|
القرآن 8: التقديم والتأخير
سامي الذيب
(Sami Aldeeb)
الحوار المتمدن-العدد: 4168 - 2013 / 7 / 29 - 12:34
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
استكمل هنا ما كنت قد بدأته حول طبعتي العربية للقرآن وانقل لكم ما كتبته في مقدمة كتابي حول التقديم والتأخير قبل وضع النسخة المنقحة، ولكن دون ذكر الهوامش لأن برنامج الحوار المتمدن لا يسمح بذلك. فأرجو القراء ابداء رأيهم.
التقديم والتأخير متعلق بترتيب الكلمات والجمل في الخطاب. وقد أشار علماء البلاغة العرب الى دواعيه التي لن ندخل في تفاصيلها. ويؤدي التقديم والتأخير أدوراً بلاغية في بعض الأحيان ولكنه قد يكون معيباً بلاغياً إذا لم يخدم الغاية المرجوة منه وهي توصيل الفكرة للمستمع والقارئ بصورة مفهومة ودون تكلف. ويمكن ان نقسم المقدم والمؤخر في القرآن الى عدة أنواع نذكر أربعة منها:
- النوع الأول من التقديم والتأخير، وهو الأخطر، يتعلق بآيات أشكل معناها فأقترح المفسرون مخرجاً لهذا الإشكال من خلال اعادة ترتيب كلماتها، مع حذف أو زيادة في بعض الأوقات، بحيث يتم الوصل الى معنى مقبول. فعلى سبيل المثال تقول الآية 44-19 : 45: "يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا". ولفهم هذه الآية، يرى المفسرون أن فيها تقديم وتأخير ويقترحون ترتيبها كما يلي: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ تكون وليا للشيطان فيَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَانِ". كما تقول الآية 42-25 : 43: "أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ". وترتيبها الصحيح هو: " أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ هَوَاهُ إِلَهَهُ". وتقول الآية 45-20 : 129: "وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى". وترتيبها الصحيح هو: "وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وَأَجَلٌ مُسَمًّ لَكَانَ لِزَامًا". ويلاحظ أن هذه الآية ناقصة فكان يجب ان يقال: " لَكَانَ العقاب لِزَامًا". ويجد القارئ عدة امثلة لهذا النوع من التقديم والتأخير في كتاب الإتقان في علوم القرآن للسيوطي. وسوف نشير في هوامش الآيات الغامضة الى الترتيب الذي يقترحه المفسرون بهدف فهمها.
- النوع الثاني من التقديم والتأخير يتعلق بآيات تتكرر كلياً أو جزئيا مع اختلاف في تقديم وتأخير بعض كلماتها. فعلى سبيل المثال تقول الآية 39-7 : 161 عبارة "وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا" بينما تقول الآية 87-2 : 58: "وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ". وتقول الآية 92-4 : 135: "كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ" بينما تقول الآية 112-5 : 8: "كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ". وواضح أن هذه الآية الأخيرة مغلوطة لأن القرآن يستعمل فعل قام مع القسط ولم يستعمل أبدا فعل شهد مع القسط.
- النوع الثالث من التقديم والتأخير يتعلق في ترتيب الفئات داخل الآية. فيحاول المفسرون كشف خفايا هذا التقديم والتأخير لمعرفة القصد من ورائه. وهذا الموضوع يشغل حيزاً كبيراً من كتب التفسير. فعلى سبيل المثال تقول الآية 62-42 : 13: "شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ". ويفسر المسيري الترتيب داخل هذه الآية كما يلي: "عقب ذكر دين نوح جاء ذكر محمد للإشارة الى أن دين الإسلام هو الخاتم للأديان، فعطف على أول الأديان جمعاً بين طرفي الأديان، ثم ذكر بعدهما الأديان الثلاثة لأنها متوسطة بين الدينين المذكورين قبلها". وتقول الآية 95-47 : 15: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى. ويفسر ابو حيان ترتيب الأنهار كما يلي: "وبدىء من هذه الأنهار بالماء، وهو الذي لا يستغنى عنه في المشروبات، ثم باللبن، إذ كان يجري مجرى الطعوم في كثير من أقوات العرب وغيرهم، ثم بالخمر، لأنه إذا حصل الري والمطعوم تشوقت النفس الى ما تلتذ به، ثم بالعسل، لأن فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم، فهو متأخر في الهيئة". وتقول الآية 113-9 : 60 : إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. والترتيب هنا على حسب الأهمية ولبيان الأحق بأخذ الصدقة من المذكور بعده.
- النوع الرابع من التقديم والتأخير يتعلق بآيات تم ترتيب كلماتها بصورة مخالفة للترتيب الدارج في اللغة العربية ولكن لا يجد القارئ إشكالا في فهمها. فعلى سبيل المثال تقول الآية 45-20 : 55: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى، وترتيبها: خَلَقْنَاكُمْ مِنْهَا ونُعِيدُكُمْ فِيهَا وَنُخْرِجُكُمْ مِنْهَا تَارَةً أُخْرَى. وتقول الآية 61-41 : 28: ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ، وترتيبها: ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِنَا. وتقول الآية 62-42 : 3: كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وترتيبها: كَذَلِكَ يُوحِي اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ. وتقول الآية 92-4 : 8: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا، وترتيبها: وَإِذَا حَضَرَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ الْقِسْمَةَ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا.
وقد تفنن المفسرون في ايجاد تبريرات لأنواع التقديم والتأخير المختلفة دون أي نقد يوجه للنص القرآني الذي يعتبر قمة البلاغة لأنه صادر عن الله حسب اعتقادهم. ففي نظرهم التقديم والتأخير ليس عبثياً إذ أن القرآن ينفي عن الله صفة العبث واللعب واللهو: "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا" (74-23 : 115)؛ "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ. لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ" (73-21 : 16-17). وإن كانت بعض تلك التبريرات مقبولة منطقياً، إلا ان كثيراً منها مصطنع، خاصة فيما يتعلق بالنوع الرابع من التقديم والتأخير الذي يهدف عامة الى احترام السجع الغالب على لغة القرآن، وهو ما يسمى "الفواصل".
وفي كتابنا هذا لم نهتم إلا بالنوعين الأولين من التقديم والتأخير، بينما اهملنا النوعين الثالث والرابع لكثرتهما. كما أننا اهملنا التبريرات التي يلجأ إليها المفسرون اختصاراً على القارئ وأكتفينا بإحالته الى كتاب يستعرض المقدم والمؤخر في القرآن على مختلف أنواعه، سورة بعد سورة وآية بعد أية مع ذكر تلك التبريرات، وهو الكتاب الذي اعتمدنا عليه بشكل رئيسي لتفادي الإطالة في المصادر دون طائل، خاصة أن هذا الكتاب متوفر على الأنترنيت مجاناً: http://www.4shared.com/get/ll5bl9an/_______.html
وتتعلق الأنواع الأربعة للتقديم والتأخير المذكورة اعلاه بما هو ضمن آية أو آيتين. ولكن هناك نوع من التقديم والتأخير يتغاضى عنه المفسرون عامة، وهو الذي يقع بين أجزاء في السورة الواحدة. فعلى سبيل المثال بدأت قصة طلاق زيد من زوجته زينب وزواجها من محمد في الآيات 90-33 : 1-5 ثم استكملت في الآيات 90-33 : 36-40. وليس هناك أي تبرير للفصل بين هذين القسمين، وهو عيب إنشائي يبين أن القرآن مقطع الأوصال.
د. سامي الذيب مدير مركز القانون العربي والإسلامي http://www.sami-aldeeb.com -------------------------------------- أطلبوا كتبي http://www.sami-aldeeb.com/sections/view.php?id=14 حملوا كتابي عن الختان http://www.sami-aldeeb.com/articles/view.php?id=131 حملوا طبعتي العربية للقرآن بالتسلسل التاريخي http://www.sami-aldeeb.com/articles/view.php?id=315 موقعي http://www.sami-aldeeb.com مدونتي http://www.blog.sami-aldeeb.com عنواني [email protected]
#سامي_الذيب (هاشتاغ)
Sami_Aldeeb#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القرآن 7: اختلاف القراءات
-
حد الردة 1 - الأزهر مؤسسة اجرامية
-
متطلبات الدستور الحديث في مصر
-
معروف الرصافي والقرآن
-
نسخة محدثة من طبعتي العربية للقرآن
-
القرآن 6: التسلسل التاريخي للقرآن
-
القرآن 5: أسباب النزول
-
القرآن 4: القرآن والشعر الجاهلي
-
سورة الحمار
-
صوم وصلي رزقك يولي
-
القرآن 3: مؤلف القرآن من خلال مصادره
-
القرآن 2: مؤلف القرآن
-
القرآن 1: جمعه وفقاً للتقليد الإسلامي
-
لماذا تهجمك الغامض على الاسلام؟
-
توقفوا عن صيام رمضان لمكافحة الجوع
-
جريمة الختان 154: رأي موسى بن ميمون
-
حد الردة: لقد وصل السيل الزبى
-
وزراء عدل عرب اولاد عاهرات
-
جريمة الختان 153: رأي القاضي الليبي مصطفى كمال المهدوي
-
جريمة الختان 152: فتوى سعودية
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|