|
ما الذي ستقدمه بغداد لأمريكي وايطالي وفرنسية ؟
فارس حميد أمانة
الحوار المتمدن-العدد: 4175 - 2013 / 8 / 5 - 10:45
المحور:
كتابات ساخرة
كانت تلك سنة 1987 بصيفها القائظ.. كنت أحضر ندوة علمية أقيمت في فندق فخم من فنادق بغداد وقد كان المحاضرون أمريكيا لا زلت أذكر ان اسمه ريتشارد وايطالي يدعى أنتوني وسيدة فرنسية رقيقة في عقدها الخامس أو بعده بقليل .. لم يقترب منهم أحد أثناء استراحة القهوة وأحدس انكم خمنتم السبب .. ففي تلك الفترة كان التقرب من الأجانب محظورا جدا ويعتبر مؤشرا أمنيا وجرما خطيرا لمن يرتكبه .. كان الثلاثة يقفون مع بعضهم يحتسون القهوة الساخنة ويتبادلون بينهم كلمات قليلة اذ ان لا أحد يعرف الآخر فكل واحد منهم كان من شركة ومن بلد يبعد كثيرا عن الآخر .. لكن يبدوا ان شعورهم بالغربة بيننا وعدم اقتراب أحد منهم قد قربهم من البعض قدر ما أبعدهم عنا .. شعرت بذلك وتعاطفت معهم كثيرا .. اقتربت منهم بهدوء رغم توجسي خيفة من نتيجة فعلي وسألتهم ان كان أحدهم قد زار بغداد من قبل فأجاب الجميع بالنفي .. ثم سألتهم ان كانوا يرغبون بالتجول في المدينة للتعرف عليها من قرب .. كان سؤالي ماءا باردا نزل على أفئدتهم وسط قيظ حارق .. تلهف الجميع لذلك وشكروني حتى قبل ان يعرفوا تفاصيل الجولة .. سألت نفسي كثيرا ان كنت قد أخطأت بدعوتهم للجولة تلك .. ما الذي ستقدمه بغداد لأمريكي قادم من مدن ناطحات السحاب ؟ وما الذي ستقدمه بغداد لايطالي قادم من روما مدينة التماثيل والنافورات والتحف الفنية ؟ بل ما الذي ستقدمه بغداد لسيدة أخبرتني انها تسكن على بعد خطوات قليلة من شارع الشانزليزيه وقوس النصر ؟ هل تسرعت ؟ هل سيصيبهم الاحباط من جولة بائسة في صيف تموزي لاهب ؟ عندما أكملنا نهارنا الأول قدت سيارتي الى مقر اقامتهم وحسب الموعد الذي اتفقنا عليه فكان الثلاثة ينتظرون في الباحة الخارجية بلهفة .. ابتسمت لهم وصافحتهم ثم استقل الجميع سيارتي وانطلقنا ..في السيارة أخبرني ريتشارد ان حقيبته لم تصل معه في الطائرة حيث ان كل ملابسه بها وطلب مني ان نذهب الى محل لبيع الملابس ليشتري بعضا منها .. كانت المحطة الأولى لنا في شارع الرشيد حيث محلات " كاسكا " الشهيرة جدا في ذلك الحين .. اختار ريتشارد بنطالين وثلاثة قمصان ثم دفع النقود الى عامل المحل .. أسر لي حينها انه تفاجأ بالسعر الرخيص للبضاعة مقارنة بجودتها .. أجبته انني مسرور جدا انه وجد ما يبحث عنه .. حسنا اذن هاهي بغداد تبهج أحدهم .. تمشينا قليلا في شارع الرشيد وأنا أتحدث لهم عن تاريخ الشارع وأهميته .. ثم بعد ربع ساعة ركبنا السيارة الى سوق الصفافير .. انبهر الجميع وهم يجدون أنفسهم وسط جو يعبق بالتاريخ وبالقدم وأصوات المطارق النحاسية تطرق آذانهم قبل أن تطرق النحاس .. غمرتهم البهجة حقا .. أشترى الجميع نحاسيات جميلة وبأسعار معقولة .. غمرني رشق بهجة من فيض وجوههم المبتسمة وفرحهم الطفولي .. حسنا يا بغداد .. ما ذا ستقدمين أيضا ؟ عند ناصية سوق الصفافير أوقفتهم لشرب اللبن الرائب اللذيذ .. أخبروني انهم استمتعوا كثيرا بطعمه وأيضا بحركات البائع وهو يقدم لهم الأقداح ويتحدث معهم بلكنة وركاكة تثير الضحك .. ضحكنا ثن انطلقنا نستقل السيارة ..كانت محطتنا الرابعة مرقد الامام الكاظم في الكاظمية .. قالت سوزان وهو اسم السيدة الفرنسية وابتسامة رقيقة كالنسمة تتزحلق على شفتيها انهم قد استحموا جميعا وكما طلبت منهم احتراما لتقاليدنا وثقافتنا .. كان على سوزان أن تلبس العباءة العراقية السوداء قبل الدخول وكما هو مطلوب .. استأجرت لها عباءة أرتدتها بطريقة مثيرة للضحك .. ساعدتها بارتداءها وأنا أبتسم لرؤية خصلات شعرها الأشقر وهي تتطاير من تحت العباءة التي تلف جسدها الرشيق وخطواتها تتعثر بذيل العباءة حتى تكاد ان تسقط . سأل ريتشارد : ما ذا لو عرف البعض بأننا مسيحيون ولسنا مسلمين ؟ هل سنتعرض للأذى ؟ ابتسمت وأنا أجيبه بسؤال : هل تظن بأن العراقيين متوحشون ؟ أعتذر عن تساؤله ثم دلفنا من البوابة الكبيرة .. ذاب الجميع وسط حشد من الزائرين .. وأنوفهم تترع بعطر ماء الورد .. نظرت اليهم بتمعن .. كان الثلاثة مذهولين .. صامتين .. مأخوذين من رهبة المكان .. عيونهم معلقة بالمرايا التي تعكس الأضواء من كل زاوية ..حدثتهم قليلا عن الرجل الراقد في الضريح ومكانته الروحية .. وبعد دقائق قليلة لمس انتونيو الايطالي يدي مقتربا مني وهامسا بخفوت : مستر فارس .. دعنا نخرج .. طلبت منه الصبر لدقائق قليلة ريثما ندور لرؤية زاوية آخرى .. كرر طلبه باخراجهم بعد أقل من دقيقة .. وكررت له رجائي بالصبر .. أقترب مني حد الالتصاق هذه المرة وقال بصوت متشنج وعيناه جاحظتان : أرجوك .. أخرجنا من هنا حالا .. لا أحتمل ذلك .. أخرجت الجميع وريتشارد يسبقنا بقامته الطويلة وسوزان تتعثر بأذيال العباءة .. أما أنتوني فكان ملتصقا بي والرعب يسيطر عليه ..سألته ما الذي حدث ؟ .. أطرق في الأرض واجما وهو يقول بصوت مخنوق : لقد كان المكان مؤثرا .. لم أكن أستطيع الاحتمال .. قال ذلك ثم أعتذر مني .. لقد أبهرت بغداد الأمريكي والايطالي والفرنسية .. بل انتصرت عليهم ..
#فارس_حميد_أمانة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مشاهدات من المانيا - الجزء الأول
-
مشاهدات من بلاد الثلج - الجزء السابع والأخير
-
مشاهدات من بلاد الثلج - الجزء السادس
-
مشاهدات من بلاد الثلج - الجزء الخامس
-
مشاهدات من بلاد الثلج - الجزء الرابع
-
مشاهدات من بلاد الثلج - الجزء الثالث
-
مشاهدات من بلاد الثلج - الجزء الثاني
-
مشاهدات من بلاد الثلج - الجزء الأول
-
هل يستحق عبد الهادي المجبل الفرعون كل ذلك ؟
-
قوادون .. لصوص .. متسولون .. وخمارون من الزمن الجميل
-
الجاسوسان
-
أنا .. ومعي الآخرون
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|