|
قصة من مشهد واحد بعنوان/ موت على رصيف الغربة
هيثم نافل والي
الحوار المتمدن-العدد: 4173 - 2013 / 8 / 3 - 12:52
المحور:
الادب والفن
جلال إبراهيم، إنسان مختلف عن الكثير من أبناء جيله، يعلم بأنَ كرامته الإنسانية يجب ألاَّ تهان، وأن يحيا وهو يفكر، وأن الأكل والجنس والادخار ليست من أهداف الحياة الحتمية فقط؛ وإلا سيكون أنانيا كالطفل، ذابلا كالشيخ، ومتعفنا كالميت الذي لم يدفن، سيصبح كحشرة طفيلية حينما تسقط، لا تستطيع التعلق بالحياة مرة أخرى، لذلك كانَ متأكداً جداً من أنه لو وصل إلى تلك الحدود الضيقة من ركن الحياة، سينهي حياته دونَ رجاء أو تردد؛ فالحاضر له الحياة كلها والعقل، والغد هو الجبن بعينه؛ لقد كانَ يرفض الاعتراف بالمثل القائل: أنا أحيا لأجل أن أموت، فالموت في حساباته هو الغد، والغدُ جبنٌ كما يقول؛ لكنه تغير... ليردد ما قاله للمرة الألف، المجنون فقط هو من لا يعترف بطبيعة الأشياء. الظروف التي عاشها والصور التي رآها، كانت قادرة على قلب كل موازين الحكمة التي كانَ يؤمن بها، ليصبح إنسانا غريبا عن نفسه، وما أقسى وأعظم ما يواجهه المرء من كارثة، عندما يجهل نفسه، ويجهله الآخرون، بل أقرب الناس إليه، كزوجته وأولاده، ليصبح شبحاً غير مرئي، أو قل مطراً ولكن كغبار مبلل، لا يحبُ أن يكون أكثر ذكاءً، ويرفض بإصرار أن يكون لهُ أي دور في الحياة. ببساطة شديدة، لم يعد يهتم بالحياة، كالمحكوم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة؛ ومن قال بأنَ البساطة شيءٌ هين( هكذا كانَ يقول ) فأحياناً يكون للكلام البسيط وزن بثقل الأحجار، كما هو الفن البسيط، يشاهده المرء وهو يبتسم ويقول: ما هذا؟ إنه بسيط؛ لكنه إن أراد أن يأتي بمثله كان عاجزاً، كعجز الأخرس عن الكلام، وهذا هو الفن الذي يؤمن به، أن يكون بسيطاً ومعجزاً في نفس الوقت، كالكتب الدينية السماوية. لقد كانَ يكثر من قراءاته التي تتعلق بالتأريخ، وخاصة تأريخ الشعوب المتدينة؛ لأنه كانَ عندما تسأله زوجته: لماذا تاريخ تلك الشعوب فقط؟ يجيبها قائلاً: لأنَ الكثيرين منهم لا يملكون الشرف، رغم تدينهم الظاهري، فهم كالذين يصلون وتحتهم أكياس المال الحرام!! لذلك أحبُ قراءة تأريخهم؛ لأكتشف المزيد من أسرارهم التي يحاولون تخبئتها، كما تخبئ القطط برازها... وهم لا يعلمون. ما يربكه من دجل الدجالين هو طبيعة الإنسان ذاتها، فهو يرى أنَّ الإنسان يستطيع أن يكونَ ساحراً أو نبياً أو قاتلاً متى ما يشاء ومتى ما دعت إليه مصلحته الشخصية! فالمتعة والمنفعة الذاتية هي ما يجري وراءه الإنسان، كما يجري الطفل خلف أمه، هكذا أجاب على زبون متجره الدائمة، تلك الشابة الألمانية الجميلة، بصوتها الرخيم، كصوت مؤذن، ومظهرها الأنيق، كأنها فراشه، وكلامها الجميل، كشعر شاعر، لقد تعودت مذ زمن على شراء بعض القطع الفضية منه لآلهة بوذية، ليفاجأ هذه المرة من الدعوة التي قدمتها له بلقاء كاهن المعبد البوذي، على اعتبار أنها تقدم خدمة إنسانية جليلة لنفسها أولاً، وله ثانياً، عندما يعتنق الدين البوذي، لقد رآها هذه المرة وهي ترتعد وتهتز عندما تتكلم كالنابض، ولم يعهد فيها هذا الطبع سابقاً، ثم أردفت: لقد تركتُ ديانتي المسيحية الكاثوليكية، لأنعم الآن بالسلام تحت لواء البوذية، ها... هل ستحضر اللقاء؟ - هوني عليك أولاً، وخذي نفسك، فأراك مصفرة الوجه كالليمون... ثم أضاف شغفاً: من قالَ لكِ إن السلام تجدينه في الدين؟ وتابع، قولي لي: ما هو السلام الذي توصلتم إليه لتبشروا به الآخرين؟ ثم استطرد متماسكاً: أنا لا أعرفُ إلا سلاماً واحداً فقط في الحياة لا غير، هو صداقة الإنسان معَ نفسه، وعندما يستطيع الإنسان أن يكون صديقاً وفياً وصريحاً مع ذاته، عندها سينعم بالسلام الدافئ، الحريص، الكريم، المثمر وليسَ السلام المريض، الذي تأتي به الشياطين العوراء، فهو سلام غير حقيقي... يسلب من الإنسان إرادته دونَ أن يعلم والعياذ بالله. - باستياء ملحوظ: يعنى كلامك أنك ترفض الدعوة؟ - لعلكِ لم تفهمي كلامي إذاً؟! - بلا، ولكنني حزينةٌ عليك! - بجد: لا داعي للحزن، فأنتِ إنسانة رائعة، رقيقة، كطفلة، لذلك استسلمتِ لأفكارهم، فالماكر منا كالتمساح الذي يوهم الآخرين بالنوم والبكاء... لا يؤمن بالأشياء هكذا سريعاً! - همست بقلق: ومعَ ذلك أتمنى لك حياة هادئة وسعيدة، إلى اللقاء. - إلى اللقاء( أجابها مبتسماً ) باتت كلمته التي يتلذذُ بها كالعلكة لم تتغير Egal وتعني بالعربية( كل شيء سواء، طظ ) وهو يعلم علم اليقين، أنَ أحداً لن يركضُ وراءه سوى الموت وحتى هذا فهو لا يهابه؛ وكلما كانت حياة المرء رتيبة وتقل فيها الأحداث، كلما عظمت ذاكرة الإنسان حتى في الأشياء البسيطة، لا شيء يحفزهُ على العطاء في الحياة بعد، وبهذا اليأس والقنوط باتَ يستقبل أيامه، كما يستقبل بناته وزوجته في المساء بعد عودته من العمل. عيناه كشكل لؤلؤتين سوداويتين، حاجباه المعقوفان كمناجل حصاد، وخداه المكتنزان باللحم كوجه الشمس الضاحكة، أسنانه الصفراء بلون الذرة، صوته المميز في بحته، كصوت مطرب محترف له رنة الدف، وصمته الذي يحتفظُ به كالسر يشبه صمت النخلة في صيفها وشتائها، بينما تبقى نظراته تسقط على الأشياء كما ينزلق المطر على السطوح الملساء، فلا تجعل لها أثراً، له براءة الأطفال وفضولهم، وخجل الفتيات العذارى؛ لقد كانَ يصدق كلُ ما يقال له، كالعاشقين. وزنهُ في ازدياد مستمر، حتى قد تجاوز المائة وعشر كيلو غرامات، حركته قليلة جداً وتكاد تكون معدومة، وإن تحرك فهي بطيئة وكأنهُ السلحفاة، ازدادت شراهته للتدخين لتصل إلى ما يقارب الستين سيجارة في اليوم، فما تلبث التي بينَ أنامله على الانطفاء حتى يسارع من عقبها بإشعال الثانية، سعالهُ أصبحَ حاداً جداً وقوياً، كسعال كلب عجوز، كما وازدادت شهيتهُ لدرجة الشراهة، لكنها تصبح لا شيء أثناء جلوسه أمام مكائن لعب القمار الأوتوماتيكية... تعود جلال الذهاب في الأيام الأخيرة وبإصرار لا يعرفهُ سوى من يريد الموت في وطنه من بعد غربة! إلى حانة لا يسكنها سوى أشباح الليل الذين لا يفقهون من الحياة سوى ظلها، كما زادَ في الفترة الأخيرة من مراهناتهِ التي تتعلق بنتائج مباريات كرة القدم الانكليزية، ليكون معلقاً كالأرجوحة بين المكائن الأوتوماتيكية ورهاناته الكروية، تلك العادة التي باتَ يمارسها يومياً، جرفته نحو هاوية الإفلاس، وكلما غاصَ نحو أعماقها، كلما دنا من حافة الإفلاس الحتمي وهو لا يعلم، وهذا هو سر تلك اللعبة اللعينة، التي يكمن خلفها سر الإدمان عليها حيثُ تبشر الإنسان بمتعة الفوز المنتظر والتتويج ملكاً بعد عبودية! وبعد متاهاتهِ الليلية يعود إلى داره متعباً ومحطما نفسياً ورئتاه تنطقان بالكاد شهيقه وزفيره. بينما منامهُ المتقطع أصبحَ من أكثر الأمور تعقيداً في حياته وحياة زوجته، فالصراخ الليلي المرعب الذي يطلقه أثناء النوم باتَ عادة وليس مرضا! والكوابيس التي يحلم بها باتت جحيما لا يطاق وكأنهُ يروم الموت في كل حلم يراه، وشخيرهُ المزعج وكأنهُ صفارة قطار من الطراز القديم الذي يعمل على موقد من الفحم، ناهيكَ عن سعاله الذي ما أن يتوقف ليرد أنفاسه حتى يبدأ من جديد؛ أهمل جلال كل شيء في ملبسه إذ يرتدي ما تقع عليه عيناه، إلى شعره الذي أصبح طويلاً ومجعداً، أما حلاقة ذقنه الذي أمست من الأمور المتروك حلها مع الزمن، وكأنهُ يقول لابد لليل أن ينجلي ولابد للفجر أن يبزغ. هذا ما حصلَ معه في غربه أقعدته من بعد شموخ، وأعجزته عن السير في رحلة فنه وإبداعاته وانجازاته الكبيرة بعدَ أن أصبحت شهادات التفوق الفني والعلمي معلقة على الجدار، كطيور محنطة فارقتها الحياة منذُ زمن بعيد. تخرجَ جلال من كلية القانون والسياسة في جامعة بغداد بدرجة ممتاز، لم يكن يجد وظيفة تجعله يمارس المهنة التي درسها ولا حتى كمحام تحت التدريب، فظلَ يتنقل هنا وهناك، لغاية ما تعرفَ على جريدة الصباح، التي تعنى بالثقافةِ والأدب، فبدأ يكتبُ لها بعض المقالات والقصص القصيرة، وكانَ يتقاضى من ذلك أجرا رمزيا يكفيه للأكل فقط، ولكن كانَ يرجع في نهاية عمله من تلك الجريدة إلى متجر أبيه، ليبيع فيه التحف الفضية القديمة والتي كانَ أغلبها يقوم أبوه بصنعه. قل اهتمامه ببناته بشكل ملحوظ، ولم يعد يعتني بصغيرته مريم المدللة التي ولدت لتكون ملكة جمال، حيثُ فازت فعلاً في إحدى الحفلات التي أقامتها الجالية العراقية ببرلين، في عيد رأس السنة الميلادية، من بين مائة متسابقة تقدمن لنيل اللقب. لقد كانت في الرابعة عشرة من عمرها عندما فازت باللقب، عيناها لهما لون العسل الخالص، بشرتها لها لون النحاس كلون غروب الشمس، تأسر قلب كل من يراها، وشعرها الغجري المتموج الطويل الذي له لون الليل، أعطاها جمالاً لا يتوقعهُ المرء من الوهلة الأولى، ولكن عندما تتأمل ملامحها الحادة، تراها بوضوح أكثر، كما ترى الأشياء تحت الضوء، لها حاجبان كحسامين من الفولاذ لم يثلما بعد، شفتاها لها لون قشر الرمان الفاتح، أسنانها صفت بطريقة تبدو اصطناعية كأسنان المشط، تفوحُ منها رائحة عطرة كرائحة ورد الرازقي أثناء الليل، بينما أناملها الرفيعة والطويلة لا تصلح إلا للعزف على قيثارة أو آلة القانون الشرقية، نهداها رمانتان ناضجتان، ولصوتها رنة الزجاج عندما يسقط على الأرض، لذلك شدوا عليها حصاراً لا يمكن اختراقه بسهوله، مواعيد ذهابها إلى المدرسة ورجوعها الذي يحسب بدقة كساعة كنيسة، خروجها معَ صديقاتها قليلٌ جداً أو أن تذهب معَ أمها في بعض الأحيان إلى السوق، ولكن خوف أمها كانَ يعظم كلما تقدمت مريم بالعمر، كقطعة أثرية تزدادُ قيمتها كلما مرَّ عليها الزمن. لم يستطع جلال رغم الفترة الطويلة التي قضاها في الغربة، بناء علاقات صداقة جادة كما كانَ يطمح بتحقيقها، كانَ يحب العشرة، وله في العراق سابقاً صداقات متينة، لم يأكلها الصدأ ولم يعرف طريقاً لها؛ لكنه في غربته، فشلَ في تقويم هذا النتاج الإنساني الذي هو بحاجة ماسه له، عندما عجز من بعد محاولات عديدة فردية من طرف واحد دون صدى يذكر، تلك كانت أول وأصعب العقبات التي جعلته يشعر بالانزواء والوحدة والفراغ، ولم يختلف الحال مع زوجته كثيراً، وقد تكون أسوء منه بكثير؛ فقد صدمت مرات كثيرة، إذ كانت تعتقد من جانبها أنها أخيراً وجدت الأشخاص الذين تستطيع أن تخبرهم بأسرارها وتفضي لهم بكدرها ولكنهم كانوا لا يستحقون؛ فترجع ثانيةً إلى نقطة البداية لتبدأ بالبحث عن علاقة قوية لا تكون المصلحة هدفها أو أحد أركانها، ولا يشوبها الشوائب، وتجدها؛ لكنها سرعان ما تجد الخديعة وسوء الفهم وعدم الانسجام الذي تتوخاه في الآخر، ليكون انكسار روحها أعظم وأكبر، فلم تجد أمامها سوى زوجها وبناتها، ولكن منْ ذا الذي يعطي دونَ أن يفكر بأن يأخذ، كالأم؟! لذا ظلت حبيسة المنزل وأفكارها وحزنها ووحدتها القاتلة، كمرض السرطان الذي ينمو في الجسد ببطء، لكنه فاتك. تجاهل جلال تماماً كلام زوجته يوماً، حينما أبلغته بوجود علاقة ما بين ابنتهما سالي وشاب ألماني اسمهُ هلموت، يكبرها بتسعة أعوام، تقضي معظم وقتها معه. كانت ليلى أثناء حديثها معَ زوجها تبكي وترتجف لقرار ابنتها المتسرع جداً، بالزواج من ذلك الشاب، وهي تلوم زوجها على إهماله لأسرته وبيته... استمع لها كالمسحور وهو ينظر إليها نظرة متأملة وكأنهُ يود رسمها، وطال النظر والصمت الرهيب الذي أشبه بصمت قاع البئر العميق، ثم رد عليها باستخفاف عجيب: وما الضير في ذلك؟! هي حرة فيما تفعلهُ، ألم أتزوجكِ بمحض إرادتي؟! فلماذا تطلبين من سالي أن تفعل العكس وهي على حق؟! لم تتوقع ليلى بأن تكون ردود فعل زوجها هكذا، فبادرته بالقول: لم أعد أفهمك. - أجابها بصوت خافت وهو يهزُ رأسه: وأنا أيضاً لم أعد أفهم نفسي، وكأني وترٌ سابع في جيتار!! لقد كانت سالي في ربيعها الأول، وقد لفت بقطعة قماش بيضاء من نوع بازه، وهكذا صعدت إلى الطائرة وهي متوجه إلى ألمانيا الشرقية، لا يظهر منها سوى عينيها، كعيني قطة، لهما لون اللوز؛ ومنذُ حداثتها كانت تتصرف بحيادية وغالباً ما تتخذ قرارات سريعة ارتجالية، وكأنها ممثلة مسرحية لم تعد تتذكر النص، فترتجل نصاً وهي على خشبة المسرح، ولكنها سرعان ما تجد نفسها قد تورطت بأمور أصعب وأكثر تعقيداً من حلولها، فترجع نادمة إلى حضن أمها الدافئ الذي يستقبلها دوماً كأحد بيوت الله، لم يغلق في وجه أحد أبداً، تطلب العطف والسماح وكأنها أمام كاهن الاعتراف. دراستها كانت متعثرة وغير جادة، ويلعب الشيطان في رأسها كثيراً كما يبني العنكبوت بيته. ترتبت على ليلى مسؤوليات مضاعفة بعد أن أخذت دور الأم والأب معاً، نتيجة إهمال الزوج لأسرته تماماً، وهي تردد دائماً في سرها( لولا حبي الكبير له، ما كنتُ قد تحملت ما تحملت ) وتمني النفس بإصلاح حاله واسترداده لوعيه... في رحلتها الشبه يومية، تأخذُ معها تلك العربة اليدوية ذات العجلتين التي تسحبها بصعوبة بالغة في طريق العودة إلى البيت، وهذا الأمر يزدادُ صعوبة وقسوة في أوقات تساقط الثلوج. مما أدى إلى عدم انتظام ضغط الدم لديها، النتيجة الطبيعية للجهد المضاعف الذي باتت تبذلهُ، مما أثرَ على وضعها النفسي، فأصبحت قلقة وعصبية المزاج، وكأنها باتت تعيشُ بأعصاب صياد ينتظر فريسته. وفي إحد الأيام الثلجية وفي أثناء عودتها إلى منزلها، انزلقت رجلها اليمنى وهي تسحب تلك العربة اليدوية، لتسقط على جهتها اليسرى كما يسقط الحجر على الأرض... بقيت ذراعها اليسرى تحت جسمها لا تشعر بها، وينزف من كفها الأيسر دمٌ غزير، لم تتوقع بأن يكون هناك كسرٌ في كتفها الأيسر إثر الارتطام بالأرض، لقد كانت تظن بأنَ ملابسها كانت تكفي لحمايتها من البرد ومن السقوط على السواء، لكنها تفاجأت عندما بدأ الألم ينقضُ عليها لينبت أنيابه في جسمها النحيف الذي يشبه ساق شجرة الرمان، وبعدَ أن التقط لها الطبيب الأخصائي صور شعاعيه اتضح لها الأمر؛ عليها إذن من لبس الجبس الأبيض لمدة أربعة أسابيع وتبقى يدها اليسرى معلقة على كتفها كغصن شجرة؛ فزادَ ذلك الحادث من أمر الأسرة سوءاً، أنقلب المنزل إلى فوضى في كل شيء، حتى أنهم أحسوا بالفراغ الذي خلفته الأم، وبأنَ أمهم كانت لها دور أساسيي في قيادة المنزل لا يمكن الاستغناء عنه مهما حصل. وبدلاً من أن يكون لزوجها دوراً أكبر في قيادة المنزل، ليعوض النقص، قامَ بفعل العكس، فزادَ من تأخره خارج المنزل، حتى أنه بدأ يأخذ فطوره وعشاءه خارج المنزل بحجة عدم توفرها! مما زادَ من عذابات الزوجة التي ما عادت تحتمل تصرفاته تلك؛ ولكنها لا تنقطع عن الدعاء للرب بأن يهديه ويحنن قلبه، وينشر فيه العطف، ليزهر الحب، فيهتمَ بهم. في بداية حياتها بالغربة عانت ليلى كثيراً من برودة الجو الذي لم تتعود عليه بسهولة، فقد ظلت تعاني من تورم أصابعها بشكل يثير الشفقة، أصبحت يدها لتبدو كيد ضفدعة، وقد كانت تعتقد خاطئة بأنها أصيبت بمرض خبيث، لكنَ بعد مراجعة الأطباء، ولمرات كثيرة، اتضح لها الأمر بأنَ تورم أطرافها حاصل نتيجة البرودة التي لم يتحملها جسمها النحيف، فأجبرت في أيام الشتاء الطويلة- التي لا تنتهي، بالنسبة لها - على لبس القفازات القطنية السميكة، وقد كانَ منظر أطرافها محط ضحك بناتها لسنوات طوال، لأنَ أصابعها كانت تبدو لهم كالجزر، لحين ما تعود جسمها على تحمل البرودة. لقد كانت ليلى ذات نظرات ثاقبة، عندما تنظر للشخص الذي أمامها لا ترمشُ أبداً، فتجعله يرتبك دونَ أن يشعر، لا تتقبل سماع الجملة التي تقال لها من مرةٍ واحدة، لتقول: ماذا؟ وهي كانت قد سمعت جيداً! لكنها تريد إحراج المقابل والتأكد من الكلام، هذه الطبيعة المعقدة والصعبة، تعودت عليها معَ الوقت بحكم الظروف المربكة والغريبة التي يعيشها الإنسان في غربته؛ لقلبها طيبة عظيمة وكبيرة بحجم كوكب، تقتصد على نفسها كثيراً، وتبذرُ لأسرتها دونَ حساب وبسعادة لا يعرفها سوى الأطفال في تبذير نقودهم عند أيام العيد؛ صريحة جداً، ومباشرة كالسهم، وعندما لا ترغب بالكلام عن أمر، لا يستطيع أي شخص أن ينتزع منها شيئا لا تريد أن تبوح به، ومهما كانت صلته، فهي صلبة كالصخر، ورقيقة كالزهرة، وتعطي دونَ أن تفكر بأن تأخذ كالأرض، لكنَ غضبها صاعقه، وصرختها زئير أسد، وإن بكت، فلا تنقطع عنه بسهولة كمطر انكلترا، ولا تعتذر من أحد كما يجب، لكنها عندما تشعر بأنَ عليها الاعتذار تقدمه دائماً بطرق غير مرئية تقريباً، وحسب قرب الإنسان منها، فمثلاً تعتذر من زوجها عن طريق إسعاده بليلة حب عظيمة، يكون فيها كالملك، لا يقوم بأي جهد سوى الاستمتاع... تمرر لسانها الصغير والرطب كالأفعى على جسمه العاري كما ولدته أمه، صعوداً ونزولاً، ليعيش ساعات وكأنه دخلَ في غيبوبة، وبذهول لذيذ، فيذوب سكراً ونشوة، يتلوى ويرتعش تحتها كالسمكة الخارجة تواً من الماء وهي مازالت حية! تجعله يتذكر تلك الليلة لعشر سنوات قادمة؛ وتلك الطريقة من الاعتذار تروق له كثيراً؛ وقد تفننت ليلى بممارسة الحب معه بشكل يدعو إلى الاستغراب أحياناً، فكانت في كل مرة تعتذر منه، تبتدع مناظر وممارسات حب جديدة لا تخطر ببال زوجها أبداً، فحين يتذكر تلك الليلة الليلاء التي اتهمته بعد أن شكّت في تصرفه عندما رأته من بعيد يسير بصحبة امرأة؛ جنَ جنونها، وأعدت له عندَ رجوعه في المساء، جلسة محاكمة خرجَ منها بريئاً، بعدَ أن قالَ لها بأنه كانَ بصحبة صاحبة المتجر لتجديد عقد إيجاره، وعندما تأكدت من أقواله... أعدت عدتها، وأبتسم بمكر لها، وشعر بأنه سيعاقب بممارسة المجون والأنس الليلة معها بكل تأكيد. حيث قامت بتحضير الحمام له، وأشارت برأسها الصغير كثمرة سندي، عليه بالدخول، فبهر مما رأى، طشت كبير مليء بالماء الساخن يعلوه رغوة من الصابون المعطر، وتسبح فيه قشور البرتقال الإسباني، مع وريقات من ورد الجوري الوردي، ليبدو سطح الماء وكأنه جلد نمر، تفوح منه رائحة كرائحة الجنة؛ وبعدَ أن تحمم ونشف، أشارت له بالتمدد على منشفة بيضاء مغسولة حديثاً، له عبق زيت الزيتون المغربي، لترش على جسمه العاري وهو منبطح على بطنه وكأنه يعوم، العسل التركي بعدَ أن سخنته، لتدلك جسمه به وهو يئن كالمحتضر بعدَ أن أجهزت عليه. بينما ليلة زفافه كانت أسوأ بكثير مما توقعها، فقد وقفَ أمامها مذهولاً وعارياً كعمود النور، لا يعرف من أين وكيف يبدأ، وبعدَ مشاورات عديدة ومحاولة أولى فاشلة، لأنه أعتقد خطأ بأنَ عضوه الشرس كانَ في المكان الصحيح! ولكن زوجته خففت بذكائها المتقد ودهاء حواء المعروف... حتى تجاوز أزمته ومحنته، ليعيد الكره مرة أخرى وبسرعة كادت تصل حدود سرعة نزول الحجر بعد رميه إلى الأعلى؛ وكلما تذكرا تلك الليلة كانا يضحكان كثيراً كالأطفال. في حين لو كانَ الاعتذار يخص بناتها... تقدم لهن وجبه غنية وشهية من الحلوى التركية التي تصنعها بنفسها وبمهارة كبيرة، بينما لو كانَ الموضوع يخص صديقة، فتراها تبعث لها بباقة ورد غالباً ما تكون من الياسمين أو زجاجة عطر فرنسي غالي الثمن، لكنها تتحمل ذلك بنفس طيبة وصابرة، لكنها لا تعتذر مباشرة أبداً. وفي إحدى الأيام الممطرة من صباح يوم الاثنين الذي له صفة خاصة من حيث حركة الطلاب الكثيفة وتوجهم نحو المدارس، وتحت وطأة وكآبة العمال وإحساسهم بنهاية العطلة الأسبوعية، والبدء بأسبوع جديد روتيني له أطلاله حزينة يعرفها من يغادر بيته متوجهاً إلى عمله من بعد استرخاء لا يجدونه إلا في نهاية الأسبوع المقدس! في مدينة برلين الألمانية المزدحمة بالسكان والبضائع والسيارات والمارة المتجولين وعلى ناصية الشارع المطل على بناية بلدية برلين كانَ متجر جلال بلون خشبةُ الأسود والزجاج المائل إلى الاصفرار من جراء الأتربة المتراكمة عليها، يبيع فيه التحف القديمة وبكل أشكالها وأنواعها والمصنوعة من الفضة الخالصة، المهنة التي توارثها عن أبيه الذي كان يملك أحد أفضل محلات التحف الفضية في شارع النهر آنذاك، الشارع الأكثر شهرة في بغداد. يبعد منزلهم عن المتجر حوالي سبعة كيلو مترات، يستقل الحافلة وقوفاً، والتي كانت باستمرار مليئة بركابها، يستغرق الطريق حوالي خمس وعشرين دقيقة رغم قصر المسافة، ومن عاشَ في برلين يعرف بالضبط ماذا تعني الرحلة الصباحية بحافلة في مدينة كهذه! جاء جلال في ذلك الصباح الممطر والبارد وجسمه يزحف خلف ساقيه من جراء إرهاق الأمس وتعبه، ففتح متجره بقوه متراخية وبإحساس منطفئ وكأن الحياة قد تخلت عنه للتو وللحظه! جلسَ على كرسيه الجلدي الكبير والوحيد في المتجر وراء طاولة شبة مستديرة يخدم الزبائن من خلفها وسيجارته في فمه يرفض التخلي عنها وكأنه يتنفس من خلالها، والصدأ والغبار يعلو بضاعته التي توحي للزائر بأنها بضائع صنعت قبل عصور التأريخ! لم يكن يفكر بشيء سوى النظر إلى الساعة المعلقة على الحائط الجانبي وكأنه يستعجل الوقت للذهاب إلى الحانة في استراحة الغداء، بعدَ أن أمسى لا يكتفي بارتيادها ليلاً، بل صارَ يرتادها في النهار أيضاً، وهذا ما دفعه إلى عدم الاكتراث بمواعيد فتح المتجر في الأوقات المثبتة على واجهته، باتَ حراً، يفتح المتجر ويغلقه كما يشاء أو كما تتطلب الرغبة والميول والضرورة لذلك. وهو في جلسته يغوص في عالم أحلامه المترامية الأطراف، غارقاً في تأملاته... عند تلك اللحظة رنَ جرس الهاتف، نظر إليه وهو يخشى الرد! كأنه قنبلة موقوتة على وشك الانفجار، لكنَ استمرار الرنين وإزعاجه، أجبره على الانصياع والرد عليه بجفاء: ألو... من المتكلم؟ - صباح الخير يا سيدي، أنا سيد موللر، لدي عندك ساعة فضية لتنظيفها منذ شهرين هل انتهيت من عملك؟ - بخمول: نعم أنها جاهزة، ويمكنك المجيء في الحال. - شكراً لكَ يا سيدي، سوفَ أكون عندك خلال عشر دقائق قادمة... إلى اللقاء. تنفس جلال الصعداء وقالَ في سره: لقد ضمنت أيراد اللعبة لنهار اليوم الذي سيجلب لي السعد الأكيد! فتح باب المتجر، ليدخل ثلاثة شباب يتكلمون اللغة الألمانية باعوجاج واضح، وتدل هيئتهم على أنهم من دول أوروبا الشرقية، وعلى أقرب الاحتمالات من رومانيا، أثنان منهم توجهوا إلى جلال ليكونا متقابلين ولا يفصل بينهما سوى طاولة شبة المستديرة؛ أحدهم كانَ أحول وحدقتا عينيه متنافرتان عن بعض، وكأنهما قرصان مغناطيسيان أقطابهما متشابهة، وهذا المنظر جعلَ جلال يضحك دونَ إرادة منه، وحاولَ أن يمسك نفسه لكن دونَ جدوى، مما أثار كبرياء وحفيضة الزبون فسأله الأخير بامتعاض: عن ماذا تضحك؟ - أجابه خجلاً، مرتبكاً( متلافياً النظر إليه ): أنا آسف، الموضوع لا يخصك تماماً، ولكنني تذكرت شيئاً قد حصل لي وأنا متوجه لمتجري، جعلني أضحك منه، ومع ذلك أعتذر منكم مجدداً. بينما بقي الشخص الثالث وهو أكثرهم صحة وقوة وشبابا، مواجهاً لهم ومعطياً ظهره للباب، بعدَ أن حجب دخول الضوء إلى المتجر؛ لقد كانت ثياب الثلاثة مازالت مبتلة من جراء المطر خارجاً، والمتجر من الصغر حيث لا يمكن أن يستوعب هذا العدد، إضافة إلى الدخان المتصاعد من سجائر جلال المتواصلة ورائحة الملابس المبتلة، كل هذا جعل جو المتجر خانقا جداً وباتَ التنفس صعب المنال، ليبدو الجميع وكأنهم مصابون بالربو... قال أحدهم لجلال: من فضلك، ناولني هذه التحفة التي وراءك. نهض جلال متثاقلاً وبكسل شديد، كأنه استفاق من نومه لتوه؛ خذ هذه هي. الثاني: من فضلك ناولني تلك التي في نهاية الرف. - تلك؟ - نعم. يجلبها له بهمة أفضل قليلاً من السابق؛ تفضل... - يفركها بكلتا يديه، وكأنها المصباح السحري وهو يهم بالكلام مسترسلاً محدثاً ضجيجاً: هل تستطيع أن تعمل لنا تخفيضاً جيدا؟ فنحن مستعدون لشراء القطعتين معاً. لم يصدق ما سمع! فهو بانتظار رزق من زبون سيأتي حالاً ليسترد ساعته، وهذان يريدان قطعتين من التحف في آن واحد! وبعد برهة من الزمن رد جلال عليه بغبطة: نعم، يمكن لي أن أعمل لكم تخفيضاً جيداً... وقبل أن يكمل جملته تلقى من أحدهم وهو المواجه له تماماً ضربة على وجهه بمقبض من حديد، عندها لم يشعر جلال بشيء، بعدَ أن سقط على الأرض سابحاً بدمائه... حينها بدأت السرقة الخاطفة والسريعة وكأنهم في ميدان حرب وجاءهم الأمر بالتقدم! أوصد أحدهم بالمفتاح الذي كان على الطاولة باب المتجر، والآخر كانَ منشغلاً بضرب جلال وهو مستلق على الأرض ويقول له بتصميم وعناد وبصوت جهوري غير متردد وغير خائف: إنك ستموت وأنا منْ يقرر ذلك، وكأنه فرعون عندما قال لشعبه، أنا إلهكم الأعلى وأنا منْ يقرر شؤونكم! في لحظة ضعف قاسية، تراءى له شبح الموت، شعر بيده وهي باردة يضعها على كتفه ويشير له بقبول دعوته، الرحيل معه نحو عالم غير مرئي وليسَ فيه انبعاث مجدد للحياة، عندها فقط شعر جلال بحبه للحياة، وتمسكه بها، فانفجر باكياً، صارخاً بهم بصوت مبحوح وكأنه يعوي، وهو يشير بيده المتراخية بتوسل: خذوا ما يحلوا لكم، لا تبقوا على شيء، لكن أتركوني أعيش... في هذه اللحظة الحاسمة التي قسمت ظهره، عندما تخلى عن كل تناقضاته وهواجسه التي كانت تدفعه لرفض الحياة والاستغناء عن ملذاتها الدنيوية، في تلك اللحظة بالذات كشفَ عن ضعفه، وعن تعلقه بخيط الحياة، ولكن تحت تأثير ورهبة لحظات الموت الصارمة المحققة. في حين استمر الشخص الثالث بسرق التحف وبسرعة متمرسة، كالساحر، ويضعها في كيس أعُد لهذا الغرض. في هذه الأثناء حضرَ سيد موللر، لكنه تفاجأ بإغلاق المتجر، على الرغم من وجود شخص يقف حائلاً بينه وبين المتجر، عندها طرق على زجاج الباب ليلفت انتباه الشخص الواقف خلف الباب وكأنه تمثال كبير، ضخم من الحجر. التفت عليه السارق وهو يؤشر له ويقول: المتجر مغلق. لكنَ سيد موللر رد عليه وبصوت مسموع من الخارج وأشار بيده إلى أنهُ اتصل بصاحب المتجر قبلَ قليل وهو الذي قال يمكن لي الحضور، وها أنا هنا( تماماً كأي ألماني، لا يعرف إلا ما هو أمامه ويصدق كل شيء ) عندها شعر السارقون بالحرج والخوف من جراء الموقف الحالي المتأزم؛ رجل غارق في دمائه، وآخر خارج المتجر ينتظر على الباب، وهم يسرقون بلا تردد ولا يرمش لهم جفن كما يقول العرب. عندها فتحوا باب المتجر ليهربوا بسرعة، تكاد تفوق سرعة هروب الأرانب عندما يشعر بالخوف أو أكثر مهارة من اختفاء السناجب وفي فمها جوز. لم يكن رد فعل سيد موللر سريعاً، فالمفاجئة أربكته إلى حد السهو، ولكن ما أن وعى على نفسه، حتى تذكر صاحب المتجر وما أصابه، فأخرج هاتفه المحمول وسارعَ للاتصال بالشرطة وهو في حالة ارتباك شديد، وعند هذه الأثناء خرجَ جلال زاحفاً إلى ناصية الشارع وهو غارق في دمائه، وجسمه مجهد من أثر اللكمات التي تلقاها، يستعطف النجدة بصوت موجع ومتقطع، كالنواح. هرعَ سيد موللر إلى المطعم الذي بجوار المتجر يجلب منهم ماء كي يغسل وجه جلال من الدماء، تلك التي بدأت تنفر من وجهه بغزارة، وقد كانَ تصرف سيد موللر هذا( ومن دونَ أن يعلم ) هو الذي أنقذه من الموت المحقق، بعد أن صعبَ عليه التنفس وبدأت حالة الاختناق واضحة من جراء دخول الدماء قصبته الهوائية. بعدَ أقل من ثلاث دقائق كانت سيارة الإسعاف هناك والفريق الطبي المرافق بدأ عمله كي يسعف ويضمد جراحة وعلى السرعة حملوه إلى داخل السيارة متوجهين إلى المستشفى، مع وجود ضابط من الشرطة يستجوبه بكل هدوء وراحة بال، كأنه يتناول غداءه! يسأله ويده على أنفه، تلافياً لشم الرائحة التي تفوح من جسد جلال، تلك التي تشبه رائحة العظام المحروقة لتوها: أرجو منك يا سيد، أن تخبرني عن أوصاف السارقين كي نستطيع القبض عليهم قبل أن يكونوا في مكان يصعب علينا اللحاق بهم. جلال( وهو يتألم ويئن ): لقد كانوا ثلاثة، ولغتهم الألمانية ليست جيدة، وأحدهم كانَ أحول، وتذكرَ ضحكه قبل قليل، لكنه الآن في حالة لا تسمح له بأن يفعل أي شيء. - سيكونون بعد قليل في قبضتنا لا تقلق، ولكن هل لي أن أحصل على رقم هاتف زوجتك كي نبلغها بما حصل؟ - نعم بالتأكيد، فأنا بحاجة ماسة لها، أرجوك أبلغها وقل لها بأني سأموت، وعليها أن تحضر إلى المستشفى حالاً... اتصل الضابط المرافق له بزملائه لملاحقة الجناة ، واتصلَ كذلك بزوجته. مكث جلال وقتاً طويلاً في غرفة العمليات تجاوزت ثمانية ساعات، مما أتلف أعصاب عائلته التي كانت تنتظر وهم في حالة يرثى لها من القلق، لقد كانوا أشبه بالطافين على سطح البحر من جراء تحطم سفينتهم، وهم بانتظار من ينجدهم! خرج من غرفة العمليات ووجهه مغطى بضمادات كثيرة لا يرى من وجه سوى عين واحدة مازالت ساكنة وداكنة وكأنها مستنقع راكد. ولكن وبعدَ ثلاث ساعات كان قد استعادَ جزءا من قوته؛ فحكى لهم ما حصل مع المبالغة وتضخيم تفاصيل المعركة التي دارت بينه وبينهم! لكنه كان مرهقا جداً، فلم يستطع أن يستمر في الحديث، سوى أنه وعد أسرته الواقفة أمامه بأنه سيترك كل ما له تأثير سيء على حياته وحياتهم، وأن يترك التدخين، وأن يعتني بنفسه وبأسرته كما كان في السابق، وألا يعود ثانية لتلك الحانة اللعينة، وأن يقلل من وزنه المتزايد، بعد أن رأى الموت في أكثر لحظات حياته صعوبة وألما؛ وها هو الآن يعيش ويبعث من جديد من بعد موت محقق. لم تصدق زوجته ما سمعت، فهي مازالت مبهورة وغير واعية لما حدث وما يحدث، ولكنها قالت وبشكل حازم: أتمنى ذلك من كل قلبي، فنحن بحاجة لك أكثر من ذي قبل، أرجو أن تستعيد صحتك بسرعة، وأن ترجع لنا كما كنت وكما عرفتك مرحاً، صبوراً، ومتسامحاً كي تعيش حياتك بإيجابية مفعمة بالتفاؤل والعطاء، وأردفت بعد وقفة قصيرة: ليس فقط من أجلك، بل من أجلنا نحن. ثم صلّت ودعت ربها وبكت عندها بكاءً مراً، لا يبكيه سوى البحر في الشتاء لوحدته وقنوطه. أول خبر تلقاه جلال من الشرطة هو أنهم قد قبضوا على أثنين من الأشخاص الذين سرقوه وحاولوا قتله، وأن ما سرق كان بحوزة هؤلاء المقبوض عليهم؛ تلك الأخبار جعلت من معنوياته أكثر قوة وتصميما للحياة من جديد. وبعدَ ثلاثة أسابيع من مكوثه في المستشفى خرج جلال معافى، وقد استعاد قوته وانخفض وزنه حتى أصبح خمسة وثمانين كيلو غراما... كان سعيداً جداً بتلك النتائج الإيجابية التي لم يكن يتوقع حدوثها بمثل هذه السرعة، كما أن زوجته قامت بتنظيف المتجر وأعادت دهانه أثناء وجود زوجها في المستشفى، وهيئته بشكلٍ جيد لاستقبال مالكه الشرعي عندما يستعيد قواه؛ كل تلك الأمور قامت بها دون أن تخبر زوجها، لكي تعطيه دفعة جديدة من الأمل، وقد دفعها الحب بأن تحاول مرة جديدة معه لتقوية الروابط الأسرية فيما بينهم... حيث خططت بعد زياراتها المستمرة إلى المستشفى- عندما كانَ زوجها يرقد هناك - بأن تقدم على خطوات متتالية إيجابية، تعطي حياتهم نبراس أمل نحو الأحسن؛ لذلك، جهزت نفسها من قبل أن يخرج زوجها من المستشفى، على أن تحاول الجلوس مع زوجها لفترات أطول، وتفتح معه مواضيع ممتعة للحديث فيها، كتاريخ بداية علاقتهما، أو أيام الخطوبة، التي هي أجمل أيام المتزوجون دون منافس، تماماً كأيام الطالب أثناء دراسته الجامعية، أو أن تخرج معه للنزهة، أو للتسوق، تحاول أن تتقرب منه أكثر، كي تكسب صداقته مرة أخرى، هذا ما نوت عليه فعلاً... تسربت الحيرة إلى عقل جلال، كالخدر في الرجل أثناء الجلوس الطويل، وبدأ الضجر يغزو أعصابة شيئاً فشيئاً... لم يعهد تلك الحياة الرتيبة دون شد أو مد، ولم يستطع الصبر أو يطيق الجلوس هكذا بين أحضان زوجته، فلابد لي من الإسراع في التغيير( هذا ما قاله لنفسه ) حتى جاءت ساعة الصفر، ليتحرر من أولى تبعات الحصار المفروض عليه- العلاج الطبي والنفسي - لم يستمر بالطرق المثلى للعلاج، وما أن استعاد قوته البدنية، حتى بدأ يغافل زوجته كي يبدأ بتدخين سيجارة هنا وأخرى هناك... أفرط في الطعام، وعاودته الزيادة في الوزن، حجته كانت بأنه يحتاج لذلك كي يعوض ما فقده ولكي يستعيد قواه الضائعة أو بسبب كآبة تلك الأيام الرتيبة والحزينة التي تزامنت مع موت أخيه في العراق! وفي إحدى الأمسيات، استّغلَ انشغال زوجته في تحضير طعام العشاء لأسرتها، لينسل كاللص من البيت متوجهاً لحانته القديمة العريقة، فالحنين لتلك الحانة كانَ أكبر من كل وعوده التي تهاوت أمام أولى لحظات ضعفه وكأنه حنين الطفل إلى حضن أمه بعدَ طول غياب... هكذا عاد جلال إلى حالة الانهيار والضياع مرة أخرى ليعيش حالة العفن المتأصل حتى نخاع العظم من جراء مقامراته ومغامراته الليلة على رصيف الغربة التي لا تريد أن تنتهي!!
#هيثم_نافل_والي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة قصيرة بعنوان/ كل شيء إلا الخيانة
-
قصة قصيرة بعنوان/ موقف
-
قصة قصيرة بعنوان/ الندم
-
سلطان الكلام/ الأسلوب الأدبي عند الناثر
-
قصة قصيرة بعنوان/ على ضفاف نهر الأردن
-
حكاية بعنوان/ في رحاب الكفر
-
سيرة ذاتية/ رحلتي معَ الكتابة
-
حكاية بعنوان/ قارئة الفنجان
-
قصة قصيرة بعنوان/ جريمة قتل
-
قصة قصيرة بعنوان/ الشبح
-
حكاية بعنوان/ الهروب من الطاعون
-
قصة قصيرة بعنوان/ رحلة
-
شخصية الفرد العراقي
-
كلمات... ولكن
-
حكاية بعنوان/ الصديق
-
قصة قصيرة بعنوان/ بيت الله
-
حكاية بعنوان/ جلسة معَ رئيس الطائفة
-
قصة قصيرة بعنوان/ المغرور
-
قصة قصيرة بعنوان/ كؤوس الخمر
-
قصص قصيرة بعنوان/ كؤوس الخمر
المزيد.....
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|