أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - -المخرج فرات سلام في شريطه التسجيلي الجديد - نساء فقط















المزيد.....


-المخرج فرات سلام في شريطه التسجيلي الجديد - نساء فقط


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 1192 - 2005 / 5 / 9 - 11:46
المحور: الادب والفن
    


لطفية الدليمي تبحث عن العراق، وتفتّش عن ضريح يتسّع لفواجع الوطن
وسعد البزاز يقرّع ناقوس الخطر، ويطالب بفردية المرأة كحق مطلق
والسيدة ليلى زغيّر تتمنى خيمة في العراء
لا بد للمخرج السينمائي التسجيلي على وجه التحديد أن يتفنن في اقتناص اللحظات المعبّرة كي يصنع منها بؤرةً مُشعّةً لفيلمه الوثائقي. كما يلعب حسن اختيار الشخصيات المُحَاوَرة دوراً مهماً في تعميق الفيلم، ونقل ثيمته من الدوران في فلك الأفكار المطروحة والسائدة إلى حيّز الأفكار الجديدة المبتكَرة. وفرات سلام هو مخرج من هذا النوع اللمّاح الذي يدرك تماماً ماذا يقدّم لمتلقيه بحيث يستفزه، ويترك بصمة قوية في ذاكرته قد لا تزول بسرعة. وأستطيع أن أجزم بأن دقة اختياره لهذه الشخصيات النسوية هي التي وضعت هذا الفيلم الموسوم بـ " نساء فقط " على سكة النجاح المؤكد. فنحن، المتتبعين للشأن الثقافي في الأقل، لا نتوقع أفكاراً عابرة من القاصة والروائية لطفية الدليمي التي تحمل العراق في " مهجة قلبها " وتعيش على إيقاعه على رغم ضراوة ما يعانيه من دمار، وخراب، وألم ممض. وهذا الأمر ينطبق على بقية الشخصيات المتعلمة وغير المتعلمة التي أثْرَت الفيلم بأفكار مهمة جداً استطاعت أن تستقطب اهتمام المتفرج، وتشدّه إلى عوالمها. كما هو حال د. هناء صبحي أو الأستاذة نادرة خياط، أو الفنانة رنا جعفر ياسين، أو بقية النسوة الأميات أو اللواتي حصلن على قدر بسيط من التعليم أمثال السيدة ليلى صغيّر، أو المرأة القروية غير المتذمرة من العادات والتقاليد العراقية البالية، أو المرأة المدينية التي كان تمتلك محلاً تجارياً كان يدّر عليها أرباحاً وفيرة. كما كانت إطلالة سعد البزاز ذكية، وعميقة، استطاع من خلالها أن يقرع ناقوس الخطر، ويكشف عن المصير المؤلم الذي ينتظر المرأة العراقية في السنوات القادمة في ظل هذه الأوضاع السياسية والاجتماعية المرتبكة.
هندسة الرؤى والتصورات الفكرية
يحتاج الفيلم التسجيلي إلى بنية معمارية رصينة تقوم على دعامات قوية، متينة يعززها كاتب السيناريو الذي يسهم في تقديم تصوراته الأولية عن الفيلم في المرحلة الأولى، ثم في أثناء كتابة السيناريو ما بعد التصوير، وتشذيب هذه الرؤية بمساعدة المُمَنتِج، ثم تأتي مرحلة بناء الفيلم على وفق الرؤية الفنية للمخرج. ولا بد من الإشارة إلى أهمية الدور الذي لعبه الكاتب والروائي زهير الجزائري الذي اشترك كسينارست مع فرات سلام في أكثر من فيلم، كما ساهم في كتابة العديد من السيناريوهات الناجحة. أردت من هذه الإشارة الخاطفة إلى القول بأن نجاح هذا الفيلم كان سببه الأبرز هو دقة انتقاء هذه الشخصيات التي أفصحت عن أشياء مهمة، ومستَفِزة، وما كان لها أن تظهر إلى السطح لولا الأسئلة الذكية الذي أثارها كاتب السيناريو بالتعاون مع المخرج الذي كان متوارياً خلف أجوبة الشخوص المُحاورّة. ولتوضيح هذه الرؤى التي ساهمت في تقديم فيلم تسجيلي ناجح لا بد من التنويه إلى أن صوت المعلّق د. عبد المنعم خطاوي والذي سمعناه من خلال تقنية الـ " voice over " كانت بمثابة المفاصل الستة التي شدت بنية الفيلم المعمارية، ودوزنتها، وقدّمتها لها في النهاية على شكل رؤى ثقافية، وفكرية، وسياسية، واجتماعية، وأخلاقية، مرة منسجمة، متفقة، ومرة أخرى متضاربة، متصادمة. كما نلمس الفرق الواضح بين ثقافة المدينة المتحررة، وثقافة الريف المتشددة. ولعل الاستهلال الموفق الذي افتتح به المخرج فيلمه هو التذكير باللازمة التي نرددها دائماً، وربما نؤمن بها نظرياً، ولكننا لا نطبقها عملياً. تقول هذه اللازمة " المرأة نصف المجتمع، مقولة ترددها الألسن، وتنادي بها التجمعات النسوية، ولكن كم من المرددين من هؤلاء يؤمن حقاً بما ينادي به؟". ولو تجاوزنا هذا التساؤل الإشكالي الآن لأن الرجل والمرأة في العراق يعيشان في وضع استثنائي حرج، فكلاهما مُحتَل، ومُستعبَد من قبل الأجنبي، وكلاهما بحاجة إلى التحرر من ربقة الأجنبي أولاً، ثم النظر إلى مسألة حرية المرأة في العراق. وعلى رغم أهمية الرؤى والأفكار التي طرحتها بقية شخصيات الفيلم إلا أن حضور الروائية لطفية الدليمي كان مميزاً، وله نكهة خاصة أثرت الفيلم بكل المعايير الفنية، والفكرية، والسياسية، ولهذا فقد كانت صاحبة الحظ الأوفر في الظهور، إذ أطلّت علينا أربع مرات، ودمغت بقوة أفكارها، وتصوراتها في شريط ذاكرة المتلقي. إذ أشارت إلى أن المرأة العراقية لها تاريخ طويل من الأداء السياسي على مدى 80 عاماً في إشارة إلى تأسيس الدولة العراقية الحديثة، لكنها توقفت طويلاً عن أوضاع المرأة السيئة في العقود الثلاثة الأخيرة، وتحديداً في فترة الحروب التي شنها النظام السابق على بعض البلدان المجاورة، حيث حُرمت المرأة العراقية من إكمال دراستها العليا لأن السفر إلى خارج العراق كان ممنوعاً على الرجال والنساء على حد سواء. ويتجسد ذكاء لطفية الدليمي في تركيزها على رسم صورة محددة للمرأة العراقية المُستَلبة، والمهمشة، والتي لم تستطع أن ترسمها إلا مخيلة كاتب أو فنان. والمرأة العراقية كما هو معروف لا تستطع أن تسافر خارج الحدود إلا برفقة محْرمْ كأن يكون الأخ أو الأب أو الزوج وما إلى ذلك. ولعل الومضة الأدبية في هذه الالتقاطة الفنية أنها وصفت النساء العراقيات اللواتي يتزوجن من عراقيين يقيمون خارج الحدود بأنهنَّ " طرود بريدية " تذهب على شكل " رُزم ٍ " عبر ساعي البريد الذي يمثلّه هذا المحرم ليسلّمها إلى " الأزواج المُنتظرين " في عمّان، وكأنّ المرأة أصبحت " بضاعة " يسلّمها البائع إلى المُشتري. وعَزَت لطفية الدليمي هذه الزيجات إلى الحروب العبثية التي أشعلها النظام السابق، وأربك كل المقاييس التي كانت سائدة، وما هذه الزيجات الفنتازية إلا إفرازاً طبيعياً لتلك الحروب الشنيعة حيث لقي الآلاف من الشباب العراقيين مصرعهم في جبهات القتال، وسقطت آلاف أخَر في الأسر، وحتى إن اشغال المرأة لدور الرجل في دوائر الدولة، والمصانع، والمنشآت الحكومية لم يكن إلا سدّاً للفراغ الذي خلفه الموظفون الذين كانوا حطباً لنيران الحرب التي ظلت مشتعلة طوال عقدين ونصف العقد من الزمان. وحينما انتهت الحرب، صدرت تعليمات جديدة، وتشريعات تقضي بإعادة المرأة إلى المنزل، أو المكان الطبيعي لها، بحسب التشريعات القمعية الجديدة، حيث تربي الأطفال، وتعتني بالزوج، وتدير شؤون البيت الداخلية. أي أنها عادت إلى " زاوية الحريم " ثانية بعد أن انتفت الحاجة إلى وجودها خارج الحياة المنزلية. في الإطلالة الثاني رصدت لطفية الدليمي عدداً النقاط الحساسة، وطالبت المرأة العراقية بالاعتماد على نفسها، وان تكون واثقة من قدراتها الذاتية، وحرّضت النسوة العراقيات الخائفات، الخانعات إلى التخلص من هاجس الخوف الذي تعرضن له على مدى عقود طوال. وطالبت الإنسان العراقي"، رجلاً أكان أو امرأة، أن يسترد حقوقه المستلبة، وألا يقع تحت وطأة الاستلاب والتدجين. كما استعربت كيف يرضى بعض الناس بأن يعيش عيشة عابرة "مكتفياً بالأكل والشرب والنوم والإنجاب! " ناسياً أو متناسياً إنسانيته. ودهشت كيف يرضى الإنسان العراقي المعاصر بـ " حياة الكهوف " حيث لا ماء، ولا كهرباء، ولا حياة حرة كريمة وسط هذه الظلمات حيث يتعرض المواطن العراق الآمن إلى " قبائل غازية تهجم عليه وهو جالس في بيته! " إذاً، لم يتراجع الإنسان العراقي عقوداً إلى الوراء، وإنما تراجع بالفعل قروناً إلى الوراء ". وفي الإطلالة الثالثة أكدت الدليمي على أن الأوضاع السياسية ما تزال ملتبسة، وغامضة، وليس المرأة هي الوحيدة التي لا تعرف ماذا تريد، وإنما الإنسان نفسه لا يعرف ماذا يريد. ومن الأولويات التي حددتها الدليمي هي " استتباب الأمن " أي أن تضع رأسك على الوسادة وتنام بهدوء عند ذلك تستطيع المرأة العراقية أن تفكر بحريتها، وشريك حياتها، وثقافتها، وسفرها إلى الخارج بعد أن تتحقق هذه الأولويات التي أشارت إليها سلفاً. أما الإطلالة الرابعة فسأؤجل الحديث عنها لأنها تشكّل خاتمة مدروسة للفيلم. وحينما نستمع إلى المعلّق وهو يمهد لنا الطريق لسماع للولوج في عالم المرأة الثانية، البسيطة التي تعيش وضعاً حياتياً مزرياً تحت مستوى خط الفقر الذي تعرّيه الإطلالة الثانية للمعلّق الذي فضح آلية الاتحادات النسوية التي كانت تقلب المفاهيم، وتقدّم صورة مشوهة وزائفة عن أوضاع العراقية التي ظلت " حبيسة الهم والألم ". سأحاول أن أختصر معاناة السيدة ليلى صغيّر التي كانت تسكن في " حي العدل " منذ 11 سنة، ولكنها لم تستطع أن تدفع إيجار البيت، فتخلت عنه، ووجدت نفسها مضطرة للسكن في " مدرسة الزهراء للبنين " ولديها بنت مصابة بمرض " السكري " وثلاثة أطفال آخرين يعيشون في وضع صحي بائس، ويتخذون من المدرسة التي يعمل فيها والدهم حارساً ليلياً، سكناً لهم. بينما تعمل هي " منظفّة " إضافة إلى أن أنها تخدم في بيوت الناس الميسورين، لكنها مردودات هذه الأسرة المالية لا تكفي لعلاج البنت المريضة، وتحصل على ملابس الأطفال من جيرانها الذين يتصدقون عليها. ويمكن ملاحظة الملمح الإنساني الذي يحرّك مشاعر هذه المرأة الشابة أنها " خريجة الصف الثالث المتوسط " وتتمنى مثل بقية النساء أو معلمات المدرسة أن تلبس، وتأكل، وتشرب، وتعيش كالآخرين، وقد بلغ بها التذمر أنها طلبت من زوجها الطلاق، ما لم يؤمن لها سكناً منفرداً حتى وإن كان خيمة منصوبة في العراء، خصوصاً بعد أن أعياها مرض " سوفان المفاصل " وأقعدها عن العمل أو الخدمة في البيوت. تختتم هذه السيدة حديثها المؤثر بالقول بما معناه " هذا ليس عمراً أقضيه بهذه الطريقة المؤلمة. ". في المرة الثالثة ينتقي المعلّق امرأة مثقفة، ذات درجة علمية عالية يحاول من خلالها أن يوحي لنا بأن هذه المرأة تعرف " كيف ترسم ملامح دورها " وتتجاوز العقبات التي تصادفها في ظل الوضع الأمني الراهن. من هنا وقع اختيار المخرج على د. هناء صبحي، وهي مدرّسة في المركز الثقافي الفرنسي في بغداد. وقد حاولت هذه السيدة أن تفرّق بين هموم المرأة المتعلمة وغير المتعلمة، لكن كليهما يعانيان من انعدام الأمن، وفقدان الأمان. المرأة المثقفة من وجهة نظر د. هناء تريد أن تحقق ذاتها من خلال العمل والإبداع، بينما تنهمك المرأة غير المتعلمة بالهموم الحياتية اليومية. وقد أشارت د. هناء إلى إصرار بعض ربات البيوت على تعلّم اللغة الفرنسية حتى في ظل هذه الأوضاع الخطيرة، بل أن بعض النسوة استأجرن سيارات خاصة تقلهن من المنزل إلى المركز الثقافي وبالعكس خشية من التعرض إلى الخطف أو التسليب أو بعض المشكلات الجدية. ولكي يحدث المخرج نوعاً من الموازنة في هندسة هذه البنية الفكرية بين النسوة المتعلمات، وغير المتعلمات فقد مهّد لنا الطريق لمعرفة أفكار سيدة عراقية تحدت الكثير من الصعوبات، وكونّت أسرة ناجحة في ظروف عصيبة، وقاهرة لم يحتملها بعض الرجال كما ورد على لسان المعلّق في الثناء على هذه المرأة التي تمثل رمزاً للمواجهة، وتحدي الصعاب، وقهر ظروف الحياة القاسية، بل أنه قارنها بشهرزاد الذكية، الحصيفة، المفوّهة التي وضعت حداً لجنون شهريار، ولجمت رغباته التي لا تتوقف عند حد. فهذه المرأة ربة بيت، كانت خياطة مذ كان عمرها 13 سنة، وعندما تزوجت كان رصيدها " 52 " مثقالاً من الذهب، باعته، واشترت بقيمته منزلاً يأوي أولادها وبناتها الذين ربتهم أفضل تربية، وفتحت لكل واحد منهم محلاً تجارياً يرتزق منه، ثم زوجتهم، واطمأنت على مستقبلهم، وهي ترفض حتى هذه اللحظة أن تترك العمل، وتنزوي في البيت. هذا أنموذج لامرأة عراقية لا يتسرّب إليها الكلل، وأكثر من ذلك فإنها تقول " عندما أشوف أولادي مرتاحين يروح مني كل التعب. ".فليس غريباً أن تحمل هذه المرأة في ذاتها قدراً كبيراً من المجازفة، فحتى في أيام الحرب كانت تتنقل بين أسواق بغداد لتؤمّن ما يحتاجه المحل من بضائع مفقودة.
أما الأنموذج الآخر الذي اختاره المخرج هو سيدة كبيرة، غير متعلمة، ولا غرابة في أن تكون متشددة في رؤيتها للحياة الاجتماعية، ولا تجد في ذلك ضيراً لأنها تنتمي إلى ثقافة الريف، وعادات القرية، وتقاليدها، بل أنها لا تعتبر الرجال المعاصرين رجالاً بكل معنى الكلمة لأنهم لا يخيفون النساء مثل الرجال في العهد الماضي حينما كانوا يمنعون المرأة من الخروج من المنزل. ولأن هذه المرأة العراقية طيبة جداً فإنها تريد الخير للجميع، وبضمنهم أبناءها. يا ترى، منْ يستطيع أن يغيّر قناعات هذه المرأة العراقية التي تدجنت على وفق التقاليد البالية؟
أما المستوى السادس الذي نتهيأ له من خلال كلمات المعلّق الذي يتدخل في سياق الشخصية المتحدثة من خلال التمهيد لها بكلمات مكثفة تعكس توجهها، وأسلوبها، ورؤيتها للحياة. لنسمع ما قاله المعلّق " وتظل الأحلام تداعب المرأة العراقية فتحلق بها نحو فضاءات رحبة فيصطدم الخيال بالواقع المر فتعمل جاهدة إلى تغييره إلى واقع منسجم مع طموحاتها المشروعة. ". وهو يعني بهذا الكلام الفنانة المبدعة رنا جعفر ياسين، هذه الشابة المثقفة التي درست الهندسة المعمارية، ولكنها اختارت أن تكون نحاتة، تنحت على الحديد، وتطوّع هذه المادة الصلبة. فمستوى حديث هذه الشابة الطموحة يختلف بالتأكيد عن نساء أخر لم ينلن حظهن من التعليم. ومن بين الآراء التي طرحتها في هذا الحوار بحسب رؤيتها " أن الذائقة الفنية تكاد تكون معدومة " وتعزو سبب انعدام هذه الذائقة إلى الظروف التي مرّ بها العراق. وتعتقد أن حل هذه المشكلة يكمن في " القيام بمرحلة تثقيف كاملة بحيث يمكن للإنسان العراقي أن يتقبل الفن بكل أشكاله وأنواعه. ". تبدو رنا إنسانة متحدية، إذ اختارت شيئاً عصياً على التطويع وهو الحديد الذي روضته، وصنعت منه أشكالاً فنية جميلة تنبض بالروح، وتضج بالحركة، وتزخر بالمضامين العميقة، والدلالات المعبرّة، كما أن أعمالها تنطوي على رسالة إنسانية، إضافة إلى بعدها الجمالي. تحاول النحاتة رنا أن توظّف الأدب والشعر على وجه التحديد في أعمالها الفنية، ولكن معالم هذا التوظيف لم تتضح بعد، فما تزال في بداية طريقها الفني والحياتي. وتعتقد رنا أن معاناة المرأة في ظل الظروف الراهنة هي معاناة مضاعفة لأنها كفنانة تحاول أن تجد لها في عالم الأدب والفن موطئ قدم، ولكنها تواجه صعوبة الوضع الأمني الجديد من جهة، وصعوبة قبول المجتمع، ذي الذائقة المحدودة التي لا تُمجد الفن كثيراً. وترى أن المجتمع برمته بحاجة إلى " ثقافة فكرية "، وتؤمن بأن " الحرية لا تعني الخروج عن حدود الحكمة والفكر ". لا أدري لماذا أوقف المخرج سياق التعليق، والتمهيد للمُتحدثين الآخرين وخصوصاً أن عددهما المتبقي اثنين فقط. وكانت هناك فرصة لأن نسمع طريقة تقديمه لرجل هذه المرة وهو القاص والمحلل السياسي، سعد البزاز، الذي يشغل الآن منصب رئيس تحرير صحيفة " الزمان " التي تصدر في لندن. وربما يشكل وجوده خرقاً لعنوان الفيلم الصارم " نساء فقط "، غير هذا الانتهاك الفني قد جاء في محله، فلا بد أن نسمع رأي الرجل في أمه، وأخته، وملهمته، ونصفه الثاني. والبزاز، للذين يعرفونه هو شخص مفوّه، يستطيع أن يضع الأمور في نصابها الصحيح. ففي إطار المجتمع العراقي المتنوّر قال البزاز بأن " المرأة العراقية انتزعت حقوقها في بدايات القرن العشرين، حقوقها المدنية والاجتماعية والثقافية والسياسية، ثم صارت تتراجع مع مرور الزمن. والآن نحن نمر بأسوأ مرحلة تتعرض فيها حقوق المرأة للسلب. ". ونتيجة لمعرفته ببواطن الأمور فإن البزاز يشعر بأنه " غير متفائل إزاء دور المرأة في الحياة العامة في العراق." وهو يشير صراحة إلى خشيته من التشريعات الجديدة التي حاول بعض رجال الدين سنّها، وفرضها على المجتمع العراقي الجديد. كما طالب بقوة " باعتبار فردية المرأة حقاً مطلقاً كما هي فردية الرجل " وشدد على ضرورة " مشاركة المرأة المتنورة، وليس العمياء أو المقموعة في صياغة هذه التشريعات الجديدة " التي تؤكد فردية المرأة، وتنتزع حقوقها كاملة غير منقوصة. وفي نهاية مداخلته المركزة دقَّ البزاز ناقوس الخطر معلنا " أن المرأة العراقية تعيش الآن في أسوأ أوضاعها في العراق. " وبتعبير آخر " أن المرأة العراقية الآن في خطر. " كنت أتمنى على المخرج أن يمنح البزاز، وبعض الشخصيات اللبقة، القادرة على تنظيم أفكارها بوقت قصير، خاطف وقتاً أطول. ولو تأملنا الحوار الذي أجراه المخرج مع السيدة نادرة خيّاط، وهي أستاذة علم اللاهوت في كلية التراث لما خرجنا بشيء، لأنها لا تستطع أن تستجمع ما في ذهنها، وتقدمه بصيغة أفكار قوية، وحادة، ومؤثرة. لقد أرادت أن تقول بأنها ليست راهبة، ولكنها كرّست حياتها لخدمة هذا الدير. وهي ترى بأن وضع المرأة قبل سقوط النظام السابق كان أفضل من وضعها الآن، لأن المرأة سابقاً كانت تستطيع الخروج لوحدها، والبقاء حتى حلول الظلام من دون الحاجة إلى رفقة أخ أو أب أو زوج. ووصفت هذا الحال بأنه مخيف، ولا يمكن بناء مجتمع صحيح في مثل هذه الظروف الشاذة. وهي تريد أن تنقذ المرأة من هذا الظلم الكبير الذي تنوء به، بدءً من سيطرة الأخ أو الأب أو الزوج على المرأة، وانتهاءً بحقوقها المهضومة. وهي ترى بأن المرأة المسيحية مظلومة أيضاً، ولا تمتلك نفس الحقوق التي يمتلكها الرجل مثلاً. وربما تكون الفكرة الوحيدة التي طرحتها بأسلوب شيّق، وعلمي هو أن المرأة لها طابع حدسي، بينما الرجل له طابع " تعقلي " وهي تقصد أن الرجل عقلاني أكثر من المرأة، وتتمنى لو أن الرجل والمرأة يكملان بعضهما بعضاً لكي يبنيا مجتمعاً مثقفاً، قوياً، ومبدعاً. كما شددت على القول بأن " المرأة المستقلة مادياً، سيكون وضعها أفضل من وضع المرأة التي تعتمد على زوجها اقتصادياً " واستنتجت في نهاية حديثها بأن " المرأة غير المثقفة مظلومة أكثر من النساء المثقفات. "، وتمنت أن تتخلص المرأة العراقية من العادات والتقاليد البالية التي توارثتها على مدى أجيال عديدة. كان على المخرج فرات سلام أن يمضي في آلية التعليق التي كانت تدوزن هندسة الفيلم، وإيقاعه خلال حديث الشخصيات الست الأولى، ولم يكن هناك أي مبرر لإلغاء فكرة التعليق لاحقاً، بل بالعكس أن هذا الإلغاء قد أضرّ بتقنية الفيلم، وأربك سياقه السلس المُنساب، خصوصاً وأن هذه التعليقات قد جاءت مركزة، ومكثفة، وفيها معلومات دالة، ومحددة، وثرية جداً، ولا بد من الإشارة إلى أن صوت د. عبد المنعم خطاوي كان متقناً، ويعرف كي يتفنن بمخارج الحروف، الأمر الذي أضفى عنصراً جمالياً للفيلم.
النهاية الملحمية
لا شك في أن أديبة، مثقفة مثل لطفية الدليمي التي تتميز بحضورها الوهاج في المشهد الثقافي العراقي على مدى العقود الثلاثة الأخيرة تعرف كيف تقود حواراً من هذا النوع إلى نهايات محددة تقترحها هي، لا المخرج نفسه. ففي إطلالتها الرابعة والأخيرة التي تحدثت فيها عن ضرورة تحرر الرجل والمرأة في العراق، لأن كليهما خاضعان للاحتلال، فكيف نطالب بحرية جزء من هذا المجتمع في حين أن الجزء الآخر ما يزال مقموعاً، ومصادراً، ومهمشاً. وهي ترى " أن الحرية بمفهومها الإنساني الشامل تعني الوعي بمفردات الحياة. " وأن الحرية هي شرط أساسي من شروط بناء المجتمع المتحضر الذي تأخذ فيه المرأة كامل حقوقها في التعليم، والإرث، والزواج، والوظيفة وما إلى ذلك، وعلى المرأة العراقية ألا تكون مستعبدة لمخاوفها، حتى وإن كانت هذه المخاوف كثيرة، وتحيط بها من كل حدب وصوب. ولأن هموم السيدة لطفية الدليمي ليست هموماً عادية، عابرة، فقد لوّت عنق الحديث، وانحرفت به صوب" الوطن " أو الهم الأكبر، لذلك ارتأت هذه المرأة التي تبدو دائماً وكأنها منبثقة من قلب الحضارة السومرية أن تختم هذا الفيلم بقصيدة فيها نَفَس محلمي يعبّر عن مساحة واسعة من مشاعر العراقيين الخلّص. فتبدأ نصها الشعري بتساؤل ممض: "أين أنتَ ياوطني؟/ رأيتهم ينفونك إلى الليل/ فما بزغ من بعدك فجر ولا وُلد لنا مصير/ فأين أنت الآن يا وطني؟ بحثت عنك في ألواح القدر بين سطور الملاحم/ سألت وحش غابة الأرز/ ركضت في قصائد الخليقة / وتقلدت مراثي أور الحزينة / وتبعت حدوس فؤادي فما عثرت على ضريح يتسع لفواجعك فأين ذهبت يا وطني؟ بحثت عنك على جسر الشهداء فما وجدتك بينهما / انحنيت على دجلة وتسللت إلى أبهاء الغرقى وهم يحتفلون بولادات الموت/ ناشدتهم أن يتبعوك في موجة عذراء، ويأتوا بك إليّ / ضحكوا مني وغادروني متوغلين في أمان الموت/ وهم يشيرون إلي ويحدقون بنظرتي/ عندما أضاء وجهي برق تطلعت إلى مرآة اسمك فرأيت تعوم في أدمعي / وتومئ لي بالتحايا، وتفصح عن صفاتك في صفاتي / عندئذ أطبقت عيني على بهائك ما بين حدقة وانعكاس السماء / وأحببت ساعتها المرايا / ومجدت ساعتها البكاء. ".. هذه النهاية الشعرية الموفقة تُعد واحدة من النهايات الذكية التي تستثمر " الشعر " وتوظفه في متن الفيلم التسجيلي الذي يرصد مشكلات الإنسان المثقف وغير المتعلم على حد سواء، ويتتبع همومه، وهواجسه الذاتية الكبيرة التي تحتاج إلى مُحاوِر ذكي، مرهف الحس، وإلى عدسة متربصة تعرف كيف تقتنص تهدجات الصوت، وتلاحق خيوط الدمعة التي توشك على الانفجار، وفرات سلام هو مخرج واعد من هذا الطراز العصي الذي لا يستكين ما لم يصل إلى فضاء الحقيقة، ودفئها العذب الذي يفتح في ذهن المتلقي نافذة جديدة، وفضاءً غير موطوء.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صمت القصور - فيلم من صنع امرأة: كشف المُقنّع وتعرّية المسكوت ...
- في زيارته الثالثة لأوروبا خلال هذا العام جورج بوش يحتفل باند ...
- سمفونية اللون - للمخرج قاسم حول: شريط يجمع بين تقنيات الفيلم ...
- الروائي بختيار علي لـ - الحوار المتمدن -: النص لا يخضع لسلطة ...
- في جولته الجديدة لكل من لاتيفيا وهولندا وروسيا وجيورجيا جورج ...
- التشكيلي سعد علي في معرضه الجديد - المحبة في مدينة الليمون - ...
- الملكة بياتريكس في يبويلها الفضي: لا نيّة لها للتخلي عن العر ...
- نزلاء حتى إشعار آخر - للمخرج فرات سلام: فيلم تسجيلي يقتحم قل ...
- المخرجة الإيرانية رخشان بني اعتماد: - سيدة أيار - إدانة صارخ ...
- التشكيلي ستار كاووش لـ ( الحوار المتمدن):أنا ضد المحلية البح ...
- المخرج هادي ماهود في فيلمه الجديد - سندباديون - أو - تيتانك ...
- جهاد أبو سليمان في فيلمه التسجيلي - أستوديو سعد علي -: رؤية ...
- أول امرأة هولندية تُصاب بجنون البقر، وتسبب هلعاً جماعياً
- المخرج العراقي ماجد جابر في فيلمه التسجيلي الجديد - المقابر ...
- الفنانة التشكيلية حنان عبد الكريم في معرضها الأخير: من الرمز ...
- الروائي العراقي اليهودي شمعون بلاص لـ - الحوار المتمدن -:عند ...
- الروائي اليهودي العراقي شمعون بلاص لـ - الحوار المتمدن -: نز ...
- الفنان سعد علي في معرضه الشخصي الجديد - الحب في مدينة الليمو ...
- التشكيلي زياد حيدر لـ ( الحوار المتمدّن ): اللوحة بالنسبة لي ...
- حفل لسيّدة المقام العراقي فريدة في دار الأوبرا في مدينة نايم ...


المزيد.....




- “بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا ...
- المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
- رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل ...
- -هاري-الأمير المفقود-.. وثائقي جديد يثير الجدل قبل عرضه في أ ...
- -جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
- -هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
- عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا ...
- -أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب ...
- الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى ...
- رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - -المخرج فرات سلام في شريطه التسجيلي الجديد - نساء فقط