|
القرآن 6: التسلسل التاريخي للقرآن
سامي الذيب
(Sami Aldeeb)
الحوار المتمدن-العدد: 4155 - 2013 / 7 / 16 - 06:44
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
رأينا سابقا أن المسلمون يعتقدون أن أصل القرآن هو أم الكتاب (96-13 : 39) في لوح محفوظ عند الله (27-85 : 22)، وأن القرآن نزل أول ما نزل جملة واحدة وأن الوحي كان يهبط به آيات على قلب النبي بحسب الحوادث العارضة. والذي يهمنا هنا هو معرفة التسلسل التاريخي "لنزول" القرآن، أو بعبارة غير عقائدية التسلسل التاريخي لتأليف القرآن. ولكن ليس في وسع الباحث اعطاء جواباً مؤكداً على هذا التساؤل. فالعلماء المسلمون أنفسهم غير متفقين حتى في تحديد أول ما نزل على محمد. فقارئ سيرته يثق من أن أول ما نزل من القرآن هو سورة العلق والتي تبدأ كما يلي: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" (1-96 : 1). إلا أننا مع هذا نجد أقولاً منسوبة لثقات من رواة الحديث وأصحاب الفقه والصحابة يذكرون قصصاً أخرى. فالسيوطي ينقل عن جابر أن أول ما نزل من القرآن سورة المدثر والتي تبدأ كما يلي: "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ" (4-74 : 1) بينما يختار ابن كثير سورة العلق، وهذا هو الرأي الراجح. إلا ان هذه السورة لم تنزل كلها، وإنما نزلت منها آياتها الأولى. أما بقية السورة فنزلت بعد. أما سورة المدثر فقد نزلت كلها مرة واحدة. فكانت أول سورة نزلت كاملة. ونفس المشكلة نجدها فيما يخص آخر ما نزل من القرآن.
فالسيوطي ينقل عن ثقات آراءً متضاربة. فهذه الآيات يعتبرها بعضهم آخر ما نزل: - يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ (92-4 : 176) - سورة براءة والتي تبدأ كما يلي: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (113-9 : 1) - آية الربا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (87-2 : 278) - وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (87-2 : 281) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى (87-2 : 282) - لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (113-9 : 128-129) - سورة النصر التي تبدأ كما يلي: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (114-110 : 1) - قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (69-18 : 110) - فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (113-9 : 5).
ويرتب مصحف عثمان السور وفقاً لطولها مع استثناءات كثيرة كما نرى من الجدول اللاحق. ويعتقد بعض الكتاب المسلمين أن هذا الترتيب هو توقيفي أي أن النبي محمد أقره بتعليم من الملاك جبريل (وهو كلام أسطوري). ولكن الرأي السائد يفرق بين ترتيب الآيات داخل السور وترتيب السور. فترتيب الآيات توقيفي بينما يرى جمهور العلماء أن ترتيب السور اتفاقي، على ما يقول السيوطي. ويأخذ صبيح بالرأي القائل أن ترتيب آيات القرآن توقيفي ولكنه يضيف بأنه "لا يمكن الإهتداء حتى الآن – على الجزم واليقين – إلى خطة معينة تقول أن رسول الله سار عليها في الترتيب أو أن الوحي التزمها في ارشاده إلى هذا الترتيب". ويضرب مثلا سورة المزمل (3-73). فهذه السورة مكية إلا الآيات 10 و 11 و 20 فمدنية. فالآيات التسع عشرة الأولى تلتزم فواصل واحدة تقريباً ونغماً متصلاً وموضوعا متسلسلاً. غير أن الآية العشرين الأخيرة – وهي مدنية - تغيرت نغماً وموضوعاً. فهذه الآية تعد من أطول آيات القرآن أُلحقت بسورة آياتها قصيرة ونغماتها وفواصلها متصلة. فما وجه إضافة هذه الآية إلى هذه السورة؟ يجيب صبيح: "لا سبيل للرد على هذا السؤال. وغاية ما نقول أنها إرادة الهية اقتضت هذا الوضع لهذه الآية ولغيرها من الآيات التي يمكن أن يقف عندها كما وقفنا نحن هنا. ولم يرد عن رسول الله ولا صحابته قول يفسر حكمة الترتيب. كما أن العلماء تحاشوا البحث في هذه النقطة، اكتفاء بما تقرر وثبت أن جبريل كان يرشد النبي عليها السلام إلى الترتيب فكان النبي يأمر الكتاب والمسلمين بأن تكون الآية في الموضع الذي قرره لها". فما يعتبر عيباً إنشائيا يبرره مؤلفنا بالغيبيات ويمر عليه مرور الكرام، مستهترا بعقول القراء. وقد يكون من المفيد نقل النص التالي من كتاب مؤلفنا لإتمام الفائدة:
قال البغوي في شرح السنة: الصحابة رضي الله عنهم جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله الله على رسوله من غير أن زادوا أو أنقصوا منه شيئاً خوف ذهاب بعضه بذهاب حفظته. فكتبوه كما سمعوا من رسول الله من غير أ قدموا شيئاً وأخروا أو وضعوا له ترتيباً لم يأخذوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان رسول الله يلقن أصحابه ويعلمهم ما نزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل إياه على ذلك وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقب آية كذا في سورة كذا. فثبت أن سعى الصحابة كان في جمعه في موضع واحد لا في ترتيبه. فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب أنزله الله جملة إلى السماء الدنيا، ثم كان ينزله مفرقاً عند الحاجة... وترتيب النزول غير ترتيب التلاوة. هذه عقيدة علماء المسلمين في ترتيب آيات القرآن. أما المستشرقون فلهم مذهب آخر. فهم ... لا يسلمون ابتداء بأن القرآن من عند الله، وتمشيا مع هذا الحكم يشكون شكاً قوياً في أن النبي هو الذي أملى ترتيب آيات المصحف وأن لجنة عثمان هي التي قامت بهذا العمل ويقولون أن أكثر من يد وأكثر من رأي عمل فيه. وهذه آراء فاسدة لا تستحق حتى مناقشتها.
وفيما يخص ترتيب السور، فيرى صبيح بأنه "باجتهاد اللجنة العثمانية، ولا سبيل إلى الأخذ بالاقوال التي تحاول أن تسند هذا الترتيب إلى أمر رسول الله. وكل ما يمكن أن يؤخذ به هو أنه قد يكون عرف عن النبي أنه قال إن هذه السورة قبل تلك وعين سوراً معينة، أما ترتيب القرآن كله فقد تركه لاجتهاد أمة الإسلام من بعده".
غير انه هناك اليوم من يرى في ترتيب الآيات أو ترتيب السور أو كليهما إعجازاً، تماماً كمن يرى في الأخطاء اللغوية في القرآن إعجازاً. وسوف نعود الى موقف ابن خلدون من هذه الأخطاء. يقول جلغوم في كتابه معجزة الترتيب القرآني: إن غياب حقيقة ترتيب القرآن الكريم جعل البعض يتصور أن لا ترتيب له بل هو فوضوي لا يخضع لأي نظام عقلي أو منطقي كما وصفه محمد أركون. ولهذا فإن مسؤولية تقديم صورة صحيحة لترتيب القرآن الكريم للآخرين تقع على عاتقنا وعلينا أن نبحث عن كل ما يمكن أن يحقق هذا الهدف. ولعل في لغة الأرقام ما يصلح لذلك. فلماذا لا تكون إحدى وسائلنا في تقديم القرآن الكريم لهم؟ أليس في لغة الأرقام ما يعوضنا عن القصور في فهم بلاغته؟ ولمن يزعم الجهل بالعربية ألا يمكن أن يجد في لغة الأرقام ما يعوضه عن الجهل بها؟ [...] فإذا انتهينا إلى هذا الرأي بأن ترتيب سور القرآن وآياته من عند الله، فما العجب أن يكون وجهاً من وجوه إعجاز القرآن الكريم، وأن يكون كتاباً محكماً منظماً مرتباً بقوانين رياضية؟ [...] إن سمة النظام والترتيب ظاهرة في كل ما في الكون ولا ينكر ذلك أحد. فلماذا لا يكون القرآن كذلك؟ هل يرتب الله كل شيء في هذا الكون من الذرة إلى المجرة ويستثني من ذلك كتابه الكريم؟
ويلاحظ من هذه الفقرة أن هذا المؤلف يريد أن يثبت إعجاز ترتيب القرآن من خلال الإعجاز العددي الذي سوف نعود إليه لاحقا، ابتداءً من مقدمة لا اثبات لها. فمن أين جاء هذا المؤلف وغيره بمقولة أن القرآن كتاب الله؟ فليس هناك ما يسمى كتاب الله إلا في مخيلة المؤمنين، إذ أن كل الكتب بشرية بطبيعتها. ولا يعير الباحث العلمي أي اهتمام لمثل هذا الخطاب العقائدي ويكتفي بملاحظة أن ترتيب القرآن غريب. وقد يكون أحد أسباب وضع السور المدنية الطويلة ذات الطابع القانوني في بداية القرآن بعد الفاتحة حاجة الدولة الإسلامية للآيات القانونية لتسيير شؤونها. هذا وتشير المصادر الإسلامية إلى أن بعض الصحابة كانوا يمتلكون مصاحف ذات ترتيب مختلف عن الترتيب الحالي، وأن الإمام علي كان يمتلك مصحفاً مرتباً وفقاً للتسلسل التاريخي، ولكن لا نعرف مصيره بالتحديد. ويذكر ابن النديم (توفى عام 995) في الفهرست: "رأيت أنا في زماننا عند أبي يعلى حمزة الحسني رحمه الله مصحفا قد سقط منه أوراق بخط علي بن أبي طالب يتوارثه بنو حسن على مر الزمان وهذا ترتيب السور من ذلك المصحف". ولكن للأسف فقدت صفحات الفهرست التي تتكلم عن ترتيب السور. غير أننا نجد هذا الترتيب في تاريخ اليعقوبي (توفي عام 897). وهذا يعني ان الترتيب الحالي للقرآن لم يكن متفق عليه في القرون الأولى من الإسلام. ولا يمكن تفسير وجود مثل هذه المصاحف المختلفة لو أن الترتيب الحالي للسور كان توقيفياً وليس اتفاقياً.
ورغم اجماع المسلمين اليوم على الترتيب الحالي لسور القرآن، إلا انه لا شيء يمنع عقائدياً من الوصول إلى إجماع مخالف ما دام أن ذلك لا يمس بمضمون القرآن، أو على الأقل لا شيء يمنع من اعداد طبعة عربية للقرآن خاصة بالباحثين وفقا لترتيب النزول، علماً بأن الفقهاء المسلمين جميعا اهتموا بمعرفة السور والآيات المكية والمدنية وتسلسل نزولها، لمعرفة مراحل الوحي والآيات الناسخة والمنسوخة، وهو ما اعتبروه ضروري لكل فقيه. فظهرت في هذا الموضوع مؤلفات عدة. ولكنهم غير متفقين على ترتيب واحد، وقد اختلف المستشرقون أيضاً فيما بينهم. وقد يكون من المستحيل الوصول إلى ترتيب يتفق مع الحقيقة التاريخية. ولكنهم متفقون على تقسيم القرآن إلى مكي (بمعنى انه نزل قبل الهجرة) ومدني (بمعنى انه نزل بعد الهجرة) مع اختلافهم في تحديد ما هو مكي وما هي مدني.
ويرى علماء الإسلام أن "لا سبيل إلى معرفة المكي والمدني إلا بما ورد عن الصحابة والتابعين في ذلك لأنه لم يرد عن النبي بيان للمكي والمدني. وذلك لأن المسلمين في زمانه لم يكونوا في حاجة إلى هذا البيان كيف وهم يشاهدون الوحي والتنزيل ويشهدون مكانه وزمانه وأسباب نزوله عيانا. وليس بعد العيان بيان". بيد أنهم وضعوا هناك علامات وضوابط يعرف بها المكي والمدني.
وضوابط المكي، نقلاً باختصار عن كتاب "مناهل العرفان في علوم القرآن" للزرقاني: 1 - كل سورة فيها لفظ "كلا" فهي مكية وقد ذكر هذا اللفظ في القرآن ثلاثا وثلاثين مرة في خمس عشرة سورة كلها في النصف الأخير من القرآن. 2 - كل سورة فيها سجدة فهي مكية لا مدنية. 3 - كل سورة في أولها حروف التهجي فهي مكية سوى سورة البقرة وآل عمران فإنهما مدنيتان بالإجماع. وفي الرعد خلاف. 4 - كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم السابقة فهي مكية سوى البقرة. 5 - كل سورة فيها قصة آدم وإبليس فهي مكية سوى البقرة أيضا. 6 - كل سورة فيها يا أيها الناس وليس فيها يا أيها الذين آمنوا فهي مكية مع بعض الاستثناءات. 7 - كل سورة من المفصل فهي مكية.
أما ضوابط المدني فكما يأتي: 1 - كل سورة فيها الحدود والفرائض فهي مدنية. 2 - كل سورة فيها إذن بالجهاد وبيان لأحكام الجهاد فهي مدنية. 3 - كل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية ما عدا سورة العنكبوت. والتحقيق أن سورة العنكبوت مكية ما عدا الآيات الإحدى عشرة الأولى منها فإنها مدنية. وهي التي ذكر فيها المنافقون.
هذا وقد اعتمد نولديكه (Noldeke توفي عام 1930) على تحليل اسلوب القرآن لتحديد تسلسل سور وآيات القرآن. وهناك محاولة معرفة هذا التسلسل من خلال عمليات حسابية معقدة تعتمد أيضا على تحليل الأسلوب (stylometry) ولكننا نرى صعوبة بالغة في قبول هذا المنهج الحسابي.
ونشير هنا إلى إحدى تلك الصعوبات في ترتيب السور والآيات: كيف نرتب الروايات المتكررة بصور مختلفة في بعض التفاصيل، مثل رواية نوح وإبراهيم ولوط وموسى ويونس ويحيى وعيسى ومريم وصالح وشعيب وغيرهم؟ فهل هذه الروايات نزلت متكررة أم أنها نزلت مرة واحدة؟ وهل تكرارها جاء بسبب وجود نسخ متفرقة للقرآن تم تجميعها بين دفتي المصحف (والذي يعني ملف يجمع الصحف) خوفاً من اهمال بعضها لقداستها عند اتباعها؟ هذا وإن أردنا حذف التكرار في القرآن فقد نتخلص من ثلث القرآن دون خسارة. ونشير هنا أن الرواية التوراتية الوحيدة التي لم تتكرر هي رواية يوسف التي كرس لها القرآن سورة واحدة هي السورة 53-12 والتي تحمل اسم يوسف. ولم يذكر القرآن اسم يوسف خارج هذه السورة إلا في الآيتين 55-6 : 84 و 60-40 : 34. ومهما يكن الجواب عن التكرار، فإننا امام كتاب مقطع الأوصال مشتت الأفكار مما يجعل تسميته كتاباً مجانباً للواقع. واقرب تسمية له هو الكشكول، وهذه الكلمة الفارسية تعني جراب المتسول الذي يجمع فيه من كل ما هب ودب. فكل قصة قرأنية تتطلب تجميع ما جاء حولها من آيات لفهمها. ويضاف إلى هذه المشكلة عدم التواصل في الرواية الواحدة: مثل طلاق زيد من زوجته زينب التي لا يذكرها القرآن بالاسم وتزوج النبي محمد منها والتي ابتدأت في الآيات 90-33 : 1-5 ثم استكملت في الآيات 90-33 : 36-40. وكثير من فقرات القرآن مبهمة لا يمكن بأي حال من الأحوال فهمها دون اللجوء إلى كتب التفسير. وقد اشرنا إلى ذلك في هوامش بعض الآيات (أنظر مثلا هامش الآية 107-66 : 1).
وما يقال عن القصص ينطبق ايضا على الأحكام التي نشهد تبعثرها في السور المختلفة مما يجعل العثور عليها أمراً عصيباً، خاصة في طبعات القرآن التي لا تحتوي على فهارس مفصلة، وهذا ما يفسر حفظ بعض المسلمين القرآن عن ظهر قلب. فعلى سبيل المثال يتكلم القرآن عن الميراث والوصية في الآيات التالية: 10-89 : 19؛ 87-2 : 180-182 و 240؛ 88-8 : 75؛ 90-33 : 6؛ 91-60 : 8-9؛ 92-4 : 7-9 و 11-12 و 19 و 33 و 176؛ 112-5 : 106-108. ومما يزيد الطين بلة تضارب بعض الأحكام مما جعل الفقهاء يلجؤون إلى نظرية الناسخ والمنسوخ لحل هذا التضارب، دون الإتفاق بينهم حول الآيات الناسخة والآيات المنسوخة. وسوف تعود في فقرة لاحقة إلى هذا الموضوع. وقد تكون الخربطة التي يتسم بها القرآن احد اسباب خربطة العقل العربي والإسلامي. فمن كان دليله مشوش، لا بد ان يكون مشوشاً مثله.
ومن المستحيل على المسلمين الإعتراف بمعايب القرآن التي ذكرناها لأن من يفعل ذلك يعتبر مرتداً مع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة على المستوى الجزائي والمدني. وحتى من لا يأخذوا بالإعتبار عقوبة حد الردة، مصابون بشلل عقلي بسبب غسيل المخ الذي تعرضوا له منذ 14 قرناً حولهم الى ببغاوات تفضل البصم على الفهم. ويلاحظ هنا تزايد مراكز تحفيظ القرآن في العالم العربي والإسلامي ووجود دولٍ مسلمة تعفي السجناء من جزء من العقوبة إذا حفظوا قسماً من القرآن. وهذا بحد ذاته لا يخدم تكوين العقل والمجتمع السليمين، خاصةً أن القرآن يتضمن نُظماً مخالفة لحقوق الإنسان حسب التعريف الدولي، وهو امر لا يمكن انكاره إلا عند اصحاب المواقف العقائدية التي ترفض كل شك في مضمون القرآن.
هذا ورغم إقرار رجال الدين والفقهاء المسلمين بأهمية التفريق بين المكي والمدني، إلا أنه ليس هناك طبعة للقرآن باللغة العربية مرتبة وفقاً للتسلسل التاريخي، علما بأن بعض المؤلفين في عصرنا قد اقترحوا القيام بهذا العمل لتسهيل فهم القرآن، نذكر منهم على سبيل المثال محمد أحمد خلف الله (توفي عام 1991) ونصر حامد أبو زيد (توفي عام 2010). وكرس محمد عابد الجابري (توفي عام 2010) عدة صفحات حول هذا الموضوع في كتاب له حول القرآن.
وقد جاء في مجلة الأزهر لشهر رمضان سنة 1370-1950م مجلد 22 ما يلي: إن ترتيب القرآن في وضعه الحالي يبلبل الأفكار، ويضيع الفائدة من تنزيل القرآن، لأنه يخالف منهج التدرج التشريعي، الذي روعي في النزول، ويفسد نظام التسلسل الطبيعي للفكرة، لأن القارئ إذا انتقل من سورة مكية إلى سورة مدنية، اصطدم صدمة عنيفة، وانتقل بدون تمهيد، إلى جو غريب عن الجو الذي كان فيه، وصار كذلك ينتقل من درس في الحروف الأبجدية إلى درس في البلاغ.
ولا يزال اقتراح المفكرين المسلمين ينتظر من يحققه، على أن يتم ذلك من قِبَل لجنة متخصصة مكونة من رجال الدين والعلماء المسلمين المتخصصين حتى يسمح بتداولها رسمياً في العالم العربي والإسلامي. وفي انتظار تحقيق هذه الأمنية، أخذنا على عاتقنا نشر هذه الطبعة.
وبما أن المسلمين ذاتهم غير متفقين على ترتيب سور وآيات القرآن بالتسلسل التاريخي كما سبق وذكرنا، اتبعنا في طبعتنا هذه الترتيب الذي يحوز على قبول واسع بين المسلمين وهو الذي اقترحته لجنة الأزهر التي أعدت مصحف الملك فؤاد المطبوع في مصر عام 1923. وقد أشارت إلى هذا الترتيب طبعات وترجمات كثيرة للقرآن ومن بينها تلك التي أصدرها مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف. ويذكر مصحف الملك فؤاد تحت اسم السورة إن كانت مكية أم مدنية، ورقمها بالتسلسل التاريخي للنزول. ووفقاً لهذا المصحف، هناك 86 سورة مكية (أي نزلت قبل الهجرة) و 28 سورة مدنية نزلت بعد الهجرة. إلا أن 35 سورة مكية تتضمن آيات مدنية نزلت بعد الهجرة أشار إليها المصحف المذكور. ونحن لم نقم بتغيير ترتيب تلك الآيات ضمن تلك السور ولكن أشرنا إليها بحرف هـ باللون الأحمر، بينما أشرنا إلى الآيات المكية بحرف م باللون الأسود. وحسب علمنا لم تنشر تلك اللجنة الاعتبارات التي اعتمدت عليها في تصنيف السور والآيات. وللتوضيح، نشير هنا إلى أن القسم المكي في طبعتنا هذه هو ما جاء قبل الهجرة، والقسم الهجري (المدني) هو ما جاء بعد الهجرة. فالعبرة في الزمان وليس في المكان.
ونفيد هنا إلى أن تعداد الآيات في مصحف الملك فؤاد يختلف عن تعداد الآيات في المصاحف التي تطبع في شمال إفريقيا، كما أنه يختلف عن تعداد الآيات في طبعة المستشرق فليجل (Flügel) لعام 1834 والذي ما زال بعض المستشرقين يستعملوه في كتاباتهم وترجماتهم، كما هو الحال في ترجمة مونتي (Montet) وترجمة كازيميرسكي (Kasimirski) باللغة الفرنسية. وهناك ترجمات تستعمل تعداداً مزدوجاً مثل ترجمة بلاشير (Blachère) وترجمة حميد الله (Hamidullah) باللغة الفرنسية وترجمة مانديل (Mandel) باللغة الإيطالية، أي أنها تذكر العدد وفقاً لمصحف الملك فؤاد والعدد وفقاً لمصحف فليجل. وقد اكتفينا نحن بذكر أعداد مصحف الملك فؤاد في ترجماتنا وفي نصنا هذا لكي لا نثقل على القارئ. والفرق بين التعدادين داخل السورة الواحدة يصل أحياناً إلى ستة أرقام.
ونشير هنا إلى أن بعض الترجمات الإنكليزية اتبعت التسلسل التاريخي للسور، كما أن الطبعة الأولى للترجمة الفرنسية للمستشرق رجيس بلاشير والتي صدرت عامي 1949 و 1950 قد فعلت نفس الشيء ولكنه عدل عن هذا الترتيب في طبعة عام 1957 والطبعات اللاحقة دون إعطاء السبب. هذا وقد اتبعنا في ترجماتنا الفرنسية والإيطالية والإنكليزية التسلسل التاريخي للسور، ووضعنا النص العربي مقابل الترجمة. ويمكن القول أن طبعتنا العربية هذه للقرآن هي الوحيدة التي تتبع هذا الترتيب حتى يومنا هذا. ونعطي في كتابنا جدولاً ملخصاً يبين التسلسل التاريخي وفقاً للأزهر ونولديكه (Noldeke توفي عام 1930) وبلاشير (Blachère توفي عام 1973)، فضلاً عن الترتيب الاعتيادي وفقاً لمصحف عثمان.
-------------------------------------- أطلبوا كتبي: http://www.sami-aldeeb.com/sections/view.php?id=14 حملوا كتابي عن الختان http://www.sami-aldeeb.com/articles/view.php?id=131 حملوا طبعتي العربية للقرآن بالتسلسل التاريخي http://www.sami-aldeeb.com/articles/view.php?id=315
#سامي_الذيب (هاشتاغ)
Sami_Aldeeb#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القرآن 5: أسباب النزول
-
القرآن 4: القرآن والشعر الجاهلي
-
سورة الحمار
-
صوم وصلي رزقك يولي
-
القرآن 3: مؤلف القرآن من خلال مصادره
-
القرآن 2: مؤلف القرآن
-
القرآن 1: جمعه وفقاً للتقليد الإسلامي
-
لماذا تهجمك الغامض على الاسلام؟
-
توقفوا عن صيام رمضان لمكافحة الجوع
-
جريمة الختان 154: رأي موسى بن ميمون
-
حد الردة: لقد وصل السيل الزبى
-
وزراء عدل عرب اولاد عاهرات
-
جريمة الختان 153: رأي القاضي الليبي مصطفى كمال المهدوي
-
جريمة الختان 152: فتوى سعودية
-
جريمة الختان 151: غباء الشيخ يوسف القرضاوي
-
جريمة الختان 150: فتوى الشيخ محمّد سيّد طنطاوي
-
جريمة الختان 149: فتوى الشيخ محمود شلتوت
-
جريمة الختان 148: فتوى الشيخ جاد الحق علي جاد الحق
-
بنفع اصير نبي؟
-
جريمة الختان 147: هل هناك ضرورة لقانون لمنعه؟
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|