|
مصير الثورة يرتبط بمسارها الفعلى
خليل كلفت
الحوار المتمدن-العدد: 4155 - 2013 / 7 / 16 - 06:44
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
1: يتناول كثير من كتاب القوى السياسية وقوى الثورة البالغة التنوع "الثورة" كأنها مفهوم مغلق أو أقنوم مطلق ويرددون: الثورة، الثورة، الثورة! ويتصور هؤلاء جميعا أن الثورة ما دامت قد تفجرت فإنها ستنتصر؛ ولكنْ ستنتصر فى ماذا؟ فى كل شيء! فهى مستمرة إلى أن تحقق أهدافها فى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وإذا جاء حصاد الثورة فى مرحلة ما أو فى لحظة ما دون ثورة التوقعات بالقياس إلى ضخامة ما زرعته الجماهير الشعبية من جهود خارقة وتضحيات هائلة، ساد الإحباط وقال قائلهم إننا غدونا فى زمن الثورة المضادة وليس فى زمن الثورة! والحقيقة أن ثورة يناير ليست مطلقة بل لها حدود لا يمكن تجاوزها إلا فى أحوال استثنائية كالذهاب فوق جبال من التحديات إلى التصنيع الجذرى والتحديث الجذرى والاستقلال الحقيقى بالتحرُّر من التبعية الاقتصادية؛ وكل هذا على المدى الطويل فى حالة استمرار الثورة وفى أفضل أحوالها. ولا معنى لانتصار الثورة إلا إذا عرفنا طبيعتها المحدَّدة وطبيعة أهدافها وبالتالى طبيعة انتصارها. الثورة ليست أقنوما مطلقا، كما أن انتصارها ليس حتمية من الحتميات بل يرتبط انتصارها ارتباطا وثيقا بمسارها الفعلى، ويرتبط مصيرها بمسيرها؛ إذا استعرنا عنوان مقال للأستاذ صلاح عيسى منذ عشرات السنين متحدثا عن "ثورة" 1952. 2: وفى 30 يونيو، وبقيادة حركة "تمرد"، انتصرت الثورة فى معركة كبرى من معاركها: معركة التحرُّر من الحكم الإسلامى الإخوانى السلفى، وهو حكم طائفى لأنه يجعل الإسلام دين الدولة، ولا أقصد تفضيل إشراك أديان أخرى كأديان للدولة، بل فصل الدين كله عن الدولة كلها فى المجالات كلها؛ وهو أيضا حكم رجعى من شأنه أن يعود بنا ليس إلى العصور الوسطى، كما يقال عادةً، بل إلى ما قبل العصور الوسطى. غير أن انتصار موجة 30 يونيو الثورية لم يكن، من جانب واحد، انتصارَ الثورة أو الشعب بقيادة "تمرُّد" على الإسلام السياسى أو على قوى حاسمة من قواه. فقد كان أيضا انتصارَ الجيش ممثلا عسكريا وسياسيا للطبقة الرأسمالية التابعة الحاكمة فى مصر. ذلك أنه فيما كانت تدور معركة الجماهير الشعبية ضد الحكم الإخوانى السلفى كحلقة رئيسية فى ثورتها المستمرة فى سياق معركتها الأوسع ضد الثورة المضادة المتمثلة فى الطبقة الرأسمالية الحاكمة، ظلت تدور معركة داخل الطبقة الحاكمة بين قطاعات إسلاموية وقطاعات غير إسلاموية. ولهذا نأينا بأنفسنا عن اعتبار تدخُّل الجيش للإطاحة بالرئيس السابق انقلابا عسكريا، فهو بالأحرى انتصارٌ حققه قطاع، غير إسلاموى، من الرأسمالية التابعة على القطاع الآخر، الإسلاموى، منها، بعد تحالف اضطرارى أقامه الجيش مع الإخوان والسلفيِّين، كغطاء سياسى للتصفية التدريجية للثورة الشعبية، مما أدى إلى التسليم الاضطرارى للحكم لهم فى 30 يونيو 2012. 3: ونجد هنا، من ناحية بعينها، تماثُلا واضحا بين تطورات يناير 2011 وتطورات موجة 30 يونيو الثورية فى 2013: لولا تدخُّل الجيش بقيادة المشير طنطاوى خلال ثورة يناير ما استطاعت الثورة إسقاط حكم مبارك اللهم إلا عبر ويلات أتون حرب أهلية طويلة طاحنة كان قد بدأها مبارك بالفعل. وبالمقابل: لولا الثورة الشعبية ما استطاع الجيش التخلُّص من مبارك مهما كانت حقيقة روايات استياء الجيش من مشروع التوريث بالذات. ولولا تدخُّل الجيش بقيادة الفريق أول السيسى خلال تطورات موجة 30 يونيو الثورية ما استطاعت الثورة إسقاط حكم مرسى اللهم إلا عبر ويلات أتون حرب أهلية طويلة طاحنة. وبالمقابل: لولا الثورة الشعبية ما استطاع الجيش التخلُّص من مرسى، رغم الضرورة الإستراتيچية لهذا التخلص من الحكم الإخوانى السلفى من وجهة نظر مصالح القطاعات غير الإسلاموية من الطبقة الرأسمالية المصرية ومؤسستها العسكرية. وإذا كان الحكم الإخوانى السلفى هو المهزوم الوحيد فقد كان لدينا منتصران: الجيش والثورة الشعبية. ومهما افترضنا أن الجيش والثورة سارا منفرديْن، وضربا منفرديْن، فى نفس الوقت، رغم التشابكات التى لا يمكن إلا افتراضها؛ فإننا أمام منتصريْن أو شريكيْن رغم أنفهما فى هذا النصر. ولا يمكن أن ينطبق على هذا الانتصار للشعب فى وجود منتصر آخر ما يمكن افتراضه فى حالة أن انفراد الشعب بالانتصار. 4: ومن هنا فإن البهجة الكبرى للانتصار فى يناير على مبارك، أو للانتصار فى يونيو على مرسى، لا ينبغى أن تُنسينا حقيقة أن استحقاقات كلٍّ من الانتصاريْن البالغىْ التعقيد كثيرة حيث يحصل كل منتصر على الحصة التى تتناسب مع قوته المادية وقدرته على خداع الجماهير. وكان الجيش، ومن ورائه الرأسمالية الكبيرة التابعة، هو هذا المنتصر وقد حصل بالتالى على نصيب الأسد: خطوة كبرى فى استعادة استقرار النظام على حساب الثورة. ففى يناير 2011، حكم الجيش بنفسه بصورة مؤقتة بالطبع متحالفا مع الإسلام السياسى، وتمكَّن من اللعب بقيادات وقوى الثورة من خلال الإستراتيچيات المعتمدة للتصفية التدريجية للثورة الشعبية، متفاديا حربا أهلية مدمرة للبلاد والعباد وقبل الجميع بالدولة بمختلف مؤسساتها ومنها المؤسسة العسكرية وبالطبقة الرأسمالية المصرية التابعة بكل قطاعاتها. وفى يونيو 2013، يقوم الجيش بتولية الليبراليِّين والقوميِّين واليسار وقيادات شباب الثورة وبعض رجال الدولة الأصليِّين من خلال رئاسة مؤقتة وحكومة مؤقتة. وهنا يبدو، يبدو فقط، أن الثورة انتصرت فقد وصلت بصورة مادية فعلية إلى سلطة الدولة فصارت ثورة حاكمة، أمام كل عين تريد أن ترى! والسؤال هنا: ما هى حصة الأسد التى حصل عليها الجيش هذه المرة كاستحقاق له على دوره فى الإطاحة بالرئيس المخلوع مرسى، ما دام قد قام بتولية غيره على السلطة؟ والحقيقة أن هذا على وجه التحديد هو المكسب الكبير للمؤسسة العسكرية والطبقة الرأسمالية التابعة. 5: ففى أعقاب يناير، قام الجيش، رغم حكمه المباشر جامعًا فى يده بين السلطة التنفيذية وسلطة التشريع، بتولية غيره أيضا وإنْ من الباطن: إعلان دستورى تحت تأثير إخوانى وسلفى قوىّ، سيطرة الإخوان المسلمين والسلفيِّين الوهابيِّين بلا منازع على ما يسمى بالسلطة التشريعية أىْ على مجلسىْ الشعب (رغم حله لاحقا لبطلان قانون انتخابه) والشورى (الذى بقى وتم تلفيقه فيما بعد عن طريق توسيعه وإسناد سلطة التشريع إليه رغم أنه منتخب بنفس القانون الانتخابى المحكوم ببطلانه)، وصولا إلى انتخابات رئاسية تُمثل فى حد ذاتها جريمة كبرى من جرائم القيادة العليا للجيش عندما تم تخيير الشعب بين شفيق و مرسى، وإنجاح مرسى فى اللحظة الأخيرة، وإلى فرض الدستور الإخوانى السلفى، وإلى الأخونة الشاملة السريعة التى كانت بحكم سرعتها وانعدام كفاءتها عاملا رئيسيا من عوامل نجاح الشعب، من ناحيته، والجيش، من ناحيته، فى إسقاط مرسى والحكم الإخوانى. فماذا استفادت المؤسسة العسكرية من تولية الإخوان والسلفيِّين على سلطة الدولة؟ كان المكسب الحقيقى للمؤسسة العسكرية هو تحييدَ الإخوان والسلفيِّين وضمَّهم إلى صفِّها بوصفها سيف الثورة المضادة التى كانت بحاجة إلى غطاء سياسى شعبى من خلال التحالف السياسى الاضطرارى المؤقت. وتمثَّل مكسبٌ رئيسى للمؤسسة العسكرية من تحالفها الاضطرارى مع الإخوان والسلفيِّين فى تفادى حرب أهلية مدمرة لها ولطبقتها من خلال تفادى أىّ تحالف محتمل ضدها وضد طبقتها بين الثورة الشعبية والإخوان والسلفيِّين. وعندما خرج الحليف الإخوانى السلفى عن الخط بالقوة العفوية للتطورات وبالقوة التآمرية على التخطيط ، كان لا مناص من التخلص من حكم الإخوان والسلفيِّين لخطورته من خلال الأخونة على مصالح القطاعات الحاسمة للرأسمالية المصرية الكبيرة ودولتها وسلطتها ونظامها ومؤسساتها وفى مقدمتها المؤسسة العسكرية التى تشكل جزءًا لا يتجزأ من هذه الطبقة. 6: وإذا كانت ثورة يناير مفاجئة ومفاجأة للجميع، ليتحدد السلوك السياسى للطبقة وجيشها تحت الصدمة وتحت الضغط، فإن الهدف الكبير وراء موجة يونيو الثورية الكبرى لم يكن مفاجئا أو مفاجأة بل كان يتطور خطوةً خطوةً على مرأى من الجميع، فتطورت الموجة الجديدة للثورة الشعبية (بقيادة حركة "تمرد" فى مرحلتها الأخيرة)، واستعدّ الجيش من ناحيته للتدخل لوضع حد للحكم الإخوانى السلفى، بالتحالف مع قيادات القوى السياسية وقيادات قوى الثورة، وبالطبع ليس بالتحالف مع الثورة الشعبية وقواها الحقيقية وجماهيرها الشعبية العمالية والفلاحية والفقيرة والمعدمة. فماذا كسبت المؤسسة العسكرية من تولية غيرها (من جديد) أىْ تولية قيادات المعارضة "المدنية" وقيادات الثورة، التى عارضت وناوأت وقاومت حكمها العسكرى المباشر وتحالفها مع الإخوان المسلمين وحلفائها ثم حُكْم الإسلام السياسى بعد ذلك، على سلطة الدولة؟ والحقيقة أن المؤسسة العسكرية كانت حكيمة كل الحكمة، من وجهة نظر مقتضيات مصالحها الطبقية، فى تحالفها مع الإسلام السياسى فى أعقاب ثورة يناير: لتفادى الحرب الأهلية، ولشق صفوف ثورة مسلحة محتملة فى سياق تلك الحرب بعد أن بدأها مبارك بالفعل؛ وهذا باعتبار أن القوة السياسية الكبيرة التى كان من الضرورى تحييدها عن طريق التحالف معها تمثلت فى قوى الإسلام السياسى، وليس فى القوى "المدنية" الضعيفة والمتشرذمة التى ما كان يمكن لأحد أن يتوقع أن تكون قادرة على شن حرب أهلية، أو على توفير غطاء سياسى شعبى له وزنه للحكم العسكرى المباشر "الاضطرارى". غير أن المؤسسة العسكرية كانت فى منتهى الغباء عندما تركت الحبل على الغارب للإخوان المسلمين وحلفائهم دون وضع الشروط والحدود والقيود على حركتهم فى كل خطوة من الخطوات الانتخابية وغير الانتخابية. فَلولا موجة يونيو الثورية لكان من المحتمل أن ينجح الإخوان المسلمون فى أخونة الدولة والمجتمع وإعادة البناء الاجتماعى-الاقتصادى بما يؤدى إلى طرد أغلب أفراد ومجموعات القطاعات غير الإسلاموية من الرأسمالية المصرية الكبيرة من الاقتصاد والسلطة، وإلى الأخونة الشاملة للمؤسسة العسكرية والسلطة القضائية والإعلام والتعليم وكل شيء، تماما كما حدث من "تشييعٍ" شاملٍ للدولة والمجتمع فى إيران الشيعية. 7: فماذا تكسب القوات المسلحة وطبقتها الرأسمالية كلها من تسليم السلطة لقيادات المعارضة وقيادات شباب الثورة؟ إننا بالطبع أمام تحالف جديد للطبقة الحاكمة ومؤسستها العسكرية مع قيادات القوى السياسية وقيادات قوى الثورة، وليس مع الثورة الشعبية وقواها الحقيقية وجماهيرها الشعبية العمالية والفلاحية. وهو تحالف اضطرارى بدوره له مزاياه الأكيدة (وعلى الأرجح دون مخاطر) بالقياس إلى مزايا ومخاطر التحالف مع الإسلام السياسى. فقد اتضح للمؤسسة العسكرية بصورة أكيدة أن الثورة الشعبية قوة هائلة لا سبيل إلى الصدام الطائش معها بل ينبغى العمل على تصفيتها التدريجية الطويلة بوسائل منها دمج قياداتها فى سلطة الدولة، وتحويل هذه القيادات بالتدريج الكافى إلى جزء لا يتجزأ من الطبقة الحاكمة وسلطتها وثورتها المضادة. ويجرى النظر إلى هذا من نواحٍ عدة؛ فهو "استحقاق" لقيادة موجة يونيو الثورية (وما قبلها بالطبع)، وهو محاولة لترويض الثورة بتوظيف قياداتها التى تنطلق على الأغلب من نوايا حسنة ومقاصد نبيلة تغذِّيها رغبة مخلصة فى خدمة الثورة والشعب والوطن، وهو إدراك المؤسسة العسكرية لحقيقة أن قوة قيادات الثورة الشعبية نابعة من قوة هذه الثورة فلا سبيل أمامها للخروج من الأزمة إلا التخلى عن إقامة تحالفات ضد الثورة واعتماد سياسة أكثر خبثا فى ترويض الشعب عن طريق استمالة قياداتها، ويتمثل الأمر البالغ الأهمية فى كل هذا، وهو ما يجعل التحالف الاضطرارى مع القوى "السياسية" والثورية بداية تحالف طويل قابل للحياة، فى أن دمج القيادات المعنية هنا فى سلطة الدولة وسياساتها يمثل حلا طبيعيا لمشكلة الحكم وأزمتها المستفحلة منذ زمن طويل قبل وبعد ثورة يناير. فكيف كان ذلك؟ 8: ولكنْ، وقبل كل شيء، لماذ نعتبر تحالف المؤسسة العسكرية مع قيادات المعارضة والثورة تحالفا اضطراريا أو مؤقتا مع أنه قابل للحياة طويلا؟ الحقيقة أن عناصر كثيرة من قيادات المعارضة وعددا غير قليل من قيادات الثورة كانت تمثل معارضة متنوعة، معتدلة أو جذرية أو بين بين، فى عهد مبارك، وكانت إدارة الدولة والاقتصاد والسياسة فى أيدى رجال الدولة المخضرمين الذين لحق بهم بعض شباب لجنة السياسات وولىّ العهد جمال مبارك. وسار الأمر على نفس المنوال بعد الثورة فكان الحكم لرجال الدولة الأصليِّين وأضافت إليهم المؤسسة العسكرية وأجهزة الأمن رجال الإسلام السياسى. والجديد هنا هو أن الطبقة ومؤسساتها التى شاركت بقسط وافر فى الإطاحة بالإخوان والسلفيِّين لم يَعُدْ بمستطاعها الحكم عن طريق رجال عهد مبارك وحدهم ولا بصورة رئيسية فى المرحلة الراهنة؛ بالطبع باستثناء الأجهزة المخابراتية والأمنية الخفية للدولة العميقة، على حين انتهى عهد الحكم برجال الإسلام السياسى، ويستحيل الآن الحكم برجال مبارك وحدهم، فلا مناص من التحالف مع قيادات المعارضة والثورة وتسليمها "واجهة" السلطة الطبقية؛ باعتبار هذا سبيلا وحيدا لإبقاء الثورة الشعبية داخل حدود معقولة تحت حكم سلطة قياداتها الفعلية المتحوِّلة. 9: على أن حكم هذا التحالف الاضطرارى مع قيادات المعارضة والثورة حلٌّ رئيسى لأزمة الحكم من خلال دمجها التدريجى فى الطبقة والسلطة والمؤسسات؛ على أمل أن يكون هذا الحكم الجديد، بدماء جديدة، مقبولا من جانب الشعب والثورة وبالتالى وسيلة لتخديرهما، مع إدراك واضح لحقيقة أنه يستحيل الالتفاف على هذا الاستحقاق للثورة وبالتالى على قيادات قواها المعارضة والثورية. ولكن هذا الحل، الذى تأخر كثيرا بفعل عوامل كثيرة غير مواتية منذ ثورة يناير، كما سبق ورأينا، هو الحل الأكثر كفاءة ومنطقية لمشكلة الحكم فى مصر من وجهة نظر مصالح الطبقة الحاكمة/المالكة فى مصر كما تبلورت هذه المشكلة فى عهود الرئاسات المصرية منذ 1952 واتخذت شكلها المعضل بعد السيطرة الشاملة لحكم مبارك. فكأن تطورات الحكم بعد الثورة تنتهى إلى تتويج رؤية للحكم الطبقى فى مصر تختلف عن حكم الشخص أيام مبارك وأسرته وعصابته! وكانت الطبقة بحاجة إلى حكم طبقى طبيعى، بالطبع فى حدود المعايير البائسة للحكم فى العالم الثالث، خاصة بعد تراجُع رأسمالية الدولة، وسيطرة ما يسمى بالاندماج بين السلطة ورأس المال؛ وكان مما عرقل هذا الميل المنطقى إلى حكمٍ طبقى أكثر ليبرالية تاريخٌ طويل من الحكم العسكرى وحكم الأجهزة المخابراتية والأمنية رغم التحولات الاقتصادية والطبقية، ثم تطورات ثورة يناير بحكمها العسكرى ثم الإخوانى السلفى، إلى أن جاءت موجة يونيو الثورية بالحل الجديد، حلّ اندماج القيادات المتحولة للمعارضة والثورة (باستثناء عناصر واعية ومخلصة) فى الطبقة الحاكمة وسلطتها وحكمها، بصورة تدريجية. ويمكن القول إن الطبقة الحاكمة فى مصر كانت تتطلع، بعد أن خرجت من شرنقتها التى تمثلت فى رأسمالية الدولة، إلى حكم يحطم قفص حكم الشخص بقيادة مبارك وإحلال حكم يميل إلى ليبرالية عالم-ثالثية تعتمد على نوع ما من السلطة التشريعية المستقلة نسبيا بدلا من التبعية المطلقة للسلطة التنفيذية، وعلى أحزاب سياسية حقيقية بدلا من الأحزاب الهزيلة فى عهد السادات و مبارك، بعد أن كانت محظورة تماما فى عهد عبد الناصر. 10: وكان وما يزال غائبا عن رؤية الطبقة الحاكمة وساستها ومفكريها حقيقة أن مثل هذا الحكم الليبرالى المستقل نسبيا من رابع المستحيلات فى عالمنا المسمَّى بالثالث ما لم تكن هناك قوتان اجتماعيتان متكافئتان داخل الطبقة الحاكمة تتصارعان على السلطة من خلال الانتخابات العامة وفى الپرلمان وفى كل مجالات الدولة والمجتمع. وإذا كان هذا ما يزال قسمة البلدان الصناعية المتقدمة وحفنة من بلدان العالم الثالث بحكم وجود قُوًى قبلية متصارعة على المصالح ومتوازنة ومتكافئة عدديا واجتماعيا وسياسيا وحتى عسكريا عند ضرورة اللجوء إلى السلاح، وهذه الصراعات القبلية المتكافئة ذاتها تعنى أيضا انقساما بين مصلحتين ورؤيتين داخل الطبقة الحاكمة التى تنتمى إليها قمم وقيادات هذه القبائل المتصارعة، فيما تنتمى الحالة الهندية المسماة بالديمقراطية الهندية إلى وجود مصلحتين ورؤيتين داخل الطبقة الحاكمة، ولكنْ بعيدا عن نموذج البلدان الصناعية المتقدمة، وبعيدا بالطبع أيضا عن نموذج القوى القبلية المتصارعة والمتكافئة فى أفريقيا، ويرجع هذا إلى تطور خاص فى الحياة السياسية الهندية تحت الحكم البريطانى على مدى أربعة قرون استعارت فيها الهند الكثير من بريطانيا الاستعمارية فى لغتها وثقافتها وشكل الحكم فيها. 11: ورغم كل تعدُّدٍ للقطاعات والتكتلات والمجموعات وحتى الأيديولوچيات داخل الطبقة الحاكمة فى مصر إلا أنه لم توجد قوتان ورؤيتان متصارعتان ومتكافئتان داخلها، بل كانت هناك فى كل المراحل والعهود قوة ساحقة تسيطر على الطبقة والسلطة والمجتمع رغم التحولات الاقتصادية والطبقية من رأسمالية الدولة إلى الرأسمالية الخاصة. وكانت تأتى استثناءات تمهِّد لها تطورات. وكانت هزيمة 67 من التطورات الأساسية الاستثنائية التى أدت إلى تسريع تطور ميول أصلية كانت ماثلة فى رأسمالية الدولة، بحكم إخفاقاتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، نحو الخصخصة الشاملة، لتتحول معها طبيعة بنية الطبقة الحاكمة. وهنا أيضا كان سلوك الطبقة ككل، مهما كانت الاتجاهات المتصارعة داخل رأسمالية الدولة أو فى قلب تحولاتها مع الخصخصة والانفتاح الاقتصادى "سداح مداح"، وفقا لتعبير أحمد بهاء الدين، هو الاندفاع معًا فى الاتجاه الجديد حيث كانت الخصخصة تمثل فى المحل الأول مصلحة أساسية لرأسمالية الدولة وبيروقراطيتها. وفى هذا السياق نشأت وتطورت القوى الطبقية الاقتصادية والسياسية للإسلام السياسى دون أن ترتفع إلى مستوى إحداث انقسام بين قطاعيْن متكافئيْن داخل الطبقة الرأسمالية الكبيرة. وبتفجُّر الثورة الشعبية صارت لدينا طوال فترة استمرار الثورة فيما مضى وفى المستقبل صراع كبير بدأ بوجود قوة ثانية قوية بل جبارة وإنْ بصورة مؤقتة هى قوة الثورة الشعبية فى مواجهة قوة الطبقة الرأسمالية ومؤسستها العسكرية وتحالفها مع الإخوان المسلمين والسلفيِّين. وكان هذا الانقسام الحاد بين الثورة المضادة ولكنْ ليس من داخل الطبقة الحاكمة بل بينها وبين الثورة من خارجها فاتحة اصطفافات تالية من خلال إحلال التناقض والصراع بين المؤسسة العسكرية بكل ما تمثله والإسلام السياسى محل التحالف معه، مع استمرار تناقضه وصراعه مع قوى الثورة الشعبية. وهنا كانت التحالفات ونقضها فى سبيل تحالفات جديدة سمة حالة من الصراع بين قوى اجتماعية سياسية مادية على الأرض. ولم تكن الممارسة الفعلية لصراعات كبيرة دلالة على بنية ديمقراطية معتمَدة رسميا بل كانت سمة عناصر من الديمقراطية الشعبية تم انتزاعها من أسفل بفضل الثورة الشعبية. 12: وكان حكم الشخص ومشروع التوريث والفساد والاستبداد وتجريف الأساس الاقتصادى لحياة المصريِّين، وكلها سمات وخصائص وأعراض ملازمة لحكم الشخص، تناقضا بالغ الأهمية بين هذا الحكم المسيطر فى مركز الطبقة والسلطة وباقى الطبقة الحاكمة وبالأدق المالكة لأنها كانت تحكم إلا بالواسطة وليس بالذات. وكان هذا التناقض من العوامل الرئيسية للثورة بما أدى إليه من أوضاع اجتماعية اقتصادية هبطت بجماهير الشعب إلى ما تحت مستوى خط الفقر، وإلى اتساع نطاق الفقراء والمحرومين الذين يعانون الجوع والمرض والأمية والتشرد من خلال الملايين من سكان المقابر والعشوائيات، وصاروا بحكم طبيعة الأمور ضحايا للاستبداد والفساد فى كل مكتب حكومى وفى كل قسم أو مركز أو نقطة شرطة، وفى كل خطوة وفى كل ناصية، كما صاروا ضحايا الحرمان من الرعاية الصحية حيث تفترسهم الأوبئة وعلى رأسها الڤ-;-يروسات الكبدية، وتفترسهم السرطنة التى كانت تتم تحت إشراف والى ووزارة الزراعة، فى ظل ما سُمِّىَ بالسياسة الأمريكية للزراعة المصرية. وكان كل هذا يمهد بصورة متسارعة، عن طريق انفجارات التطورات الجماهيرية الشعبية السابقة للثورة فى مصر، لهذه الثورة التى تفجرت بمجرد تلقِّى إشارة بدء الشرارة التى انطلقت من تونس، وبمجرد تلقِّى إشارة بدء الشرارة الشبابية التى انطلقت فى مصر فى 25 يناير. 13: وقد صار حكم الشخص مستحيلا فى المدى المباشر، كما صار الحكم العسكرى المباشر مرفوضا من الشعب والثورة ومن العالم أيضا، وذهب الحكم الإخوانى السلفى إلى حيث ألقتْ، على حين صارت عودة رجال مبارك بصورة شاملة فى المدى القصير مستحيلا وخطا أحمر ودعوة جديدة إلى الثورة (ومما يُنسب إلى المؤسسة العسكرية أن مرشحها المفضل فى الانتخابات الرئاسية القادمة ما يزال هو الفريق أحمد شفيق، كما كان مرشحها المفضل فى الانتخابات الرئاسية السابقة بجولتيْها، وإذا صحَّ هذا فإنه سيكون أغبى خيار ستعانى منه المؤسسة العسكرية والدولة والشعب كله طويلا). وهنا يتمثل الحل الأمثل فى حكم قيادات المعارضة وقيادات الثورة، كحل مؤقت على الأقل، وكحل قابل للحياة طويلا لأن الطبقة المالكة (الحاكمة بالواسطة وليس بالذات، كما سبق القول) تحتاج إلى هذا الحل ليكون نقطة تتجمع عندها بالتدريج سلطة طبقية تميل إلى نوع من الليبرالية وبالتالى أكثر كفاءة، من حيث الخروج الآمن من الأزمة الاقتصادية والأمنية ومن حيث تضليل وترويض وتصفية الثورة عبر استحقاقات وتنازلات لا مفرّ منها. 14: ولا يمثل انتصار الثورة أو هزيمتها حتمية تاريخية بل يرتبط مصيرها ارتباطا وثيقا لا ينفصم بمسارها ومسيرها ومسيرتها من الناحية الفعلية. وفى ضوء الإنجازات الكبيرة للثورة وانتصاراتها المدوية إلى الآن، يبدو، يبدو فقط، كل حديث عن احتمال هزيمة الثورة بعجزها عن تحقيق أهدافها الرئيسية المعلنة سخيفا للغاية. غير أنه ما دامت الثورة لم تحقق بعدُ انتصارها الكامل كمحصلة نهائية وما دامت لم تُهزم هزيمة نهائية فإن كلمة "الاحتمال" تغدو بالغة الأهمية؛ فكم من ثورة انتصرت وكم من ثورة هُزمت! فما هو الاحتمال المرجَّح: انتصار الثورة وهزيمة الثورة المضادة؟ أم انتصار كلٍّ من الثورة والثورة المضادة؛ كلٌّ منهما بطريقته الخاصة عن طريق تحقيق أهدافها الخاصة بها؟ وهذا إذا استبعدنا الهزيمة المرجَّحة للفريقين فى حالة حرب أهلية مدمرة للجميع، وهو استبعاد يرجّحه انتصار وشيك على الإخوان المسلمين والسلفيِّين لأنهم يمثلون جماعات إرهابية يبشر مجرد استمرار وجودها السرى والعلنى بصراعات مسلحة وحروب أهلية لا آخر لها الآن وفى المستقبل! وتُحاول قوى الإسلام السياسى من خلال معركتها الحالية الجماهيرية والمسلحة عودة مرسى إلى الرئاسة كحد أقصى، استلهاما لعودة إيجو تشابيث إلى الرئاسة بعد محاولة انقلاب ضده فى مطلع العقد الأول من القرن الحادى والعشرين وتيمُّنا بها، رغم اختلاف الظروف لغير صالح مرسى، ولكنْ أيضا للخروج الآمن للقيادات الإخوانية والسلفية من قلب الحشود الحالية المؤيدة للرئيس المخلوع مرسى فى محيط رابعة العدوية بالذات. 15: والحقيقة أن الثورة ما تزال إلى الآن بعيدة عن أن تُدمج انتصاراتها الكبيرة المتوالية ولكنْ الجزئية فى انتصار نهائى كمحصلة. وقد تمثلت الإنجازات البارزة للثورة فى التحرُّر من الخوف، واكتشاف الطاقات الكامنة فى الشعب، والتسييس والارتفاع الكبير فى مستوى الوعى الشعبى رغم عفويته، والتدريب من خلال الممارسة على أساليب ووسائل النضال الثورى الإضرابى، وفوق البيعة: إسقاط حكم مبارك، وإسقاط حكم طنطاوى، وإسقاط حكم مرسى، من خلال حشود الجماهير الشعبية بعشرات الملايين من بنات وأبناء مصر! غير أنه خلال هذه الفترة كان يأتى خلف كل قيصر يسقط قيصر جديد: طنطاوى بعد مبارك و مرسى بعد طنطاوى، ومَنْ يدرى ماذا يحمل المستقبل القريب الذى ينطلق حكمه العتيد على كل حال من الدستور الإخوانى السلفى والتعديلات البائسة المقترحة عليه! وإذا كان انتصار الثورة المضادة يتمثل رغم صعوبته البالغة فى شيء بسيط هو استعادة استقرار نظام الرأسمالية المصرية التابعة بعد ترويض وتصفية الثورة فإن انتصار الثورة يكاد يشكل لغزا من الألغاز. فكيف يمكن تحقيق الأهداف التى تبدو للوهلة الأولى بسيطة للغاية والتى تتمثل فى: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية، هذه الأهداف التى ترتبط على كل حال بأهداف ومطالب وشعارات وأدوات نضالية أخرى لا تتحقق إلا من خلالها؟ 16: وإذا كان إسقاط أكثر من حاكم قد حدث فإن إسقاط النظام "الشعب يريد إسقاط النظام" دونه خرط القتاد؛ حيث لا يمكن إسقاط نظام الطبقة الرأسمالية التابعة إلا بإحدى طريقتين: الثورة الاشتراكية الحقيقية أو التطور التدريجى الطويل للديمقراطية الشعبية من أسفل على طريق التصنيع والتحديث الجذريين بنتائجهما المتمثلة فى التحرر من التبعية الاقتصادية الاستعمارية وتحقيق الاستقلال الحقيقى بالسباحة ضد التيار فى عالم مُعادٍ وضد رأسمالية تابعة مسيطرة. فلا مناص إذن من تعديل المقصود بإسقاط النظام ليعنى انتزاع الديمقراطية الشعبية من أسفل ومحاصرة الديكتاتورية الطبقية الحاكمة من أعلى والحد من استبدادها وفسادها على طريق نضال هذه الديمقراطية الشعبية من أسفل فى سبيل التصنيع والتحديث بنتائجهما المتمثلة فى التحرُّر من التبعية الاقتصادية الاستعمارية وتحقيق الاستقلال الحقيقى. 17: وعلى هذا لا يكون انتصار الثورة أو نجاحها إلا بتحقيق الديمقراطية الشعبية من أسفل، هذه الديمقراطية التى تلخِّص أهداف الثورة وكل الشعارات والمطالب المرتبطة بها فى عبارة واحدة، ولا يمكن الحديث عن نجاح الثورة أو فشلها إلا بمعيار تحقيق أو عدم تحقيق الأهداف الكامنة فيها، وليس على أساس أىّ معيار مفترض من خارجها. وإذا تحقق انتصار ثورتنا بتحقيق أهدافها أىْ بتحقيق الديمقراطية الشعبية من أسفل؛ فكيف سيكون الحال من أعلى؟ والرد المنطقى: هو الديكتاتورية الرأسمالية التابعة من أعلى. وهذا على كل حال هو المنطق العادى الطبيعى لمصير الثورات والثورات المضادة فى كل مكان: ديمقراطية شعبية من أسفل وديكتاتورية رأسمالية من أعلى تتواجدان معا فى البلد الواحد فى سياق صراع متواصل بينهما. غير أن الثورة يمكن أن تُهزم رغم نجاحاتها وإنجازاتها الكبيرة ولكنْ الجزئية إلى الآن. وقد تحدثتُ كثيرا فى مقالات سابقة عن شرط لا يمكن الالتفاف حوله لنجاح الثورة وانتصارها: إنه التركيز المطلق على بناء مؤسسات وإنجازات الديمقراطية الشعبية من أسفل. غير أن قوى الثورة انحرفت منذ البداية الأولى عن التركيز على هذا الهدف الكبير وصارت تنظر إلى أعلى طول الوقت، إلى الاستفتاءات والدساتير والانتخابات الپرلمانية والرئاسية التى هى مؤسسات الثورة المضادة، مخدوعةً بإسقاطها المتكرر للحكام، تاركةً الميدان للمشير طنطاوى ثم للرئيس السابق مرسى. وإذا كانت لم تقم إلى الآن بإخلاء الميدان للحكم الليبرالى واليسارى القادم فقد فعلت هذا أولا لأن المقاومة الجماهيرية والمسلحة للإخوان المسلمين والسلفيِّين ما تزال مستمرة إلى الآن، وثانيا بسبب العنصر الخطير المتمثل فى أن ما يجرى الآن أخطر من كل إخلاء للميدان سابقا لأنه يتمثل فى انفصال عناصر واسعة من قيادات المعارضة وقيادات الثورة عن الثورة الشعبية فى عملية تحوُّل مشئومة على طريق مفروش بالنوايا الحسنة حول خدمة الثورة والشعب والوطن، بعيدا عن كل انتهازية أو خيانة أو تخوين، باستخدام سلطة الدولة المنتقلة فى حدود الحكم والحكومة كعربون واستحقاق لهذه القيادات. وإذا لم تقم قوى الثورة بقيادات جديدة تفرزها بسرعة بالتركيز على ما أهملته منذ البداية أىْ بناء أدوات ومؤسسات الديمقراطية الشعبية من أسفل فتقاعست لفترة أخرى قادمة فإن هزيمة الثورة ستكون دون أدنى شكّ تحصيل حاصل! والحقيقة أن العامل الحقيقى لاستمرار الثورة يتمثل فى عدم تحقيق أهدافها الرئيسية وفى سبيل نجاح الثورة لا مناص من نضالات إضرابية واسعة النطاق يتوِّجها تحقيق مطالب جماعير الشعب فى مستويات الأجور والتوظيف والتأمين الصحى والتعليم المجانى الجيد والحريات والحقوق واستقلال القضاء وحرية الصحافة وغير ذلك من العناصر المترابطة للديمقراطية الشعبية من أسفل؛ وإذا تأخرت هذه النضالات طويلا فإن هذا سيكون، بلا أدنى شك، على حساب انتصار الثورة الشعبية. 19: وهناك حقيقة أنه بعد كل ثورة يستمر ما سبقها لأن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة فيما يُنسب إلى عمر بن الخطاب، ولأن النظام الجديد إنما يتم بناؤه بأنقاض النظام القديم كما يؤكد، من جهته، أليكسى دو توكڤ-;-يل فى كتابه "النظام القديم والثورة"، الذى يؤكد فيه أيضا أن الثورة (الفرنسية) ثورتان، وبالأخص أن النظام القديم السابق لثورة 1789 هو الثورة الأكثر أهمية وأنها كانت ستتجه إلى النجاح حتى لو لم تندلع ثورة سياسية كثورة 1789 والثورتان السياسيتان اللاحقتان فى 1830 و 1848. فقد كان لا مناص من أن يستمر بعد الثورة الفرنسية الكبرى ما سبقها أىْ النظام القديم لأنه لم يكن نظاما إقطاعيا بل كان نظاما رأسماليا انتقاليا نشأ وتطور بصورة تدريجية طوال أكثر من مائة سنة قبل الثورة السياسية أىْ منذ عهد لويس الثالث عشر! أما فى بلدان الرأسمالية التابعة مثل مصر فتأتى الثورات وتذهب وتبقى الرأسمالية التابعة فى الاقتصاد والسلطة. كما أنه لا يفوتنى أن أشير إلى أن النموذج الذى ندرس فى إطاره حالة الثورة المصرية إنما يتمثل فى نموذج عالم ثالث يعانى التراجع التاريخى الشامل بصورة تهدد مجرد بقائنا وينزل البشر فيه من الجانب الآخر من التل، وينبغى أن نراجع إنتاج مراكز ومعاهد أبحاث ودراسات العالم الثالث فى فرنسا وغيرها؛ بدلا من قراءة إشارتنا التخفيفية إلى نتائجها المفزعة. وكل مَنْ لا يدركون طبيعة ما فعلتْه الإمپريالية بنا لا يدركون بالتالى حقائق حالة العالم الثالث اليوم. ولا مخرج ولا مستقبل لأىّ بلد من بلدان العالم الثالث إلا إذا تفجرت فيه ثورة شعبية قادرة على السير الجاد الحثيث فى طريق التصنيع والتحديث وكسر التبعية الاقتصادية وتحقيق الاستقلال الحقيقى وليس الدستورى. ولا أمل لنا حتى فى مجرد البقاء طويلا كشعب ما لم نكن قادرين على تطوير ثورتنا حتى النهاية ليس على طريقة أوهام أصحاب الجملة الثورية والطفولة اليسارية، وليس على طريقة القيادات والزعامات التى تتجه فى الوقت الحالى إلى الاندماج فى سلطة الطبقة الرأسمالية المصرية التابعة. إن مجرد البقاء صار يشترط تطوير الثورة نحو الانتصار الحقيقى فى تحقيق أهدافه المعلنة والضمنية ومقتضياتها فى سبيل الاندفاع نحو أهداف أعمق وآفاق أرحب فى مستقبل لا معنى له إنْ لم يكن قريبا! 20: وأنا لا أهتم بإبراز هذه المعانى لزرع الإحباط واليأس فى النفوس بل أكتبه بقصد إيقاظ كتابنا اليساريِّين على حقائق يجهلونها أو يتجاهلونها، وضد مَنْ يدفنون رؤوسهم فى الرمال كالنعام ويصيحون الثورة! الثورة! بلا كلل أو ملل؛ وكأنهم يتلون تعويذة سحرية. فالمعرفة الموضوعية الدقيقة، بدلا من التفاؤل الطفولى لدى أغلب كتابنا اليساريِّين، سلاحٌ ضرورى للتحليل الناجح وكذلك للسلوك الثورى الفعال، بدلا من الحماس الفارغ والوعظ والإرشاد لديهم. صحيح أننى من أشد المتحمسين للثورة غير أننى عند التحليل السياسى أضع رأسى فى ثلاجة بل فى ثلاجة عميقة بحثا عن الحقيقة. والنقطة الرئيسية فى مقالى هذا هو ما يلى: إنْ لم تسارع قوى الثورة إلى التركيز على بناء مؤسسات الديمقراطية الشعبية من أسفل بدلا من المشاركة فى بناء مؤسسات الثورة المضادة من جديد فى ظل الحكم المؤقت الجديد فلا ينبغى أن تلوم هذه القوى إلا نفسها وليس العسكر أو الإخوان أو الليبراليِّين أو غيرهم من قوى الثورة المضادة بكل قطاعاتها؛ عندما تجلس قوى وقيادات الثورة الشعبية (المغدورة دون قصد أو عمد من جانب قواها التى يضللها بريق انتصاراتها المتعاقبة عن الهدف الوحيد الحقيقى الذى يجب أن تسعى إليه دون إبطاء أو تقاعُس قبل أن يفوت الأوان) لتتأمل برويَّة وإنعام نظر طبيعة وحقائق ما حدث ولكنْ "بعد خراب مالطة"!
#خليل_كلفت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لا شيء على الإطلاق
-
عرض موجز لكتاب: النظام القديم والثورة الفرنسية
-
حديث عن الأوضاع قبل إسقاط مرسى
-
ما بعد مرسى بين إسقاط الحكم الإخوانى السلفى وإسقاط النظام
-
لا تتركوا الميادين!
-
الجريمة النظرية ضد تقسيم البشر إلى فئتيْن
-
خطاب مرسى إعلان للحرب الأهلية
-
الشارع (1) قصة: روبرت فالزر
-
أسطورة الأمن القومى المصرى
-
حديث مع الأستاذة راندا إسماعيل عن ترجماتى
-
عصبىّ قصة: روبرت فالزر
-
سادة وعمال قصة: روبرت فالزر
-
هكذا! ظَبَطْتُك قصة: روبرت فالزر
-
البنطلونات قصة: روبرت فالزر
-
الشعراء قصة: روبرت فالزر
-
الآن .... أو فى المشمش!
-
رحلة فى منطاد قصة: روبرت فالزر
-
ردٌ على رجاء قصة: روبرت فالزر
-
القارب قصة: روبرت فالزر
-
طلب عمل
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|