أنهت قمة التنمية المستدامة فى جوهانسبورج أعمالها
بعد عشرة أيام من الاجتماعات والمناقشات والمداولات التى شارك فيها أكثر من عشرين
ألفًا من ممثلي الحكومات ومنظمات المجتمع المدني في العالم، كما حضرها مائة وأربعة
من رؤساء الدول والحكومات، من بينهم توني بلير رئيس الوزراء البريطانى، وجاك شيراك
الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني جيرهارد شرودر.
والواقع أن جوهانسبورج كانت
المحطة الرئيسية الثالثة التي توقف عندها قطار المجتمع الدولي منذ انطلق عام 1972
من العاصمة السويدية ستوكهولم في رحلة مليئة بالصعوبات والتحديات في محاولة للبحث
عن إجابة سؤال مهم هو كيف يمكن تحقيق الرفاهية لنحو ستة بلايين من البشر يسكنون
كوكب الأرض دون أن يتم الاعتداء على موارد هذا الكوكب لكي تبقى عفية وقادرة على
الوفاء باحتياجات نحو ستة بلايين أخرى سيسكنون نفس الكوكب خلال القرن الحالى.
في ستوكهولم عام 1972، كانت بداية الرحلة وكان المكسب الرئيسي حينئذ هو جذب
أنظار العالم شرقه وغربه، شماله وجنوبه إلى الآثار البيئية الضارة التي يمكن أن
تتسبب فيها الأنشطة البشرية والاقتصادية، وكيف أن تلك الآثار لا تعرف الحدود
الجغرافية أو السياسية بين دول العالم، فكلنا نعيش في كوكب واحد، ولا بديل لنا عن
التعاون من أجل الحفاظ على هذا الكوكب وحمايته. وغادر القطار محطة ستوكهولم يحمل
معه إعلانًا سياسيًا يؤكد الالتزام بتلك المفاهيم التي كانت مستجدة على الفكر
الإنسانى في ذلك الوقت، ونشطت الأمم المتحدة، وأنشأت برنامج الأمم المتحدة للبيئة
الذي لعب دورًا أساسيًا فيما بعد في قيادة قطار البيئة والتنمية لأكثر من ثلاثين
عامًا. وتحدد يوم الخامس من يونيو من كل عام يومًا عالميّاً للبيئة، وذلك لرفع
مستوى الوعي العام بهذه القضايا أي قضايا البيئة والتنمية على مستوى العالم وليكون
فرصة تتكرر مرة كل عام لإلقاء الضوء على جهود المجتمع الإنساني ومحاولاته المستمرة
للحفاظ على كوكب الأرض.
ويمضي القطار في رحلته يجاهد في التغلب على كثير من
الصعاب التى تعترض طريقه إلى أن يصل إلى محطته الثانية وكانت في ريو دي جانيرو في
الساحل الشرقى لأمريكا الجنوبية حيث يعيش نحو عشرة ملايين من البشر يواجهون كل صنوف
المعاناة من أجل تحقيق حلمهم وحلم كل إنسان في حياة هانئة وعيشة رضية. كان ذلك في
الثالث من يونيو عام 1992 حيث عقد مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية والذي عُرف
بقمة الأرض الأولى.
وعلى مدار اثني عشر يومًا دارت مناقشات حامية حول كيف يمكن
تحقيق العدالة بين الأجيال بحيث يحقق كل جيل طموحاته وأحلامه دون أن نضحي بقدرة
الأجيال التالية على تحقيق ذلك، وكيف يمكن الحفاظ على الموارد الطبيعية المختزنة في
كوكب الأرض من أجل تحقيق هذا الهدف، وكيف يمكن التخطيط لمشروعات التنمية بحيث لا
تؤثر سلبًا على النظم البيئية.. كيف.. وكيف.. وغير ذلك الكثير من الأسئلة التي تمت
بلورة الإجابة عنها في إعلان للمبادئ أصبح من علامات الطريق سمي <<بإعلان ريو
للبيئة والتنمية>>.
ومن المؤكد أن هذا الإعلان الذي رسخ مفهوم
<<التنمية المستدامة>> كان نقطة تحول كبيرة في الفكر الإنساني، إذ
أصبحت المبادئ التي اتفق عليها حينئذ هي المفردات الجديدة التي فرضت نفسها على
قاموس التنمية في العالم، كما أصبحت تلك المبادئ أسسًا يعتمد عليها المجتمع الدولي
في صياغة أي مبادرات جديدة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. وفي ريو أيضًا أقر
المجتمعون دليل عمل عن كيفية تحقيق هذه المبادئ في شتى المجالات أطلق عليه
<<أجندة القرن الحادي والعشرين>> جاهدت دول كثيرة في العالم لكي تطبق
ما جاء بها بصرف النظر عن النجاح والإخفاق في تحقيق ذلك.
وتمر عشر سنوات أخرى
من رحلة قطار البشرية إلى أن اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا في ديسمبر
عام 2000 يدعو إلى عقد القمة الثانية للأرض في أقصى الطرف الجنوبي للقارة الأفريقية
بمدينة جوهانسبورج. وكان الهدف من عقد هذا المؤتمر هو محاولة الإجابة على مجموعة
أخرى من الأسئلة أهمها: ماذا تحقق من إنجازات على طريق التنمية المستدامة منذ ريو
وحتى الآن؟ وما هي الخبرات والتحديات والنجاحات والإخفاقات التي مر بها الجنس
البشري خلال نفس الفترة؟ ثم ما هي القضايا ذات الأولوية التي يجب التركيز عليها
خلال الفترة القادمة في ظل ما شهده العالم من متغيرات جذرية منذ عام 1972 وحتى
الآن. وتنفيذًا لقرار الجمعية العمومية بدأت منظمات الأمم المتحدة جهودًا مكثفة
للتحضير للقمة المنتظرة بالتعاون مع الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير
الحكومية وكل شركاء التنمية في العالم.
وبرزت خلال العملية التحضيرية اتجاهات
متباينة هددت بفشل القمة قبل أن تُعقد، إذ بدأ الصراع التقليدي بين دول الشمال
الغني ودول الجنوب الفقير يطفو على السطح، تغذيه مخاوف ناشئة عن ممارسات الدول
الغنية في إطار ما يسمى بالعولمة التي لم تتضح معالمها بعد، وإن أثبتت الشواهد أنها
على الأقل لم تجد حلاً للبلايين من بني البشر الذين يعانون من الفقر المدقع، وغيرهم
ممن يتهددهم شبح المجاعة وسوء التغذية.
كما وضح أيضًا من خلال الاجتماعات
التحضيرية للقمة أنه لا يمكن الفصل بأي حال من الأحوال بين قضايا البيئة وقضايا
التنمية في العالم، وهو أحد المبادئ التي وردت بالفعل في <<إعلان
ريو>>. لذا فإن القمة المنتظرة لا يجب أن تكون قمة للبيئة، ولكنها قمة
للتنمية المستدامة التي تركز على محاور ثلاثة: النمو الاقتصادي، النمو الاجتماعي،
وحماية البيئة.
ونشطت المنظمات الدولية وغير الحكومية في إصدار التقارير التي
تؤكد تدهور النظم البيئية منذ عام 1992 وحتى الآن، كما تؤكد بالأرقام المفجعة اتساع
الهوة بين الأغنياء والفقراء في العالم، ولكي تثبت للعالم فشل الدول المتقدمة في
تحقيق ما التزمت به خلال قمة الأرض الأولى خاصة الجانب المتعلق بتقديم المساعدات
المالية والفنية للدول النامية.
وبرزت مشكلة الفقر لكي تحتل رأس قائمة المشكلات
التي يعاني منها بنو البشر في العالم. فتقارير البنك الدولى تؤكد أن هناك نحو 1,2
بليون نسمة يعيشون بأقل من دولار واحد يوميًا، وهناك هدف التزم به المجتمعون في قمة
الألفية التي عقدت في عام 2000 بخفض هذا العدد إلى النصف مع حلول عام 2015، ولقد
بات واضحًا أن مشكلة الفقر ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالفقر المائي، والفقر في الطاقة،
وفي الغذاء، وفي الحصول على خدمات الصحة العامة، وأن كل تلك القضايا ترتبط أيضًا
بإدارة الموارد الطبيعية والحفاظ على التنوع البيولوجي هبة الخالق لسكان هذا
الكوكب.
وهكذا تبلورت القضايا ذات الأولوية التي تقرر أن تركز عليها مناقشات
القمة الثانية، وهي قضايا المياه، الطاقة، الصحة العامة، الزراعة، وحماية التنوع
البيولوجي. كما تأكد أن هذه المجالات ترتبط بمجموعة كبيرة أخرى من القضايا مثل:
التجارة، التمويل، الاستثمار، ديون الدول النامية، نقل التكنولوجيا والمعلومات
والتعليم والبحث العلمي، أنماط الإنتاج والاستهلاك وغير ذلك من قضايا التنمية.
ولكن قبل أن نستعرض حصاد القمة الثانية، فإننا نحتاج لإلقاء الضوء على ما حدث
في العالم من مستجدات منذ ريو عام 1992 وحتى الآن لكي نتعرف على طبيعة المسرح الذي
دارت فيه مفاوضات القمة الثانية، إذ لا يمكن بأي حال أن نفصل بين المسرح وخلفياته
وكبار اللاعبين فيه وهؤلاء الجلوس في مقاعد المتفرجين، ثم في النهاية يمكننا أن
نحكم على حصاد ذلك كله ومدى فاعليته. فعلى الجانب السياسى لا يمكن أن نغفل دور
الولايات المتحدة الأمريكية التي أكدت كل الشواهد منذ عام 1992 وحتى الآن أنها تضع
اعتبارات حماية البيئة في مرتبة تالية لمصالحها الاقتصادية والسياسية. فالرئيس
الأمريكي بوش الأب رفض عام 1992 التوقيع على اتفاقية حماية التنوع البيولوجي، وبعد
عشر سنوات يأتي الرئيس بوش الابن لكي يرفض التوقيع على اتفاقية كيوتو الخاصة بحماية
كوكب الأرض من أخطار التغيرات المناخية، وعلى الجانب السياسي فإنه من الواضح الدور
المهيمن للولايات المتحدة الأمريكية على مقدرات العالم بعد سقوط حائط برلين،
وانهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء عصر الحرب الباردة. وعلى الرغم من ذلك كله، رفض
الرئيس الأمريكي كل المحاولات التي تمت لإقناعه بحضور القمة الثانية للأرض في
جوهانسبورج، وكأنه مُصِّر أن ينفي عن نفسه شبهة قيادة العالم نحو تحقيق أهداف
التنمية المستدامة.
وعلى الجانب الآخر من الأطلنطي نجد تطورًا آخر لا يقل
أهمية، وهو قيام الاتحاد الأوروبي كتجمع اقتصادي كبير يضم خمس عشرة دولة من الدول
الصناعية الكبرى في القارة الأوروبية ويسعى هو الآخر لضمان مصالحه في مواجهة القطب
الواحد المهيمن. ورغم أن الموقف الأوروبي كان دائمًا أقرب إلى التعقل في مواجهة
قضايا البيئة، إلا أن حرب المصالح التجارية خاصة في مواجهة العملاقين الكبيرين
القابع أحدهما في أقصى الشرق من الكرة الأرضية وهو اليابان والآخر القابع في أقصى
الغرب بالولايات المتحدة الأمريكية، تلك المصالح كثيرًا ما تلقي بعضًا من الظلال
على الموقف الأوروبى من بعض قضايا البيئة في العالم.
وعند الحديث عن المصالح
التجارية لا يمكن أن نغفل الدور المتنامي لمنظمة التجارة العالمية التي أنشئت عام
1994 لكي تضع نظامًا عالميّاً جديدًا يدعو إلى حرية انتقال السلع والخدمات بين دول
العالم في إطار من الشفافية والعدالة وتكافؤ الفرص. إلا أن الشواهد قد أكدت حتى
الآن أن ذلك لم يحدث، بل على العكس فإن هذه القواعد أصبحت توضع بمعرفة الأغنياء لكي
ينصاع إليها الفقراء، فزاد الأغنياء غنى وزاد الفقراء فقرًا.
ولقد ارتبطت منظمة
التجارة العالمية منذ نشأتها وحتى الآن في ذهن الملايين من شعوب العالم بمفهوم
<<العولمة>> الذي أضحى يمثل شكلاً جديدًا من أشكال الهيمنة على مقدرات
شعوب العالم النامي. وارتبط ذلك أيضًا بالدور المتنامي للشركات، عابرة الحدود
ومحاولة ضمان مصالحها التجارية على حساب اعتبارات البيئة والتنمية. لقد كان هذا
الموضوع بالذات إحدى نقاط الخلاف أثناء مداولات القمة الثانية مما سنتعرض له
لاحقًا.
وأخيرًا، فلقد شهد العقد الماضي ثورة حقيقية في تكنولوجيا المعلومات
والاتصالات رسخت مفهوم <<العولمة>> بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ
الإنساني، ولعبت دورًا محوريًا ولازالت في نقل الأفكار وحوار الثقافات، وقربت بين
الشعوب، وحوَّلت العالم إلى قرية كونية إلكترونية زاد فيها الوعي العام بكل القضايا
التي تؤثر في حياة الإنسان اليومية وتتأثر بها، ولعل أكبر دليل على ذلك أن هذه
القمة التي عقدت مؤخرًا في جوهانسبورج وحضرها نحو 20 ألف شخص، كان يشارك فيها
بالفعل ملايين أخرى من البشر الذين ساهموا بأفكارهم وآرائهم وعبَّروا عن مشكلاتهم
وأحلامهم دون أن ينتقلوا إلى جوهانسبورج، إذ لم يكونوا في حاجة إلى ذلك بعد التطور
الرهيب في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
(ينشر بترتيب مع <<كتاب وجهات
نظر>>)
غداً: المسؤولية الاجتماعية للشركات عابرة الحدود.. قضية مؤجل
...
©2002 جريدة السفير