عزمي موسى
الحوار المتمدن-العدد: 4157 - 2013 / 7 / 18 - 18:42
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
أتخذ مفهوم الهوية , وبشكل أكثر انتشارا في مرحلة الربيع العربي , بعدا عنصريا رجعيا وتصفويا , عند كافة أطياف القوى اليمينية , وبدرجات متفاوتة . بعدا ينكر الأخر ويحلل سفك دمه بصورة وحشية ذهبت إلى ابعد من جز رؤوس البشر إلى حد أكل أكبادهم . مما شكل خطرا حقيقيا , وتحديا وحشيا أضافيا أمام شبكة العلاقات الاجتماعية العربية المهددة بتأكل والزوال . وبالتالي ينبغي على القوى المجتمعية الحية , العمل على إعادة تصحيح وتصويب مفهوم الهوية , من خلال تحرك يستند على عظمة الفكر الإنساني , وعلى قاعدة الكرامة الإنسانية . الركن الأساس في المجتمع المدني .
فالعالم العربي اليوم يمر بمرحلة انتقالية , من اشد وأعمق مراحل التغير الاجتماعي , التي عرفها الإنسان العربي منذ قرون عديدة . مصحوبة بمجموعة من التناقضات الاجتماعية الداخلية , وبموجة عالية من التحشيد والتجيش الطائفي والعرقي غير مسبوقة . بحيث بات الوجود العربي كوحدة اجتماعية قائمة على الجغرافيا الواحدة مهددا وقابلا للتشضي والزوال . نتيجة لغلبة الثقافة اليمينية ذات النظرة الأحادية غير التعددية ,ومرجعياتها الفكرية الماضوية , على قطاعات اجتماعية واسعة وأساسية .
هذه المرجعيات التي رسخت مفاهيم وقيم غير حضارية ما قبل المدنية . من أبرزها تفتيت الوعي الجمعي لصالح وعي طائفي مذهبي أو قبلي مناطقي . عززت بدورها مفهوم الهويات الفرعية عند العامة , وإعاقة تشكيل هوية اجتماعية جامعة . مما سهل الطريق إمام القوى الاستعمارية الغربية , واليمينية المحلية خاصة أصحاب النزعات الطائفية والقبلية , إن تفعل فعلها التفتيتي في بنية المجتمع . وذلك من خلال الاستخدام المراوغ ولغرائبي لمفهوم الهوية . مما إربك الوعي المجتمعي وافقد الجماهير القدرة على مواجهة مثل هذه الأفكار .
لقد أصبحت الكثير من المشكلات والقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية , تتمحور أسبابها ومسبباتها حول ادعاءات متناقضة لهويات يائسة وبائسة , تختص بفئة اجتماعية معينة دون سواها , ويتم إحالة كافة هذه الأزمات المتعددة إلى هذه الهويات اليائسة أو تلك . وبالتالي ارتفع معدل الاعتداءات الإرهابية , وازداد منسوب العنف المجتمعي والغير مبررة , في السنوات الأخيرة .
تعود جذور كافة هذه المشكلات الاجتماعية المزمنة والمستجدة , والتشوه الفكري في الوعي المجتمعي العام . إلى فشل دولة الاستقلال الوطني في بناء دولة المجتمع المدني بكل مكوناتها وإبعادها . إضافة إلى عجزها عن تطوير خطابها السياسي الاجتماعي الذي ضل بندوله يتحرك ما بين البعد العشائري أو الديني الطائفي . دون إن يصل إلى بناء هوية وطنية اجتماعية جامعة لكل مواطني الدولة الواحدة على الجغرافيا الواحدة .
حيث كان الغرض من هذا التوجه القائم على تعويم مفهوم الهوية , بين ما هو قبلي أو وطني , ديني أو قومي .
هو إعادة اكتشافها ومن ثم توجيهها باتجاه خيارات انعزالية غير وحدوية , عبر استغلال الفواصل بين الانتماءات المتعددة في المجتمع وتعميقها . لكي تجعل من إدامة سيطرة القوى السياسة اليمينية المرتبطة بالقوى الاستعمارية الخارجية على المجتمعات أمر سهل ومستقر . وبالتالي فقد أسفر هذا التوجه , عن ارتفاع منسوب الإحساس بالإحباط والخوف بين إفراد المجتمع الواحد , بالتزامن مع ارتفاع منسوب التضامن الداخلي ضمن إطار الجماعة الواحدة في المجتمع الواحد . إلى جانب سيادة نظام تصنيف واحد للبشر لا مرونة فيه يعتمد على الدين أو القبيلة . بدلا من التصنيفات القائمة على البعد الطبقي أو القومي . أسفر عن عدم اكتمال بناء وسيادة مفهوم الهوية الجامعة , ليحل محلة مفهوم الانتماءات الضيقة , باعتبارها هوية فريدة . لذا فمن المنطقي إن ينتشر الخوف ويزداد العنف وتكثر الإعمال الإجرامية كلما تعمق الإحساس بهوية فئوية ضيقة , يزعم أنها فريدة , مع محاولة فرضها على الآخرين .
كل هذه الصور من التعبيرات المتعددة عن الولاءات الضيقة لا يمكن إن ترتقي إلى مفهوم الهوية بمعناه الفلسفي السياسي والاجتماعي . فالهوية ليست إلا حاصل مجموع العناصر المكونة للشخصية الإنسانية , هي وحدة انتماءات متعددة ومتنوعة في الذات لا تتجزأ . بحيث إن فصل أي مكون من مكوناتها يسقط عنها المفهوم . لذا فان تجزأت الهوية والغرق في الخصوصية , لن تفضي إلا إلى سلسلة كسور عشرية لا نهائية من الصفات الخاصة , وتعزز الانعزالية الفردية أو المجتمعية . لأنها تجعل من الفرد الواحد لا يشبه حتى أخاه . فكما انه توجد عناصر مشتركة عامة تجمع بين الإفراد في حدود العائلة الصغيرة أو الكبيرة , أو في حدود الطائفة الدينية أو مجتمع الدولة . توجد عناصر أيضا , تجعل من الفرد الواحد فريدا ولا يشبه أحدا على الإطلاق بما فيهم أبوية وإخوته .
إن اختزال الهوية في انتماء واحد , سواء كان عرقي أو ديني . هو تعزيز للنزعة الانعزالية الأحادية , التي تفرض طريقة تفكير ورؤية واحدة . فهي لا تستطيع النظر إلى الأخر إلا في كونه , حامل هوية نقيضه فقط . فالانعزالية إذا هي في الجوهر نقيض التعددية .
إن أصحاب النزعة الانعزالية الأحادية , الذين اختزلوا الهوية في مكون واحد . وعملوا على تعزيزه وترسيخه في المجتمع . تحت ذريعة إن الحقيقة واحدة , ذات قيمة مطلقة وعالية مهما اختلفت مجالاتها . وبأنهم هم وحدهم دون سواهم مالكو هذه الحقيقة , والمعبرون الأوفياء عنها , والأوصياء عليها , والمجاهدون الساعون على تجسيدها , على ارض الواقع . فرأيهم وحده هو المشروع والصواب الدال على منفعة الناس , وباقي الآراء باطلة محرمة لا يجوز النظر إليها .
وبما إن الحقيقة مطلقة وثابتة , فان امتلاكها وتجسيدها على الأرض , سيكون لمرة واحدة والى الأبد . لأنها ( أي الحقيقة ) لا تتغير ولا تتبدل في الزمان أو في المكان . وبالتالي لا يمكن للأتباع إضافة أي شيء أو إجراء أي تعديل على الحقيقة التي ورثوها عن من سبقوهم . فأي تغير أو تعديل إنما هو مجرد وهم لا يستقيم مع طبيعة الحقيقة المطلقة التي يمتلكوها . وعلى ضوء ذلك فالماضي كما الحاضر والمستقبل مرسوم ومحكم بشكل محدد لا مجال للتغير أو التبديل وحتى التطوير فيه . فالعالم تام ومكتمل ولا مجال للإرادة الإنسانية في تغيره , أو إضافة أي شيء علية . فالتغير وهم وليس إمام البشر إلا التسليم لإرادة من يملك الحقيقة .
وعلية فقد تحولت معطيات أصحاب النزعة الانعزالية الأحادية إلى حقائق مطلقة ومسلمات قدرية . اختزلت في مفاهيم لا تعرف التسامح ولا القواسم المشتركة بين الذات والأخر , جاعلة من التاريخ والصيرورة الإنسانية مطابقا لمعايرها الخاصة بغض النظر عن حركة التحولات التاريخية في حياة المجتمع . لذا فهي لا تقيم وزنا لما هو نسبي ومتغير وتاريخي في الوجود الإنساني . في حين إن التعددية لا ترى الوجود إلا من خلال وحدة الاختلاف والتنوع , وبان الحقائق مهما تطابقت مع الواقع أو تم تأكيدها , فهي نسبية وليست مطلقة . لذا فهي تفرض على أصحابها الاعتراف بالأخر , بالتعايش السلمي , التسامح والاحترام المتبادل .
بينما خطاب أصحاب النزعات الانعزالية اليمينية . خطاب إقصائي الغائي واستعلائي , يخلو من المبادئ المقنعة . ويقوم على شعارات ميتافيزيقية عامة وفضفاضة , لا يمكن تحقيقها إلا بإلغاء الواقع الذي لا يلغى . فهو خطاب إذن خارج العصر والتاريخ .
في هذا الإطار يمكننا فهم المحركات العقلية التي تحرك كل هذه التيارات اليمينية التقليدية المتنوعة التي تتغذى من مرجع فكري واحد يقدس الأنا باعتبارها الحقيقة المطلقة في هذا الوجود . عصبوي ومنغلق لا يرى ولا يحاور إلا ذاته. هو من اوجد البيئة المناسبة لانتشار ظاهرة الإرهاب الفكري , والحركات الإرهابية الدينية والعرقية , إلى جانب الاستبداد السياسي والاجتماعي .
إن واقع هذا العنف المجتمعي القائم على الخلفية الذهنية الدينية الطائفية أو القبلية المناطقية , لا يمكن فهمة ومعالجته إلا في إطار بناء هوية وطنية جامعة , يكون محورها المواطن والوطن , وعل قاعدة التعددية والمشاركة الاجتماعية , مع العمل التوعوي الموجة على إدراك الذات في هذا الإطار فقط . فمفهوم الهوية المشتركة يستوعب كل التناقضات الاجتماعية الاثنية والعرقية ويوحدها في خدمة نماء وثراء المجتمعات العربية المتنوعة .
فلم يستطع البكرين إلغاء وجود التغلبين في التاريخ العربي القديم . ولا أهل السنة إلغاء أهل الشيعة في التاريخ الإسلامي . مثلما لم يستطع الكاثوليك إلغاء البروتستانت في أوروبا عبر الحروب الدينية . وفي النهاية توصلت الإنسانية بعد فقدان مئات الملاين من البشر في حروب دينية وطائفية وقبلية طاحنة وبلا معنى . إن لا حل إمام البشرية إلا في التعايش السلمي . على قاعدة الاحترام المتبادل , الحرية , الديمقراطية والعدالة الاجتماعية الشاملة.
[email protected]
#عزمي_موسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟