|
أسئلة تحتاج إلى إجابات حول الواقع العربي والربيع العربي - السؤال الحادي والعشرون: في ذكرى ثورة 23 تموز (يوليو) المصرية، هل يأتي لنا المستقبل برئيس عربي آخر كجمال عبد الناصر، ليصبح زعيما كبيرا يقود البلاد نحو ربيع عربي حقيقي؟Arab Spring Question 21
ميشيل حنا الحاج
الحوار المتمدن-العدد: 4163 - 2013 / 7 / 24 - 21:14
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لقد جلس على كرسي الرئاسة في العديد من البلاد العربية ، كم لا بأس به من الملوك والرؤساء. ولكن عددا قليلا منهم بات قائدا جماهيريا، لا مجرد رئيس يحكم، دون أن يكون قادرا على قيادة الشعب إلى ما وراء الأفق، أي إلى أبعاد مؤكدة من النصر والفخر والازدهار. فلكي يصبح رئيس بلد ما قائدا لذاك البلد، لا بد له أن يحظى بحب شعبه أولا، فيصبح بالتالي قادرا على النزول في وسط الشعب دون حاجة إلى حماية من الأمن. فحمايته الحقيقية هي حب شعبه الذي جاء ثمرة لإنجازات عدة حققها الرئيس لبلده ولشعبه. ولكن ذاك كله قد يحقق له مواصفات القيادة لشعبه فقط. أما إذا أراد أن يكون قائدا إقليميا، فيمتد نفوذه وتنتشر شعبيته إلى ما وراء حدود بلاده، فإن عليه عندئذ أن يحتضن القضايا القومية الهامة التي تعني بلاده وبلاد دول الجوار أيضا، فلا يقتصر اهتمامه ورعايته على المشاكل الخاصة بإقليمه، بل يمتد ذاك الاهتمام ليشمل رعاية كل قضايا المنطقة، كرفض الأحلاف العسكرية، والتبعية لدولة أجنبية تسعى لإبتزاز شعبها واستنزاف ثروته الوطنية وطمس تطلعات ذاك الشعب نحو الحرية والكرامة والاستقلال . عدد فليل من الرؤساء العرب ، استطاعوا ن يعبروا ذاك الخيط الرفيع غير المرئي، الذي حولهم من رؤساء إلى قادة، وبعدها من قادة محليين إلى قادة إقليميين يحظون باحترام شعوب المنطقة قاطبة، وربما باحترام العديد من دول العالم . ولعل أبرز أولئك الرؤساء – القادة العرب الذين حظوا بحب الجزء الأكبر من أبناء الأمة العربية، لا من أبناء إقليمهم فحسب ، كان جمال عبد الناصر، وعبد الكريم قاسم ، وصدام حسين. وكان هناك رؤساء آخرون لامسوا خط الوصول إلى مركز القيادة، لكن بعض الظروف حالت بينهم وبين اجتيازه ليصبحوا قادة إقليميين مرموقين . ومن هؤلاء أحمد بن بيللا، بطل تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي، الذي أصبح رئيسا للجمهورية الجزائرية ولكن إلى حين، إذ أقصاه عنها هواري بو مدين، شريكه العسكري في عملية تحرير الجزائر من الاستعمار. ومنهم أيضا أنور السادات الذي قاد حرب أكتوبر في عام 1973، فدمر خط بارليف وطرد الإسرائيليين من ضفة القناة مما هيأه لأن يصبح قائدا عربيا بارزا. لكن ذهابه إلى إسرائيل، رغم كونه المنتصر، قد أفسد بهجة الانتصار، إذ رفض العرب خطوته تلك، وطردوه من الجامعة العربية، بل ونقلوا مقرها إلى تونس . أما أبرز القادة العرب قاطبة، والذي وضع قدمه بثبات على عتبة القيادة بشكل صحيح ، فأحبه الشعب المصري، بل والشعب العربي أيضا، فقد كان جمال عبد الناصر، أبرز القادة العرب قاطبة. وقد جاءت بعبد الناصر إلى الحكم ثورة الثالث والعشرين من تموز (يوليو) 1952. لكنه لم يظهر تماما كقائد لها في بدايات الأمر، إلا أنه ما لبث حتى تبوأ مركز الرئاسة ، فالقيادة التي تربع عليها حتى عام 1970. والواقع أن منجزات الرئيس جمال عبد الناصر لا تعد ولا تحصى . فهو من وقف وراء عملية إنهاء النظام الملكي في مصر وإحلال النظام الجمهوري محله. وهو من استبدل السلاح الغربي الذي كانت مصر أسيرة له ، بالسلاح الشرقي، عندما شرع باستيراد الأسلحة للجيش المصري من تشيكوسلوفاكيا، وبعدها من الإتحاد السوفياتي الذي كان ينازع الولايات المتحدة على زعامة العالم . لكن الإنجاز الأكبر لجمال عبد الناصر، كان في تبنيه القومية العربية لمصر، وإحلالها محل الانتماء الفرعوني . كما أنعش الشعور القومي العربي في كافة الأقطار العربية التي حاول العثمانيون طمسها على مدى أربعة قرون من حكمهم للبلاد العربية. كما واجه تيار الإخوان المسلمين الذي أراد أن يفرض الانتماء للإسلام السياسي، عوضا عن الانتماء للقومية العربية التي قادت مصر فيما بعد إلى الوحدة مع سوريا ، وإلى مشاريع اتحادات فدرالية وكونفدرالية عدة مع اليمن والعراق وليبيا، وهي مشاريع لم تتحقق فعليا على أرض الواقع، نظرا لمواجهتها بالعديد من التطورات والمؤامرات الكثيرة التي أجهضتها. ومن إنجازات عبد الناصر البارزة، تأسيسه لحركة عدم الانحياز بالمشاركة مع الرؤساء تيـتو ونهرو وسوكارنو، إضافة إلى بعض الزعماء الأفارقة ومنهم سيكوتوري ونيكروما . أما الإنجاز الأكبر فعلا والذي شكل مفصلا في مستقبل مصر، فقد كان الرد على قيام الولايات المتحدة بسحب عرضها لتمويل مشروع السد العالي، وذلك بإعلان ناصر تأميم قناة السويس. وجاء هذا الإعلان الشهير الذي هز به بريطانيا وفرنسا، أثناء إلقاء خطابه الشهير في الإسكندرية. وكان الرئيس المصري فد خطط لذاك التأميم بعناية فائقة. إذ كان المرشدون المصريون جاهزون لدى سماعهم كلمة السر "دليسبس" في خطاب الرئيس، لتولي قيادة السفن عبر قناة السويس، بدلا من المرشدين الأجانب، وذلك بحرفية عالية أذهلت المرشدين الأجانب أنفسهم . وهكذا أصبح دخل مصر من قناة السويس المؤممة ، والذي يبلغ أحيانا اثني عشر مليار دولار سنويا، هو مصدر تمويل السد العالي الذي بات الإنجاز الأكبر في حياة مصر الحديثة . وساعد السد العالي على زيادة المساحات المروية من الأراضي المصرية القابلة للزراعة، خصوصا وقد جاء ذلك بعد مصادرة الأراضي من كبار الملاك مع بدايات الثورة ، وإعادة توزيعها على صغار المزارعين . وهكذا حصل تطور نوعي بالنسبة لفلاحي مصر وكذلك بالنسبة لكمية الأراضي المزروعة ،مما زاد الدخل القومي من الزراعة، وخفف من نسبة البطالة، وطور الصناعة وخصوصا تلك التي تعتمد على الزراعة في موادها الأولية كالقطن وغيرها . وواجه عبد الناصر العدوان الثلاثي في عام 1956، ولكنه خسر الحرب في عام 1967 مما أدى، بعد نكبة حزيران من ذاك العام، إلى قيامه بتقديم استقالته للشعب محملا نفسه المسؤولية، وطالبا مساعدته على التنحي . لكن الشعب الذي أحبه كثيرا،وقدر له كل المنجزات الكبرى التي حققها لبلده ، أبى أن يتقبل تنحي عبد الناصر، فخرج إلى الشوارع بالملايين مطالبا ببقائه قائدا للبلد وللأمة. فاضطر عبد الناصر لأن ينصاع لرغبة الشعب، مع وعد بأن يصحح مسار النكبة أو الهزيمة . وبدأ عندئذ في العمل ليلا ونهارا من أجل أن يرد اللطمة لإسرائيل ، وأن يعد العدة لإعادة تحرير الأراضي المصرية المحتلة بعد بناء القدرة على اجتياح خط بارليف الرملي الذي بني على الجانب المحتل من قناة السويس، إضافة إلى سعيه لإعادة تسليح القوات المسلحة مع الاستعانة بخبرات عسكرية من الإتحاد السوفياتي . لكن المنية جاءته في التاسع والعشرين من أيلول عام 1970 قبل أن يستطيع استكمال مشروعه الكبير الساعي لرد الاعتبار لمصر ولتحرير أراضيها المحتلة . ومع ذلك لم تذهب جهوده سدى، إذ استفاد منها السادات في حرب أكتوبر السابق ذكرها. وفي لقاء أجرته إحدى القنوات التلفزيونية مع الشاعر المخضرم أحمد فؤاد نجم ، روى أحمد نجم الذي كان كثير الإقامة في السجون نظرا للجرأة في أشعاره، أنه قد التقى في السجن بالطبيب الذي كان يعالج الرئيس جمال عبد الناصر، وقد اعترف له الطبيب المذكور، كما قال نجم ، أنه كان عميلا لإسرائيل، وأن إسرائيل قد طلبت منه أن يدس السم تدريجيا وعلى مراحل عدة للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، مما أدى إلى وفاته. ولا أعلم مدى صحة هذا القول، لكنه قد لا يكون قولا مستبعدا، إذ ترددت العديد من الشائعات أن عبد الناصر قد مات مقتولا بالسم البطيء، مما يعني أنه الرئيس-القائد العربي الأول في العصر الحديث ، الذي يتم تنفيذ حكم الإعدام فيه سرا على أيدي عناصر أجنبية وبطرق ملتوية . وكان قد سبقه إلى هذا المصير، الزعيم عبد الكريم قاسم الذي نفذ فيه حكم الإعدام أيضا ، ولكن بأيد عربية . وكان عبد الكريم قاسم ، الذي أصبح القائد العربي الثاني في سجل القادة العرب الخالدين، قد جاء إلى السلطة في العراق بانقلاب عسكري أخذ منحى الثورة، ووقع في الرابع عشر من تموز عام 1958. فكأن شهر تموز هو شهر الثورات، حيث أن الثورة المصرية قد فجرت أيضا في شهر تموز. وكان أول إنجاز للثورة العراقية التي سرعان ما تحولت إلى ثورة شعبية، هو إنهاء الحكم الملكي في العراق وإعلان الجمهورية، مع تشكيل مجلس رئاسي يقوم بمهام رئيس الدولة، وتكليف عبد الكريم قاسم الذي كان برتبة زعيم في القوات المسلحة ، بمهام رئاسة الوزراء. وكان الإنجاز الثاني المباشر لتلك الثورة، هو إسقاط حلف بغداد الذي كانت تسعى بريطانيا وأميركا إلى تأسيسه، ليكون بمثابة الرديف والمكمل لحلف الأطلسي . ومع انسحاب العراق من ذاك الحلف الذي وافق نوري السعيد ، رئيس الوزراء السابق في العهد الملكي، على تأسيسه وعلى الدخول فيه، لم يعد من الممكن تسمية الحلف بحلف بغداد، حيث أن بغداد لم تعد عضوا فيه. وبالتالي أسموه بالحلف المركزي الذي ضم باكستان وايران وتركيا. وكان انسحاب العراق من الحلف، قد شكل ضربة قاصمة له. ولذا لم يصمد الحلف المركزي طويلا، إذ سرعان ما تفكك وانهار، كما انهارت معه سياسة الأحلاف في منطقة الشرق الأوسط . وكان من أهم إنجازات الزعيم قاسم أيضا، أنه قد أعاد تسليح الجيش العراقي مستخدما أسلحة من الإتحاد السوفياتي والدول الشرقية. فمع خروج العراق من حلف بغداد، لم يعد هناك مبرر للتقيد باستخدام سلاح الدول الغربية الذي كان يباع للعراق بأثمان باهظة. كما ابتعد عن تطوير علاقاته بدول الغرب، وسعى إلى تعزيز علاقته بكتلة الدول الشرقية . وكانت هناك إنجازات أخرى عديدة أجراها عبد الكريم قاسم إبان حكمه القصير. إذ خطى خطوات واعية ومدروسة نحو تأميم نفط العراق، كما حفر قناة الجيش في أطراف بغداد، وأنشأ تلك الحديقة الجميلة التي ضمت تماثيل لكبار الشعراء والكتاب العرب، وجعلها مكانا لنزهة العائلات العراقية إضافة إلى كونها مكانا للاحتفالات الثقافية. واهتم عبد الكريم قاسم بتحسين أوضاع العمال والفلاحين ، وتعزيز مكانتهم، كما طور علاقاته بالأحزاب اليسارية والوطنية، وخصوصا بالحزب الشيوعي العراقي الذي اعتبر قاسم زعيما وطنيا وقائدا فذا للعراق . وعكف عبد الكريم قاسم مع مستشاريه على وضع الخطط لتطوير بغداد، فوضع التصاميم الهندسية لبناء عدد من الجسور والطرق الداخلية والخارجية والتي أرادها أن تكون بمواصفات دولية، إضافة إلى عدد آخر من المشاريع التي لم يساعده قصر مدة بقائه في السلطة على إنجازها . لكن الحكومات اللاحقة ، وخصوصا حكومة صدام حسين، الذي حاول اغتيال قاسم في مرحلة من المراحل ، قد عملت على تنفيذها وإنجازها ، بحيث بات العراق يعرف عندئذ بجسوره الرائعة وطرقه الواسعة الداخلية والخارجية ، والتي أصبحت فعلا تشبه الطرق في الدول الأوروبية . وتدريجيا بدأ عبد الكريم قاسم يتحول في نظر الجماهير إلى زعيم شعبي، بل إلى قائد فذ يحترمه العديد من أطياف المجتمع العراقي. ولكن حدث التبدل فجأة . ففي الرابع عشر من شهر رمضان عام 1963، هاجم ائتلاف مكون من القوميين والبعثيين مقر وزارة الدفاع حيث كانت مكاتب الزعيم عبد الكريم قاسم إضافة إلى مقر إقامته . ومستغلين حالة الصيام في رمضان، وتواجد عدد أقل من الحراس في مبنى الوزارة، إضافة إلى كون بعض الأسلحة المعدة للدفاع عن وزارة الدفاع ، قد تم تفكيكها لغايات الصيانة، استطاع المهاجمون اقتحام المبنى واعتقال قاسم وتنفيذ ما سموه حكم الإعدام فيه رميا بالرصاص، دون محاكمة حقيقية، ودون الاستماع إلى دفاعه، أو إلى موقف الشعب مما جرى ويجري في ذلك اليوم المشؤوم . وهكذا بات عبد الكريم قاسم هو الرئيس العربي الأول الذي ينفذ فيه حكم الإعدام ، رغم أنه الزعيم الذي أنهى العهد الملكي، ودمر حلف بغداد، وأمم النفط ، وسعى جاهدا لتحقيق مصالح الشعب العراقي . صدام حسين كان الرئيس الثالث في العالم العربي الذي تحول إلى قائد يحظى بحب الشعب العراقي، وباحترام كم هائل من الشعوب العربية التي حزن فيها الكثيرون لدى إعدامه . وكان صدام حسين قد ظهر، منذ منتصف عام 1967، كنائب لأحمد حسن البكر رئيس جمهورية العراق، الذي وصل للسلطة بانقلاب عسكري أطاح بحكومة الفريق محمد عارف، شقيق الرئيس العراقي عبد السلام عارف الذي قتل في حادث تحطم طائرة هليكوبتر كانت تقله ، فتولى محمد عارف، رئيس الأركان عندئذ، السلطة لمدة لم تتجاوز العام الواحد، إذ حصل عندئذ الانقلاب العسكري البعثي الذي جاء بأحمد حسن البكر رئيسا للبلاد، وبصدام حسين نائبا للرئيس . ولكن رغم كون صدام نائبا للرئيس، كانت السلطات الفعلية بيده هو، وكان أعضاء حزب البعث يحلفون دائما بحياة النائب صدام لا بحياة أحمد حسن البكر . صحيح أن صدام قد ارتكب بعض الأخطاء الفاحشة ومنها قصفه حلبجة بالكيماوي، وتصفيته لعدد من منافسيه السياسيين تصفية جسدية، إضافة إلى غزوه للكويت . ولكن غزو الكويت ربما كان خطأ نتج عن عملية تضليل قامت بها الولايات المتحدة، لتقـنعه بأنها غير عابئة بخلافاته الحدودية مع الكويت . فهي بتلك الخطوة الماكرة التي أقدمت عليها السفيرة جلاسبي، قد دغدغت طموحه بتحقيق بعضا من الوحدة العربية التي كان يطمح إليها كزعيم عربي وكقائد لحزب البعث المنادي بالوحدة العربية . وهكذا أقدم على غزو الكويت مطمئنا بأن ردود الفعل لن تكون كبيرة . ولم يعلم عندئذ النوايا السيئة التي كانت تبـيتها الولايات المتحدة له. إذ استخدمت عملية الغزو تلك لتحقيق أهدافها الحقيقية التي لم تكن مجرد تحرير الكويت، بل احتلال العراق وإسقاط صدام حسين عن كرسي الرئاسة. وتحول صدام حسين تدريجيا إلى قائد محبوب وخصوصا بعد تقاعد أحمد حسن البكر، وحلول صدام مكانه في كرسي الرئاسة. إذ برز صدام حسين عندئذ كقائد فذ يبذل كل جهده لتطوير العراق وتحريرها من كل نفوذ أجنبي. بل وبرز أيضا كقائد إقليمي وقف في وجه النفوذ الأجنبي في العراق وفي دول الجوار. إذ أحبته شعوب المنطقة وتظاهرت تأييدا له في عدة دول عربية وفي مقدمتها الأردن . وامتداد شعبية صدام حسين إلى خارج قطر العراق أفزع الأميريكيين ، إذ باتوا يخشون امتداد نفوذه إلى دول الخليج، وسيطرته التدريجية بالتالي على منابع النفط، مما أفزع دول الغرب وخصوصا الولايات المتحدة . وتعددت أسباب الارتفاع في شعبية صدام على الصعيدين الداخلي والخارجي . فعلى الصعيد الداخلي طور الزراعة، وحفر النهر الثالث، وارتقى بالصناعة إلى درجة كبيرة وخصوصا بالصناعة العسكرية منها التي باتت تخيف في تطورها دول الغرب، حيث روجت الولايات المتحدة لإمكانية توصل العراق إلى إنتاج قنبلة نووية، رغم علمها الأكيد بأن إنتاجها كان لا يزال بعيدا لعدة سنوات. وهذا الادعاء شكل سببا آخر تذرعت به أميركا في تشكيل الحلف الثلاثيني إضافة إلى تذرعها بالرغبة في تحرير الكويت. وتعززت شعبية صدام حسين عندما قام خلال حرب عام 1991 بقصف إسرائيل بتسعة وأربعين صاروخا أصاب بعضها قلب المدن الإسرائيلية. كما تعززت لدى مواجهته للحرب التي شنتها دول التحالف ضد العراق . ولكن رغم الإعلان الرسمي بأن الهدف من الحملة العسكرية التي نفذتها الدول الغربية وأميركا هي تحرير الكويت، فإن القوات الأميركية، بعد أن حررت الكويت، عبرت الحدود العراقية الدولية وبدأت في التوجه نحو بغداد. لكن حدثا هاما قد وقع في الأيام الأربعة الأخيرة من شباط 1991، اضطر جورج بوش الأب لإعلان وقف مفاجىء لوقف إطلاق النار. وكان السبب في ذلك أن عددا كبيرا من رجالات الحرس الثوري الإيراني قد عبروا الحدود وبدأوا بتوزيع الأسلحة على عدد من رجالات الشيعة العراقيين. وذكر جون سيمسون، مراسل ال "بي بي سي " في كتابه حول حرب الخليج ، أن عددا من المسلحين العراقيين الشيعة معززين بعدد كبير من مقاتلي حرس الثورة الإيرانية ، وقفوا في الساحة الرئيسية لمدينة البصرة ليعلنوا ميلاد الجمهورية الإسلامية في العراق . وذكر بعض من شهود العيان، أن حرس الثورة والمقاتلين من شيعة العراق، قد اقتربوا كثيرا من بغداد . فهذا كله قد اضطر جورج بوش في 28 شباط لإعلان وقف مفاجىء لإطلاق النار ضد الجيش العراقي . فالولايات المتحدة قد عملت طويلا من أجل إبعاد الخطر الإيراني عن دول الخليج، وأوقعت حربا استغرقت ثماني سنوات بين العراق وإيران من أجل مشاغلة الدولتين وإبعادهما عن تشكيل خطر يهدد دول الخليج وخاصة السعودية والكويت. ولكن الآن، باتت إيران على مقربة من الكويت ومن الحدود السعودية. ومن هنا بات من الضروري العودة إلى مشاغلة الدولتين ببعضهما. فالولايات المتحدة لا ترغب في اشتباك بشكل مباشر مع إيران خوفا من مقاتليها الانتحاريين، كما لا تستطيع أن تتوقع من العراق، رغم أنه لا يكن الود لإيران، أن يدخل في حرب ضد رجالاتها وهو يواجه القوات الأميركية على أكثر من جبهة قتالية . ومن هنا التقت المصلحتان الأميركية والعراقية، وبالتالي بات من الضروري وقف إطلاق النار ضد العراق ، بل وبات من الضروري تقديم التـنازلات للعراقيين ليتمكنوا، بل ويتشجعوا، على الدخول في معركة ضد المسلحين الإيرانيين. وبالنسبة للعراقيين ، كان من الطبيعي أن يختاروا مواجهة التدخل الإيراني. فهم عندئذ إنما يدافعون عن بلادهم في مواجهة غزو أجنبي لا يختلف كثيرا عن غزو دول التحالف للعراق. كل ما في الأمر أن غزو دول التحالف كان يغل أيديهم. وهكذا بات من الطبيعي أن يضعوا شروطهم قبل تصديهم للغزو الإيراني . وهنا ا تبدل كل شيء على ساحات القتال وساحات السياسة . فبدل أن يأتي صدام حسين إلى السفينة ميسوري ، كما أراد الجنرال شوارزكوف ، ليعلن استسلامه وتقديم سيفه علامة على ذاك الاستسلام، جاء الجنرال شوارزكوف إلى صفوان (الموقع الحدودي) ليقدم التـنازلات للعراق. فسمح لهم بسحب قواتهم من المناطق التي حوصروا فيها من أجل تجميعها في مواقع أكثر ملائمة ، كما سمح للعراقيين باستخدام طائرات الهليكوبتر العسكرية دون تعرضها لمكروه من قبل القوات الأميركية ، إضافة إلى وعد بسحب القوات الأميركية من داخل الأراضي العراقية . وقدر البعض أن صفقة للديبلوماسية السرية قد تم إبرامها بين العراق والولايات المتحدة، رغم عدم اعتراف الولايات المتحدة بشيء من هذا القبيل . وعزز قناعتي بحصول شيء من هذا القبيل، أن العراق قد طلب في الثامن من آذار، من كافة الصحفيين غير العراقيين بمغادرة البلاد. وهكذا لم يـبق في العراق غيري من الصحفيين اللذين يمثـلون جهات إعلامية أجنبية. ولكني في التاسع من آذار ليلا،تحولت إلى شاهد عيان، ولغايات الدقة أقول تحولت إلى شاهد آذان (من الأذنين)، إذ سمعت أصوات ثقيلة لهديـر طائرات بطيئة السير والطيران ، فلم تكن بكل تأكيد أصوات طائرات حربية سواء عراقية، المستبعد أيضا تحليقها في هذه المرحلة، والمستبعد أيضا كونها أصوات طائرات حربية أميركية خصوصا وأن أميركا قد أوقفت إطلاق النار وتوقفت بالتالي عن التحليق في الأجواء العراقية. والأهم من ذلك أن صوت الطائرات كان من المرجح كونه صوت طائرات نقل ثقيلة وبطيئة، وكانت طائرات بدت لي أنها تتوجه نحو مطار المثنى القريب من فندق الرشيد حيث أقيم. وإذا كانت تلك حقيقة شبه مؤكدة لي، فإن غير المؤكد كان هوية تلك الطائرات. هل كانت طائرات نقل أميركية تأتي بالسلاح للعراق لتمكنه من مقاتلة الإيرانيين بنجاح، أم كانت طائرات نقل عراقية سمح لها بنقل المعدات العراقية التي تركتها في ساحات القتال في الكويت لدى انسحابها علىعجل؟ أسئلة لم أعرف أبدا الإجابات عنها رغم كونها قد عززت شكوكي بأن الولايات المتحدة، وضمن ما سمي باحتمال وجود صفقة الديـبلوماسية السرية بين البلدين ، قد فعلت شيئا ما، أو سمحت بتحقيق شيء ما، لغايات مساعدة العراق على طرد الغزاة الإيرانيين . والشيء ما ربما كان، وهو الاحتمال الأقوى، طائرات سوفياتية بدأت تنقل السلاح للقوات العراقية بموافقة أميركية . فلم يكن من المتوقع أبدا أن تحلق طائرات النقل السوفياتية في الأجواء العراقية التي كانت الولايات المتحدة تسيطر عليها، دون موافقة أميركية . ولكن صفقة الديـبلوماسية السرية إن وجدت، لم تكن قد تمت برضاء تام من جورج بوش الأب ، بل تمت على مضض منه، أي رغم أنفه، إذ رضي بها مضطرا رغبة منه في الحيلولة دون تواجد الخطر الإيراني على حدود حلفائه الأوفياء كالسعودية والكويت ودول الخليج الأخرى. وهي (أي الصفقة ) قد تمت على مضض منه لأنه اضطر (وربما كان هذا جزءا من الاتفاق السري إن وجد ) إلى عدم التعرض للعراق مجددا ولصدام حسين بالذات، مما أدى إلى بقاء صدام حسين في السلطة على مدى الاثـني عشر عاما التي تلت دون أن يواجه هجمة جديدة فعلية قوية عليه. فالأمر بدا وكأن صفقة شبيهة بتلك التي عقدت بين الاتحاد السوفياتي وأميركا في عام 1963 وكان مضمونها عدم تعرض الولايات المتحدة لكوبا مقابل سحب السوفيات لصواريخهم من كوبا حليفة الإتحاد السوفياتي . وظل الأمر كذلك إلى أن أعلن جورج بوش الابن أن صدام قد خطط لاغتيال والده أثناء زيارته القادمة للكويت، وهو لذلك ذاهب إلى العراق لتأديب صدام على فعلته تلك .وذهب فعلا بطائراته ودباباته واجتاح بغداد ، وظل يطارد الرئيس العراقي إلى أن ألقى القبض عليه، وأجرى له ما سمي بمحاكمة عادلة، ثم سمح بتنفيذ حكم الإعدام في صدام وهو الحكم الجائر الذي صدر ضد الرئيس العراقي. وأكثر الأشياء غرابة في هذا الموضوع، أن أيا من الحكام العرب لم يحتج على إعدام رئيس عربي تم إعدامه بالفعل من قبل جورج بوش الابن ، انتقاما منه ، كما يرجح، لكرامة أبيه التي أهدرت عندما فشل في إلحاق العقاب بنفسه بالرئيس صدام، بل اضطر عندئذ لتقديم التسهيلات له، كما اضطر إلى تركه حيا وعلى كرسي رئاسته، عوضا عن تنفيذ مهمته التي جاء في عام 1991 من أجل تنفيذها . وهكذا يتبين لنا، أن الرؤساء العرب الثلاثة الذين تحولوا إلى قادة، وحققوا الكثير لشعوبهم، بل وللشعب العربي بشكل عام وليس لإقليمهم فحسب، قد لاقوا (ثلاثتهم ) حتفهم أو مصيرهم المؤلم بأساليب لم تكن متوقعة لهم . فالزعيم عبد الكريم قاسم قد أعدم رميا بالرصاص، والرئيس جمال عبد الناصر قد مات متأثرا بما اعتقد أنه سم دس له خفية، أما الرئيس الثالث صدام حسين ، فقد أعدم شنقا وبشكل همجي رغم كل ما فعله من أجل العراق والشعوب العربية. فهل ننتظر بعد ذلك أن يأتينا رئيس عربي آخر، يسعى لأن يقدم الكثير لشعبه، ويحقق للأمة العربية ربيعا عربيا حقيقيا هذه المرة ، لا مجرد ربيع وهمي كتلك التحركات الغريـبة في نتائجها والتي وقعت في اليمن، وليبيا ، وسوريا، وتونس ومصر ؟ لا شيء بعيد على الله، وعلى أمة عرفت في الماضي القريب القائد صلاح الدين، كما عرفت في الماضي القريب قادة كبار كجمال عبد الناصر، وعبد الكريم قاسم، وصدام حسين. فعندما توجد الإرادة ، ويوجد التصميم، يصبح بمقدور الشعوب العربية أن تحقق غايتها في الحرية والعدالة والديمقراطية، إضافة إلى إعادة توزيع ثروتها بشكل عادل ، لينال كل حسب حاجته .
Michel Haj
#ميشيل_حنا_الحاج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أسئلة تحتاج إلى إجابةحول الواقع العربي والربيع العربي- السؤا
...
-
أسئلة تحتاج إلى إجابات حول الواقع العربي والربيع العربي – ال
...
-
أسئلة تحتاج إلى إجابات حول الواقع العربي والربيع العربي - ال
...
-
أسئلة تحتاج إلى إجابات حول الواقع العربي والربيع العربي - ال
...
-
أسئلة تحتاج إلى إجابات حول الواقع العربي والربيع العربي ال
...
-
أسئلة تحتاج إلى إجابات حول الواقع العربي والربيع العربي السؤ
...
-
أسئلة تحتاج إلى إجابات حول الواقع العربي والربيع العربي – ال
...
-
أسئلة تحتاج إلى إجابة حول الواقع العربي والربيع العربي- الس
...
-
أسئلة تحتاج إلى جواب حول الواقع العربي والربيع العربي – السؤ
...
-
أسئلة تحتاج إلى إجابات حول الواقع العربي والربيع العربي - ال
...
-
أسئلة تحتاج الى اجابات حول الواقع العربي والربيع العربي السؤ
...
-
أين ديمقراطية أثينا بين ديمقراطيات العالم العربي وخصوصا في م
...
المزيد.....
-
تحليل للفيديو.. هذا ما تكشفه اللقطات التي تظهر اللحظة التي س
...
-
كينيا.. عودة التيار الكهربائي لمعظم أنحاء البلاد بعد ساعات م
...
-
أخطار عظيمة جدا: وزير الدفاع الروسي يتحدث عن حرب مع الناتو
-
ساليفان: أوكرانيا ستكون في موقف ضعف في المفاوضات مع روسيا دو
...
-
ترامب يقاضي صحيفة وشركة لاستطلاعات الرأي لأنها توقعت فوز هار
...
-
بسبب المرض.. محكمة سويسرية قد تلغي محاكمة رفعت الأسد
-
-من دعاة الحرب وداعم لأوكرانيا-.. كارلسون يعيق فرص بومبيو في
...
-
مجلة فرنسية تكشف تفاصيل الانفصال بين ثلاثي الساحل و-إيكواس-
...
-
حديث إسرائيلي عن -تقدم كبير- بمفاوضات غزة واتفاق محتمل خلال
...
-
فعاليات اليوم الوطني القطري أكثر من مجرد احتفالات
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|