أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مالك مسلماوي - تفكيك الذاكرة وتوريط النص















المزيد.....



تفكيك الذاكرة وتوريط النص


مالك مسلماوي

الحوار المتمدن-العدد: 4155 - 2013 / 7 / 16 - 18:23
المحور: الادب والفن
    


تفكيك الذاكرة وتوريط النص
في ( الكتاب) (1)
لأدونيس

أن تقرأ ادونيس فلابد من ان تكون على درجة عالية من التركيز والحيادية النابعة من الوعي العميق بمنطقة اشتغالاته النقدية والفكرية , حذرا من الوقوع تحت مهيمنات (الرمزية) الثقافية المرتبطة باسمه , بعدّه من ابرز رموز الثقافة العربية المهمة في العصر الحديث . فقد يشكل التعاطي مع (الرمز) هيمنة استباقية على سيكولوجية التلقي , بمعنى توفر أحكام مسبقة لصالح النص قبل المباشرة القرائية ,الامرالذي قد يجعل القارئ منقادا -دون وعي منه- الى الانضواء ضمن ما يسوّقه (الرأي العام) الثقافي من خلاصة تقييمات عبر تقصيه وفرزه لمستويات التأثير في ميدان التداول المعرفي.. و ربما يقع الرمز _ هو الآخر _ تحت مضاعفات هذه الظاهرة, فلا يتردد في طرح ما يبدو له دون ان يخضع نصه للفحص والتقويم والمراجعة. لكن مثل هذا الأثر لا يتحقق إلا في القراءة النمطية البعيدة عن التركيز والتأني , لذا فأن ما نحتاجه دائما هو قدر من التفاعل البريء مع النص . هذا ما جعلني ادخل كتاب ادونيس (الكتاب) دون نيات مسبقة . واعيا لما يثيره أدونيس من الإشكاليات على مستويات النص البنائية , والدلالية , وميله للمناهج التجريبية .إضافة الى موقفه المعلن من التراث. جاعلا مصب قراءتي حول شعرية النص و بنيته اللغوية..
وقد أقمت قراءتي على عدد من النصوص, متوخيا من خلالها وضع اليد على مفاصل هذه التجربة , إذ تصديت لها بالدرس والتحليل , لما يخدم هذه الدراسة في محاولتها الإجابة عن سؤال الشعر, دون التوقف طويلا أمام التوصلات النظرية في موضوعة التراث التي عالجها ادونيس في (الثابت والمتحول) بوضوح , لاسيما نظرته الى الشعر ومسألة التجديد كونها مظهرا من مظاهر التحول التي يتبناها.. حيث يقول:
" ولم يكن هناك إجماع على معنى التجديد وخاصة في الشعر, كنت من جهتي مقتنعا مبدئيا آنذاك بان التجديد في الشعر والفكر يقوم أوليا على أمرين:
الأول: يتمثل في اكتشاف اللغة التي تتخطى اللغة التقليدية السائدة فنيا وفكريا . والثاني : افتتاح أفق آخر للكتابة وللفكر وتبعا لذلك النقد والبحث والتساؤل , وكنت مقتنعا ان هذين الأمرين يقتضيان تفكيك التاريخ والماضي ثقافيا وسياسيا في آن. في هذا التفكيك نعيد قراءة التراث العربي من اجل فهمه في ضوء الحاضر وقراءة جديد. " (2)
ولقد شخصَ لدي العديد من الملاحظات والأسئلة حول جوهر هذه الإشكالية والمسافة بين الصيغة النظرية ومكافئها الموضوعي , اعني المعطيات (النصية) من حيث الشكل والمضمون .. ثم , هل (التجديد) هو المغايرة مطلقا , يعني المغايرة من اجل المغايرة أم ضمن المعايير والاشتراطات المؤسسة عبر المراحل التاريخية وصولا الى عصر (ما بعد الحداثة )؟.
إن أول الأسئلة وربما أهمها – التي يثيرها (الكتاب) يتمحور حول إمكانية زج الشعر في عملية التقصي التاريخي وتبنيه طبيعة خطابه (النفعي) المباشر , الأمر الذي يأخذ من قيمة الخطاب الفنية, وينتقص من حماس ورغبة القارئ في هذا السفر الباذخ , المترامي الأطراف والأنحاء... لذا سأحاول جادا توخي الموضوعية في قراءة خاصة , لا الزم نفسي فيها بالسير وراء القافلة , ظانا أن فعل القراءة يندرج ضمن جدلية (الإتباع والإبداع) الادونيسية.
لأول وهلة استفزني أمران , الأول : ضخامة المطبوع (حجمه وعدد صفحاته , وقد جاء على ثلاثة كتب (أجزاء) في (1468) صفحة من القطع الكبير.والحقيقة لم يكن (النص) على هذه السعة والثراء إلا بسبب اتكائه على سعة المتن التاريخي من جانب, وثقافة الشاعر من الجانب الآخر.. لكن ذلك الاستطراد لا يتواءم دائما مع طبيعة الاختزال وأدواته من رمز وإشارة وتلميح في بناء النص الشعري... ربما يحيل ذلك الى ثقافة (الكم) المتأصلة فينا وفق مقولة : كلما كبر الشيء, كبرت قيمته. وفي ثقافتنا يقدم الكبير والكثير على الصغير والقليل .
الامرالثاني : العنوان , ف ( الكتاب ) يحيل – ابتداء - إلى ما هو ذهني معرفي , أو هو استدعاء لعنوانين قارة في الذاكرة الجمعية تستحضر الكتب المقدسة .. وقد شاع – تاريخيا - مصطلح (أهل الكتاب) بخصوص أتباع الكتب المقدسة / الإنجيل والتوراة... وكذا من أسماء القران ( الكتاب ). " ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين" (3). يشف التناص – هنا - عن قصدية مضمرة قي هذا المنحى , تفتح الباب واسعا على فضاء التأويل.. ويوفر بعدا شعريا الى جانب البعد المعرفي المرتبط سيميائيا ب(الكتاب) , كونه دالا مشاعا.
بدءاً يحاول المؤلف إيهام القارئ من خلال إيهام نصه - منذ الصفحة الأولى بعبارة موجهة - بكسر الجيم – هي : " مخطوطة تنسب الى المتنبي يحققها وينشرها ادونيس ". فنسبة المخطوطة الى المتنبي (خدعة) تمارسها (أنا ) الشاعر لسبب ما, يتعلق بها او بما يتمخض عنه الواقع الراهن من التشويش بعوامل سياسية او اجتماعية , لذا تشي بضعفها على مواجهة هذه العوامل .. الأمر الذي دفعها للاختباء وراء (القناع) , التقنية الكتابية الحديثة / القديمة, التي من مظاهرها التقمص والتناص والتماهي ... ف "هل كان تقنعه وسيلة للهرب من النقد , الذي يمكن ان يتعرض له بعد ان اقترب من المحظور , والمقدس ؟".(4). ثم : "هل اراد ادونيس من إعادة قراءة التاريخ العربي ان يضفي على تلك القراءة نبرة موضوعية, لا تتحقق من دون تقنية القناع ؟ وهل كان يدرك ان مسألة قراءة التاريخ مسألة حساسة , لا سيما انه لم يأبه بوقائع التاريخ التي دونتها عقلية اليقين – السلطة, بل اخذ يبحث في بنية ما هو ضائع على هامش التاريخ والتدوين؟"(5). لكن لماذا المتنبي دون سواه ؟
لقد اتخذ الخطاب الأدبي الحديث موقف المعارضة , والحفر في البنى الاجتماعية والسياسية والسيكولوجية , وهي السمة الفارقة الأكثر وضوحا بينه وبين الخطاب الكلاسيكي , الذي يسعى دائما الى مجاراة السلطة أو كسب ودها , السلطة الشاملة التي لا بديل عنها, كونها تستمد علويتها من المقدس منذ رسوخ نظام الخلافة في دولة الإسلام .. وحتى المتنبي المتمرد والمتعالي كان بين بين , بين الرفض والقبول , الانعتاق والطموح, وهو بذلك يقدم لنا صورة قلقة لعصر غير متوازن قائم على الازدواجية التي لم يبرأ منها الخطاب الأدبي عبر تاريخه الطويل.
ومهما يكن , فان التماهي بين (أنا) الحاضر(ادونيس) و (أنا) التاريخ (المتنبي) غايته كسر الزمن , واستحضار الماضي وقراءته من داخله .. وواضح – إضافة لما تقدم – ان (الكتاب) بيان صريح عن مدى انشغال ادونيس بالمتنبي انشغالا يصل حد التماهي , فبه يكشف وبه يسأل وبه يدين , على الرغم من المفارقة الزمنية والإيديولوجية .
ان حصر الرؤيا ضمن حدود الواقعة التاريخية (زمكانيا) من شأنه حبس النص وتوريطه في ما لا ينسجم و عالمه الخاص وبيئته واشتراطاته الفنية والجمالية, وتجريده من جوهره وتفرده, كونه فنا قائما بذاته.. لنجده – هنا - تابعا , أي واقعا تحت سلطة الذاكرة (التاريخ) , ليكون بمثابة أداتها الذكية و الساذجة في الوقت ذاته..
و وفق متبنيات هذه القراءة, ف(الكتاب) لا يمكن عده كتاب شعر, كما لا يمكن عده كتاب تاريخ ولا أي جنس آخر- كما أراد مؤلفه – في تعطيل التجنيس كنظام محكم , إنما هو خلط بيت الشعر واللا شعر, لاجتراح مغذيات موضوعية تسهم في اغناء الرؤيا الشعرية وملء فراغاتها , "حيث يجاوز النص حدود الجنس الأدبي بتواشج معطيات أجناس متعددة في نص واحد .."(6). و من الواضح - أيضا - ان ادونيس يقدم الموضوع على الذات أي الفكر على العواطف والرغبات والأهواء, إذ " يعرض أدونيس أصول الحركة الشعرية فيرصد التحول في تجربتين : الأولى التجربة الذاتية التي تغلّب عالم العواطف والرغبات والأهواء على العالم الخارجي ، والثانية هي التجربة السياسية الأيديولوجية التي توحد بين الشعر والفكر ، ويعرض لنماذج من شعراء التجربتين"(7).
واذا كان ادونيس من شعراء (التجربة الثانية) التي هي تعبير عن معطيات التحول في ميدان الحداثة وما بعدها - فان التاريخ ليس فكرا مجردا كما هو شأن الفلسفة , إنما هو علم ومنهج . وعليه فالتوحد بين الشعر والعلم مسألة أخرى فيها من الإشكاليات الخطيرة التي من شأنها تجريد الخطاب الشعري من غائيته والانحراف به الي غاية أخرى , بل جعله وسيلة (مريبة) , حين يأخذ الشاعر دور المؤرخ في تسويق الواقعة التاريخية لغاية ما , من شأنها ان تؤدي الى (مْركزة) الخطاب التاريخي على حساب الرؤيا الشعرية. الامرالذي يضعنا أمام نوع من (الأدب الممكن) , حسب تودوروف , اذ يميز بين نوعين من الأدب : " ... وكل عمل عندئذ لا يعتبر إلا تجليا لبنية محددة وعامة وانجازا من انجازاتها الممكنة, ولكل ذلك فان هذا العلم لا يعنى بالأدب الحقيقي بل بالأدب الممكن ". (8) الذي تضمر فيه الذائقة , وينشط الذهن..
ان الشعر هو ذات قبل كل شيء , فعزل الذات او مصادرتها في تموضعات إيديولوجية او تناصات رؤيوية , يؤدي الى انتهاك حقيقة الشعر.. بجعله وسيلة لا غاية , " وغالبا ما ترتهن قصيدة القناع بالتجرد من الذات.." (9). لاحتواء الذات.الأخرى. . في(الكتاب) يحاول ادونيس صنع ما هو مختلف , نتيجة لتضخم تجربته الشعرية, وما يرافقها في التنظير والتأسيس لاديولوجية نقدية منذ ( تحولاته ) . يؤكد هذا بقوله : "... كي املك ان اصنع شيئا مختلفا, كيف اخلق الشروط التي تتيح لي ان اصنع شيئا آخر... شيئا لا يساير التيار الغالب, شيئا يكون ضد التيار."(10)... . وللشاعر الحق في ذلك ولغيره أيضا في البحث عن المغاير و المثير والمختلف, في نزوعه نحو التجريب في الأشكال والمضامين , لكن تبقى قيمة ما ينتجه عرضة للجدل على أساس المعايير الفنية والجمالية في الخلق الأدبي......................
ويبدو ان التضخم في التجربة الأدبية وما حولها من اشتغالات نظرية , أحيانا ما يعمل على سحب النص من فضائه الفسيح الى الفضاء الضيق للكلمة , على إنها صيغة مقننة للوصول الى معنى, وهذه من سمات الخطاب التاريخي بعدّه خطابا معرفيا "ابتسمولوجيا" . لذا فان القول بان الإغراق المعرفي يقتل الحساسية الشعرية يبدو مقنعا .. ومنذ زمن بعيد ميز ادونيس بين نوعين من اللغة حيث يقول : "لغة التعقيل سطحية ولغة التخييل عميقة.." (11) .. وما دمنا نؤمن بهذه المقولة , فان ما نحتاجه في فهم التاريخ - كونه علما - هو المنطق لا الحلم .. وهذا ما صنعه ادونيس بالفعل , فانحاز الى لغة التعقيل التي من شأنها إقصاء شعرية الخطاب لصالح موضوعيته. وإذا كان الشعر" لغة داخل لغة" (12), فهذا لا يتحقق إلا في العمق المشار إليه في مقولة ادونيس التي أوردناها.
ان النهم ألتنظيري والتراكم المعرفي , جعل ادونيس ينأى عن التخييل والمطلق الشعري باتجاه معاقرة المتحقق والمدرك والناجز , والتعامل مع موضوعاته تعاملا مباشرا, فالواقع المستهلك شعريا طافح بالخواء والفشل, الامرالذي يدفع نحو العودة الى الوراء للاستعانة بالتاريخ ورموزه, وتهيئة المسوغات الموضوعية في البحث عن فضاء جديد من خلال قراءة التاريخ بعين شعرية.. وضمان قدر من الحرية في تعرية الواقع التاريخي, ووضع اليد على مواجعه.. ومن اجل اللعب بالوقائع من حيث الأسباب والنتائج. واللعبة الشعرية التي اقترحها ادونيس ذات وجهين , يمكن وصلها بشعرنة التاريخ أو ارخنة الشعر. وعلى كل حال ف "ان الشعر يقول شيئا , و يعني شيئا آخر" (13). بينما التاريخ فانه يقول شيئا ويعني الشيء نفسه. وعلى هذا الأساس ينفتح الخطاب الشعري أمام القراءة التأويلية , فيسهم المتلقي في إنتاج المعنى , أما الخطاب التاريخي فهو خطاب حدي حاسم يسمي الأشياء بأسمائها , ويهتم بها كما هي. ولأنه على هكذا وصف , عمل الشاعر على اختراقه ب (الأداة) الشعرية وما تتصف به من طاقة ومرونة, فكانت المحصلة أن انتفع التاريخ , وخسر الشعر !
ويبدو ان ذلك لا يعني صاحب (الكتاب) بشيء, فما أراده من هذا الخطاب (الهجين) – حسب قراءتنا – هو رواية الماضي الممتد الى أقصى نقطة , ومن ثم تقويضه من خلال تفكيك بناه الإيديولوجية والاجتماعية والسياسية , لاسيما ظاهرة الصراع على السلطة والعوامل المغذية لها... انه يريد ان يحاكم التاريخ (غيابيا), دون ان يضع إمضاءه عليه , وأوكل ذلك للتاريخ نفسه باستدعاء رمز كبير من رموزه , هو أبو الطيب المتنبي, ويترك لنفسه وظيفة الراوي , التي هي – ها هنا- وظيفة (تأويلية) في الأساس ,الى جنب الوظائف الأخرى , الاعتبارية والتمجيدية , والبنائية والابلاغية.. فهناك نوعان من الرواة: الأول: الراوي المفارق للمروي ووظائفه المشار اليها توا , وفيه يتعالى الراوي على الروي في وقت هو ذو دراية بالنصوص , إلا انه يمارس عليها القلب والترقيع والتحويل والتحريف , بمعنى يحاول بناء مسوغات سردية ذات غايات سياسية ودينية ... والثاني: الراوي المتماهي بمرويه , الذي يتخذ وظائف : وصفيه وتوثيقية وتواصلية... ويكون الراوي – في هذه الحال - جزءا من الروي. (14) و الراوي في (الكتاب) لم يقتصر على احد النوعين , بل كان (مفارقا) مرة و(متماهيا) مرة أخرى.
ان هذه الرسالة المسهبة قد بلغت غاياتها , ولا شك.. ولكن يبقى سؤال الشعر قائما : عن حقيقته أولا, وقيمته الفنية ثانيا ووظيفته المعرفية ثالثا. نقول : مادام الشعر ينأى عن الحسم , فهو يوفر فرصة للمناورة والتملص من المساءلة المحتملة, علاوة على استنطاق الواقعة للوصول الى كينونتها ومبرراتها الموضوعية . أما السؤال عن القيمة الفنية والجمالية , فسنتوقف عندها من خلال نماذج النصوص الواردة في ما سيأتي , وإما الوظيفة المعرفية , فهي ما يعول عليه ادونيس هنا , صارفا النظر عن الوظائف الأخر.
في اولى صفحات الكتاب تطالعنا الصفحة بثلاثة أعمدة (فضاءات) أوسطها مستطيل كتب بحرف اكبر , أما الجانبين : على يمين القارئ ذاكرة الراوي . وعلى اليسار احتله الهامش . تتضمن الصفحة متنين شعريين و هامش تاريخي .. مع ملاحظة المتن الأوسط يتكون من متنين : الأعلى طويل والأسفل قصير:
نموذج (1) ............. ................................. الكتاب الأول ص 12 /1
" قال الراوي
مغموسا في ذاكرة المتنبي:
- أ - - أ – الإشارة الى بني هاشم
شغلوا بالنبي, بموت النبي,
ولم يشغلوا بالخلافة
شهوة الملك تستأصل الناس,
تذروهم كالعصافة.

- ب – - ب – الإشارة الى المرتدين
فاحرقوهم, خذوا مالهم
و ذرا ريهم, و النساء
و اجعلوهم هباء.

- ج – - ج – الإشارة إلى الفجاءة بن
أوثقوا قدميه, يديه عبد اليل, احد المرتدين
ورموه الى النار, قالوا:
رأينا الفجاءة فحما.
وثنى الراوي:
حقا, بعض الأفكار كمثل
نبات وحشي
يأكل, لكن لا يأكل
إلا بشرا
....................................................................................
تشكل الذاكرة - هنا- الأرضية التي يؤسس عليها الشاعر نصه , وفيه رواية وقائع متفرقة : (موقف بني هاشم , الموقف من المرتدين , قتل الفجاءة حرقا), والنص في إطار الكشف عن الواقع السياسي في صدر الإسلام , والإشارة الى تفتح بذور العنف والعنف المضاد مع ظهور السلطة الجديدة .
يذهب ادونيس الى بعثرة نصوص متباينة , يعزلها بخطوط طولية وأفقية...على يمين القارئ متن تاريخي متسلسل ( أ , ب , ج ) , وعلى اليسار الهامش .. وبينهما مستطيل عمودي يؤطر المتن الشعري الآتي:
- د -
ابواي انشطار: دم للعذاب ودم للمؤمل
والمنتظر
هبطا من أعالي القبائل من رأسها
يسرجان خيول السهر
أخذا الأبجدية في راحة والقصيدة في راحة
وقالا:
سوف نقرا في سر ضوئهما احمدا.


......................................
• تلك النخلة تصغي
حين أقص عليها
ذكرى أبوي, وتفهم قولي
...........................................................................


الملاحظات على النموذج :
1- ان الوقائع التاريخية في قول الراوي تعبر عن نفسها بنفسها, وقد حُملت على الإيقاع , بغية اللعب بطبيعة الخطاب وإعادة صياغته.
2- هناك إفاضة تهيئ مسوغات وجودها فنيا و موضوعيا في العمق الدلالي في مقطع: "وثنى الراوي ..." , و مقطع " تلك النخلة..." وفيهما نحس بتململ الذات المعزولة.
3- علاقة المتن التاريخي بالمتن الشعري علاقة تجاورية دلاليا ,أكثر من كونها آصرة عضوية.
4- المتن الشعري تحت (د) توافر على العناصر الفنية , واللغة المتحركة في انفتاح الصورة الكنائية: (يسرجان خيول السهر) , مثالا...
5- البنية إيقاعية.
...................................................................................
في مفتتح الكتاب - شروع النص - يرد اسم المتنبي مرتين : الأولى في صفحة العنوان , والثانية شطرا من بيت للمتنبي افرد له صفحة كاملة ليكون العنوان الأول :
" ومنزل ليس لنا بمنزل " (الكتاب) ص7/1

ثم نكتشف بعد تقدمنا في القراءة انه يعنون لنصوصه بأشطر من شعر المتنبي , بعدها ينطلق النص تحت عنوان : (هوامش) الى نصوص قصيرة يحمل كل منها اسما لشاعر من الشعراء المعروفين و غيرهم , و من عصور مختلفة ..هذا يجعلنا أمام موجّه قرائي هو جعل شخصية الشاعر المثير للجدل (أبي الطيب المتنبي) العتبة الأولى للدخول الى النص , حيث يصدرّه ويضع الآخرين هامشا وظلا له , وتقصي الإثارة والمفارقة في حياتهم, كما سنرى :
.............................................................................................


النموذج (2)................................................ 214/1
- 1 –

طويس
"كان يسمى طاووسا
لكن, منذ تغنى بالكلمات و بالأشياء, تغير
(قيل : تخنث ), صار طويسا
أول من زين حبل الصوت, وآخى
بين الحرف وصوت الدف, ومد الموسيقى
طرقا تتقصى
ارض الأحلام,
أول من غنى في الإسلام. "
,.......................................................................

الملاحظات على النموذج:
1- أورد سيرة طويس نظما .
2- توفرت النص على سلسلة من المعلومات التاريخية (سيرة طويس) , حيث صيغ من اجلها .... مع الإشارة الى ربط التخنث بالغناء , للوصول الى الدلالة المضمرة : (احتقار) الفن.
3- شعرية النص تمظهرت في صور لا تخلو من التكلف , منها: "ومد الموسيقى طرقا تتقصى ارض الأحلام,.".. فلفظة (الأحلام), جيء بها قصدا من اجل التقفية بلفظة (الإسلام) , فأغلق النص بالجملة الاسمية : " أول من غنى في الإسلام" , وهذه الجملة تكمن شعريتها في المفارقة الحاصلة بين : (الغناء والدين).
4- تداخل لغة التاريخ بلغة الشعر.
5- البنية إيقاعية.

وكثيرا ما نجد الشاعر , يضحي بشكل النص, ويعود باللغة الى وظيفتها النحوية التواصلية لغرض محدد , في الكدح من اجل دعم الوثيقة التاريخية بأي ثمن, وبلوغ الفكرة (عمق النص) ! , ليظل النص مستندا على عكاز الإيقاع , ومرسلات المتن التاريخي :

" جابر بن حيان

اهدنا صنعة الكيمياء
اهدنا لهواها, لإكسيرها النبيل-
زئبقا, بورقا
حطبا و منافخ, فحما
و أنابيق من كل فن.

اهدنا للخداع الجميل
ولتقطيرها, ولتحويلها.
اهدنا صنعة الكيمياء
لنحول هذا التراب الجميل, جنانا
وانهار شعر وحب
لأحبائنا ولأعدائنا,
من على الأرض منهم , ومن منهم في السماء"............ 126/2
لكن (براءة) الشكل هذه تنطوي على إشارات ترشحها القراءة التأويلية .. فدوران النص حول فعل الأمر/ الدعاء : (اهدنا) , يشتبك مع الآية القرآنية : " اهدنا الصراط المستقيم.." بإسناد عبارة " لأحبائنا ولأعدائنا" المقابلة الى " صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ." (15)
..................... ......................................................
تشكل هندسة النص مستفزا آخر من حيث اعتماده موضوعة (المتن والهامش), و فيها عودة للنمط الكلاسيكي في المدونات التراثية مع حرية في استخدام سطح الصفحة, حيث يلجأ الى تقسيم الصفحة الى فضاءات مستقلة ومتعددة غالبا ما يتحول الهامش الى متن , والمتن الى هامش.. ومع افتراض المتن هو ما يتوسط الصفحة , فقد احتله النص الشعري بينما ترك الجانبين للهوامش , التي هي - في حقيقة الأمر- تتوفر على جوهر النص وبؤرته, لذا فهي تمثل المتن وما عداها فهو الهامش , وبعبارة أخرى فالتاريخ هو المتن والشعر هو الهامش .. وكل صفحة تبدأ بعنوان ( ذاكرة الراوي او قال الراوي او الراوية او الذاكرة ..... الخ , يورد فيه أخبارا و أحداثا ماضية (منتقاة) من بطون المصادر التاريخية , ثم يسوقها منظومة شعرا على نمط (التفعيلة ) , مع ولع ملحوظ بالقافية.
و لا يمضي النص على هذه الهندسة الكتابية دائما, فهناك الكثير من النصوص كتبت على النمط السائد في كتابة النص الحديث , متحررا من سلطة التاريخ , ولذا فهي تدور في فضائها الخاص, كما في النموذج الآتي : -

النموذج (3) ........................................... 145/2

بحر قائم في الهواء

"كانت المدينة ألف قبل تكوينها جوهرة خضراء
نظر إليها الخالق نظرة هيبة, فصارت ماءً
نظر إلى الماء غلى ؟؟ وتصاعد منه دخان وزبد
صار الزبد ارض المدينة والدخان سماءها
شدها الخالق بالجبال لكي لا تهوي او تميد,
وجعلها مسكنا للرياح والماء والشجر وحجارة
الكبريت والإنسان أحيانا.
وزينها بالأزمنة ووعدها بان تتحول الى ارض ثانية,
بيضاء جميلة كالخبز ووضع في سمائها شمسا
من ضوئه تتدلى منها عجلة بثلاثمئة وستين عروة
يتأرجح فيها ثلاثمئة وستون ملاكا لكل ملاك وجهان
الأول يسمى نهار والثاني يسمى ليل
وسور السماء ببحر قائم في الهواء تسكن فيه النجوم
ويدور حول نفسه سريعا كالسهم ومنح لكل ما فيها
نعمة الكلام ,-
كان النسر يأتي الى الحوت في البحر فيخبره بما في
البر, ويأتي الحوت الى النسر فيخبره بما في البحر"

................................................
الملاحظات على النموذج:
1- الخروج من التاريخ الى الأسطورة .. من الحقيقة الى الخيال.
2- الخروج من النظم الى النثر.. من الإيقاع الى التقرير.
3- اللغة تقليدية, ازدحمت بأدوات الربط كالعطف وغيره ., وهي لغة (حقيقة) , لا تستوعب الانفلات الأسطوري.
4- الخطاب سردي , والسارد حر, والنص يدور في فضاء اللامعقول .
5- يحتك النص بالمثيولوجيا الدينية , (إقصاء المنطق), والخوض في الفضاء الميتافيزيقي.. نشوء الخليقة.
.....................................................................................
وفي أماكن أخر يتحرر النص من تعالقات الذاكرة فيمتلك نفسه, حيث تسطع الكلمة ويحتدم المجاز في غنائية عذبة , كما في (أوراق خولة) :

النموذج (4)............................................... 551/2

"في الفراش الذي ضمنا
يكتب الحب والحلم والرغبات صحائف أيامنا,
مثلما تكتب الحقول
ما تقول الفصول
*
كل تلك العوالم في جنة الوعد,
في وهمي الأنثوي, حياة
أتقلب فيها
بين أحضانه الخالقه-
أين أنتَ اغترفني
اعطني ماء قلبك, خذني إليك,
إلى نار شهوتك الحارقة
*
لا دم في عروقي
غير ذاك الدم المتفجر منه اليّ . وهذي
غرفتي تتقلب في نارها
وتهامس جدرانها:
لا اصدق – ليلي, وحلمي
........................................................

الملاحظات على النموذج:
1- تلبّس الذات الشاعرة بالذات الأخرى : (ذات خولة) .
2- توهج الذات النصية .. النص يتجه نحو الداخل.
3- توفر النص على حشد من الصور الشعرية الحسية : " يكتب الحب والحلم والرغبات صحائف أيامنا / مثلما تكتب الحقول / ما تقول الفصول". مثالا..
4- اللغة مجازية , مع انسيابية في الإيقاع وأصالة في القافية.
5- البنية إيقاعية.
............................................................................
لكن الشاعر(الراوي) غالبا ما (يستبسل) في إقصاء ذاته لتمثلٍِِ التاريخ والانجراف معه بنيَّة التكامل , وبعث الذكرى طرية عبقة بين يدي المتنبي وهو في حضرة سيف الدولة , (والبيت الأخير للمتنبي) :

النموذج (5).......................................................334/2

"أتى إليك رسول الروم فامتلأت
بالناس ساحاتك الفيحاء
واشتجروا
يستشرفون بلاد الروم تجرفها
ريح اليباس
وأنت الغيم والمطر
(تزاحم الجيش حتى لم يجد سببا
الى بساطك لي سمع ولا بصر)

بينما تسعى الذات لتأكيد حضورها , بل تحلق بكل عنفوانها حيثما تنفست الهواء على إيقاع القصيدة العربية الراكزة في ذاكرة ووجدان الشاعر:
النموذج(6)..................................431/2

"حضنت عمري اطويه وانشره
أخطه وأغنيه وارتجل
ازور ارض صباباتي, أطوف بها
أقيم, انقض ما ابني وارتحل
منورا بدمي مستنفرا ولهي
كأنني برحيق ساحر ثمل فلا قلقي
يبلى , ولا جرحي الخلاق يندمل"
.....................................................................................
وعلى ضوء ما تقدم , يمكن تقسيم المتون بجملتها الى ثلاثة أنواع بحسب مرجعيتها, أوردها مع نماذج لها :

أولا / متن تاريخي خالص , مرجعيته المصادر التاريخية , يرد مجردا كأية وثيقة تاريخية:

النموذج (7) .......................................................... 223/3

"سيق الخليفة المستكفي بالله
الى معز الدولة بن بويه في بغداد _
سمل عينيه وسجنه
بويع مكانه المطيع بالله ."
ومثل هذا ترد كثير من الأخبار والوقائع المنتقاة التي يتوقف عندها القارئ, معترفا بجهد الكاتب في البحث عن المثير والمؤثر, والمسكوت عنه :
"بلوت من (أبي الطيب) ثلاث خلال ذميمة
وتلك انه
ما صام
ولا صلى
و لا قرأ القران "..................... علي بن حمزة راوية ديوان المتنبي

ثانيا / متن شعري خالص , مرجعيته الذات (المقنعة) :
النموذج(8)....................................................... 285/2

"حلمي يفرحني, لكن دمي يبكيني,-
ما اغرب رأسي- يلهو
يتأرجح شكا
بين الفكرة والطين
ويؤاخي بين الباطن والظاهر
في لغة الشاعر."
وإذا كان هذا المقطع يوفر مقوماته الفنية بتكريس الصورة الشعرية, وما فيه من جنوح فلسفي . فهناك من النصوص الفقيرة, التي لا تترك أثرا بينا , ولا تنبئ عن رؤيا واضحة :

"أتخيل بغداد , لكني احيي
حلبا واحيي
كوفة الثائرين _ القباب
الشيوخ ينامون في ظلها
او يقصون أيامهم " . ص212/3
...................................................................................
ثالثا / متن شعري تاريخي , مرجعيته الذاكرة المتموضعة حول بؤرة ( حدث او فكرة او شخصية), تكون منطلقا نحو غاية , يسعى النص الى لفت الانتباه إليها , وغالبا ما يساق موقّعا على (التفعيلة) , ويشغل هذا النوع جل الكتاب :

النموذج (9).............................................. 64/1

" باسم محرابه
باسم معراجه
والعروج الى خدره البهي,
قتل الباهلي عبادة,
وهو يصلي."
...............................................
الملاحظات على النموذج:
1- يتموضع النص حول بؤرة صريحة, هي مقتل (عبادة).
2- يومئ النص الى مفارقة : القتل باسم المقدس .
3- اللغة مكشوفة, تتحول الى لغة كاشفة للعمق الذي وفره السطر الأخير( وهو يصلي), فالقتل والصلاة نقيضان.
........................................................................
وتتجلى قراءة الشاعر للتاريخ , تشريحا ورفضا ومعارضة وقبولا.. اذ يكشف عن الجوانب المظلمة في عسف السلطة في وجهيها الديني والدنيوي , و ملاحقة الجريمة في مستوياتها السياسية , والأخلاقية , والطائفية ... ويسرد سيرة الدم المهدور على مر العصور, متماسا مع المحظور بالتلميح والإشارة :

النموذج(10).................................................24/1

"جامع يهرع الناس – يلقون أحلامهم بين
أحضانه كل يوم
غير أني لا أرى غير أشلائهم.
إنها الكوفة الدامية
فكرة قذفتها الملائك من شاهق
ومشت فوقها
ألصقتها بوجه التراب
رحِما للعذاب,
والبقية في عهدة الراوية."

وفي ذات السياق بضرب النص المنطقة الحساسة في البنية السياسية والاديولوجية , وشكل السلطة.. بجرأة :
" سبحانك يا هذا الكرسي
مصنوعا برؤوس قطعت
مصبوغا بدمٍِ – طفل حينا, شيخٍ حينا,
منسولا , جزءا جزءا
من أحلام نبي,
سبحانك يا هذا الكرسي "................................ 296/1

ويتشظى النص نحو رؤى شتى في فضاءات المعرفة والفلسفة والعرفان والأساطير:

النموذج(11).....................................................303/2

الرواية
"الضوء؟
لا يكشف من الأشياء إلا حجابها الأكثر قربا تبقى
الأشياء وراء حجب لا يمزقها الضوء

كان يردد ذلك في نفسه فيما كانت القلعة تتزنر
بسياج من هباء البشر الذين ماتوا لكي يغلقوها او الذين
ماتوا لكي يفتحوها وفيما كان يخيل اليه ان التاريخ
اوراق تتطاير في غبار يتطاير......"

او ينحرف الى السرد بثوبه الحكائي المثير, غارقا في تفاصيل لا متناهية , كاشفا عما يحتدم من أفكار ومشاعر وأحلام , ليتحول النص الى ( رواية حلم ), ولذا فهو سرد حر غير محكم , يتخلخل فيه الواقع :

النموذج(12)................................................234/2

"مرة, ظهرت لي بئر وكنت عطشانا. اقتربت لأشرب
منها طلعت منها امرأة, قالت بلهجة آمرة:
- تزوجني!
كانت جميلة, تزوجتها.
ثم قالت :
انا غريبة عن هذه المدينة, وإنا عائدة الى مدينتي,
طلقني
ولما كنت أحب الوحدة , طلقتها
لكن في الليالي التالية, جاءتني شبحا وهيئة.
وذات صباح,
رايتها تلتقط قمحا عن الأرض, كلمتها. وضعت يدها
على رأسها ورفعت عينيها الي وقالت:
- بأي عين رأيتني؟
أجبت:
رايتك بقلبي لا بعيني.
أومأت بإصبعها وغابت , دون ان أراها.
فقد ملأ الدمع عيني اليمنى,
وملأ اليسرى ضباب اخضر"
.................................................
الملاحظات على النموذج:
1- النص ذو بنية سردية (فنتازية) تخترق الواقع الى ما وراءه .
2- تحرر الذاكرة من الحتميات التاريخية.
3- انفتاح فضاء التأويل.
4- انفتاح الذات.
5- يرشح المقطع عن تناص خفي مع ما ورد في ملحمة كلكامش , وما حصل لانكيدو مع البغي على مورد الماء , وإغراؤها له , واصطحابه الى مدينة أوروك....
..........................................................................
لعل ابرز ما عرف به ادونيس في مجال التنظير هو ( الثابت والمتحول ) وإذا افترضنا ان ( الكتاب ) هو صيغة من صيغ التحول والتمرد على الأشكال والمضامين القائمة , فأنه من ناحية ثانية ينقطع الى (الثابت التاريخي) ويقيم فيه, ويجعل منه سلطة على (المتحول الشعري) المعبر عنه في الأشكال الجديدة . والنصوص الشعرية كتبت على نمط ( التفعيلة الخليلية) , إذ ان الإيقاع هو عماد كثير من النصوص... مع ان طبيعة النثر – كما اعتقد – اقرب الى التاريخ , بينما الشعر اقرب الى روح الأسطورة.
ان (متحول) ادونيس المتضمن ضرورة التغيير في أشكال التعبير لابد ان يسلك طريق التجريب وما ينطوي عليه من المغامرة التي أدت في (الكتاب) الى التضحية بالشعري لحساب غيره .. وهو بهذا يمارس عملية هدم مزدوجة : هدم التاريخ وهدم النص معا!
ان الذاكرة التي يتمحور حولها النص هي بالأساس عنصر من عناصر التكوين الشعري سواء أكانت الذاكرة جمعية ( تاريخ ) او فردية ذاتيه محضة (ذكرى), ولكنها في الحالين ذاكرة شعرية لا بد من أن تستدعي روح الواقعة وإثرها وما انطوت عليه من فعل استثنائي . فالتاريخ لا يقرأ من وجهة نظر شعرية على انه مستودع لأحداث مجردة... ربما أريد من هذا التجاور المكاني بين الذاكرة / الماضي , والنص / الحاضر هو كسر الفاصل الزمني- كما أسلفت - افتراضيا للاعتراف بأهمية الماضي وحضوره في تلافيف الحاضر . يدعم هذا ما ورد في ظل العنوان عبارة :- (أمس المكان الآن ). فالمكان يشكل حلقة وصل بين أمس والآن ..
لكن الذاكرة -أحيانا- تتحرك في منعزل عن المجاور النصي (الشعري) , فالعلاقة بينهما افتراضية في الغالب , فلا يكتمل النص إلا بهامشه .. فهو لا يكتفي بنفسه. والنموذج التالي مثال :
النموذج (13).............................................. 452/2
" من أسائل؟ ماذا تهدم ؟ هذا
التراب الذي في؟ ظني ؟ وهم التوقع؟
ذاك الفضاء الذي كنت سميته مكاني
واصطفيت أحبائي فيه, واشرعت
غاياته لرياح الأمل ؟
من أسائل ؟ ذاك الغراب الذي في؟ أم ذلك
الذئب؟ أم يأسي المر؟ أم غضب
الشعر يصعق تاريخ تلك العروش,
وتلك المحاريب ., تلك الملل؟

ما بقائي في حلب ؟ ما العمل ؟
الهامش التاريخي المجاور للنص السابق:
" حوصر جيش الزنج
استأمن بعض,
بعض أعطي مالا,
وكثير قتلوا.

قالوا: حزوا للزنج
رؤوسا
لم يحصوها "
...................................
أما السعي لتسويق الواقعة التاريخية شعريا فهي تكون إما على حساب (الشعري) او على حساب (التاريخي) :

النموذج (14)....................................... 233/3

الذاكرة 334 هج
"المعز يسمل عينيه يلقيه
في السجن , ما هذه
البطولة في سمل عينين ؟
ما هذه الخلافة ؟ "

ان الشعر في المقطع السابق هو عبارة عن سؤالين ساذجين يتضمنان معنى الإنكار:
( ما هذه البطولة ؟ ما هذه الخلافة؟ ). ويبدو ان شبه الجملة (في سمل عينين) فائضة لدلالة السياق عليها.
وفي مكان آخر نقرأ :-
النموذج (15)..............................................233/3

الذاكرة
334 هج
"المعز يعانق بغداد
يجمع أنصاره حوله
مثل راع يعد خرافه"
والشعر هنا في صورتين تقليديتين ( يعانق بغداد , راع يعد خرافه ). مع ان تشبيه الرعية بالخراف اختزال بلاغي للعلاقة القائمة بين الراعي والرعية.
......................................................................
وفي فضاء الشعر الخاص كثيرا ما نقرأ لغة صلبة تجاهد من اجل بلوغ معنى ما يقصده الشاعر . والأمثلة كثيرة منها :
النموذج (16)...........................................222/1

"قبره – مطر نازل فوقه
يتدفق من سرة الغيوم ,
ومن بين أفخاذها
انقشوا فوقه
غبطة ان يعاش الجسد
في سرير الزبد "
وسيرى القارئ ان النص السابق لا يعمق مأساة (ألعرجيّ) المرسلة (نظما) قبل المقطع السابق , وحكم العلاقة بينهما تجاورية غير محكمة دلاليا :
"قيدوه , والقي في السجن تسع سنين, مات فيه, رووا انه كان شخصا كريما, فارسيا, بين أفضل من أنجبتهم قريش.
قال في سجنه:
(أضاعوني وأي فتى أضاعوا). ............................... 122/1
..................................................................................
هناك جملة أسئلة, أرجو ان تنهض هذه المقاربة للإجابة عنها , وعن غيرها : ما الذي حققه (الكتاب) ؟ وما هي (مهمة) الشعر في هذا المنجز الكبير ؟ وما طبيعة العلاقة بين المتن والهامش ؟ وبمعنى أدق بين المتن التاريخي والمتن الشعري؟
وتأسيسا على ما تقدم , اخلص الى أن ادونيس قدم لنا تجربة مغايرة لما هو سائد , ولكنها تجربة في الكتابة والتأليف , لا في الشعر, اعتمد فيها الوثيقة التاريخية , محورا وإطارا.. واسند للشعر مهمة معقدة بتوريطه في حيثيات الواقعة التاريخية , التي سلبته حريته وفضاءه الفسيح , ليظل يدور حول نفسه معولا على الإيقاع والقافية المتكلفة غالبا, باستثناء النصوص الخارجة عن الطاعة التي امتلكت طاقة الانفلات من ضغوط الغاية وما وضعه المؤلف من إستراتيجية نصية تفضي الى( تبئير) الثيمة التاريخية ...فنظم التاريخ شعرا لا يبتعد كثيرا عن نظم قواعد النحو في (ألفية ابن مالك). ومن البديهي ان هذا النظم ليس فيه من الشعر شيء , سوى الوزن والقافية اللذين تجاوزهما النص الحديث.. إنما هو مشغل لإنتاج فكرة محددة .
إن (الكتاب) وفر فرصة كبيرة لقراءة الماضي بوعي الحاضر, ووضع بين أيدينا خلاصة مهمة للعوامل المؤثرة في البنى الاجتماعية والسياسية للتاريخ العربي الإسلامي , من خلال قراءة التاريخ قراءة تأملية واعية , اعتمدت الانتقاء والتشريح والفرز.. كما ان جمع هذا الشتات الواسع من الوقائع المستلة بمهارة من فوضى التاريخ لهو جهد كبير يستحق الثناء والإعجاب لما يضمه من متعة وفائدة.


------------------------------------------------------------------------
(1) ادونيس/ الكتاب/ أمس المكان ألان/ دار الساقي/بيروت/ ثلاثة أجزاء:
1 ط2/2006........................ عدد الصفحات(380)
11 ط1/.1998.......................عدد الصفحات(706)
111 ط1/2002.........................عدد الصفحات(382)
(2) الثابت والمتحول. ديب علي حسن/جريدة الثورة/تصدر عن مؤسسة الوحدة للطباعة والنشر/الثلاثاء 6/1/2009.
(3) سورة البقرة /الآية (2)
(4) قصي عطية / أطروحة ماجستير بعنوان "قناع المتنبي في كتاب الكتاب لادونيس" عن جامعة اللاذقية/سورية في 25/10/ 2011..
(5)قصي عطية/ المصدر نفسه.
(6)عبد الله ابو هيف/ قناع المتنبي في الشعر العربي الحديث/المؤسسة العربية للدراسات والنشر/بيروت/ط1/يناير 2004
(7) ادونيس وديوانه الجديد (الكتاب : أمس المكان الآن) عرض ونقد / الشيخ د. غازي التوبة/ موقع الأمة الإسلامية
(8) تريفيتان تودوروف / الشعرية/ ترجمة شكري المبخوت, ورجاء سلامة/ دار توبقال / المغرب 1987
(9)عبد الله ابو هيف/ قناع المتنبي في الشعر العربي الحديث/المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت/ ط1/ يناير 2004
(10) نينار اسبر/ أحاديث مع والدي ادونيس /ترجمة حسن عودة/ ط1/2010 / دار الساقي/ بيروت/ص41
(11) جريدة السياسة بيروت 4/11/1971 /حوار مع ادونيس أجراه احمد ابو مطر.
(12)جان كوهين/بنية اللغة الشعرية/ترجمة محمد الولي/ومحمد العمي/ الدار البيضاء/دار توبقال للنشر/ط1/1986
(13) مدخل الى السيموطيقا /مقالات مترجمة ودراسات /سيزا قاسم ونصر حامد ابو زيد / دار الياس العصرية .
(14) انظر : المخايال السياسي في العراق القديم/ د. عامر عبد زيد / ط1/ 2010/ دار الينابيع. سورية/ دمشق / ص 71 وما بعدها.
(


الحلة /2012



#مالك_مسلماوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تحولات لغة الزئبق ( قراءة في اشجار الجهة العليا)
- توهجات حكاية المقهى.. تتمة المنشور قبلا
- توهجات حكاية المقهى (قراءة من الداخل)
- في صحة الديمقراطية
- جدلية المعرفي والجمالي في الخطاب الادبي
- شهوة الانتماء
- زمن بسعر الغبار
- زمن بسعر الغيار
- من مؤسسِّات العنف في الفكر الإسلامي


المزيد.....




- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...
- انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
- -سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف ...
- -مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
- -موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
- شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
- حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع ...
- تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مالك مسلماوي - تفكيك الذاكرة وتوريط النص