|
ملاحظات على فكر سان سيمون (1)... التاريخ وتقدم المجتمعات
حسين محمود التلاوي
(Hussein Mahmoud Talawy)
الحوار المتمدن-العدد: 4168 - 2013 / 7 / 29 - 17:46
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يمثل المفكر الفرنسي كلود دي سان سيمون أحد أكثر الرموز الفكرية الإنسانية إثارة للجدل. ويتمثل هذا الجدل في حالة الانقسام الشديد في أوساط معاصريه والتالين عليه من المفكرين والفلاسفة بين مؤيد ومعارض. ورغم أن هذا هو الحال فيما يتعلق بالكثير من الرموز الفكرية الإنسانية، فإن الوضع مع سان سيمون كان شديد الحدة؛ حيث وصل لدرجة أن دعاه مؤيدوه منشئ علم الاجتماع، فيما رأى معارضوه أنه أفكاره مجرد تقليد لأفكار سكرتيره أوجست كومت الذي يعتبرونه المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع. (في تجاهل كامل من الفريقين لدور المفكر عبد الرحمن بن خلدون في تأسيس هذا العلم تحت مسمى "علم العمران البشري"، ولكن هذا ليس موضوعنا، فهو أعمق كثيرا من سطرين في مقالة مختصرة). وبشكل عام، تتسم أفكار سان سيمون بالتعقيد الشديد لدرجة جعلت الكثيرين يرونها متعارضة في بعض أجزائها، الأمر الذي دعا كارل ماركس مؤسس الشيوعية إلى القول إنه لكي يفهم الإنسان أفكار سان سيمون، فعليه أن يقرأ كل مؤلفاته. وفي تقديري الشخصي، فإن هذا التعقيد — الذي قد يصل لدى البعض إلى حد التناقض — يرجع في جزء منه إلى التقلبات الإرادية واللاإرادية التي شهدتها الحياة الشخصية لهذا الفيلسوف الفرنسي، والتي انتقل في واحدة منها من أوساط الطبقة الأرستقراطية إلى العمل كمصحح في إحدى المطابع، وغير ذلك من التقلبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وفي السطور التالية، سنحاول إلقاء الضوء على بعض أفكار سان سيمون في التاريخ والمجتمع مع تقديم ملاحظات عليها، ومن بين هذه الأفكار رؤيته للكيفية التي تتقدم بها المجتمعات وطبيعة التاريخ.
تفسيرية التاريخ في كتاب "سان سيمون" الصادر عن دار المعارف بالقاهرة ضمن سلسلة "نوابغ الفكر الغربي"، يقول المؤلف الدكتور طلعت عيسى إن سان سيمون يرى أن للتاريخ صفة تفسيرية؛ حيث إن أحداث التاريخ عبارة عن تفسير لأحوال المجتمع ونظمه ومستوى التفكير فيه. وبالتالي، لا ينتج التاريخ عن ظاهرة واحدة فقط، ولكنه نتاج مجموع الظواهر الاجتماعية. فإذا نظرنا لمضمون ما قاله سان سيمون من طبيعة تفسيرية للتاريخ، لوجدنا أن التاريخ يفسر واقع المجتمعات، والظواهر الحادثة فيها. ولكن هذا الرأي من وجهة نظري يعني أن التاريح منفصل عن الواقع، هو ما لا يتفق مع كون التاريخ هو نفسه عبارة عن واقع اجتماعي في فترة زمنية ما. وبالتالي، يعتبر هو نفسه — التاريخ — وقائع اجتماعية متراكمة تم رصدها في فترة زمنية معينة. إذن، من وجهة نظري، يعتبر التاريخ وقائع اجتماعية، ولا يجوز القول إنه يفسر الظواهر والوقائع الاجتماعية؛ لأنه جزء منها، ويمكن القول إنه يعبر عنها. ومن هنا، نستطيع أن نقول إن التاريخ ذو "طبيعة تصويرية" لا تفسيرية؛ أي يصور الواقع الاجتماعي القائم في مرحلة زمنية ما، ويقدم تعبيرًا عنها، دون أن يقدم تفسيرًا، بل إنه ينتظر أن يتم تفسيره في إطار عام من الواقع الاجتماعي الذي تعبر عنه الوقائع التاريخية المحددة التي يتم التعامل معها كمعاهدة أو حرب أو ثورة في مكان ومرحلة زمنية معينين. فيما يتعلق بالتطور التاريخي للإنسانية، يرى سان سيمون أن الصراع هو الذي يمهد الطريق للتقدم، وينقل الدكتور عيسى في كتابه نموذجًا قدمه المفكر الفرنسي للدلالة على صحة وجهة نظره بالقول إن الصراع الذي بدأ في القرنين الرابع عشر بين رجال الدين من جهة ورجال الفكر والعلم من جهة أخرى قد تفاعل في القرن السادس عشر داخل الكنيسة الكاثوليكية مما ساعد في نشوء حركة الإصلاح البروتستانتية. أعتقد أن سان سيمون في حكمه هذا قد بدأ من نقطة تالية على العلة الأساسية للتقدم. فهو يقول إن الصراع هو الممهد للتقدم، ولكنني أرى أن هناك نقطة سابقة على الصراع تمثل الممهد الرئيسي للتقدم وهي التفكير والمعرفة. كيف؟! بشكل عام، يمثل الصراع حالة من حالات التوتر داخل النظم الاجتماعية التي كانت مستقرة قبل حدوث هذا التوتر، وهذا التوتر لا يحدث إلا إذا دخل عنصر جديد على النظام القائم، فأثار فيه ارتباكًا شديدًا. إذن، هذا العنصر هو الذي سبب الصراع الذي يرى سان سيمون أنه يمهد الطريق للتقدم مُغْفِلًا دور هذا العنصر في إحداث الصراع، وهو الدور الذي يجعل العنصر الذي يستحق لقب الممهد الحقيقي للصراع. في النظم والأنساق الاجتماعية، يحدث الصراع بالدرجة الأولى بين الأفكار؛ فالصراع بين رجال الدين من جهة وبين رجال الفكر والعلم من جهة أخرى يمثل نموذجًا ممتازًا للصراع الفكري. إذن، الصراع في هذه الحالة نجم عن اختلاف في الأفكار بنع من معارف جديدة نتا إلى علم فريق من الفريقين، وهذه المعارف هي بالأساس أفكار في حد ذاتها. لذا، يمكن القول إن التفكير والمعرفة هما أساس تقدم المجتمعات الإنسانية. وتؤدي هذه الأفكار إلى تقدم في المجتمع الإنساني بطريقتين؛ الأولى بالتطبيق المباشر لها فتعود بالنفع على المجتمع. والثانية بالتسبب في صراع بين مكونات المجتمع؛ فيؤدي الصراع إلى حالة حراك تنتهي إلى إيجاد واقع جديد يتعين التعامل معه. ومهما يكن هذا الوضع سلبيًا أو إيجابيًا فهو يمثل تقدمًا في تفكير المجتمع، وإن كان انعكاسه على أرض الواقع سلبيًا أو يمثل تراجعًا عما كان متحققًا في الوضع السابق على الوضع الجديد.
التنظيم يحتل التنظيم مكانة كبيرة في فكر سان سيمون إلى الدرجة التي جعلتها يطلق على واحد من أهم كتبه عنوان "المُنَظِّم". ويرى سان سيمون أن المجتمع الإنساني في حاجة إلى نظام اجتماعي جديد يحل محل النظام القديم الذي تسبب في دخول المجتمعات الإنسانية في حالة من الفوضى وعدم الاستقرار. ومن المعالم الأساسية التي يقوم عليها فكر التنظيم والنظام لدى سان سيمون أن إدارة الشئون الإنسانية يجب أن يُعْهَد بها إلى هيئة من العلماء والفنانين. وإلى جانب ذلك، يتعين أن يقوم هذا النظام على العلم؛ بحيث يتركز نشاط الإنسان على العلوم الأخرى لا على الحروب. كما يرى مفكرنا أن التنظيم الاجتماعي لا يجب أن يلغي الطبقات، ولكن ينبغي أن يعمل على تعديلها وضبطها بحيث تُمْنَحُ المكانة الاجتماعية العليا للفئات الأكثر تأثيرًا وفائدةً للمجتمع، لا كما كان يحدث لدى النظم الإقطاعية التي يتمتع فيها النبلاء بأعلى مكانة اجتماعية دون أن يقدموا للمجتمع ما يجعلهم أهلًا لها. كذلك تأتي العدالة الاجتماعية بين هذه الطبقات كأحد أهم معالم النظام الجديد لدى سان سيمون. وقد رأينا في حياته تطبيقًا لهذا المبدأ عندما انقلب على نابليون بونابرت بعد أن استبد بونابرت، واستحوذ على كل السلطات ضاربًا بأبسط قواعد العدالة الاجتماعية عرض الحائط، وهي الاستبداد لمصلحة فريق دون الآخر. وأيضًا يرفض سان سيمون في تنظيمه الاجتماعي فكرة الملكية الفكرية مؤكدًا أنها من السلبيات التي تعانيها المجتمعات الإنسانية في زمنه، وقدم البديل وهو ملكية الدولة لكل شيء مع توزيعها الثروة على المواطنين بما يتفق مع إسهام كل منهم في تقدم ورقي المجتمع. وبطبيعة الحال، فإن أكثر فئتين سوف تنالان نصيبًا من الثروة في فكر سان سيمون هما العلماء والصناع، وهما الفئتان اللتان ينظر إليهما الفيلسوف الفرنسي باعتبارهما عماد المجتمع. يمكن قول الكثير فيما يتعلق بتنظيم سان سيمون، ولكننا سوف نقتصر على جزئية الحفاظ على الطبقات الاجتماعية كمأخذ أساسي على مسألة التنظيم. فسان سيمون يؤيد الطبقات الاجتماعية، وكان حريًا به أن ينهي هذه الطبقات مقدمًا تعبير "الفئات الاجتماعية" بديلًا. لماذا؟! لأن سان سيمون يرى أن النظام الطبقي يجب أن يقوم على العدالة الاجتماعية منعًا لطغيان طبقة على أخرى. لكن مصطلح "الطبقة" في حد ذاته يعني فوقية جزء على جزء آخر. وبالتالي، كان مصطلح "الفئات الاجتماعية" أو "المكونات الاجتماعية" أكثر عدالة وتعبيرًا عن واقع مجتمع متنوع ولكن لا أحد يعلو فيه على الآخرين، وهذا هو الهدف الأساسي لفكر التنظيم عند سان سيمون.
لماذا الآن؟! ربما يبدو من الغريب في ظل التفاعلات السياسية الحادة في مصر والعالم العربي الآن أن يتناول أحد فكر سان سيمون بالنقد والتحليل والعرض. لكنني لست أرى في ذلك شيئًا غريبًا؛ بل أراه أساسيًا وضروريا لصياغة أساس فكري تنطلق منه ممارستنا السياسية بدلا من العشوائية التي تميزها حاليًا. فلو كان لدى جزء من الشعب المصري وعي بماهية الثورات وحراكها ومستلزماتها، لما دخل في حالة العبثية السياسية التي يشهدها حاليًا، والتي جعلت الكثيرين يقولون إن الثورات يحدث فيها ذلك مع ضرب المثل بالثورة الفرنسية. وهنا نتساءل: ألا يتعلم الإنسان من أخطائه؟! هل قامت الثورة الفرنسية في كوكب آخر؟ لقد قامت الثورة الفرنسية في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، وشهدت العديد من التحولات. وكان يتعين على المصريين أن يستفيدوا من دروسها لا أن يبرروا بها أخطاء ارتكبوها بعد 222 عاما هي الفارق بين عام 1789 الذي شهد اندلاع الثورة الفرنسية وعام 2011 الذي شهد قيام ثورة يناير في مصر. أليس من الواجب إذن أن نعود للأفكار والفلسفات السابقة لاستخلاص قواعد تعيننا على صياغة واقعنا؟! أليس من الجيد أن نعود للفكري المجرد قليلًا حتى لا نغرق في الملموس المادي؟! أليس من الضروري أن ننظر لما سبق كي نستخلص قواعد للتعامل مع ما هو آت؟! ذلك سوف يكون أفضل بدلًا مما نفعله حاليًا من تشويش ما هو قائم لتضليل ما هو آت فيتوه منا المستقبل، ويضل طريقه إلينا، أو نضل نحن طريقنا إليه!!
#حسين_محمود_التلاوي (هاشتاغ)
Hussein_Mahmoud_Talawy#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مصر... في زمن الإرهاب
-
مصر... بين ديكتاتورية اللحية وعسكرة الفساد
-
الإنسان إذ يواجه ذاته... وقد ينتصر!
-
من الهيمنة إلى الفناء... الثقافة كعامل فناء وإفناء
-
الأخلاقية في الفعل السياسي... الحالة المصرية والتشيّؤ!
-
تأملات... في حاكم سقراط!!
-
سفر الخروج... تأملات لا دينية!!
-
لماذا يخاف الإخوان من (تمرد)؟!
-
التعديل الوزاري المصري.... عندما يتجسد الفشل!!
-
بين عمرو دياب وأم كلثوم... عن التأثير المصري نتحدث!
-
حلوة بلادي...!! إفطار في الجمالية...!!
-
بعد 9 أشهر... ألم يولد مشروع النهضة بعد؟!
-
هل الإنسان -الحر- أسطورة؟؟!! الذات الإنسانية قيدا وقائدا
-
القومية العربية... ألا تزال حية؟!
-
الثقافة العربية الإسلامية... هل نحن أمام خطأ تعبيري؟!
-
الخطايا... كيف تخسر الطبقة الوسطى صراع بقائها بالنيران الصدي
...
-
الطبقة الوسطى... العميل السري لأنظمة القمع العربية!
-
3 أرغفة لكل مواطن... 3 عمارات لكل مالك!!
-
ملاحظات خاطفة على الفكر الهيجلي
-
إحسان عبد القدوس... لماذا الآن؟!
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|