كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 1195 - 2005 / 5 / 12 - 12:39
المحور:
القضية الكردية
زرت كردستان في ربيع عام 2002 وزرتها في ربيع عام 2005. وتسنى لي في الزيارتين أن أقضي أكثر من أسبوعين في ربوعها وبين شعب كردستان. التقيت بعدد من المسئولين في الأحزاب السياسية وبعدد أكبر بكثير من المواطنين, ولكن بعدد محدود من المواطنات وعن طريق الصدفة. وإذا كانت زيارتي الأولى قد شملت أربيل والسليمانية ودهوك وعلى مقربة من كركوك, فزيارتي الثانية تركزت على أربيل وسفرة قصيرة جداً إلى السليمانية, ولم يتسن لي زيارة دهوك إلا مروراً بها دخولاً وخروجاً. سأحاول في هذه السلسلة من المقالات أن أطرح انطباعاتي الشخصية التي تكونت لي عبر المشاهدة والمعايشة والحوار مع عدد كبير من المواطنين المستقلين والحزبيين من أحزاب سياسية مختلفة. فما هو الجديد في عملية التطور الجارية في كردستان العراق؟
بعد إجابتي عن هذا السؤال في الحلقتين السابقتين سأخصص هذه الحلقة لبعض الأفكار المكثفة التي تمس وجهة التطور المنشودة وآفاقها في كردستان العراق.
يفترض ابتداءً أن أشير إلى أن الجوانب السلبية التي تحدثت عنها في كردستان العراق هي نتاج منطقي لواقع موضوعي قائم, إضافة إلى العوامل الذاتية, وهي نتاج عقود من هيمنة الحكومات الرجعية في العهد الملكي ومن ثم هيمنة الحكومات القومية والبعثية الشوفينية والعنصرية البغيضة للنظم الدكتاتورية وسيطرتها المطلقة على البلاد وتحكمها بحياة الناس. وأن وضع كردستان ما كان ليختلف بقليل أو كثير عن الوضع في بقية أنحاء العراق, بل عانى الأمرين على أيدي تلك الحكومات بما في ذلك مجازر حلبجة والإنفال, في ما عدا الفترة التي تخلصت من الحكم المركزي والطاغية في نهاية عام 1991 حتى سقوط النظام كله والتي لم تكن كلها سلمية أو هادئة.
إن الجوانب الإيجابية التي أشرت إليها في الحلقة الأولى قابلة للتحسن والزيادة والتطور, كما أن الجوانب السلبية التي وردت في المقالة الثانية قابلة للتقلص والتطور والتغيير بالاتجاه الأفضل أيضاً. إلا أن هذا يعتمد على عدة مسائل أساسية تتوزع على ثلاثة مجموعات من الإجراءات أو السياسات, وهي:
المجموعة السياسية التي تتطلب:
أولاً: ضمان وحدة الصف الوطني الكردستاني, أي استمرار التحالف القائم وتطويره وفق أسس ديمقراطية وحوارات سلمية مستمرة لتذليل الصعاب بين القوى السياسية الكردستانية ومشاركة جميع القوى في هذه المرحلة وليس حصرها في الحزبين الرئيسيين فقط, إذ أن هذا الحصر لا يخرجهما من دائرة الصراع حول السلطة وما يرتبط بها من أمور أخرى. أما في الفترة القادمة فلا بد من اعتماد مبدأ المنافسة الحرة والنزيهة للوصول إلى السلطة بين الأحزاب القائمة, وخاصة بين الحزبين الرئيسيين الحاليين, بحيث يمكن أن تكون هناك قوى حاكمة وقوى أخرى في المعارضة. ويمكن أن يتم ذلك بعد عبور المرحلة الحرجة والانتقالية الراهنة في تاريخ العراق الجديد أولاً وبعد حصول تحولات جدية في المجتمع الكردستاني والعراقي عموماً.
ثانياً: السعي إلى كسب مختلف فئات الشعب, وخاصة القوى الكادحة والفقيرة والفئات المتوسطة, إلى جانب الحكم من خلال الاستجابة لمصالحها الاقتصادية والاجتماعية ومن خلال الاستماع إلى وجهات نظرها ومشكلاتها ورؤيتها لمستقبل كردستان العراق في إطار العراق الفيدرالي الديمقراطي, رغم واقع التخلف الذي يعاني منه المجتمع, إذ لا يمكن تغيير المجتمع بدون هذه العملية المزدوجة.
ثالثاً: تنشيط منظمات المجتمع المدني المستقلة عن السلطة والأحزاب السياسية لتكون عوناً فعالاً ومشاركاً فعلياً في تحقيق مسالتين, وهما:
أ?. تعبئة الناس لصالح بناء المجتمع المدني والمشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحماية البيئة وتكريس حقوق الإنسان وممارستها الفعلية.
ب?. ضمان رقابة هذه المنظمات على السلطات الثلاث, أي على النشاط الحكومي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وعلى البرلمان والقضاء وممارسة النقد على كل تجاوز على حقوق الإنسان والدستور والنظام الفيدرالي الديمقراطي والحياة السياسية.
رابعاً: تنمية التعاون والتنسيق مع جميع القوى الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني في بقية أنحاء العراق لتكون ضمانة جيدة لتطوير المجتمع المدني والعلماني في العراق وعلى صعيد كردستان العراق.
خامساً: أن يتضمن دستور الإقليم المبادئ الأساسية التي يتضمنها الدستور العراقي من حيث تكريسه لمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية وتحديد الصلاحيات بصورة واضحة وديمقراطية سليمة, بما في ذلك ضمان وجود قضاء مستقل عن السلطتين التنفيذية والتشريعية وتطوير الرقابة المالية من قبل السلطة التشريعية ومنظمات المجتمع المدني والمجتمع.
إن هذه الاتجاهات تشكل ضمانة مهمة لتجنب الفردية في الحكم وتساهم في تعميق الديمقراطية, رغم أن طبيعة البنية الاقتصادية والاجتماعية القائمة حالياً في البلاد تقلل عملياً من الأهمية البالغة للمجتمع المدني ومؤسساته ومهماته وحياته الديمقراطية في أذهان ووعي الناس. من هنا تبرز المجموعة الثانية من المهمات التي يفترض أن تسير جنباً إلى جنب مع مهمات المجموعة الأولى:
المجموعة الثانية التي تتطلب وضع برنامج اقتصادي-اجتماعي يهدف إلى تغيير البنية الاقتصادية للإقليم, إذ أن كردستان العراق بحاجة ماسة إلى تجاوز الإهمال الذي لحق بها طيلة عقود من جانب الحكومات المركزية وعدم الاهتمام بذلك وبالشكل المطلوب خلال السنوات المنصرمة من خلال
1. بناء مؤسسات صناعية حديثة ونظيفة نسبياً في العديد من مدن كردستان تستخدم المواد الأولية الزراعية, التبغ والكروم والخضروات وتعليب الفواكه, وغير الزراعية, وخاصة النفط والفوسفات والكبريت وخردة الحديد, في تصنيعها واختيار التقنيات التي تمارس الحماية للبيئة وتبتعد جهد الإمكان عن زيادة التلوث فيها, وهي التي تسمح بزيادة التشغيل وإقامة المزيد من المشاريع الخدمية المرتبطة بالتصنيع وتحسن المستوى المعيشي للسكان وتنشط السواق المحلية والسيولة النقدية.
2. تحديث الزراعة وتطويرها, وهي التي أهملت طويلاً, من خلال توفير المكائن والمعدات الزراعية الحديثة والمناسبة وتوفير المواد العضوية وغير العضوية الضرورية وتنويع الإنتاج الزراعي بما ينسجم والمناخ والتربة وتوفر المياه في كردستان العراق. وعبر هذه العملية يمكن أن يستعيد الريف لعدد غير قليل من الفلاحين الذين هجروا الزراعة تحت ظروف قاهرة واضطهاد شرس من الحكومة المركزية في بغداد. إضافة إلى ضرورة الاهتمام بواقع الفلاحين في الريف وإيجاد المحفزات لذلك.
3. تطوير وسائل ووسائط وطرق النقل, بما في ذلك السكك الحديد والطيران الداخلي والدولي, وتحديث الخدمات المختلفة بما فيها الاتصالات الحديثة.
4. وإذ تلعب التجارة دوراً مهماً في الحياة الاقتصادية, إلا أنها يمكن أن تلعب دوراً سلبياً يحد من التغيير الاقتصادي في كردستان العراق ولا يسمح بنمو الصناعة المناسبة لها. ومن هنا يفترض أن تكون هناك رقابة معينة على حركة التجارة الخارجية لضمان دعمها لعملية التنمية بدلاً من وقوفها ضد التصنيع وتحديث الزراعة بإغراقها الأسواق المحلية بالسلع بما لا يسمح للتطور الداخلي. ويمكن أن تستنزف التجارة الدخل القومي المتحقق في كردستان العراق والعراق عموماً بتسريبه عبر التجارة وغيرها نحو الخارج بدلاً من تراكمه في الداخل عبر عملية التنمية.
إن هذه السياسة الاقتصادية تسمح بعد مروره فترة قصيرة إلى استيعاب البطالة المكشوفة والمقنعة أولاً, ولكنها ستساهم بشكل خاص وبعد عدة سنوات إلى إجراء تغيير فعلي في البنية الطبقية للمجتمع وفي وعي الناس الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. ومع تغير الوعي تتغير النظرة إلى المجتمع المدني ومبادئ الحرية والديمقراطية ...الخ, ولكن هذه العملية هي الأخرى مرتبطة بالمجموعة الثالثة من السياسات والإجراءات التي بدونها يستحيل تحقيق المنشود.
المجموعة الثالثة التي تتطلب تحقيق ثورة ثقافية في المجتمع وإصلاح ديني لا مناص منه والذي يعني:
1. وضع برنامج يستمر قرابة عقد من السنين لمكافحة الأمية بين الرجال والنساء ممن تجاوزا سن الطفولة والصبا, يمكن أن تشترك في تنفيذه الحكومة ومنظمات المجتمع المدني وهيئات إقليمية ودولية تقدم الدعم والمساعدة لتنفيذه.
2. تطبيق التعليم الإلزامي للأطفال من الجنسين الإناث والذكور من سن السابعة حتى الانتهاء من الصف الثالث المتوسط, حيث يمكن بعدها الدخول في المدارس المهنية والفنية أو الاستمرار في الدراسة الإعدادية لدخول الجامعات والمعاهد المختلفة.
3. وضع برامج للدراسات الجامعية والمهنية والفنية تنسجم مع حاجات المجتمع التنموية بحيث لا تنشأ بطالة بين المتعلمين.
4. تطوير البحث العلمي وربطه بالجامعات وبالمؤسسات الاقتصادية والحكومية لتكون مراكز بحث علمي موجهة لصالح التنمية وتطوير المجتمع.
5. إن مكافحة الأمية تفترض في الوقت نفسه مكافحة الأمية الثقافية والسياسية والتي تتطلب بدورها تطوير وتنشيط الحياة الثقافية ودور المثقفين والمجتمع المدني في الحياة العامة من خلال دعم المثقفين ودورهم ونشاطاتهم وجعلها قريبة من متناول الناس. إنها عملية معقدة وطويلة ولكن لا بد من البدء بها من خلال تأسيس المزيد من المكتبات ودور بيع الكتب والمسارح والسينمات والبرامج الإذاعية والتلفزة ... وتطوير المناهج التعليمية وتدريس مبادئ حقوق الإنسان ... الخ.
6. وكل ذلك يفترض أن يرتبط ويسير جنباً إلى جنب مع عملية الإصلاح الديني, أي تحقيق عملية التنوير الديني في المجتمع, إذ أن الوصول إلى المجتمع المدني أو العلماني لا يتم بواسطة الواقع الديني الجاري حالياً وطريقة عمل أئمة المساجد والفكر الديني المتخلف الموروث والعادات والتقاليد البالية التي ولجت الدين والموقف من المرأة وحرمانها من حقوقها المساوية لحقوق الرجل. إن عملية الإصلاح الديني تشكل قاعدة أساسية لكل الإصلاحات والسياسات التحديثية التي يراد ممارستها في إقليم كردستان وفي العراق عموماً. وبدون عملية التنوير الديني سيبقى الدين ورجاله يضغطون باتجاه التخلف ورفض التغيير ورفض الاستجابة المطلوبة لحقوق المرأة ومسيرة المجتمع التقدمية ويساهمون في الغلواء والعنف والقسوة في المجتمع وخلق المزيد من المتطرفين والطائفيين على صعيد العراق كله. إن عملية التنوير الديني لا تعني بأي حال سلب الإنسان ما يعتبره زاداً لروحه, فالعلاقة بين الإنسان ودينه قضية خاصة يفترض أن تحترم, بل يفترض أن يتخلص الإنسان من إرهاب أصحاب الفتاوى المتخلفة وأئمة المساجد المتخلفين وهيمنة المرجعيات على المجتمع.
إن مجمل هذه العمليات, أي التطوير السياسي والاقتصادي والبشري والاجتماعي والثقافي والديني, هي التي سيكون في مقدورها إخراجنا من الوضع الذي نحن فيه اليوم, سواء أكان نتيجة تأثير العلاقات العشائرية والعائلية الضيقة أم تأثير رجال الدين أم العنف والقسوة والاستبداد في المجتمع. كما أنها الضمانة الفعلية لمكافحة والتخلص من الجوانب السلبية التي أشرت إليها في الحلقة الثانية من هذه السلسلة الثلاثية من المقالات, بما فيها الفساد الوظيفي, المالي والإداري.
لا شك في أنها عملية معقدة وصعبة, ولكنها ضرورية لتحقيق الآمال العريضة للشعب الكردي وبقية القوميات وعلى صعيد العراق كله.
إن مستقبل كردستان العراق مشرقٌ إذا ما اعتمدنا على الشعب في المسيرة الراهنة, وإذا ما سعينا إلى شد نضال شعب كردستان بالشعب العربي وبقية القوميات في بقية أنحاء العراق في هذه المرحلة الحرجة, وهي مسألة أساسية, حيث يسود الإرهاب الدموي في الساحة السياسية العراقية. ولا بد للأحزاب السياسية والمسؤولين أن يقدموا النموذج الذي يحتذى به في مختلف جوانب الحياة ويعززوا ثقة الناس بهم وببرامجهم وأحزابهم.
هذه باختصار وبشكل مكثف ما أراه ممكناً ومناسباً لكردستان العراق, لهذه الفيدرالية الفتية في إطار العراق الجديد وفي المستقبل وفق ما يقرره شعب كردستان لإقليمه. إنها وجهة نظر قابلة للخطأ والصواب وقابلة للحوار في آن.
برلين في 11/5/2005 كاظم حبيب
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟