحلال التضاريس والتمجوجات والغيوم بالأبيض والأسود و التناظر والسطوح الزجاجية- الظاهرة المميزة في معرض آرتموفسكي- وعلاقات الفراغات والكتل والكولاجات بكل أنواعها.والظاهرة الأبرز في هذا الأسلوب إلغاء التشخيصات, وكل ما يدل أو يوحي بالشكل الواقعي أو الإنسان أو الشكل الطبيعي المباشر , وهكذا إصطدم المتلقي التشكيلي برؤيا جديدة أحدثت تحولاً في مسار التجريد الستيني. (لأول مرة يجتاح ماضيي حاضري بهذه القوة. هل عبر ذلك البستان؟ بستان الذاكرة الذي على تخومها, وهو يحمل شيء من البقايا، أشكال اشنية, لحاء شجر متغضن, صفائح "جينكو"منخورة. بدت حقولاً وهضاباً محروثة, لالون فيها غير الأسود والأصفر مع شروخ بيضاء كأقلام الحراثة بتضاريسها. أنجزت المجموعة وشاركت بأربعة منها في آخر معرض للمجددين, وأخذت الباقي معي الى لوبليانا وهناك ضيعتها.) .
أسهمت التجريبية الستينية في خلق تقاليد – الحاسة الكرافيكية- وتسلطها على ظاهرة الرسم الحديث إجمالاً,وعند تأمل إنعكاسات هذه الموجة التجريبية نقف على ظواهرها المزدوجة ومن إنعكاساتها ؛ تراجع لغة الألوان ,الى حد الخوف من لغة الألوان والإكتفاء بقدسية وسمو اللون الأسود وإلغاء المراحل الدراسية , التشخيصية منها ومدارس الفن الحديت التقليدية, والإستهانة بعناصر الرسم الأخرى, بمعنى آخر فن مابعد الحداثة وهو ما حققه ( المجددون) في معرضهم وما بعده. وقد إختص بهذا الإتجاه – الكرافيكي – سالم الدباغ وهاشم سمرجي ويحيى الشيخ وفائق حسين..أما رافع الناصري – الكرافيكي – فقد تحول بجدارة عن قيود اللون الأسود وتقنية الطباعة بتوظيف مايمكن وصفه بالثقافة اللونية الشاملة, مزاوجة الكرافيكية بألوان فائق حسن الصحراوية.
أنتجت المرحلة الستينية خطاباً تأويلياً لمنجزها التجريبي – الحرفي, تماهى في تعليل السببيات الخارجة عن الرسم ومادته ومحتويات المرسم, وبعيدة عن اللحظات الحسية, التشويقية للرسم. أي اللحظات التي إتخذ فيها العمل الفني وجهةً تنظيرية. فغدت تقليعة البيانات تتصدر مطويات المعارض الشخصية والجماعية, إبتداءً من ( البيان التأملي ) لشاكر حسن آل سعيد لمعرضه . وعادت للظهورنزعة ألتأويل الأدبي والبيانات لتشمل المعارض الشخصية والمشتركة في مطلع السبعينيات من القرن الماضي. وإتسمت البيانات بالتأويل الفلسفي المتأثر بالموجات الثقافية والأدبية الستينية الأوربية القادمة عبر دور النشر اللبنانية. وقد حظي هذا الإتجاه بمباركة السلطة البعثية, التي رأت فيه مايخدم منهجها في التقاطع مع الأفكار الماركسية .
ويمكن تسمية العقد الستيني بالمرحلة الرمادية في الفن التشكيلي العراقي,التمرد على القيم اللونية, وعلى الصبغات اللونية, و على دروس لازسكي وهي ألأساس العملي للحداثة في الرسم. فطغيان النزعة الكرافيكية ترافق مع نمط فقر الألوان الذي ميَّز دروس فائق حسن وإعتماده أساليب المدرسة الفرنسية, ماقبل الإنطباعية, سواء في دراسة الموديلات أم في جمع الأشياء غير الحية( الطبيعة الصامتة ) وتتشكل في الغالب من نحاسيات صدئة وفخاريات غير مزججة وبيئة معتمة.
أثناء دراسة يحيى الشيخ لفن الكرافيك في لوبليانا-إسبانيا , ينجز مجموعة من الورقيات المطبوعة على الزنك,في تخاطر الروح مع المكان (أنا دائماً أعود إليه بالرغم من أنني أزداد تجريداً, وإختزالاً.....أحياناً لو لم أقد نفسي الى ألف مكان ومكان؛ هل كنت أستطيع أن أرسم؟ أليس الرسم مكان نؤثثه بالماضي ويسكنه المستقبل؟.....في الغابة "تيفولي" التي تتوسط المدينة عثرت على حبي السلوفاكي البكر, يفترش أوراق الخريف الذابلة, ذهب , وقصدير , ونحاس صدئ أطلقت له نشيدي عارياً......هناك أنجزت عملي الكرافيكي المتميز والخطير من بين كل أعمالي من ناحية تأثيره وفعّاليته في رسمي لاحقاً.... أسميته " إنشاء الإنسان وألأشياء"). قبل أن نقرأ وصف الفنان لتجربته الإستكشافيه لموضوع هذه اللوحة ومضمونها , نتوقف عند علاقة الفنان بالمكان الذي شكَّل هذه السببية في المنجز الكرافيكي. هنا يلتقط الفنان عناصر ومكونات مادته المحورية من الطبيعة الغنية بالتحف الأرضية بألوانها الذهبية والنحاسية والقصديرية, لتكون المحورلموضوع ( مستهل واسع للعلاقة الجينية بيني وبين الأشياء) - اللوحة غير منشورة في الكتاب - ونطل عليها من خلال تأملات الفنان, وتتألف من ورقة شجرة يطبعها على لوح زنك وعلى أرضية بمثابة ألواح خشب وأكف متداخلة مشتبكة مع خيوط وأسلاك ملتوية.....( هذه اللوحة كانت ميثاقي الأول مع آلهة الفن ).يجمع الفنان أعماله الكرافيكية في معرض ( مع المعرض أصدرت بياني الأول " الحدث الفني" كنت تحت تأثير أفكار المثالية ألأولى, أرى الأشياء تمارس حضوراً قصدياً طاغياً, وكأنها وعي مماثل أتحدث عنها كما أتحدث عن نفسي) وتدخل هذه الأعمال في الميدان التعبوي, ملصقات للمقاومة الفلسطينية, وموجة معارض عن الجبهة الوطنية والتضامن مع الشعب التشيلي. مع التغيرات المخادعة التي لاحت في سياسة السلطة. دخلت التجارب الفنية ميدان المخاطبة الجماهيرية المباشرة . في مناخ المقاومة الفلسطينية وحرب أكتوبر ومعرض الحزب الشيوعي العراقي لمناسبة الذكرى الأربعين لتأسيسه..وتراجع نسبياً فن المرحلة الرمادية لصالح فن التعبئة القابل للتفسير- الديالكتيكي – وبما أن فن الكرافيك يقوم على عناصر قريبة من فن الملصق السياسي, فبالإمكان وضع مطبوعات يحيى الشيخ في هذا الباب كتب عنها سعيد السعدي في نقده لمعرض الشيخ عام 71 – النص الوارد في الكتاب مايلي (إنه إبتعاد عن الغايات, إبتعاد مأساوي و مدمر . إن المعادلة التي يوازنها الشيخ هي معادلة قاسية وصعبة ومؤلمة؛ شرعية أن تعيش تساوي شرعية أن تموت. شرعية أن تقطع المسافات تساوي شرعية أن لاتصل. إن الشيخ يمارس عملية الرسم بوعي وقصدية شاخصة, ولذلك فإنه يدرك ويعاني تماماً من إنقسام العالم الى مالانهاية ومن تجمعه الى مالانهاية, كما يقول إيلوار). ونضيف أن هذا التحليل ينطبق على تجربة الفنان في الحفر وبإنشغالهِ في أعماق مضمون العمل الفني, المضمون الإنساني الذي إنعكست فيه الصراعات والتناقضات التي سادت النصف الأول من العقد السبعيني الماضي.
*
#شاكر_حمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟