|
معنى الكتابة في القرآن
نافذ الشاعر
الحوار المتمدن-العدد: 4157 - 2013 / 7 / 18 - 16:19
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
يختلف معنى الكتابة في القرآن حسب نسبة فعل الكتابة، فإذا نسب فعل الكتابة إلى الناس كان معناها الكتابة بالقلم والقرطاس. أما إذا نسب فعل الكتابة إلى الله فهو معنى يختلف عن معنى الكتابة بالورقة والقلم، لأن معنى الكتابة من الله هي إيجاد فعل جديد في الدنيا أو في داخل نفس الشخص؛ يعني ولادة سلوك جديد لم يكن معروفا من قبل، هذا معنى الكتابة إذا نسب الفعل إلى الله عز وجل، وليس معناها الكتابة بالورقة والقلم كما يظن كثير من الناس. هذا إذا كان فعل الكتابة مطلقا، أما إذا كان فعل الكتابة مقيدا؛ مثل الكتابة في الألواح أو الكتابة في التوراة فإنه يكون معناه قريب من الكتابة بالقلم وليس وفق هذا المعنى الذي قدمناه؛ وهذا ما يتضح عند الرجوع إلى معنى الكتابة في القران: نأخذ على سبيل المثال قوله تعالى: (إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ) (يونس21) فما معنى هذه الآية؟ معنى هذه الآية أن المعاصي التي يرتكبها الناس لا تنتهي بموتهم أو بتوبتهم، وإنما تجلب الشؤم عليهم وعلى الأجيال اللاحقة لهم من بعدهم؛ لأن للمعصية شؤم لابد أن يدفع ثمنه.. فالمعصية التي يقترفها الناس تكتب في سجل الكون وتنحت فيه كما تنحت الكتابة في الصخرة الصماء؛ فتزداد مع الأيام في الدرجة والنوع، وتزداد مع التكرار رجسا وشرا، وإلى هذه الكتابة جاءت الإشارة بقوله تعالى: (إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ)(يونس21) والمقصود بالرسل في الآية جند الله في الكون.. ومعنى (يكتبون) يعني يجعلوه مبدءا كونيا وسنة طبيعية تندمج في فطرة الناس وعقولهم، وتنطبع في قلوبهم ونفوسهم، وتصبح سهلة الاقتراف، تتراءى للإنسان في حله وترحاله. فإذا اقترفها الإنسان فإنها تكون بمثابة جرح في جسم الإنسان تبقى آثاره حتى وإن التئم هذا الجرح وتم برؤه وشفاؤه. فإذا جُرح مرة أخرى في نفس الموضع سوف يزداد الألم ويتضاعف العذاب؛ لأن الألم عند ذاك سيكون ألم الجرح القديم مضافا إليه ألم الجرح الجديد، وإلى هذا المعنى جاءت الإشارة بقوله تعالي: (أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)(الجاثية21) وقوله (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ)(الأنعام60).
ومعنى (يكتب) في قوله تعالى (إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ) أي يثبتوه ويجعلوه حقيقة واقعة في الكون يتعلمها الناس كما يتعلمون الاكتشافات الجديدة.. فكل معصية يقترفها الإنسان لأول مرة في الكون تكون بمثابة اكتشاف واختراع، ومن ثم تصبح شيئا عاديا وأمرا طبيعيا شائعا بين بني الإنسان، لكنها تكون أمعن في التعقيد والخفاء مع مرور الزمن، ومن ثم تزداد سوءا إلى سوء بكثرة الاقتراف والشيوع، كما قال تعالى {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون}الروم10.
وعلى مثل هذا المعنى قوله تعالي: (لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ)آل عمران181 وهنا نجد أن أحد اليهود عندما نزلت آية الصدقة تجرا على الله قائلا: لقد افتقر ربك يا محمد حتى يطلب الصدقات من الناس؟ فمعنى قوله تعالى: (سنكتب ما قالوا) يعني هذه المقولة السفيهة من الآن فصاعدا؛ ستصبح فاتحة شؤم وشر وتجديف على الله من اليهود ومن غير اليهود، يعني سوف يصبح هذا التجديف فعل موجود في الكون وفي نفوس الناس من بعد ذلك اليوم..
وعلى سبيل المثال لو نظرنا إلى معصية (الجحود)، كأن يبتلى الإنسان بمصيبة، فيسارع إلى التضرع والدعاء، فإذا كشف الله عنه تلك المصيبة سارع إلى الجحود والكبرياء، وربما سارع إلى المكر والدهاء أكثر من ذي قبل.. ويضرب الله بذلك مثلا الرجل الذي يكون في خضم البحر فيأتيه الموج من كل مكان فيدعو ربه مخلصا له الدين لأن أنجاه من هذه المحنة ليكون من الشاكرين، فإذا نجاه من هذه المحنة عاد إلى الفساد والعصيان بصورة أخبث وأشد، وإلى هذا جاءت الإشارة بقوله تعالى: َ(وإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ. هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ، وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ، دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ: لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم، مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (يونس21-23) وقريب من هذا المعنى، معنى رسوخ المعاصي كمبادئ بعد ارتكابها؛ قريب من هذا المعنى رسوخ الأفكار التي يضمرها الإنسان في نفسه قبل النوم مباشرة، فالإنسان تنطبع في نفسه الأشياء الذي كان يفكر فيها قبل النوم، فإذا وضع رأسه على الوسادة وهو يفكر في شيء ونام، فإن هذا الشيء هو أول شيء يتبادر إلى ذهنه عند اليقظة من نومه، وإلى هذا المعنى جاءت الإشارة بقوله تعالى: (وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ)(النساء 81) ومعنى (يكتب) أي يثبته كحقيقة واقعة حسب ما نوى وبيت وعزم وقرر.. لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي المسلم بأن يوتر قبل أن ينام، وأن ينام على طهارة وهو يكثر من ذكر الله عز وجل.
ويوضح معنى "يكتب" أيضا حديث النبي صلى الله عليه وسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ "دَعَتْنِى أُمِّى يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ فِى بَيْتِنَا فَقَالَتْ تَعَالَ أُعْطِيكَ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ». قَالَتْ أُعْطِيهِ تَمْرًا. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِيهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ" (سنن أبو داود) ومعنى كتبت عليك كذبة، أي أنك إذا لم تعطه التمرة التي وعدتي الصبي بها، لكتب انطباع في نفس الطفل أن أمه كاذبة، وهذا الانطباع في نفس الصغير سوف ينقش في قلب الصغير فلا يمحي أو يزول من نفسه بعد ذلك أبدا..
#نافذ_الشاعر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بين الصداقة والحب
-
الشجرة الملعونة
-
أينقص الدين وأنا حي؟
-
لماذا أحبك (نقد قصيدة)
-
كيف حملت العذراء بالسيد المسيح
-
قافلة الرقيق
-
في شغل فاكهون
-
في البدء كان الكلمة
-
التجسد
-
حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون
-
الصلاة الربانية وسورة الفاتحة
-
في سيناء (سيرة ذاتية)
-
السلام العالمي والإسلام
-
غموض الشعر بين الحداثة ونظرية ابن خلدون
-
أهل الكتاب
-
السحر والعلم والشعر في سورة الشعراء
-
مفهوم الحسنة والسيئة في الإسلام
-
تأثر أحكامنا بالجمال
-
الدروز في القرآن
-
التشابه بين الثورات القديمة والمعاصرة (2)
المزيد.....
-
صور سريالية لأغرب -فنادق الحب- في اليابان
-
-حزب الله-: اشتبك مقاتلونا صباحا مع قوة إسرائيلية من مسافة ق
...
-
-كتائب القسام- تعلن استهداف قوة مشاة إسرائيلية وناقلة جند جن
...
-
الجزائر والجماعات المتشددة.. هاجس أمني في الداخل وتهديد إقلي
...
-
كييف تكشف عن تعرضها لهجمات بصواريخ باليستية روسية ثلثها أسلح
...
-
جمال كريمي بنشقرون : ظاهرة غياب البرلمانيين مسيئة لصورة المؤ
...
-
-تدمير ميركافا واشتباك وإيقاع قتلى وجرحى-..-حزب الله- ينفذ 1
...
-
مصدر: مقتل 3 مقاتلين في القوات الرديفة للجيش السوري بضربات أ
...
-
مصر تكشف تطورات أعمال الربط الكهربائي مع السعودية
-
أطعمة ومشروبات خطيرة على تلاميذ المدارس
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|