|
رأيت أبي - قصة قصيرة
احمد هيبي
الحوار المتمدن-العدد: 1192 - 2005 / 5 / 9 - 07:37
المحور:
الادب والفن
(كان شباكي لشباكه يقول انتهى الليل فهل من مزيد؟ ... اليوم الأول لا أتذكره. أشتقت الى أبي في الليل. وكأنما كنا على موعد. ولكنه لم يأت. كنت أذهب لأنام، بينما يظل هو صاحيا. فالميّتون لا ينامون, وانما يراقبون الاحياء بأعين نصف مغمضة. يحرسونهم. لقد أصبحنا صنفين من البشر. صنف يقطن باطن الأرض، ويلتجيء الى الكهوف، عند أطراف البلد، أو يتوارى خلف أرياف الصبر والتين. والصنف الآخر ينتظر في الصباحات الباردة فوق الشوارع، ويركب الحافلات, ويقفز كالبراغيث فوق جلود الكلاب. وفي الليل يتبادل الطرفان الأدوار: يصعد "الأوّلون الى حافة الارض بصمت .. يجلسون فوق جدران الباطون و"سناسل" الحجارة. ينتظرون. أو يجلسون القرفصاء، كما كانوا يفعلون في حياتهم الأرضية. يراقبون البيوت المضاءة نصف اضاءة، والنوافذ التي تركها أصحابها مفتوحة. أما الاحياء فيرغبون فعل العكس: ينشدون الراحة. يمكثون قريبا من قلب الارض. يفعلون ذلك بطريقة الايحاء. يدفنون أنفسهم في عمق الدثار. ويطفئون الانوار، لتبدو أسرّتهم عميقة ومعتمة مثل القبور. يغرقون ساعات طويلة في رحلة سردابية. يراقبون فيها نجوم السماء بأعين مغمضة. فاذا أراد الاحياء رؤية الاموات، فليس عليهم انتظارهم في العتمة وراء الأشجار، أو في المدافن والخرابات. لأن العتمة ستكون ثقيلة هناك. ولو مد الحيّ اصبعه فلن يراه. وما عدا ذلك، فان هذه المناطق خطرة، بل خطرة جدا. ولا يجرؤ الاحياء في عتمة الليل ارتيادها. ولو ارتادوها لما وجدوا أحدا بانتظارهم غير الأشباح والجنيات الهائمة على وجهها. ولذلك ينبغي للمتشوّقين منا الانتظار. وربما ينتظرون ولا يحظون بأي لقاء. وعادة ما يخلف الميّتون مواعيدهم. فهذا معروف عنهم. فاذا سئلوا، تعللوا بما كانوا يتعللون به في أوقات مكوثهم فوق الارض. ان لديهم اشغال هناك. وعندهم أصدقاء، ماتوا قبلهم، وآباء وامهات. وهم يسرحون ويمرحون بخفة ودونما اكتراث. ولا يشعرون بمرور الوقت. يلعبون الورق كما كانوا يلعبون في السابق. لم يتغير علينا شيء يقولون لك. وكأنما الموت نزهة في الطبيعة. وليس هذا بالأمر المستهجن عنهم. ذلك أن كثيرين منهم قد تركوا الحياة بدون سبب مقنع، فقط لأن الموت غمز لهم بأعينه. وجرى اغراؤهم بطرق عديدة، من قبل وكلاء الموت المندسين في كل مكان. فانسلّوا من الباب الخلفي للحياة، غير مهتمين بمحاولات المطببين، أو تضرّع الابناء. ولا يغرنك ما تراه في الميتين، او الذين هم على شفا الموت من صمت. انهم يتحركون ويتكلمون ولكن في عوالم ثانية. واذا كانوا لا يظهرون لنا، ولا يتكلمون معنا، فان هذا هو الثمن الذي يدفعونه لقاء تسرّعهم في الغياب. ولعلمك فهم لا يهتمون برغبات الاحياء, او رغبات الذين كانوا يسامرونهم في ليالي الشتاء الطويلة، ويلعبون معهم الورق على ضوء الشموع، أو في ضوء المصابيح الكهربائية. ومن أجل ذلك فهم ممنوعون من الظهور الا في الأحلام. يشبه حالهم حال طلاب أنهوا للتو الامتحان. لا يعود بوسعهم العودة الى غرفة الامتحان ومحادثة التلاميذ الذين ما زالوا هناك. فهذا امر يخالفون عليه. أما من كان في الداخل، فهو حر في الخروج، بشرط أن يسلم أوراقه أوّلا. يندفع الى ما يراه عالم الحرية، بين أقرانه الذين خرجوا. لا يهزهم الشوق كما يهزنا. لأنهم يعرفون اننا خارجون اليهم لا محالة. طال الوقت أم قصر. ومن أجل ذلك فهم يأتون، لو أرادوا، على رؤوس أصابعهم، أو تخلوا عن كياستهم التي عرفت عنهم، أو فرضت عليهم. يأتون في الظلام، والناس نيام. شرط ألا يزعجوا الأحياء. وأنا أعرف ذلك من زيارات جدي رحمه الله. كان يأتي مباشرة من مكان ما خلف المقبرة, يفتح الباب, ويدلف الى الداخل. وهو يحسبني غارقا في النوم لا أراه. ولكني كنت أراه: يقترب ويقترب، في زمن تظنه اوّلا ساعات. فاذا هو لحظات معدودات. يقف فوق رأسي، ويرفع عن وجهي اللحاف، ثم يتفرس بي عميقا. فاذا ما أحس ادنى حركة مني، طار الى الباب. اختفى في الحال. أما أبي فأنا اعرفه. لا يعبأ بهذه الألعاب. تراه مشغولا بالصلاة أو بالتفرج، واصلاح الحال. ثم ان ابي لا يهتم كثيرا بالزيارات والرسميات. ولا أظنه قد غيّر عاداته هناك. يجدني ساهرا في الليل، فيكتفي بالنظر اليّ من ثقب الباب. وهذا دأبه. وعندما كنت ولدا صغيرا، كنت أراه يُغير عليّ غارات قصيرة، ثم يتركني لحالي، وانا لا اعرف ما الذي جاء به، او ما مبتغاه. ولكني أردت رؤيته في المنام. وبقيت بانتظاره خمسة أيام. كنت أعمل من نفسي نائما لكي يأتي. وفي النهاية كان يغلبني النوم. في الليلة الأولى عذبني الانتظار. فذهبت الى المقبرة وسط الظلام. كانت مقبرة "أبو الوفا" تعج بسكون مخيف. ولكن يرين عليها السلام. ونظرت الى ذلك المكان الهاديء، مشرفا على أجزاء كبيرة من القرية، وعلى السهول وسفوح الجبال المقابلة. تحسست تراب القبر بيدي، وقرأت الفاتحة. رجوته أن يلحق بي الى البيت. كان يستطيع أن يأتي في المنام. ما كان أهون ذلك قبل أيام: أدخله في السيارة الى جانبي وأغلق الباب. ولكنه لم يأت. ولا في الليلة التي بعدها جاء. ثم كانت الليلة الثالثة أشد وطأة. فهي الليلة التي تغادر فيها أرواح المتوفين الأرض الى السماء. وفي اليوم الرابع باغتني احساس، أن أبي ما يزال معنا. وانه لم يذهب الى أي مكان. وربما نام في الحديقة، أو فوق أغصان شجرة التين التي زرعها بيده. فروحه خفيفة كظل عصفور. نظر الى أبوابنا وشبابيكنا قبل انطفاء الأضواء, ونادى كل واحد باسمه بصوت غير مسموع. ولكنه لم يظهر في الليلة الرابعة أيضا. ومعنى ذلك أنه قد رتّب أموره بلشكل ما. لم يكن أبي يحفل بهذه الزيارات. كان يقول لي دائما ان الوحدة بالنسبة له عبادة. أما أنا فكنت أخاف عليه من الوحدة، خشية أن يلعب برأسه وكلاء الموت. ونادرا ما كنت استطيع اخراجه من عزلته. كان يريد أن يثبت لي أنه ليس بحاجة الى انسان. ولكنه كان يحتاجني أحيانا. كان يحبني سرا. فاذا تأخرت عن موافاته، جاء اليّ مقدما عشرات الأعذار. وكثيرا ما كان يدعوني الى الطعام. كان يرسل لي واحدا من الاولاد. يقف تحت نافذتي، ويناديني بصوت يرن بأذني لا يزال حتى الآن. وما كان يجب أن يرفع صوته، لأن أقل صوت صادر منه، كان يقيمني على رجلي. وكثيرا ما كان يأخذ موقعه عند طرف الحديقة, مطلقا تلك المناداة. في الليلة السادسة جاء. وكيف جاء؟ زارني في المنام. أرسل في طلبي، بينما استلقى هو في بيت احد الأقارب. لا أدري لماذا لم يأت الي بيتنا. كان ينام على فراش وضع على الأرض. ربما لا يزال مريضا. ولسبب ما أشغلوا له "الهوّاية" بدل "المدفأة". ثم أشغلوا الجهازين في نفس الوقت. وكان المطر يسح في الخارج بخيوط طويلة من الماء. عندما اقتربت منه، ابتسم لي حتى قبل أن يفتح عينيه. ابتسم على طريقة الاطفال الذين يبتسمون في نومهم، وقد رأوا حلما جميلا. ولكم أصبح اللقاء عزيزا. وكنت أستطيع أن القاه بالسير بضع خطوات. بل اني كنت أتحاشى لقاءه أحيانا متعللا بالأشغال. كان قلبي مجروحا. فكيف لا يعلم ذلك؟ انه لا يفعل سوى أنه يواصل الابتسام. لم يقل لي شيئا. فهل كان عاجزا أو ممنوعا من الكلام، مثل سجين تركوه يلقىأهله، قبل أن يأخذوه، بضع لحظات؟
#احمد_هيبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ابو صليعة
-
العلية الرياضية او العلية الطبيعية
-
رسّام الحيطان
-
مرحبة - قصة للاطفال
-
هل للكاتب سلطة؟
-
قصة - رحلة مع لينين
-
الجنس عند اليهود - القسم الثاني
-
ادب الاطفال من الخارج
-
اسمي الجديد
-
الكلوت
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|