|
تهميش النتاج الذهني وتهشيم العقل
جواد كاظم غلوم
الحوار المتمدن-العدد: 4170 - 2013 / 7 / 31 - 16:32
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
تهميش النتاج الذهني وتهشيم العقل
يعمد البعض من مفكرينا الى اتخاذ اجراءات قاسية بحق النتاجات التي يكتبونها وتتخذ هذه الاجراءات اساليب شتى ،هدفها تضييع جهده الكتابي وطمس معالمه وإخفائه ومنهم يلجأ الى حرق مؤلفاته واشعال النار فيها ومنهم يقوم بطمرها في التراب دون ان يبلغ عن مكانها ، وآخر يطيّرها في الهواء لتذروها الريح ولعل الجميع يعرف مافعله ابو حيان التوحيدي حينما عزم وهو في فورة غضب عارم عن " لاجدوى " الكتابة وصدمته من المجتمع الغريب الاطوار الذي يتجاهل مايخطّه المبدعون، والاتهامات التي كالها له اعداؤه متّهمين اياه بالفساد والمروق والإلحاد فعزم على احراق مؤلفاته ولم ينجُ منها سوى ماتبقى لدينا وهي بضعة كتب غاية في الابداع والاتقان اذكر منها (الامتاع والمؤانسة ) و(الهوامل والشوامل) و(كتاب الصداقة والصديق ) و( البصائر والذخائر) و( أخلاق الوزيرين ) و(المقابسات ) التي يعدّها النقاد من ابرع ماكتب ، وبعض الرسائل المبثوثة في بطون الكتب ، لكن هناك الكثير من مفكرينا الاوائل ممن فاق التوحيدي في اخفاء نتاجه تمزيقا اوحرقا او طمرا معلنا عن يأسه وندمه على ضياع شطر واسع من عمره مكبّا على الكتابة ليل نهار حتى ذبلت نضارته ويبس عوده وساحت شموعه وخفت ضوء عينيه ونحل جسمه من اجل ان يُري الناس عصارة عقله لكن بعضا من بني جلدته من عامة الناس وحتى خاصّتهم يقابلونه بالجفاء وعدم الاهتمام لا بل يقابلونه بالاستهزاء والسخرية المرّة لكونه ضيّع احلى ما في عمره في اظهار شيء ملفت للنظر لكن الأغلب يديرون ظهرَهم جفاءً ونكرانا لابداعه وربما يقع هذا الكاتب او ذاك المفكّر ضحية ماسطّرت انامله لو اتهم بالخروج عن القاعدة والعرف السائد كأن يكيل له الحسّاد والأعداء الاتهامات وما اكثرها لو اتضحت في ثنايا فصول كتبه شذرات تنم عن ابداع وفكر جديد غير متداول وغير متعارف عليه من قبل ومما أثار فضولي وانا انبش في بطون الكتب عن ظاهرة اتلاف النتاج الفكري لهؤلاء الكتّاب فقد لمست العجب العجاب وانا اتابع وأقرأ غرائب سلوكية واساليب مبتكرة في تهشيم العقل وتدمير مثل هذا الجهد الفكري فهل يعقل ان سنوات من الكتابة والجهد والسهر والانكباب على القلم والدواة والبحث والتقصِّي وعصارة الفكر تضيع بغمضة عين في اتون النار او تتطاير في مهب الريح او تدفن في قيعان الارض او تسيح في الماء غرقا ؟؟!! ، ولأطلعكم اكثر فان الزاهد المعروف يوسف بن إسباط ألقم كتبه ومؤلفاته الجمّة في غارٍ بأحد الجبال النائية ثم سدّ فتحة الغار بصخرة كبيرة قام بدفعها اياما بشقّ الانفس بحيث يصعب ازاحتها من مكانها اما ابو سليمان الداراني فقد أوقد تنّور بيته وأسجره لهبا وإحماءً واخذ يقذف بقراطيسه في حلقه وهو يبكي ويقول : والله ماحرقتك حتى كدتُ أحترق بكِ فاتهامات الزندقة والخروج على الملّة والكفر والإلحاد جاهزة تماما ومن السهل جدا ان يوصم المفكر المبدع بهذه التهم وما اكثر الحسّاد والمتربصين بهؤلاء المبدعين اذا ثلمت مصالحهم وكشفت عوراتهم وتعرضت اهواؤهم للصدع والانهيار وتحدثنا كتب التاريخ ان هناك مايزيد عن خمسة وثلاثين مفكرا وعالما عربيا عمدوا الى اتلاف كتبهم حرقا وذرّوا رمادها للرياح او طيّروها هنا وهناك لتعصف بها تيارات الهواء ولم يجرأوا على حرقها ، فكيف بالانسان ان يحرق وليده وثمار حقل فكره ؟!! فحلّقت اوراقهم في الفضاء وتأرجحت يمنة ويسرة تتلاعبها ايدي الرياح العابثة وآخرون اغرقوا قراطيسهم في الماء ليذوب الحبر ويختلط بالماء معا ويكون مجرى النهر اسود حين يخالطه مداد العلماء والمفكرين وقد رسخ هذا المشهد في عقول الناس وذاكرتهم حين رميت المؤلفات النفيسة وسط النهر تماما كمثل مشهد رمي المؤلفات في دجلة عندما غزيت بغداد على يد الهمجية المغولية الا يحق لنا ان نتساءل ؛ ترى ما الذي يرغم مثل هؤلاء الكتاب الى هذه الوسائل في التلف وهو الذي سهر الليالي واوقد مئات الشموع من اجل ان يخط هذه الحروف في قرطاسه ؟ وكم من الوقت اهدر لتنزف عصارة الروح حروفا قد غمست في آنية عقله اجل ان هناك البعض من الكتّاب قد شعر بلا جدوى مايكتب امام مفارقات الحياة ومصاعبها واللامبالاة التي يلقونها من الاخرين وهي وجهات نظرهم امام تراكم الجهل وعدم الاهتمام بمبدعي مجتمعهم وهي فلسفتهم بالحياة ورؤاهم . لكن هناك الكثير من الكتاب اضطروا الى اتلاف ما لديهم خوفا من السلطة التي لاتتوانى عن اتهامهم بكل وسائل الادانة كالكفر والزندقة والخروج عن الملة والانحراف وإلا كيف نفسر ان خليفةَ امر سيّافهُ ان يحضر له النطع (وهو فراش واسع وعريض من الجِلد يُمدّ على الارض حتى لاتتسخ بالدم وهو عُدّة السيّاف كي توضع عليه الجثث النازفة) وامسك السياف حسامه لقتل كل من يخرج عما هو متعارف عليه من افكار غير متداولة في المجتمع. نعم ان جُلّ من لجأ الى اتلاف كتبه كان يخشى الحاكم حفاظا على روحه من الموت مضطرا الى تضييع مؤلفاته وحرقها او رميها في مهب الريح حتى لاتكون وسيلة ادانة له ويكون ضحايا حرفه المتمرد في عصارة فكره. أورد هنا في هذه المقال بعضا من الشخصيات التي مارست تلك النزعة الفريدة ولم يكترث بمؤلفاته وقام باتلافها على يديه وأشير بهذا الصدد ان مانعرضه هو غيض من فيض العلماء الاجلاّء الذين عاثوا خرابا بنتاجهم حرقا او طمرا او تمزيقا. ابو عمرو بن العلاء (67- 154 هج) الذي يعده العلماء اعلم الناس بالشعر والادب وعلوم القرآن وأحد رواد القراءات السبع للمصحف الشريف ، هذا الرجل اللوذعي العليم لجأ الى طمر غالب كتبه تحت التراب ولم يبلغ احدا من اهله ومعارفه ولزم الصمت المطبق ازاء فعلته ولم يبدُ لها ايّ اثر حتى هذه الساعة حتى ان ابا عبيدة يُزيد قائلا : ان بيته كان مليئا بقراطيسه ودفاتره بحيث لامست سقف بيته وضاق ذرعا بها فعزم على احراق بعضٍ منها والتي كانت تأخذ حيزا كبيرا من بيته الضيّق اذ لم يكتفِ بطمر كتبه فحسب بل قرر إحراق قراطيسه التي ملئت البيت حتى طالت السقف. وسواء عمل ابو عمرو على احراق كتبه أو طمرها فالامر سيان ونتيجته واحدة وهو تلف الحضارة والرقيّ وتعبير عما يخالج هذا الرجل الجليل من يأس ونكوص للإهمال الذي تعرض له هو وزملاؤه الكبار داود بن نصير الطائي (ت 165 هج ) من الشخصيات الزاهدة العابدة هذا المتصوف العفيف تلميذ العالم الكبير الإمام الاعظم ابي حنيفة النعمان عاش واستقر في الكوفة طاهر اليد ولم يمد كفّه طالبا المال او الجاه مكتفيا بالزهيد من مستلزمات العيش راضيا قنوعا بالقليل الذي يقيم اوده ويسد رمقه هذا الرجل الملقب بتاج الفقهاء جمع كتبه خلسة وحمّلها بدابته الى شاطيء النهر وأطعمها الماء مرددا قولته الشهيرة التي وجّهها لموجاته : نعْم الدليل انتِ سفيان الثوري(97 – 161 هج ) شيخ الاسلام وإمام الحفّاظ مصنف كتاب / الجامع وقصته مع ابي جعفر المنصور معروفة للملأ حين دعاه وأمره بتولي القضاء في احد امصار الدولة غيران سفيان رفض جازما هذا الامر فغضب المنصور غضبا شديدا واوعز الى احد حاشيته بإحضار السيّاف لنحر عنق الثوري وأمر بفرش النطع الجلدي على الارض تمهيداً لرمي جثته المدماة عليه ولما ايقن الثوري بجديّة قرار الخليفة قال له : --انظرني الى الغد وآتيك بزيّ القضاء فلما اصبح الصبح لم يأتِ سفيان في الموعد وأُمهل الى الضحى لعله في شغل شاغل حتى يئسوا من حضوره وتبين بعدها انه عقر ناقته ميمما وجهه صوب اليمن هاربا من الخليفة ومن مسؤوليات القضاء وعاش بعيدا هناك ردحا طويلا في اليمن السعيد البعيد هذا الرجل مزّق مايزيد من الف جزء من مخطوطاته وطيّرها هائمة في الريح وكلماتهُ تطارد قصاصات ورقهِ وهي تقول صارخة ملء فمها :ليت يدي قطعت من هاهنا – وهو يشير الى عضدهِ-- ليتني لم اكتب حرفا واحدا أبو سعيد السيرافي (284 –368 هج) والذي قال عنه ابو حيّان التوحيدي ؛ انه شيخ الشيوخ وامام الأئمة معرفة بالنحو والفقه واللغة والعروض وعلوم القرآن والحديث وقد أفتى في جامع الرصافة خمسين سنة على المذهب الحنفيّ فما وجد عليه خطأ ولم تبنْ منه زلّة اضافة الى كونه عالما في الحساب والفلك والرياضة والهندسة كان يعيش من كدّه وتعبه ولايخرج من بيته الاّ وهو قد نسخ عشر ورقات يأخذ اجرها عشرة دراهم ويأنف ان يمدّ يده الى سلطان او حاكم لسعة زهده وقناعته المفرطة ويوم حانت منيته قال لولده وهو في النزع الاخير : قد تركتُ لك هذه الكتب فإذا رأيت انها تخذلك فأطعمها النار وتخلّص من شرورها أبو كريب الهمذاني(ت 243 هج) من رواة الحديث الاجلاّء ولاشائبة عليه في صدق نقله ، ومن محدثي الكوفة المميزين الثقاة واحد شيوخ النسائيّ ، قيل عنه انه كان يحفظ اكثر من مئة الف حديث وقد أوصى وصيّة غريبة حيث لم يجرؤ على اتلاف نتاجه بنفسهِ فارتعشت يداه وخذلت تصميمه على دفنها في التراب لكنه لم ييأس ووصّى ان تدفن كتبه معه حين يحين موته وهكذا كان ، ولعله لم يرد ان تفارقه وأحبّ ان تكون ضجيعته في مدفنه ليأنس بها ويتوسّد قراطيسه لحداً الى يوم مبعثه جواد كاظم غلوم [email protected]
#جواد_كاظم_غلوم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كرماء رمضان - بمناسبة حلول شهر الصوم -
-
قصيدتان : 1)شاعرٌ ثقيل الظلّ والجيب ، 2) أغوار عميقةٌ
-
قصيدة بعنوان - وقودُها العارُ والسفالة -
-
يفجّرون بيوت الله ليدخلوا جنّتَهُ
-
وصايا لاتأخذوا بها
-
السيّدة ذات الرداء الأحمر
-
مواعظ ونصائح شيخ المايكروسوفت
-
قصيدة بعنوان : رضاعة الكبير
-
كنوزنا الضائعة في الشتات
-
سوريا التي في خاطري وفي دمي
-
تشويهُ معالم بغداد
-
وخزاتٌ لابدّ منها
-
هل أدلُّكم على تجارةٍ تبدّدُ أموالكم ؟؟!
-
الجامعةُ العربيّة في النزَع الأخير
-
ديمقراطيتنا تتنفسُ الغبراء لا الصعداء
-
قصيدة بعنوان - حبّ امتناع لامتناع -
-
مذاقُ لحومِ الخيل
-
قضاؤنا العراقيّ في عيون المنظّمات الانسانية
-
عشرُ سنوات من سقوط الدكتاتوريّة
-
إنَّ أخفتَ الأصواتِ لصوتُ المثقف
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|