من ريو إلى
جوهانسبورغ... هل هناك جديد؟ (2)
المسؤولية الاجتماعية للشركات عابرة الحدود...
قضية مؤجَّلة
لكي نستكمل ملامح الخلفية التي تمت في إطارها القمة الثانية
فقد يكون من المفيد أيضا أن نلقي الضوء في عجالة على أهم ما تم إنجازه وما لم يتم
من مقررات ريو وحتى الآن.
فعلى الجانب المضيء فإن التقارير تؤكد نجاح المجتمع
الدولي في الوفاء بالتزامه لحماية طبقة الأوزون، وأن ذلك سيؤدي إلى استعادة تلك
الطبقة لعافيتها لكي تلعب دورها الحيوي في حماية الحياة على سطح هذا الكوكب.
أما الإنجاز الثاني فهو تعاظم دور مؤسسات المجتمع المدني في عملية التنمية،
وترسيخ مفهوم الشراكة بين تلك المؤسسات وبين الحكومات، وأكبر دليل على ذلك أن عدد
المشاركين من تلك المؤسسات تساوى تقريبا مع ممثلي الحكومات في قمة جوهانسبرغ
الأخيرة. يلي ذلك أيضا تعاظم الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية لدى الشركة الكبرى
ومبادرتها في كثير من الأحيان باتخاذ إجراءات طوعية لتحقيق أهداف التنمية
المستدايمة في المجتمعات التي تعمل بها.
أما الإنجاز الرابع منذ قمة ريو وحتى
الآن فيتمثل في التطورات العلمية المذهلة التي تمت في السنوات الأخيرة والتي ساهمت
بشكل كبير في تحسين معرفتنا بالنظام البيئي وما يدور فيه من تفاعلات، ثم نشر تلك
المعرفة بشكل واسع من خلال الثورة الهائلة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
وأخيرا فإن المجتمع الدولي قد بادر منذ قمة الأرض الأولى بإقرار مجموعة أخرى من
الاتفاقيات التي تؤكد التزامه بتحقيق أهداف التنمية المستديمة مثل بروتوكول كيوتو
للحد من ظاهرة تغير المناخ، وبروتوكول كرتاخينا للأمان الحيوي وتنظيم الاتجار في
المواد المهندسة وراثيا، وبروتوكول استكهولم الخاص بمنع إنتاج واستخدام مجموعة من
الكيماويات الخطرة التي تمثل تهديدا للصحة العامة والبيئة.
هذا عن النجاحات
التي تحققت منذ ريو، فماذا عن الإخفاقات؟
كان أهم تلك الإخفاقات فشل الدول
الصناعية الغنية في الوفاء بما التزمت به من تخصيص نحو 0,7% من جملة الناتج القومي
لتقديم مساعدات مالية للدول الفقيرة ولم تتجاوز تلك النسبة 0,5% منها على أفضل
تقدير، وقد أدى ذلك إلى عدم تمكن الدول النامية من مواجهة الحاجات المتزايدة
لشعوبها التي تنمو بمعدلات عالية، وكانت النتيجة ازدياد أعداد الفقراء في العالم
منذ ريو وحتى الآن.
أما الإخفاق الثاني فهو فشل الدول الغنية في التخلص من
أنماط الإنتاج والاستهلاك غير المستديم لديها، ويتجلى ذلك واضحا في الفجوة الواسعة
بين نصيب الفرد من الموارد في الدول الغنية مقارنة بالدول الفقيرة. فعلى سبيل
المثال يبلغ نصيب المواطن الأميركي من الطاقة الكهربائية سنويا نحو 14 ألف
كيلووات/ساعة، في حين يبلغ نصيبه في الهند نحو 300كيلووات/ساعة وفي مصر 1300
كيلووات/ساعة. كذلك فإن بعض مصادر الطاقة الأحفورية لا زالت تلقى عناية وتشجيعا من
عديد من الدول الصناعية الكبرى مقارنة بأشكال الطاقة النظيفة.
وتأتي قضية
السلام والأمن كأحد المحاور الأساسية اللازمة لتحقيق التنمية المستديمة، إلا أنه
للأسف الشديد وبرغم انتهاء الحرب الباردة، فإن العالم لا زال يعاني من الحروب
والنزاعات الإقليمية والأهلية بدءا من حرب التطهير العرقي في يوغوسلافيا السابقة،
مرورا بالحروب الأهلية التي تمزق أوصال العديد من الدول الأفريقية، وانتهاء بحرب
الخليج ثم بزلزال الحادي عشر من أيلول/سبتمبر الذي لا زالت تداعياته تتوالى في
العديد من بقاع العالم. وفي هذا السياق لا يمكن أن ننسى الممارسات العنصرية
والفظائع التي ترتكبها إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني بدعم وتأييد من الحكومة
الأميركية، بينما يقف العالم متخاذلاً غير قادر على وقف تلك الجرائم. ومن الملاحظ
أن جانبا كبيرا من المسيرات والمظاهرات التي شهدتها جوهانسبرغ أثناء انعقاد القمة
الأخيرة كان من جانب المؤيدين لحقوق الشعب الفلسطيني في مواجهة الغطرسة
الإسرائيلية.
ويتساءل المرء عن كيفية تحقيق مستقبل أفضل للأجيال القادمة بينما
يتعرض الملايين من البشر لأخطار الحروب والصراعات والحصار في فلسطين، العراق،
أفغانستان، والشيشان وغيرها. ولقد خيمت التهديدات الأميركية بضرب العراق على أجواء
القمة حيث سعى طارق عزيز نائب الرئيس العراقي إلى حشد الأصوات الرافضة لتلك
التهديدات.
وأخيرا وليس آخرا يبرز انتشار مرض الأيدز في العالم خاصة في أفريقيا
كشاهد على مدى إخفاق المجتمع الدولي في التصدي للمشكلات التي تتسبب في إزهاق أرواح
الملايين من بني البشر، إذ تشير التقارير الى أن 68 مليون شخص سيموتون بسبب مرض
الأيدز بحلول عام 2020، معظمهم من الدول الأفريقية.
هكذا كانت الصورة، بينما
كان يستعد الآلاف من المشاركين في القمة للذهاب إلى جوهانسبرغ يشاركهم الملايين
الذين يتابعون ما يجري من خلال وسائل الإعلام وأساليب الاتصالات الحديثة.
ومن
خلال مجموعة من الاجتماعات التحضيرية، تم الاتفاق على إعداد إعلان سياسي يصدر عن
القادة المشاركين في القمة يؤكد الالتزام بمبادئ التنمية المستديمة وضرورة سد
الفجوة بين الأغنياء والفقراء تحقيقا لأهداف الألفية الجديدة التي أقرها زعماء
العالم مسبقا. كما يحدد هذا الإعلان التحديات التي تواجه المجتمع الدولي لتحقيق تلك
الأهداف والتي تتلخص في الفقر والتدهور البيئي والتباين الواضح في الظروف
الاجتماعية والاقتصادية بين الدول، كما يؤكد على ضرورة تحقيق السلام والأمن
والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
أما الوثيقة الثانية التي تم التفاوض
بشأنها فكانت خطة للعمل ذات أهداف محددة وإطار زمني واضح لتنفيذ تلك الأهداف. ولقد
شهدت الاجتماعات التحضيرية خلافات حادة بين المفاوضين لتحديد تلك الأهداف، وكانت
الولايات المتحدة الأميركية للأسف الشديد تعارض الالتزام بأي أهداف محددة أو أطر
زمنية خاصة في قضايا الطاقة والمياه وفقدان التنوع البيولوجي والحد من الفقر، كما
حاول المفاوضون من الدول المتقدمة إعادة فتح بعض الملفات الساخنة من قضايا التنمية
مثل قضية المساعدات للدول النامية، قضايا التجارة والبيئة وحقوق الإنسان
والديموقراطية ومكافحة الفساد والمواد المعدلة وراثيا وقضية الدعم للحاصلات
الزراعية في الدول الغنية على حساب الصادرات الزراعية للدول النامية وكذا القضايا
المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية والعولمة ومحاربة الإرهاب. وفي واقع الأمر كاد
المؤتمر يغرق في تلك القضايا ويحيد عن تحقيق أهدافه في المجالات الأساسية السابق
الإشارة إليها لولا يقظة الدول النامية، تساندهم المنظمات غير الحكومية وحكمة رئيس
المؤتمر ورئيس جنوب أفريقيا الذي بذل جهدا خارقا تسانده منظمات الأمم المتحدة لكي
تحقق القمة الأهداف التي انعقدت من أجلها.
ولإثبات مدى الالتزام بتلك الوثائق
الإعلان السياسي وخطة العمل فلقد فتح الباب للحكومات والمنظمات ومؤسسات المجتمع
المدني للتقدم بمبادرات طوعية يتم تنفيذها على أرض الواقع حتى تتحول تلك الوثائق
بليغة الصياغة إلى مشروعات وبرامج يستفيد منها الملايين من البشر الذين يتطلعون إلى
كوب مياه نظيف ومصدر مستقر للطاقة ومأوى وغذاء وغيرها من أبسط حقوق الإنسان في مطلع
القرن الحادي والعشرين. ولقد بلغ عدد تلك المبادرات نحو 220 مبادرة حتى انتهاء
القمة.
وعلى مدى عشرة أيام ليلاً ونهارا دارت مناقشات صاخبة أوضحت حاجة
الملايين من البشر لمستقبل أفضل لهم ولأبنائهم ولأحفادهم، كما أوضحت الحاجة إلى
نظام عالمي تسود فيه روح التعاون والفهم المشترك واحترام الآخر وتنتهي منه النزعات
الأنانية وحب السيطرة وروح الهيمنة واستخدام القوة بكل أشكالها.
وشهد المؤتمر
لحظات كادت تهدد بفشله نتيجة لإصرار البعض على أن مواقفهم المتعنتة تجاه بعض
القضايا. وكانت أهم قضايا الخلاف كما سبق أن أشرت، رفض الولايات المتحدة الأميركية
الالتزام بأي أهداف محددة أو جداول زمنية، كما أصرت دول الاتحاد الأوروبي وأميركا
على موقفها من قضية دعم الصادرات الزراعية التي قدرت بنحو مليار دولار يوميا، والتي
تقف عقبة في سبيل وصول الصادرات الزراعية للدول النامية لأسواق العالم، ثم قضية حجم
المساعدات المالية للدول النامية ومحاولة الدول الغنية التحلل من سابق التزاماتها
في ريو عام 1992. وأخيرا وليس آخرا إصرار الولايات المتحدة الأميركية حتى الآن على
الانسحاب من بروتوكول كيوتو مما أدى إلى الإخفاق في دخوله حيز التنفيذ.
ولقد
تعرضت الحكومة الأمريكية لهجوم شديد من الجميع أثناء انعقاد القمة سواء في قاعات
المفاوضات أو خارجها من جانب المنظمات غير الحكومية حتى وصل الأمر إلى أن إحدى
الدول الصغيرة في البحر الكاريبي هددت باللجوء إلى محكمة العدل الدولية لإرغام
الولايات المتحدة وأستراليا على التصديق على البروتوكول حماية لها من الأخطار
الناجمة عن التغيرات المناخية.
ولقد أصرت الولايات المتحدة على موقفها الرافض
تحديد أهداف زمنية محددة لترويج استخدام الطاقة المتجددة، تساندها في ذلك شركات
البترول الأميركية العملاقة ومجموعة من دول الأوبك المصدرة للبترول، فكان ذلك إحدى
الفرص الضائعة لكي تنطلق تكنولوجيات الطاقة المتجددة لتوفر الاحتياجات الأساسية من
الطاقة لنحو 40% من سكان العالم لا يحصلون عليها في الوقت الراهن. كما أصر الوفد
الأميركي تسانده في ذلك دول الاتحاد الأوروبي على عدم فتح ملف قضايا الديون التي
تعوق جهود التنمية في الدول النامية، وجاءت الإشارة واضحة في الكلمة التي وجهها
توني بلير للقمة والتي أشارت إلى ضرورة مكافحة الفساد ودعم الديموقراطية وحقوق
الإنسان في الدول النامية قبل الحديث عن إسقاط الديون أو زيادة المساعدات.
ولقد
نشطت المنظمات غير الحكومية المدافعة عن البيئة والمناهضة للعولمة في الضغط على
المشاركين في القمة لاتخاذ خطوات فعّالة لحماية كوكب الأرض ومحاربة الفقر. وكانت
قضية تغير المناخ على رأس تلك القضايا، خاصة بعد موجة الفيضانات العاتية التي
اجتاحت وسط أوروبا وآسيا والتي تزامنت مع انعقاد القمة. كما نشطت تلك المنظمات في
التأكيد على عدم هيمنة منظمة التجارة العالمية على قضايا التنمية وأن تسبق اعتبارات
حماية البيئة الاعتبارات التجارية، وضرورة إعطاء أولوية لقضية الصحة العامة وحصول
الفقراء على حاجاتهم اللازمة لمقاومة أمراض الأيدز والملاريا والسل وغيرها، بصرف
النظر عن قواعد منظمة التجارة العالمية وحقوق الملكية الفكرية.
ثم كانت قضية
المسؤولية الاجتماعية للشركات عابرة الحدود والتي تعاظم دورها في إطار اتفاقيات
تحرير التجارة، والحاجة إلى كبح جماح تلك الشركات ومراقبة ممارساتها الضارة بالبيئة
والتنمية، خاصة في الدول النامية التي تفتقر إلى القدرات اللازمة لتحقيق ذلك، إلا
أن القمة قد أوكلت هذه المهمة برغم اعترافها بأهميتها إلى الجمعية العامة للأمم
المتحدة.
وأخيرا، فإن النظرة الموضوعية للإعلان السياسي الصادر عن القمة وخطة
العمل المصاحبة له تكشفان أن القمة قد حققت جانبا كبيرا من الأهداف التي انعقدت من
أجلها، فهناك التزام بخفض أعداد البشر الذين لا يحصلون على حاجاتهم من مياه الشرب
وخدمات الصرف الصحي إلى النصف. وهناك التزام بتوفير مصادر للطاقة لنحو بليوني شخص
في العالم لا يحصلون عليها في الوقت الراهن، وهناك التزام بالتخلص من الكيماويات
السامة بحلول عام 2020، وهناك التزام بالحفاظ على التنوع البيولوجي ومصايد الأسماك
وإنشاء شبكة من مناطق المحميات البحرية . كما أن هناك التزاما بدعم مرفق البيئة
العالمي بنحو 2,9 مليار دولار حتى عام 2006 مع تكليفه بتمويل مشروعات مكافحة التصحر
في الدول النامية، وهناك التزام بدعم مكافحة مرضى الأيدز والملاريا وغيرهما من
الأمراض الناشئة عن تلوث المياه. وأخيرا، فإن هناك التزاما بإمداد الدول النامية
بالتكنولوجيا والبدائل اللازمة لحماية طبقة الأوزون.
وفى الجانب المقابل، فلقد
فشلت القمة في إقناع الوفد الأميركي المكون من نحو ثلاثمئة شخص بالموافقة على
التصديق على بروتوكول كيوتو أو الالتزام بتشجيع الطاقة المتجددة ونشر استخدامها في
العالم من خلال جدول زمني محدد. كما أصدرت توصيات عامة في قضايا دعم الصادرات
الزراعية وفتح الأسواق لصادرات الدول النامية وإجراءات الاستعداد والتصدي للكوارث
الطبيعية التي زادت حدتها خلال الفترة الماضية.
وانفض سامر التنمية المستديمة
في جوهانسبرغ بعد أن ساهم المشاركون فيه بتلويث البيئة من خلال استخدامهم لنحو خمسة
ملايين صفحة من الأوراق، وانبعاث نحو 300 ألف طن من غاز ثاني أكسيد الكربون للغلاف
الجوي.
ويبقى عدد من الأسئلة لا زال يبحث عن إجابة! هل سينجح العالم في تحويل
تلك الوثائق بليغة الصياغة إلى أفعال؟ وهل ستنجح الأمم المتحدة في كبح جماح نزعة
الهيمنة من جانب القطب الأوحد؟ وهل سيقف المجتمع الدولي في جانب الحق والعدل في
مواجهة المصالح التجارية؟ الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها ستكشف عنها مجريات الأمور
خلال الأشهر المقبلة.
(يُنشر بترتيب مع <<كتاب وجهات نظر>>
...
©2002 جريدة السفير