|
نبش في تاريخ منسي - الكاهنة - رواية ج 3
رويدة سالم
الحوار المتمدن-العدد: 4169 - 2013 / 7 / 30 - 19:59
المحور:
الادب والفن
عبر الوهاد والجبال والسهول متجها صوب تاكاباس [ قابس ]. قطع كل الطريق متيقظا متقصيا الاخبار. على مشارف المدينة علم ان جحافل العدو قد غادرت مكمنها في برقة. واصل سيره جنوبا على جناح السرعة حتى بلغ الكتيبة المقيمة في برج زنكاريس. كانت الادخنة تملأ كل المناطق التي عبرها وقد حُطمت الحصون وفر الاهالي محملين بما استطاعوا حمله بعد أن طمر بعضهم حليهم وثوراتهم في الارض على أمل العودة لمواطنهم لما تهدأ عجلة الحرب الطاحنة. قصدوا مناطق اكثر أمنا في الصحراء القريبة أو السواحل أو نحو الشمال والمناطق الجبلية المستعصية بعيدا عن طريق العسكر القادم من برقة. رأى الخوف في عيون الناس والسخط في أحاديثهم المهموسة رعبا. هناك أُخبِر ان جند حسان قد بلغوا حدود انطابلس الشرقية وحطوا رحالهم استعدادا لجولة جديدة للسيطرة على كل المقاومة الشديدة التي تعترضهم. قيل له أيضا أن القائد قد علم بكل استعدادات الملكة ودرس كل المعلومات التي وردته حول البلاد ومواطن قوتها ونقاط ضعفها والخطة العسكرية المعدة للمواجهة تصدِّيًا للغزو بحذافيرها. لقد كان خالدا هو الخائن لعهود البنوة والإخاء التي قدمها أمام اغلب العشائر لما قرر البقاء في صفوف الرجال الاحرار وعدم العودة للأسر العربي الذي ادعاه. شرب حليب الارض الذي اعتاد الامازيغ التبني بالقيام بطقوسه : خلط دقيق الشعير بالماء ثم عصره وشرب حليبه في اناء فخاري معد لذلك ومحفوظ بقدسية في المعبد. بعد ان شرب حليب الارض، وعد الدعي بالوفاء وبالانتماء ومحاربة كل خائن, لكن رغم كل العهود والوعود التي قدم خرب الجسد من الداخل دون ان يشعر أحد بحجم الدمار الذي صنع. لقد صلى وصام لأمر كان يقضيه. بينما كانت الملكة تجمع اهل افرونوميديا للذود عن حمى الوطن كان يشتري الذمم بالوعود والمال الذي كان يرسل له خلسة. تأكد أمناي من وجود البعض منهم ضمن جيش الملكة وبأنهم سينقلبون عليها حال المواجهة الكبرى مع العدو. بفضل دهاء خالد العبسي وضعف نفوس الصغار من البشر ضمت صفوف القائد العربي أيضا فيالق كبيرة من الامازيغ الخونة والمستعربين والأفاقين وقطاع الطرق والمجرمين الباحثين عن الاثراء السريع بفضل الغنائم التي وُعِدُوا بها في حال الانتصار. في انطابلس كانت دقات طبول العدو قد بانت. من الكتيبة التي التقى بها هناك علم أن ان حسانا قد ارسل منذ أكثر من شهر الى المناطق الداخلية في افرونوميديا فرقا من الجند الذين أتوا في البعث الاخير المرسل من طرف عبد الملك مصحوبين بمترجمين من الامازيغ وبعض من عرب قمونية. طلب منهم ان يتسللوا الى عدة مناطق وأن يشتروا النصرة بوعود الكسب الوفير كما طلب منهم ان يثيروا الاشاعات حول القوة اللامحدودة لمخلصي البلاد الذين لم يصمد في وجههم اي مُلْكٍ وأمرهم ان يتحدثوا بإسهاب عن جنون ديهيا الكاهنة البغيضة ودجلها وسحرها الاسود واعتزامها حرق كل البلاد في حال الهزيمة. اختلطت تلك الاشاعات وتعاظمت وأذكاها سخط أهالي المدن المخربة القادمين من الجنوب. اربكته خيانة بني الوطن. ستكون حربا طويلة... فكر في أي الاستراتيجيات ستجدي نفعا وقد وجد الغزاة من يقودهم عبر اسهل الطرق وأكثرها امنا للحرب في تاكاباس ثم لمقر الملكة في حال الانسحاب الاضطراري لجبال اوارس المنعية. لن يكون من السهل كما كان يتوقع القضاء عليهم وردهم الى برقة او طردهم من كل بلاد تمازغا. في طريق العودة اخبره بعض الرجال المسلحين انهم ذاهبون للانضمام لجيش الملكة فرافقهم في مسيرهم. سار الركب سريعا. لم يكن الوقت ليسمح بأي تهاون في التقدم دوما نحو الامام. التحق بهم في أرض السعادة والهناء، أثوب [ مطماطة ] كثيرون ممن كانوا دوما شوكة في قدم الرومان وممن صمدوا ضد الرومنة واستنزاف خيرات البلاد وممن ناضلوا ضد الغزاة من الشرق في السبع غزوات السابقة. رغم انه لم يعد قادرا على منح الثقة لأي إنسان غمرته الحاجة للشعور بالبشر لمرآهم. - لماذا لا يكونون صادقين في دعواهم ؟ تساءل في صمت. سينظم لنا غيرهم وربما يتحرك ضمير من والوا العدو ويعودون لصفوف الدفاع عن الوطن. سنصمد ما شاء لنا القدر وسننتصر لأننا نحارب من اجل قضية عادلة. يوما ما لا أقدر أن أحدد تاريخه في الوقت الراهن سيعم الفرح كل أرجاء البلاد وسيقام العرس وسأنعم وإياك نومنسا الاحلام الوردية بالفرح والحب والأمان."
فكر لدفع اليأس أن في افرونوميديا الكثير من المخلصين الذين سيثبتون مهما يكن حجم الخسائر. بعض التضحيات من اجل سلامة البلاد لن تمثل شيئا. بعض الوقت فقط لا غير وان امتد لسنوات طويلة. لما طلب رفاق السفر حط الرحال لإراحة خيولهم والاغتسال والأكل، فكر ان عليه ان اي دقيقة تاخير هي لصالح العدو وانه عليه ان يصل باسرع ما يمكن ليخبر الملكة بكل ما رأى وما علم. الاسراع سيمكنهم من البحث عن استراتيجيات جديدة للدفاع. وخز حصانه وانطلق كسهم مرددا طوال الطريق : "لن تضيع البلاد ثانية ولن تخضع"
لما بلغ تاكاباس وجد الملكة وجندها على اهبة الاستعداد. كان على وشك الانهيار تعبا. سأله اصحابه وهم يسلعدونه على بلوغ الملكة عن الاخبار التي يحملها لكنه صمتَ خوف تسريب احباطه لمن حوله. لما اختلى بديهيا أخبرها بكل ما توصل اليه من معلومات. لم تبدو عليها المفاجئة. ضمته لصدرها وبنبرة حنونة تمكنت من زرع الطمأنينة في قلبه المضطرب. مرت ايام الانتظار مشحونة بالحركة الدائمة والاستعدادات تحت توجيهات الملكة ونصائحها وأوامرها. في يوم المواجهة الأولى، طافت بين الجند وتفقدت بترفق أم وحنكة قائدة قديرة المعسكر الذي يضم رجالا ونساء من بني امها الاحرار مدججين بالسيوف والرماح والنبال. كانوا واثقين من النصر. بدقون الطبول ويرددون اغان حماسية. أمناي كان منزو بعيدا عنهم. خوف صامت اجتاح روحه من جديد وأرهق عقله. - ماذا لو... حبيبتي الاغلى من عمري ؟
لما اقترب العدو منهم رفعت ديهيا سيفها عاليا. وخزت حصانها فانطلق كالسهم والسيف مشرع في الهواء. تقدمت الصفوف فتبعها كل رفاق الكفاح. كانت تؤمن أن الملوك الحقيقيين لا يقفون في الخلف متوارين وراء سور من حديد ونار وحرس شخصيين بل في المقدمة دوما. يحتملون اولى الرماح ويفتحون الصدر على مداه لاستقبال اولى طلقات العدو. الملك الحقيقي في كل العصور لا يخاف المواجهات ولا يلبس الدروع خوفا على حياة هي للوطن لا لتحقيق مصالح شخصية. يقف بتحد في ساحة المعركة بكل ثقة المحاربين من نور في قضاياهم الكبرى وان كانت الامكانات محدودة والآمال شبه معدومة. لا يؤمن بالياس ابدا ولا يتقهقر امام المصاعب الكبرى ولا يتباكى كثكلى عاجزة ولا يكثر الحديث عن الفشل ولا يعزف عن المحاولة وان أودت بأغلى ما يملك ولا يلعن الظروف المحيطة التي تعرقل المشاريع الكبرى وتحبط العزيمة. الحكام الحقيقيون هم من يبدأ المعارك وهم آخر المنسحبين سواء في النصر أو الهزيمة. اطلقت صرخات تعبئة. ردد الجمع حولها صرخاتها. تقدمت بإصرار وعلى ثغرها بسمة وفي العين دمعة نزت غصبا من مآقيها وأحرقتها حزنا بسبب دناءة بني الانسان. بعض من ابناء امها ومن عرب قمونية الذين أحسنت معاملتهم وأكرمت وفادتهم حاصروها من الخلف. لو عاد التاريخ للوراء من جديد ما كانت لتفعل غير ما فعلت سابقا. ستكرر نفس المعاملة بالحسنى وستحسن لكل من يقبل بالانتماء للوطن. بين الجموع الغازية رأت عدا مهولا من أبناء امها يبيعون الكرامة بثمن بخس. آلمها ان يُغْمد سيف ابن الوطن في نحر وطنه. استمرت المعركة بين كر وفر فترة طويلة. قتل كثيرون من الجانبين. وفي النهاية تمكن القائد العربي من محاصرتهم وقطع عنهم كل الامدادات من القبائل والمدن المجاورة. بدى ان الغلبة ستكون له ان بقي جيشها في منطقة مكشوفة فقررت التقهقر نحو جبال الاوراس. فرت بكل من بقي معها - ليس من العار ان يفر المحاربون لما يستشعرون الهزيمة لأنهم انما ينسحبون لاسترداد بعض القوة والعودة من جديد - تحصنت في عدة مواقع وكلما التحق بها جيش حسان واجهته بثبات جأش في جولات عديدة من المداهمة وحرب الشوارع في المدن والمواجهات الميدانية. تمكنت فيالقها من ان تلحق به خسائر بليغة لكن حسان بن النعمان الذي يلقبه اتباعه بالشيخ الأمين وأول أمير شامي يدخل إفريقية أيام الأمويين كان مصرا على الانتصار لأن الملك في دمشق لن يغفر له هزيمة ثانية ثم بما انه قد وعده بمغانم كثيرة عليه ان يفي بوعده وإلا قتل الملك كل عائلته التي يحتفظ بها في القصر. - لحمايتها. قال مطمئنا اياها لكنه يعلم انهم مجرد رهائن سيفتك بهم تحت تأثير عدو حسان اللدود عبد العزيز بن مروان في حال الهزيمة. بمساعدة الخونة تمكن القائد العربي من طمر الابار لكن تكتيكه ذاك لم يحبط عزيمة المحاربين. في جبال الاوراس، آخر المعاقل الحصينة للجيش، سارعوا ببحث الوضع وإيجاد الحلول. كان أمناي اول من بدأ حفر البئر الذي امرت به الملكة. في وقت قصير وبحماسة المنتفضين لشرفهم بلغوا الماء وارتوى البشر والحيوان. قويت عزيمتهم وعاد لهم الامل. بدأت جولات جديدة من الصراع. أجالت بصرها بين الجموع الهادرة. رأت هناك على الميمنة أمناي مع ولديها الاصغرين متأهبين للموت فداء للوطن وفي الميسرة ميس شاهرا سيفه بكل كبرياء. تقدمتهم فالتحقوا بها. تلاحم الفريقان. ارتفع صدى ارتطام السيوف وبرق الشرر المتطاير من عنف الضربات. كان العدو يقتل بلذة وانتقام شعبا ثائرا لحريته يصارع بعناد الالة الحربية التي تزداد شراسة وقوة. تمكن العدو مع بداية افول الشمس من قتل ميس وكل أفراد الميمنة. زعزع خبر وفاته كل كيانها لكنها لم تتراجع. ستصمد مهما تكن النتائج فالملوك يموتون ولا يستسلمون. رغم كل الخسائر لم تثبط العزيمة لأنهم يدركون انهم قد الحقوا بالعدو تقريبا نفس العدد من القتلى. استمر الصراع لأيام اخرى.
قبل اليوم الاخير أصابتها نبال في خصرها فتهاوت. حاولت أن تستند على سيفها لتتمكن من الوقوف لكنها عجزت عن ذلك. جالت بنظرها حولها. هذه الجموع التي أمنت بأنها ستنتصر امام الوحش القادم من البعيد فاغرا فاه بشره لا يحد بدت لها مثيرة للشفقة. مسحت بخفة المحاربة دمعة. اشاحت بوجهها لكي لا يلاحظ ابناءها ضعفها او الهزيمة المرسومة على ملامحها. طلبت ان يسندوها لتقف على قدميها ثانية. بعناء كبير تمكنت من الوقوف. قطبت جراحها بنفسها ثم لما خف الالم عادت لامتطاء جوادها. عانقت بنظرها كل الوطن الذي ينساب كالأحلام مع أخر اشعة الشمس. تراءى لها جبلها شامخا فابتسمت.
يروي القوالون ان الطيور المهاجرة بحثا عن بلاد اكثر امنا رددت معها لحنا لا يزال يُغنى كل ربيع : -"انت ايها الجبل من سيكتب التاريخ لما تتوه كل الحقائق ولا يبقى إلا أنباء يرويها ابناء محظيات السلطان ومخصييه. سأعود يوما. سأعود بعد ان يكون التاريخ المزور قد شوه كل ابناء الاحرار وصير الانسان عبدا لمروياته : يحصر مدينته بين مرتفعات قال ويقول وسهل روى وحدث خير الانام ويرجئ حل معضلاتها للواحد العلام. يسجن معارفه في صفحات صفراء لأحداث مرت قبل اكثر من الف عام. يغرق اهله في اساطير أبطالها سلاحهم الكلام وحروبهم يقودها الملائكة والجان وعلى قارعة كل السبل فيها يكتب عيب وخطيئة وحرام. اتركني اليوم اخاتل الكلمات لبث حبي لك ما دمت عاجزة عن البوح لهؤلاء الذين يترقبون تكهناتي أن الهزيمة مرسومة في افق تاريخهم الذي لن يكون مشرفا كما يرجون. الهزيمة بانت ملامحها في خيانة ابناء امي الذين نسوا عهودهم. ستكون قدرهم لأنهم من اختارها وسيحملون عذاباتها في صباياهم اللاتي ستنتزعن لإنارة قصور الملوك وصبيانهم الذين سيؤخذون رهينة الاستسلام. اولئك الاطفال الذين سيدججون بالسلاح وسيرمون في اتون حروب لا يفقهون جدواها وان كانت لإله عادل محب او لبشري قذر يعشق رمي الابرياء في الاتون لكي يستمع بصدى الصرخات ويشتم رائحة الشواء. أتعلم ايها الجبل انهم سيمرون عبرك وسيغيرون معالمك لكن الاسرار الخفية ستبقى مخفية في احجارك التي لن يقدروا على قراءة ما رُسم فوقها ذات زمن ؟ يوما ما عندما سيتوقف التاريخ لاسترجاع انفاسه سأتسلل وأعود اليك وسنتحد لتصحيح المسار وسننجح وسيولد الوطن من جديد."
****
تناقص عدد الجند بشكل هائل قتلا او فرارا وشعرت الملكة انها فقدت الحاضر وان المستقبل يفلت منها. في صباح اليوم الاخير افاق الجميع مشدوهين لمنظر عدد من الجند المذبوحين من الوريد للوريد في مخادعهم.
– سياسة ورثها الخلف الصالح وذبح جنود الشعانبي في 29 جويلية 2013 بذاك الكم من البشاعة والوحشية ما هي بالنهاية إلا مواصلة لنفس سياسة ارهاب الشعوب وترهيب كل معارض –
ذلك المشهد المرعب اضافة لليأس من النصر ضد ترسانة العدو التي لم يتوقف الانضمام المتواصل للباحثين عن المغانم اليها والذبح والتمثيل بالأجساد انهك الجميع. لقد بدأت علامات الهزيمة تظهر في الافق. في ذلك اليوم الذي قتلت فيه الملكة حارب أمناي جنبا الى جنب معها بكل ايمانه بوطنه وعدالة قضيته. لما اصابتها النبال وسال الدم من صدرها ضمها اليه بقوة وبكى لأول مرة كطفل صغير عاجز. حملها وابناها الى خيمة. مدداها على الارض مباشرة بلباسها الحربي الذي صار احمر قانيا. كانت تحتضر. اقترب منها الشاب الموجوع فيها وفي الوطن وهمس في اذنها : - خسرنا معركة لكننا لم نخسر الحرب. الحرب سجال ولن تتوقف إلا لما نستعيد حريتنا وسنستعيدها يوما." كان يؤمن ان النصر سيكون نصيب المحاربين من نور. اعتقد انه صرخ في كل الوجوه : - عندما يعود للامازيغي اباءه وتثور الدماء في عروقه لأصول غيبها صناع التاريخ والساسة والمصالح سننتصر ويعود لنا تميزنا السليب. لقد ادمتنا الة الملك وسياسات الانتماءات ولو بمذلة للأقوى وسلبتنا ارواحا كثيرة لكنها ستنتفض يوما انتقاما. يوما ما في ساعة صحو سيرى القتلة الدماء التي تسببوا في سيلانها وكم اذوا من البشر من اجل كرسي وبسط نفوذ وسيعانون أكثر مما تعانين مولاتي.
رأت الدمع في مآقيه فقالت له : - اذهب أمناي. ابتعد الى ان تهدا العاصفة. لن تموت هنا. يجب ان يستمر العرق. أمازيغ الشرف والإباء والكرامة. ستنقذون البلاد يوما وسيبقى اسم شعبنا نقيا حرا. لقد قررت ذلك وهو امر فلا تعصني. انا لست سوى حلقة في سلسلة طويلة لن تنقطع ولن ينقطع صراعها من اجل البقاء رغم كل العدوان. ثم التفت الى ابنيها افران ويازديكَان وقالت مخاطبة اياهم: - اذهبا الان. لا تستسلما أبدا ولا تسمحا ان تهتز ثقتكما بالوطن. ابحثا في الظلمات عن بعض نور تعيدان عبره السلطة لأهلها الاحق بها. الاشجار السامقة تخفض هامتها للرياح العاتية لكي لا تنكسر وأنا لا اريد ان تنكسر هذه الهامات التي تعمر افورنوميديا. صارعا الى ان تتمتعا ببعض السلط واحرصا ان تكونا اللبنة التي تعيد للبلاد مجدها ولو بعد حين. غادروا خيمتها وتفرقوا في الجبال. عندما هدأت كل حركة دخل خالد وحسان وبعض القادة من رفاقهم. كانت لا تزال حية لم تلفظ بعد آخر انفاسها. نظرت الى صفحة وجهه اللطيف التي لم تنجح في اخفاء الخيانة الكبرى. همهمت وعيونها لا تفارق كل حركاته وسكناته وتوقه لأعمال السيف في نحرها : - هل تقدر كل مياه البحيرات المقدسة ان تغسل ادرنك ايها القادم من رمال الصحراء لانتزاع الحياة من اجل عز صاحب سلطان علمك صغيرا انه مستودع كلمة الله ؟ ما سر تلك الرايات السود التي تخفيها تحت ثوبك الأمازيغي الملون الذي لم تنزعه بعد ؟ اتدري بني ان ارسلها اله عادل يروم صلاح البشر ام سلطان ظمآن لن يرتوي وان شرب مياه بحر بوسيدون العظيم ؟" التقت عيونهما فجأة. بدى منتشيا بنصر باهر وكانت على اهبة الرحيل. سمع في الصمت الذي تخترقه حشرجة مكتومة : - الغدر بانت نتائجه فليفرح كل بما انجز. انا لي وطن احمل شظاياه الى قبري وأنت مذلة ستعاني شضاياها المتناثرة في روحك. هل اطلب منك ان تكفّر عن ذنوبك وتمنع امتهان كرامة ابناء امي وأنا واثقة انها امانة انت أول من سيغدر بها في اول منعطف ؟" خفض بصره ونظر الى الشرق حيث يلوح غبار كثيف يختلط ببقايا دخان محارق كبرى لم تكن الملكة من اشعلها.
ألا ترينها سيدتي ممددة هناك مقطوعة الراس ؟ ألا ترين اثارها منذ ان وضعت المعركة اوزارها والى اليوم مكللة بزهر لم يلفح المزورون في نزع طراوته. صامدة تعلو وجهها ابتسامة وهي تعالج سكرات الموت عند السفح. لم اقدر ان احصي عدد النبال التي اخترقت جسدها ولا الطعنات الغادرة التي تخللته. سال دمها بسخاء وسقى براعم لا تزال غضة ندية لم تفقد طراوتها رغم مرور الزمن وتعاقب الاجيال. انتظرتها كثيرا عند سفوح الجبال وفي السهول والهضاب والسهوب والفيافي. كان يجب ان انتظر عودتها. ان اكون قريبا لأسمع وجها آخر للحقيقة. أن اراها تجول في هذا الكهف المنسي وان اسمع صدى صوتها الذي لم تخرسه الحروف المرصوفة والمنمقة في بلاطات السلاطين. ها أني آخذُ كل الأبجديات الممكنة لأعيد كتابة الوجه الاخر للحقيقة التي تقنعني. الحقيقة التي تخادعني وتفلت مني لكني أتشبث بأذيالها وأحاول اعادة بناءها من جديد. حقيقة تاريخ الامازيغية الحرة. سيدة الزمن المنفلت. سيدة كل المقامات.
****
عند التحولات الكبيرى التي تهز البلدان والشعوب يتوقف التاريخ للحظات. يكف عن كونه العجلة التي تحرك الكون ويتحول الى ثقب اسود على وشك الانفجار لابتلاع مجد أو قذف حمم. في تلك اللحظات بين زمنين... تلك الفاصلة القصيرة التي لا يشعر بها أغلب البشر... يعود بعض الراحلين. عندما عادت كنت واقفا على قمة الجبل شارعا يدي كطائر يستعد للتحليق بعيدا في فضاءات لا تحد مشرفا على كل الشرق والغرب. رايتها تجول في كل ارض تمازغا. تتبعتها. بلغني رجع كلماتها في مقامي ذاك. بقيت ثابتا في مكاني اسمع الارض الموات والغابات الحزينة المجدبة والواديان التي جفت حزنا منذ امد بعيد ترددها معها. رسمت كل ما سمعت بأشعة من نور عسى ان يراها بعض المبصرين التائهين بلا دليل في البرية.
"أنا الملكة أنا ديهيا تابنة نيفان ملكة فقدت مفاتيح ابواب المملكة في غياهب التاريخ. سرقه كتبة التاريخ المأجورون ورموا به في الصحارى القاحلة وقالوا : -"لا تصدقوا كاهنة تركب حصانا تحمل سيفا وتتحدى السلاطين. عاهرة عشقت العربي فاتخذته ابنا ليسهل انتهاكه ليلا. مهووسة شبقة اعتلت كل رجال المملكة التي اهلكها فجورها. لطخت مجد التاريخ وحاربت انصاره. قَتَلَت وكُسَيْلَةَ العار غدرا عقبة الطاهر العابق بريح من جنة الخلد وقضت على فيالق حسان في أرض تشتاق لاحتضان اهل البر والتميز. كافرة حاربت الحق الذي انساب كنسيم الفجر ليحرر البلاد من الظلمات. ساحرة أعمت بسحرها ابصار بني الرجال الاحرار. امرأة تركت الخدر. امتطت صهوة الخيل واقتحمت صفوف الرجال, انثى يا العار تحدت قداسة الرجال. حملت سيفا وقادت حربا وخرجت على شريعة ملك الزمان وسيد الاخبار. وضيعة تضرج سيفها بدماء الابطال. أحرقت وخربت الفيافي والحقول والمدن. عاشت في عمى ورحلت قبل ان تشرق شمس اليوم الجديد." هل كان يجب ان اصمت انا الملكة وان اسمح ان تلتهم الذئاب حملاني الوديعة المنتشرة بكسل وأمان فوق الروابي المزهرة وان اتنازل عن وطن من اجل صورة مشوهة مرسومة على رايات سوداء لبعض الارباب الناقمين على كل من لا ينتمي الى القبيلة المصطفاة ؟ ما كان يجب ان اخضع لتاريخ صُنع في اروقة قصور الملوك في الشرق البعيد لأني كنت اعرف مسبقا كل الحكاية : - تعانق الشمس مع كل ولادة جديدة تأوهات جواري السلطان في خدورهن الحريرية... تأوهات لذة وغبن تمنح السلطان رؤى أوحى بها في لحظة سعي مهموم لشبق لا محدود هوس قضيب مخصي يروم الارتواء ولا يقدر على بلوغه فيسبغ عليها قدسية ويعتبرها حقا مطلقا. وعدوه لما اقض الفصام مضجعه ان في الغرب انوثة جامحة ستحقق الامل المفقود. رقص عاريا في حديقة القصر امام كل الجواري والعبيد. رقص قضيبه طربا ووقف مستعدا للفتح الجديد. اعلن في ارجاء المملكة التي تبيت ساهرة على صدى صرخات عهره وبكاء الحرملك الملكي أن الفرج قريب وان الله سيحقق وعده ويمنح اهل المملكة النصر والمغانم. جمع ألاف المرتزقة والطماعين والأنذال. جيَّشَ الجيوش وباركها بكلمات سرقها من بعض الانبياء المنسيين. قال لها بعد ركوع طويل ورسم زبيبة من سخام على الجبين : - " سيري على بركة الله. امسحي كل الغرب بحثا عن الصبية التي يروي الاولون في كتب الاغريق والروم أنها تتفتح كزهرة لاحتضان اشعة الشمس المغتسلة في بحر بوسيدون الذي عشقها ومنحها سحر الالهة وإكسير الخلود. وجهها نوراني ومن شفتيها يقطر عسل شفاف لذة للشاربين. رقبتها عاج صقيل يصعب تسلقها إلا على ملك ذي عرش مكين وشعرها الذي ورثته عن الامازونيات اللاتي سحرن أوليس عند سواحل قرطاجنة الخالدة يهفوا لمعانقة نسائم الصباح مع كل يوم وليد. جسدها الطري غض لم يدنس وعلى صدرها تنموا حقول قمح وشعير وغابات صنوبر وسرو وبلوط ودراق وسنديان وصفصاف وارف وعرعر وخزامى. اريدها خالصة لي. أأتوني بها امنحكم مفاتيح ابواب جنة الرحمان. عودوا سريعا فشوقي كبير لنصر مرسوم في ثنايا القدر رأته امي في اكثر احلامها جنونا. لما ملأها حبها الدفين لخل قتله ابي في غياهب السجون" ها أني أتسلل من الاوراق الصفر الذاوية لأرى ما صنع عُبّاد الملك بشعبي. أخبروني ابناء التاريخ يا من شربتهم حليبه العكر ونموتم في احضان عهره، هل اتى الارباب يوما على مركبة مطهمة وبأيديهم سيف وجراب لجمع الغنيمة؟ عدت بحثا عن موسيقاي والواني. بحثت عن الشرف الذي انتهكته رمال الصحراء فاكتشفت أنها لما ولدت لقطاءها تملصوا مني ومن وطني، وصموني بالعهر وأنكروا بطولاتي. اقدامي دامية اخشى عليكم النظر الي جراحاتها العميقة. تقيحت كثيرا ونزفت كثيرا حتى اعياني الاجهاد. سرت حافية فوق حدود مرسومة على خرائط لم اعرفها بعد ان انتزعوا جيادي وقتلوها في بلاد اعتادت قتل الجياد. من قرطاج حاذيت البحر واتجهت شرقا الى طرابلس الاحرار. عبرت أعماق الصحراء الكبرى الى ان بلغت موريطانيا. قسمت بوابات الحدود ظهري وأصاب العطب ساقيَّ فحبوت الى ان بلغت طنجة ثم تقدمت زحفا حتى وهران ثم عرجت على بونة [ عنابة ] ومنها الى موطني الاول. مزقت اشواك الحسك والسكوم ثوبي الملكي وجرحت اناملي. حيثما حللت وجدت وجوها مشوهة لإنسان سكن قديما وطني. انسان كان ابن امي. انسان رضع حليب الارض المقدس. انسان لما صار ملكا غدر بالكل وبكل شيء ليبني مجده. ملك لما اشتد عوده سرق بسمات الاطفال وانتهك عذرية الارض البكر وأنكر نسبه. من اين اتت هذه الولادات المتفسخة ولماذا تحولت الاوطان الى سجون اسوارها منيعة يحرسها عبَّاد الملك وزبانيتهم حراس العقيدة الذين يحتكرون الالهة ؟ من واجبي ان أرسم على صفحات هذا الوطن في هذه الفسحة من الزمن المنفلت ما اهمل التاريخ ان يكتبه. بعض من الاخبار التي تاهت على ابواب السلاطين. - "اعلم وطني اني لم اعشق سواك ولم اعبد سواك وأني سأظل بأعماقي عابدة متبتلة أحبك بكل خلية من جسدي وبكل نبض بقلبي وبكل رجفة لروحي التائهة خارج دوائر الزمن. اني من ثار وسيثور دوما لإنسانية الانسان كلما صار بني البشر وحوشا ضارية باسم مقدس وان خذلتني الارباب وسمحت بقتل جنودي وسمح رب الغزاة لعباده بإبراز اقصى طاقات العدوان الكامنة فيهم. اني أكفر بكل الارباب المنسحبة العاجزة عن كبح عنف بني البشر بعد ان منحت الذئاب حق الذود عنها والتكلم بلسانها ولم تكترث لما شوهت طهرها وجعلتها دموية تعشق الاهة والحشرجة المكتومة رعبا وبكاء الثكالى. إني اتوقف اليوم لأعاتب وأسائل بعنف الثائرين كل من يهمه الامر : - لماذا ليس من حق كل فرد ان يسأل وان يفكر وأن يستاء من استهتار الحكام والإله على وجه سواء كلما أَبْدَيَا إهمالا وتقصيرا والى متى ستظلون ايها المهدورون تابعين متلقين سلبيين متبتلين خاضعين منتظرين مشيئة أربابكم – اسيادكم المبجلين ذوي الهالات القدسية الكاذبة - دون حق في القرار متى شاءوا ومتى امتنعوا متى تكلموا ومتى صمتوا متى تجلوا ومتى تواروا وراء ابواب القصور الملكية والمجالس النيابية والدستورية والتأسيسية والمحاكم الشرعية محتكرين وجه الله وصوته ووصاياه ؟ اني أضع بين يدي العالم كله صورة ذاك الطفل المشرد المنتهك في اسواق المدينة وتلك البنت المكممة التي اغتصبت وقتلها حملها وهذا الكهل الباكي عند ابواب احد المكاتب الذي يرجئ النظر في طلب علاجه الى اجل غير مسمى وهذه الثكلى التي يذوي جسدها لإطعام جياع لا يكفون عن التضور جوعا وجريح منسي ينزف باستمرار لأنه اراد ذات يوم ان يساهم في صناعة تاريخ جديد للوطن وأنثى فقدت انسانيتها في البيت المهدم الاركان عند السفح عندما قبلت مرغمة شريكات في مخدع كان يملئه الحب ليتحول الى وكر دعارة مقدسة تحميه شراسة الرمال الصحراوية التي تتسرب عبر الشقوق لتملئ القلوب كمدا وتعمي الابصار. فهل قرأتم ما كتبت ام اكتفيت بصحائف السلطان قرآنا مجيدا ؟ سأترككم الان لأني يجب ان امضي. اشعر ان كل شيء يفلت مني : اسمي وهويتي وذكرياتي ومخيلتي وحياتي. اني اتلاشى. اتفتت. أتحول الى كلمات مبعثرة في مواجهة الكذبات الكبرى المتوارية عجزا بمقدس. لم يعد لي مكان بينكم لأني لا أحتمل غبار الصحارى ورملها الاصفر الذي يروم ان يسود كل الوان الطيف. رمل باهت بارد كبشرة محتضر يلفظ النفس الاخير، يتسرب الى اعماق عيوني فتغيم الصور وأفتقد نقطة الارتكاز. أهي أدخنة محارقي الكبرى ام خطاياكم المتتالية احفاد بني أمي ؟
****
تسألينني عن اللغة التي تكلمت بها الملكة ؟ اعتقد انها لغة الانسان الذي لم يقولب. الانسان الطليق حرا في البوادي التي يكللها الربيع. ربيع من نوع آخر دائم الخضرة لا يفتر ولا تذوي ازهاره. ربيع يحضن القلوب العاشقة ويحقق الاحلام بعيدا عن صرامة التاريخ الميت المعاني مسبقا. اتعرفين لماذا اعشق اللغة ؟ عبرها اقدر ان امتلك العالم وأغيره كما اعتقد انه يجب ان يكون : عالم يحتضن كل الالوان والنغمات. عالم يعيش اشتياقا للحياة دائم التجدد ولا يخشى المنعرجات الكبرى. عالم يخاطب الانسان بأبسط اللغات وأكثرها وضوحا وتوافقا ويقدم له نصوصه على اختلافها وتنوعها دون مقامات مضبوطة ولا طقوس قدسية ولا حفلات سرية. احب النصوص الصادقة بكل شذريتها الكثيفة وبياضاتها الناطقة وانسيابيتها المثيرة وترديداتها المتتالية وبساطتها الواقعية. انا لا يهمني ان يكون النص متقنا او بلغة ركيكة او ان لا يحترم القواعد بل يمكن ان يعجبني نص ضعيف في التركيب والنحو والصرف فبالنهاية الفكرة هي من سيبرز مهما يكن ضعف السرد لكن ما يؤلمني حقا هو ان تكون اللغة منتقاة والكلمات منمقة والجمل منغمة لكنها كاذبة او منحازة لفكرة كحق مطلق. لا اقبل نصوصا تدعي انها تقدم الحقيقة المثلى فالحقيقة التي اراها انا وأؤمن بها يمكن ان تكون بالنسبة لك انت غير مقنعة. لماذا لي الحق في فرض رؤاي عليك او على غيرك في حين ان لك من العقل الذي حباك به الله او الطبيعة ما يكفيك لتحديد مسارات حياتك ما دمت لا تضر بمصالح الاخرين ولا تعتدي عليهم. اللغة وسيلة فقط فلماذا يجب ان نحملها اكثر مما تحتمل ولما نواجه بتهافت الفكرة التي تطرحها او عدم منطقيتك يقف في أخر الرواق من ينادي بان للنص اوجه لم يبلغها ادراكنا وعليه وجب الانصياع والقبول دون تساءل ولا تفكير ؟ أتعرفين متى تعلم ابناء تمازغا لغة عدوهم ومتى قرؤوا وفهموا وآمنوا بنصوصها المقدسة وهل نسوا لغتهم بالسرعة التي يذكرها كتاب التاريخ المزور ؟ اقدم نسخ الكتاب المقدس الموجودة بمصر تزن ثمانين كلغ فكم احتاجوا من المترجمين والنساخ والجمال لحمل نسخ تكفي كل قبائلنا وعشائرنا ومدننا وشعبنا المنتشر في ارجاء مغربنا ؟ لماذا صمت التاريخ المزور عن حقيقة انه كان هناك خطان متوازيان لم يلتقيا ابدا : خط رسمه عَابِدٌ للملك ومن أتى بعده بالحديد والدم وخلدته المصنفات بحروف نارية وهاجة وثان خطه عُبَّادُ الحق ومن سار على هداهم بالحرير تكلمت فيه القلوب وفاضت العيون تقوى ؟ تسألين أيهما كان الأشد وقعا ؟ السيف ساد دوما مشوها كل الحقائق مغيبا قصرا او طوعا كل لين أو وهم اصلاح. على كل متى سمح التاريخ للأتقياء باعتلاء سدة الحكم وتقطيب الجراح النازفة وتغيير وجه المدينة الدامي دوما ؟ كل ما ساهم في هذه الصناعة الموبوءة التي تأسرنا كان اما مجنونا بالحكم او شاذا غارقا في شراشف خدور الحرملك او مسكونا بهوس العظمة او انتهازيا متسلقا يشرب الدماء سرا وجهرا ويبيع الوطن لمن يدفع اكثر. مصالح سياسية تسعى لتحقيق غايات اقتصادية... هذه هي طبيعة الصراع البشري الابدي. تختلف المصطلحات وتتلون الكلمات وتصطبغ المعاني والحقيقة واحدة... لم تكن الالهة سبب اية حروب بل وسيلتها التي تذكي اشتعال النيران. تأجج اللهب وترفع السنته وتقتل الحلم والأمل محولة اغتصاب الحياة او رزمة القمح او برميل النفط الى جهاد مقدس... ماذا لو محونا من اللوحة صور الغزاة من الشرق الذين تسلحوا برايات الدين الجديد وأسالوا باسم نصوصه المقدسة دما غمر البوادي – رايات سود لا تزال تتلحف بيها حكوماتنا الى اليوم خانقة الحياة فينا دون اكتراث لكرامة انسانية ولا حق مقدس في حياة آمنة -؟ أما كان له أن يتسلل الى قلوب اجدادنا بلطف وتنشره في ربوعنا يد مفتوحة تحمل زهرة ياسمين وكلمة حسنة أيا تكن اللغة التي تغلفها فالمعاني الطيبة تصل الى النفس وان لم نفهم الابجديات التي تصيغها ؟ ماذا لو تكلم التاريخ بلطف وحنو وصاغ عباراته بصدق ومنح كل تاج ما يستحق وكل شريد ظلا أمنا وكل ظمآن قطرة ندى طاهرة وتملص من وحشية الحكام الحيوانية الكامنة في اعماقهم وكف عن ترديد رجع توهماتهم الاشد تطرفا والتي أُنْتِجَتْ عبر الاملاء والخوف والإرهاب في اروقة يحرسها مخصيو محظيات السلطان نصوصا ذات قداسة موهومة وفرضتها على الرقاب بالسيف ؟ ماذا لو كانت لغة الحكام وأبواقهم الاعلامية وفقهاءهم فاضحة لكل الخبث الذي تبطنه نفوسهم التائقة لامتلاك الارض والعباد وتدجينهم وقولبتهم وسلبهم اعز ما يمكن ان يمتلك : الادراك الحر وإرادة الابداع ؟ كذبوا وصدقنا الاكذوبة الكبرى. جعلوا الكون في كل تقلباته على مر التاريخ صورة للحاضر وحبسونا عبره في الماضي الذي ارادوا ان لا نبرحه فقبلنا وسجنا انفسنا في اسوار ابجدياتهم المعدنية البادرة وخر كل منا ساجدا حامدا. هل بعد هذا الهدر هدر؟ ماذا بقي لنا الان ؟ خياران لا ثالث لهما : العيش في ما يوفره ما هو يومي من وهم امتلاك او الهرب بوجودنا الى جلبة النسيان كمن يحمل صليبه نحو الموت المحتوم. لكن أنَّى لنا المحرك الالهي لحامل الصليب او لذاك المتصوف المعتزل في كهوف التماهي مع الاله لنصمد نحن من فقد القدرة على الصمود ؟ في كل تمازغا حتى نهاية القرن الثالث الهجري كانت كل التصانيف في السير والطبقات باللغة المحلية المختلفة تماما عن عربية الغازي المدجج بالسلاح... هذه العربية التي اضيفت كلغة ثانية بداية من القرن الرابع وحتى ونهاية القرن السادس ثم ساد هذه اللغة الدخيلة مع بعض المصطلحات الامازيغية المقحمة منذ القرن السابع الهجري مغيرة الوجه الحقيقي لتاريخ اضحى منسيا. وبناء على هذه الحقيقة التاريخية أسأل كل دعي متسربل بأكذوبة تاريخ عبد الملك، هل فهم الاجداد في كل القرون الاولى ما قيل لهم ام هدهم السيف فخضعوا ؟ باي اللغات كلمهم حسان ومن سبقه ومن أتى بعده من الغزاة ليعوا ما تدعون ؟ لغة مبعوثي عمر بن عبد العزيز الاحد عشر أم لغة مرتزقة عبد الملك ومن سار على دربه ؟ كلموهم ايها التائه في غمر التاريخ يا من ابتلعته اللجة المتلاطمة بلغة واحدة سادت كل اللغات على مصر العصور... لغة الدم والقتل والقهر... لغة حمراء كالموت مزوقة الجنبات لكنها بلا افعال. لغة ميتة قبل ان تقال. لغة صنعت تاريخا بلا حياة. لغة مصنوعة في اروقة قصر السلطان جعلت الامة الكبرى محور كل الاكوان وقدمت بقية العالم كحدث عرضي متوقع النهايات. لغة لم تتوقع ان اخرين من سلالات ما بعد التاريخ المسكونين بالسؤال والإنكار سيهدمون الجدران الاربعة للسجن ويفضحون عهر الكلمات محتملين وقع السقف المتهاوي على رؤوسهم.
أتعلمين اني حلمت دوما ان اؤسس لغة أخرى مختلفة ؟ لا اقصد لغة تمجد الاصول ولا الفروع ولا لغة تفضح السلف ولا خلفه المخصي روحا وفكرا بل ابسط من ذلك بكثير. لغة بلا تعقيدات ولا جماليات ولا زيف. لغة متجددة... ترى العالم من منظورها - والذي اعترف انه ليس مثاليا - تستأذنك قبل ان تداعب عقلك ثم تمضي سابحة في فضاء التوهمات والخيالات والرؤى تغذيها ارادة المعرفة المستعصية ويهدهدها التأمل الذي يغير شكلها كلما ازداد صفاء. لغة الفكرة الحرة من اي قيد تولد مع كل اشراقة شمس جديدة لتجعلنا لا مسخا منسيا بل الانسان في كل قداسته وروعته. لغة بسيطة... تتحدى، رغم كلماتها ذات المقاطع الصغيرة والطفولية النطق، ثقتنا المهزوزة وأحلامنا المهدورة. تجعلنا نضحك من سخافاتنا الاكثر تلقائية وتصنع لنا احلاما جديدة وتُحْيِّ الرغبة في الصراع. لغة تدرك في بحثها عن الحرية انها تتخلص من اغلال كثيرة لكنها لا تجعل الحرية التي بلغتها سقف الامال لكي لا تصنع اغلالها من جديد. تترك المجال دوما مفتوحا لما هو اكثر انسيابية ومناسبة لحياة اكثر انسانية واحتراما لكرامة الانسان. لغة متحررة... تتخلص من عبء الارتباط الاعمى بالماضي وتنظر له فقط كمصدر خبرة. لغة تؤمن انه – اي الماضي- لن يتكرر وما هو بالنهاية إلا درجة في سلم الحياة ضرورية لارتقاء بقية الدرجات لكن الزمن لا يتوقف عندها لأنه يخضع لحتمية التغيير الفيزيائية والكيميائية والاجتماعية والأخلاقية. لغة توقن ان الحاضر هو ما نملك فلا تفرط فيه خنوعا واستسلاما بل تتمسك به وعيونها على المستقبل ليكون بناء الدرجة الموالية في السلم امتن فيحتمل كل الاجيال القادمة ويحتضنها دون اي تهديد بدمار كوني يقتل الحياة. لغة واعية... لا يخدعها كلام الساسة المنمق ولا ورع رجال الدين الكاذب ولا تباكي المهمشين ولا ندب المنبوذين في صحارى الفراغ والتيه. لغة لا ترى الديك اكثر براءة من الذئب الذي افترسه ولا تركع في محراب ادعياء الطهر والبراءة. لغة تكشف كذبات الساسة على منابر الصحافة والإعلام. لغة تنزع جبة فقهاء السلطان الذين يعتلون المنبر بعد كل صلاة ويصرخون ان انتخبوا اهل الله تكونون مباركين. لغة قادرة... تغير جنس الكلمات وعددها في المجتمعات الباترياركية فتصير الشعوب جمعا مذكرا ويصير الساسة ورجال الدين مفردا مؤنثا مهيض الجناح. لغة مستقلة... لغة تأخذ بيد السجناء في دهاليز الماضي تعلمهم الطيران بما تمتلك من زاد معرفي وتساعدهم على تنمية اجنحتهم ليعيشوا في عالمهم يوم يأخذهم اليه الزمن فلا يكونون معوقين مسلوبي الارادة عاجزين عن الصراع والحلم بل ولا حتى العيش في الاوهام. تدرك ان الحياة في الماضي موت والمستقبل لا يصنعه إلا المحاربون من نور المختارون الذين يصنعون الجمال والأمل فتمنحهم الوسيلة وتسمح لهم بالإبداع والمبادرة الحرة. تُعلم كل ذي عقل انه ابن ماضيه مصدر خبراته وحاضره مجال بطولاته وان ابناءه ابناء حاضره ومستقبل لا يلم به ولا يقدر ان يتخيل خطوطه العريضة هم من سيصنعونه ويحلقون عبره في سموات اخرى غير التي يعرف فلا يحبس عطرهم في قمقم ماضيه - هو - ولا يمنع انطلاق شذاهم في الوجود باسم خيانة مقدس مطلق الصلاحية والشمول. لغة يصيغها المحاربون من نور من اشعة الشمس الدافئة. أولئك المحاربون الذين يمتلكون سبل اللانهاية ويمنحون من ذواتهم بلا حساب لبناء المدينة التي تسع الكل والتي لا يخشى فيها جوع ولا ظمأ ولا امتهان لكرامة ولا سجن لعقل. ****
يتبع دمتم بخير
#رويدة_سالم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نبش في تاريخ منسي - الكاهنة - رواية ج2
-
نبش في تاريخ منسي ديهيا - رواية
-
صلوات في هيكل حب - السجدة الثانية
-
اسلاميون الافاضل تعالوا نتقصى ملابسات مقتل عثمان بن عفان بين
...
-
صلوات في هيكل حب .. السجدة الاولى
-
عثمان بن عفان حاكم ظالم ام سلف صالح
-
حضور الغياب .. وقفة سياسية
-
بحث في سيرة عثمان من منظور اسلامي
-
الخلافة الراشدة عثمان وعلي والفتنة الكبرى - سياسة بلوس ديني
-
صفحات من تونس- دخول الاسلام الى افريقية جزء 2
-
صفحات من تونس- دخول الاسلام لافريقية
-
صفحات من تونس- تاريخ شعب
-
الخلافة الراشدة -- عمر بن الخطاب 2
-
الخلافة الراشدة -- عمر بن الخطاب 1
-
حضور الغياب.. صفحات مصرية
-
حضور الغياب.. وريقات عراقية
-
الخلافة الراشدة
-
حظور الغياب: أنيس مرة أخرى
-
السياسة المحمدية. جزء ثاني
-
السياسة المحمدية : الزنا الحلال بين الدين والسياسة
المزيد.....
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|