|
الظل والصدى
فهد سليمان
الحوار المتمدن-العدد: 1189 - 2005 / 5 / 6 - 10:59
المحور:
القضية الفلسطينية
قراءة في وثيقة " جنيف – البحر الميت " [مسودة إتفاقية الوضع الدائم ] ( 1 ) بنتيجة جهد موصول استغرق ما يقارب السنتين إنخرطت فيه مجموعة اسرائيلية معارضة ضمت أعضاء كنيست وأكاديميين وآخرين( ) برئاسة وزير العدل الأسبق يوسي بيلين ومجموعة أخرى من السلطة الفلسطينية وحركة فتح وأعضاء في المجلسين التشريعي والوطني والحكومة برئاسة وزير الاعلام الأسبق ياسر عبد ربه ، تم التوصل إلى صياغة " مسودة إتفاقية للوضع الدائم " جرى إشهارها في جنيف ( 1/12/2004 ) بأسلوب إحتفالي صاخب استخدم بإسراف تقنيات الدعاية والترويج المعولم . سبق جنيف محطات ( مفاوضات أثينا ، بروج .. ) ، أبرزها لقاء البحر الميت حيث تم التوقيع بالأحرف الأولى على مسودة الإتفاقية ( 11/10/2003 ) . وأعقب جنيف جولات ، أهمها حملت بيلين – عبد ربه إلى واشنطن ومقر الأمم المتحدة في نيويورك ، وموسكو وعواصم اوروبية ( باريس، برن ، لندن وغيرها ) وأسيوية ( جاكرتا ، طوكيو ، نيودلهي .. ). إلى هذا نُظمت حملة دعاية واسعة في اسرائيل والمناطق الفلسطينية لكسب التأييد لمبادرة جنيف . وتم سبر المزاج السياسي في الوسطين الفلسطيني والاسرائيلي باستطلاعات للرأي مهدفة .. أما تكلفة هذه الفعاليات والتحركات ( والكلام هنا عن مبالغ بملايين من اليورو ) ، فقد تولتها وزارة الخارجية السويسرية من خلال " المنظمة السويسرية الحكومية للتنمية " . الآن ، وبعد مضي عام على إنعقاد جنيف – البحر الميت ، نلاحظ أنه لم يبقَ من مشروع الإتفاق سوى الظل ( المتلاشي ) ومن ضجيجه سوى الصدى ( الضائع ) . وهذا ما كان متوقعاً ، فالإهتمام يتجه إلى حيث يدور الصراع الحقيقي بين الإنتفاضة والإحتلال في مجرى السياسة المطروحة بالفعل : بناء واستكمال بناء الجدار في الضفة الغربية وحول القدس (الضم الأحادي ) بموازاة الإعلان عن خطة فك الإرتباط في غزة (الإنسحاب الأحادي)، وليس إلى مشاريع وخطط إفتراضية تنتسب إلى حيّز العلاقات العامة لإخراج المناقصة – بهذا القدر أو ذاك من الإتقان – على الحقوق الوطنية . الطبيعة الإفتراضية لوثيقة جنيف وتحرك أصحابها في دائرة العلاقات العامة وما آلت إليه الوثيقة نفسها من فشل ، لا يقلل من سلبياتها السياسية ، ولا يقطع الطريق – من باب أولى – على تجدد المحاولات بنفس الوجهة .. فقبل جنيف – البحر الميت كانت وثيقة نسيبة – أيالون ، وليس هناك ما يمنع من إعلان مبادرات أخرى على نفس النسق . فالنهج السياسي الذي أنتج جنيف لن يكون قاصراً – رغم الفشل – عن إنتاج غيرها أو تجديد إطلاقها . من هنا أهمية التوقف أمام " مسودة الإتفاقية عن الوضع الدائم " من زاوية ترتيباتها وما نصت عليه ، وفي السياق السياسي الذي اندرجت فيه ، وكذلك من زاوية الأفكار والتقديرات العامة التي حكمت أولياء هذا المشروع ووجهت صانعيه ، لتبيان عقم أفكارهم وخطأ تقديراتهم وإنسداد الطريق أمام مشروعهم وإرتداداته السلبية على الحقوق الفلسطينية ووحدة الصف الوطني . ( 2 ) 1 – " مسوّدة إتفاقية الوضع الدائم " وثيقة غير متكافئة بين الطرفين المشاركين في صياغتها وإقرارها .. وهي غير متوازية بين شريكيها من زاوية الموقع السياسي والتمثيلي والتقريري والشعبي لكل منهما . فالطرف الاسرائيلي يضم شخصيات من اليسار الصهيوني بداخل حزب العمل وخارجه ، ويتوضع كأقلية معارضة في الكنيست ، وهو – بالاتجاه العام – من أهم مكونات معسكر السلام الذي إنحسر تأثيره على نحو ملحوظ في الشارع الاسرائيلي بعد مفاوضات كمب ديفيد ( تموز / يوليو 2000 ) وإندلاع الإنتفاضة لاسباب لسنا بواردها في هذا السياق . بالتالي ، فإن الجانب الاسرائيلي المؤيد لهذه الوثيقة غير قادر – حالياً وفي المدى المرئي – على خلق دينامية ذات شأن في اسرائيل تسمح بالتقدم من عناصر مسودة إتفاقية الوضع الدائم ، ناهيك عن تبنيها ، بسبب الضعف الحالي لمعسكر السلام ، الأمر الذي أكدته عدد من محطات الإختبار لقوته التحشيدية القابلة للإدامة ، حيث تبيّنت فعاليته المحدودة في التصدي لإقامة جدار الضم في الضفة الفلسطينية . ولعل إنحياز معسكر السلام إلى خطة "فك الإرتباط" الشارونية التي أعلنت بعد فترة وجيزة من إطلاق مبادرة جنيف ، وتأييده لخطة تنطلق من عدم وجود شريك فلسطيني [ أي الإقصاء الكامل " للآخر " ] يعبّر أكثر من أي شيء آخر عما آل إليه هذا الاتجاه من ضعف وإستعداده – بسبب من هذا – للتعاطي مع خيار سياسي آخر ، مبدأياً نقيض الخيار الذي تقوم عليه مسودة مشروع جنيف – البحر الميت . إن وقوف معسكر السلام إلى جانب خطة ترمي من خلال تجميد العملية السياسية إلى تصعيد المواجهة المفتوحة مع الشعب الفلسطيني من خلال التمديد للإحتلال وتوسيع الاستيطان ، إنما يعكس إفتقاد هذا الإتجاه إلى رؤية سياسية مستقلة حقيقية ، وبأقله غير مستتبعة( ) تماما للتيار السياسي المركزي السائد ، ويعبّر عن تدني ثقة قادة معسكر السلام بقدرتهم على طرح موقف وإعتماد سياسة تنطوي على مواجهة مع اليمين المتطرف وإقناع الجمهور بصحة خطهم وخيارهم . 2 – هذا لا يعني ، بالطبع ، أننا لا نقيم وزناً لهذه الحساسية السياسية في المجتمع الاسرائيلي ، بل نقدّر تماماً – في واقع الحال – أهمية الدور الذي قامت وتقوم به في مجتمع ينحو بتسارع مقلق إلى مواقع اليمين والتطرف والتعصب العنصري الأعمى والنزوع للأخذ بحلول الابارتهايد و " الديمغرافيا المعاكسة "( ) للمسألة الفلسطينية بدلاً من مقاربتها بحلول سياسية متوازنة .. لكن ما نحن بصدده الآن هو مبادرة جنيف المجانية وإنعكاساتها السلبية على الموقع الفلسطيني ، في الوقت الذي لا نعتبر فيه أنها ذات مردود أكيد للطرف الآخر . وعلى أهمية ما جناه " معسكر السلام " من وثيقة جنيف دعاوياً : وجود شريك فلسطيني مقرر يمكن التوصل معه إلى حل ، وإمتلاك مشروع صالح للترويج من باب التعريف به إن تعذر التحشيد له .. فهذا الحصاد الدعاوي ( الذي سرعان ما نضب بعد شحوب الإعلان ) لم يتحول إلى مكسب سياسي تراكمي لأنه لم يستند إلى قاعدة سياسية وإجتماعية مؤهلة ، أي بنية قادرة على تثميره في مجتمعها . وهنا بالضبط تكمن نقطة ضعف هذه الحساسية السياسية بالأساس ، التي لا تعوّضها حملات العلاقات العامة وضخ المبادرات ( المقوّيات ) من خارج الخارطة الداخلية الاسرائيلية . 3 – وبالمقابل ، فإن صفاً واسعاً من العاملين في صفوف السلطة الفلسطينية وإطارها التفاوضي المعتمد شارك في العملية التي مهدت لولادة إتفاق جنيف .. والذين شاركوا في هذه اللقاءات( ) ، بما في ذلك حفل التوقيع في سويسرا ، إنما فعلوا ذلك بتكليف من السلطة الفلسطينية وحظوا بتأييدها( ). لقد حاول رئيس الحكومة أبو علاء ( أحمد قريع ) أن يبرر مشاركة وزراء من حكومته في ولادة هذا الإتفاق ، فادعى أنهم شاركوا بصفتهم الشخصية ، وليس بصفتهم وزراء في الحكومة(!) ، الأمر الذي لقي استهجان القوى السياسية والأوساط الشعبية واعتبر شكلاً من أشكال توفير الغطاء السياسي للوزراء والإتفاق معاً . ومن الواضح من خلال عديد التصريحات التي صدرت أن السلطة رفعت اشخاصاً من تحت عباءتها ليشكلوا ظلاً لها في مفاوضات البحر الميت – جنيف ، وأن مواقفهم تصريحاتهم ليست إلا صدى لمواقف السلطة وسياستها . ( 3 ) 1 – في محطات التفاوض على الوضع الدائم ، كانت المعضلة تتمثل دائماً بالفجوة القائمة بين أقصى التنازلات الفلسطينية و" أسخى " العروض الاسرائيلية . وما صح في فترة حكومة يقودها حزب العمل ، من باب أولى ان يسحب نفسه على ائتلاف حكومة الليكود . وإذا ما انطلقنا من أن التيار السياسي المركزي في الخارطة الاسرائيلية قد إنزاح ، منذ سنوات ، من حساسية الوسط واليسار الصهيوني إلى حساسية اليمين واليمين المتطرف ، يصبح بمتناول اليد إعتبار وثيقة جنيف [ المقدمة من أصحابها كامتداد وتطوير لنتائج مفاوضات طابا ( كانون الثاني / يناير 2001 ) التي أديرت عشية السقوط المدوي لبراك ] ، غير ذات موضوع ليس بالنسبة للحكومة الحالية فحسب ، بل أيضاً لأي حكومة تنبثق عن انتخابات مقبلة تجمع التقديرات على أنها - عملياً – ستعيد إنتاج نفس التيار السياسي المركزي . هذا ما يدحض الرأي القائل بأن مبادرة جنيف لا تخاطب الحكومة الاسرائيلية الحالية ، إنما تسعى للضغط عليها ، وللتأثير بالرأي العام الاسرائيلي بالوجهة التي تطرحها الوثيقة . فأي تأثير هذا، وما قيمته السياسية ، إذا لم يترجم في الإنتخابات بأوزان معبّر عنها بأرقام تأتي بمستوى سياسي مقرر يفتح الطريق أمام تسوية سياسية متوازنة .. علماً أنه في المدى المرئي لن تكون هناك حكومة اسرائيلية مستعدة ليس فقط لاعتماد هذه الوثيقة في برنامجها فحسب ، بل أيضاً حتى الإقتراب من بعض عناصرها . ومن الصعب جداً أن تنشأ أغلبية إنتخابية تتشكل في إمتدادها أكثرية برلمانية تؤسس لحكومة مستعدة للإقدام على تطبيق وضع دائم يترتب عليه مثلاً إخلاء الخليل من الإستيطان وتفكيك كريات اربع وآرييل والقبول بتسوية في القدس .. إن الوجهة السياسية في اسرائيل ، وهنا التقاطع الليكودي – العمالي ( الذي برز وما إنفك يتأكد في الفترة الأخيرة ) ، تتبلور بأتجاه الحل التصفوي القائم على ضم الأراضي والفصل العنصري ( إنسحاب من غزة وجدار ضم في الضفة ) الذي يقوّض مرتكزات الدولة القابلة للحياة ، فما بالك بالدولة ذات السيادة بحدود الـ 67 وعاصمتها القدس .. 2 – على الوضعية غير المتكافئة بين طرفي " مسودة إتفاق الوضع الدائم " بما تنطوي عليه من تنازلات فلسطينية ، وفي سياق التقدير الخاطئ ، للوضع السياسي عموماً ، تترتب مجموعة من النتائج التي تؤثر سلباً على الوضع التفاوضي الفلسطيني فضلاً عن الحقوق الوطنية : التنازلات الفلسطينية المتضمنة ستكون ملزمة لأصحابها في أية مفاوضات لاحقة ، والنص المعتمد سيكون في كل الأحوال هو السقف الذي سيُضطر المفاوض الفلسطيني للقبول بما هو أدنى منه . وبالمقابل ، فإن الجانب الاسرائيلي سيعيد التفاوض على تلك القضايا التي تعتبر مقبولة فلسطينياً . أبعد من هذا .. التنازلات الفلسطينية الواردة في وثيقة جنيف ستكتسي وتكتسي بالفعل قيمة معيارية على المستوى الخارجي في التعاطي مع الحقوق الفلسطينية سواء في سياق المفاوضات أو بمعزل عنها . وآخر دليل نقيمه على ذلك هو التوضيحات الأميركية التي حاولت أن تعيد ما تضمنه " وعد بوش " ( 14/4/2004 ) من نهش بالحقوق الفلسطينية ( ضم كتل الإستيطان المركزية ، إلغاء حق العودة .. ) أيضاً إلى سوابق القبول الفلسطيني بقاعدة " تبادل المناطق " ( الذي يقود إلى القبول بضم كتل الإستيطان ) وبمقترحات كلينتون لحل قضية اللاجئين ( التي تنضوي على إلغاء حق العودة ) ، كما حصل في غير مناسبة ( مفاوضات كمب ديفيد ، طابا ، تصريحات رسمية فلسطينية ، وثيقة جنيف .. ) . وبهذا المعنى ، فإن وثيقة جنيف تقدم تصوراً على مستوى مراكز التأثير في صناعة السياسة الدولية وفي المجتمع الدولي بالعموم، يرسخ القناعة بأن حلاً يقوم على التنازلات الفلسطينية ( ضم أراضي ، تقسيم القدس ، عدم الإعتراف بحق العودة .. ) هو أمر يمكن القبول به وبالتالي ممكن التحقيق .. حتى لو شكلت هذه التنازلات تجاوزاً على قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي ، باعتبارها مقبولة ومدعومة من جهات فلسطينية رسمية نافذة ومقتدرة . وبنفس الإتجاه أيضاً ، فأن مشروعاً كهذا ( وهذه سلبية أخرى تضاف إلى مثالب مبادرة جنيف ) يشيع مناخاً زائفاً بإنفتاح الأفق أمام التقدم نحو التسوية الدائمة ، في وقت تكون الأمور بذروة تعقيدها في المسار الفعلي للسياسة ، ما يصرف الأنظار عن معالجة تعقيدات الوضع القائم وتعزز النزوع الخارجي ( عربياً ودولياً ) للتساهل في التصدي للإنتهاكات الاسرائيلية اليومية باعتبار ان ثمة حلاً شاملاً في المهداف قابل للولادة في المدى المرئي . بيّنة إضافية وذات دلالة على بلوغ المسار السياسي ذروة التعقيد ، وقوف شارون في مؤتمر هرتسيليا السنوي ( بعد 18 يوماً من إعلان وثيقة جنيف ) ليقدم الخطوط العريضة لما بات يدعى لاحقاً بخطة "فك الإرتباط" أحادي الجانب ، القائمة على تجميد المسيرة السياسية التفاوضية ( أي شطب البحث بأي من عناوين وثيقة جنيف ) بدعوى عدم وجود "شريك فلسطيني" . ( 4 ) بعد كل ما ذكر يطرح نفسه منطقياً السؤال التالي : ماذا كانت إعتبارات مركز القرار في السلطة لإطلاق الإتصالات والتحركات التي أفضت إلى وثيقة جنيف؟ الجواب ورد ، في غير مناسبة، على لسان أصحاب المشروع أنفسهم ، وإن بخلط ( متعمد ! ) بين الإعتبارات بمختلف أبعادها ، المختلقة والوهمية والآنية .. 1 – الإعتبارات المختلقة تحاول الترويج للمبادرة إنطلاقاً من كونها " متقدمة على خطة خارطة الطريق" من حيث إحتواءها على تفصيلات لقضايا حساسة وشائكة كالقدس واللاجئين والمستوطنات"( )، أو بصيغة أكثر حذلقة : " لماذا ( هذه الوثيقة ) الآن ؟ لكي نعزز دور "خارطة الطريق" . الخارطة إطار عام يحمل عنواناً واحداً ، وهو إقامة دولة فلسطينية عام 2005 ، من غير أن يعيّن حدود الدولة وعاصمتها وسيادتها على أرضها . نحن أعطينا المشروع ( أي "خارطة الطريق") من خلال هذا الاتفاق كل التفاصيل وكل الحلول الوسط "( ) . وكما لا يخفى على أحد ، لا سيما من هو في موقع اصحاب هذا الكلام ، لم تكن مشكلة "خارطة الطريق" في إفتقاد القضايا المذكورة إلى التفاصيل باعتبارها قضايا شائكة . وهي بالفعل شائكة ، لكنها لن تكون مطروحة إلا في المرحلة الثالثة والأخيرة من الخطة .. مشكلة "الخارطة" أنها لازالت خطة مجمدة ، لم تجتز مرحلتها الأولى اصلاً وظلت خارج التعاطي السياسي لانها علّقت منذ إعلانها ( أي قبل شهور من مسودة اتفاق جنيف – البحر الميت ) على الشروط الـ 14 الاسرائيلية المتبناة أمريكياً والتي تنسف "الخارطة" بالأساس .. فتصبح الأولوية ، والحال هكذا ،ومن موقع من وافق رسمياً على خطة "خارطة الطريق"، ليس " تعزيز دورها " بتفصيل عناوين مرحلتها الأخيرة ، بل تعويمها وتوفير شروط إطلاقها وتأمين إجتيازها لمرحليتها الاولى والثانية .. الأمر الذي بقيت اللجنة الرباعية الدولية دونه حتى اللحظة ، فاستدارت لتتبنى خطة "فك الإرتباط" الشارونية ( بعد إدراجها شكلاً وتلاعباً في سياق "الخارطة" كمرحلة أولى على طريق تنفيذها! ) التي تلغي العملية السياسية التفاوضية ، تبعاً لأوساط الحكومة الاسرائيلية نفسها وفي المقدمة "خارطة الطريق" . 2 – الاعتبارات الوهمية التي تقدر " أن للوثيقة وظيفة سياسية ، من أجل تأليف جبهة مشتركة فلسطينية – اسرائيلية تتصدى لمشروع شارون العنصري ، ولها وظيفة بعيدة المدى أيضاً ، وهي إعادة الاعتبار إلى خطة السلام الفلسطينية .. وهناك فرصة اليوم لإنشاء جبهة مشتركة فلسطينية – اسرائيلية تدعم حلاً متوازناً ، لا حلاً يقوم على إلغاء الآخر وشرطاً لتحقيق الهدف الوطني الخاص . وهذا الأمر ينطبق على الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني"(2) . هنا يثير الاستهجان بداية ، تلك المغالطة الفظة التي تضع الجانب الفلسطيني على قدم المساواة مع الجانب الاسرائيلي بافتراض تبنيه " لحل يقوم على الغاء الآخر وشرطاً لتحقيق الهدف الوطني الخاص ، وهذا الامر ينطبق على الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني " .. بينما الصحيح هو ان البرنامج الفلسطيني المعتمد رسمياً والمقر شرعياً والمتبنى شعبياً هو الحل المتوازن ( ولا نقول العادل ) الذي يعترف بالآخر ، لكن بشرط التسليم بالحقوق الفلسطينية في إطار التسوية السياسية وبنتيجتها . وذلك على الضد من الموقف الاسرائيلي الذي مازال يتنكر للحقوق الفلسطينية بوجهة الانتقاص وصولاً إلى التصفية ، ليس فقط في قضية اللاجئين التي يسودها الإجماع الصهيوني ، بل أيضاً في قضايا القدس ، والمستوطنات ، والحدود والسيادة . وعلى هذا المستوى التمايز بين الليكود والعمل هو في الدرجة وليس الكيف . وإذا وضعنا جانباً هذه المغالطة التي تنتقل إلى موقع " الآخر " لتنافقه ، فهي ليست موضوعنا في هذا البحث ، نصبح أمام التالي : ثمة من يعتقد أنه توجد فرصة " اليوم " لإنشاء جبهة مشتركة فلسطينية – اسرائيلية لدعم الحل المتوازن ، ما يستدعي تلقائياً سؤال عن سبب عدم نشوئها بعد مضي عام على البحر الميت – جنيف . وكما سبقت الإشارة ، الجواب بمتناول اليد : ضعف معسكر السلام في اسرائيل الذي لا تساعده المبادرات المشتركة على غرار جنيف ( رغم مكاسبها الاعلامية ) ، ناهيك عن الجبهة المشتركة العتيدة (!) على إستنهاض أوضاعه . وهذه من المشكلات الهامة المطروحة على الإنتفاضة التي يفترض إنتصار أهدافها أيضاً دوراً مؤثراً لمعسكر السلام في المجتمع الاسرائيلي . 3 – الإعتبارات الآنية هي الإعتبارات الحقيقية التي تقف وراء موقف مركز القرار في السلطة للإنخراط في مسار جنيف – البحر الميت : " المبادرة تقول هناك شريك فلسطيني وجاهز بما في ذلك الشريك الرسمي "( ) بكلام آخر ، في الوقت الذي تدعي الحكومة الاسرائيلية بدعم من واشنطن ان لا شريك فلسطيني لاستئناف المفاوضات ( بدعاوى أمنية وغيرها .. ) ، تأتي مبادرة جنيف لدحض هذه الحجة " المتهالكة " ، وخطوة – يراهن على تأثيرها – على طريق رد الإعتبار إلى مرجعية الموقع الرسمي الفلسطيني في العملية السياسية المأمول استئنافها . المشكلة في هذا المسعى ليست في طموحه بل في أسلوبه وما ينطوي عليه من تنازلات سياسية ذات مغزى في قضايا الوضع الدائم وبوجهة التقدم نحو ملاقاة شروط المحتل قبل بدء المفاوضات الحقيقية ، وذلك في سياق عملية إفتراضية ممسرحة خارج سياق المجرى الفعلي للحركة السياسية . وتكون النتيجة المخيّبة المضي في إنكار وجود هذا الشريك والإستمرار بالتعامل معه باعتباره غير ذي صلة وينبغي إزاحته والتخلص منه .. أبعد من هذا ، لا تكتفي حكومة الإحتلال وخلفها واشنطن باتخاذ موقف حيال موقع بعينه ( الرئاسة الفلسطينية ) ، بل تتجاوزه إلى ما هو أشمل بطرح مسار سياسي آخر ( خطة فك الارتباط ) ينتقل من شطب الشريك إلى شطب المفاوضات بالأصل . إنخراط السلطة الفلسطينية في عملية جنيف – البحر الميت مثال على المناورات التكتيكية ضيّقة الأفق المحكومة باعتبارات آنية واهية تستهدف نقطة بعينها ( رد الإعتبار للشريك وتحريك المسار السياسي ) ضمن تقدير أن إدراكها يطلق دينامية تمتص سلبية ما قدم بلا مقابل ، وإذ بالعملية ترسو على نتيجة عكسية : مراكمة في خانة التنازلات المجانية تستغل كسابقة أخرى لتشديد الضغط على الموقع الفلسطيني . ويبقى الحصار حصاراً بالمعنى المادي كما السياسي للكلمة . ( 5 ) 1 – " مسودة إتفاقية الوضع الدائم " كناية عن ديباجة و 17 مادة( ) وخارطة للضفة الغربية وقطاع غزة وأخرى للبلدة القديمة في القدس . وما يسترعي الإنتباه لدى الإطلاع على الوثيقة أمران : على عكس الإنطباع الذي حاول أصحاب مبادرة جنيف – البحر الميت إشاعته عن احتوائها " كل التفاصيل وكل الحلول الوسط "( ) التي لم تتناولها "خارطة الطريق" ، أبقت " مسودة إتفاقية الوضع الدائم " على عديد القضايا والنقاط بلا تحديد ، إذن مفتوحة على .. مفاوضات لاحقة ، مكررة تجربة إتفاق أوسلو الذي كثرت فيه البنود التي يقتضي كل منها إتفاقاً على حدة . وفي السياق : 1- تم النص على الملحق (×) 55 مرة (!) في الوثيقة ( منها 6 خرائط وجدول واحد ) باعتبارها مادة لمفاوضات لاحقة * 2- تم إيراد ثلاث مواد بالعناوين فقط [ المادة 12 ( المياه ) ، 13 ( العلاقات الإقتصادية ) و 14 ( التعاون القانوني ) ] ومن بينها المادة 12 حول المياه التي يفترض أن تغطي موضوعاً خلافياً من الطراز الأول تعمل اسرائيل بدأب منذ العام 67 على حسمه لصالحها بوضع اليد على الأحواض المائية في الضفة الغربية ، ومن هنا نشرت المستوطنات على خط الأحواض * 3- نظراً لاهميتها وحساسيتها البالغة تم تجنب تقديم صياغة قانونية محددة للمادة 17 ( بنود ختامية ) مع الإكتفاء بالإشارة الواضحة لفكرتها: " وتشمل ( أي المادة ) بنداً ختامياً ينص على إصدار قرار من مجلس الأمن في الأمم المتحدة ومن الجمعية العمومية في الأمم المتحدة يتبنيان الإتفاقية ويلغيان قرارات للامم المتحدة السابقة". وبإمكاننا أن نتصور حجم التعقيدات التي ستواجه الصياغة النهائية لهذه المادة ، رغم وضوح فكرتها، التي ستلغي مبنى قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة لصالح إتفاقية – كما هو حال مشروع جنيف – لا تقدم حلاً للمسألة الوطنية الفلسطنية بكل جوانبها . تحتل أربع مواد مساحة واسعة ( 77% ) في الوثيقة: المادة 4 عن الأراضي – بما في ذلك الحدود والمستوطنات والممر ( 8% ) ، المادة 5 عن الأمن ( 25% ) ، المادة عن القدس ( 23% ) والمادة 7 عن اللاجئين ( 21% ) . وإذا كان من طبيعة الأمور ان تتقدم هذه القضايا – لأهميتها – على غيرها ، فالملفت للنظر هو " تضخم " المادة حول الأمن ( ربع الوثيقة ! ) ، وكذلك تمركز 78% ( 43 من 55 ) من إشارات الملحق (×) في المواد المذكورة بما فيها بند الأمن ( 18 إشارة من أصل 55 ، أي 33% ) الأمر الذي يقود إلى استخلاصين : ثمة تركيز على القضايا التي يكون الضغط فيها عادة على الجانب الفلسطيني لتقديم نتازلات .. لكن ، حتى هذا التركيز والتوسع في النص لم يلغِ الحاجة إلى مزيد من الإحالات بواسطة الملحق (×) إلى جولات تفاوضية لاحقة . 2 – " مسودة إتفاق الوضع الدائم " وثيقة ناقصة غير مستكملة المواد والبنود ، أيضاً ، بسبب إندراج الملحق (×) عشرات المرات في النص ، ليس في أمور فرعية أو تقنية ، بل غالباً في قضايا هامة وأحياناً جوهرية .. أمور تستدعي أسئلة وتطرح مشكلات سيجد الجانب الفلسطيني صعوبة بالغة في إجابتها وحلها ، لا سيما في العناوين الرئيسية ( الأراضي ، الأمن، القدس ، اللاجئون ) إلى جانب قضايا أخرى : أ ) في الأراضي ( المادة 4 ) : * كيف سيتم ترسيم الحدود بين الدولتين ( 4/أ ) * ما هي صلاحيات الدولة الفلسطينية فيما يتعلق بتولي السلطة على المستوطنات ( 5/د) * ما هي الممتلكات غير المنقولة التي ستبقى في المستوطنات ( 5/هـ ) * كيف سيقوم الجانب الفلسطيني بإدارة الجزء المتعلق به في الممر الذي يربط غزة بالضفة ( 6/أ ) .. ب ) في الأمن ( المادة 5 ) : * ما هو السلاح الذي سيسمح لقوات الأمن الفلسطينية بحيازته ( 3/ب ) * ماذا سيكون حجم وتكوين وهيكلية القوة متعددة الجنسيات وكيف سيعين قائدها (6/ب) * كيف سينشر المراقبون الدوليون في المناطق القريبة من الحدود (6/د3) * ما هو الجدول الزمني للأخلاء الاسرائيلي من المناطق الفلسطينية (8/أوب) * كيف ستكون تركيبة القوة الفلسطينية التي ستتوضع في منطقة محطتي الإنذار (8/هـ) * ما هي التفاصيل المتعلقة بتدريبات سلاح الجو الاسرائيلي في المجال الجوي الفلسطيني (9/ب1) * وكذلك الأمر بالنسبة لتحديد شكل تقسيم المجال الألكترومغناطيسي بين اسرائيل والفلسطينيين (10/ب) * ما هي تفاصيل الترتيبات الحدودية (12/ح) * كيف ستنظم سيطرة قوات الأمن الفلسطيني على الحدود (13/أ) .. ج) في القدس ( المادة 6 ) : ما هو أسلوب استخدام وتفعيل الهيئة الاستشارية للاديان (1/ب) * ما هي تشكيلة ، بنية ، صلاحيات ومهام التواجد متعدد الجنسيات داخل الحرم (5/أ2) * ما هي المواقع المحددة التي ستشرف عليها قوة شُرطية خاصة في البلدة القديمة وبموجب أية إجراءات عملية (7/ب2أ) * كيف سيتم تحديد خريطة نفق الحائطالغربي (10/أ).. و) في اللاجئين (المادة 7) : كيف تحدد الاقساط الاسرائيلية في التعويض عن الممتلكات الفلسطينية (9/د) * كيف يتم تحديد هيكلية وطريقة تمويل صنوق التعويض عن اللجوء (10/أ) وما هي آلية التنفيذ (11/ح) * كيف يمارس اللاجئون حقهم في استئناف القرارات التي تؤثر عليهم بموجب آليات هذه الإتفاقية (11/ح6) .. ه) في ترتيبات استخدام طرق محددة ( المادة 9 ) : كيف يستخدم المدنيون الاسرائيليون طرق محددة في الدولة الفلسطينية دون الإجحاف بسيطرة وولاية الجانب الفلسطيني ( 1و3 ). ز) في المواقع ذات الأهمية الدينية (المادة 10) : ما عدا الحرم الإبراهيمي (الخليل)، قبة راحيل (بيت لحم) ومقام النبي صموئيل ، لا تحدد " مسودة الإتفاق " المواقع الأخرى ، الأمر الذي يحولها إلى موضوع تجاذب ساخن ( هل تشمل ، مثلاً ، مقام النبي يوسف في نابلس .. ) ، لا سيما في ضوء النزوع الاسرائيلي المعروف والمبالغة بالإدعاء في هذا المضمار ، من موقع الطمع وفي سبيل السيطرة الكولونيالية بحجج توراتية وغيرها .. فيما عدا ذلك ستطرح العقد التالية : كيف يتم بلوغ المواقع ذات الأهمية الدينية (1) ، بما في ذلك في المناسبات الخاصة والأعياد (7) ، وكيف تتم حمايتها وتسهيل عملية زيارة المقابر (7) .. ط) في السجناء والمعتقلين الفلسطينيين ( المادة 15) : فرز المعتقلين إلى فئتين أ و ب ربطاً بما سبق وأعقب تنفيذ إتفاق أوسلو (4/5/94) يقود ، مرة أخرى ، إلى التسليم بالقاعدة الاسرائيلية القائمة على الاقتصاص من مناضلي الإنتفاضة والمقاومة الذين تصدوا للانتهاكات الاسرائيلية للحقوق الفلسطينية ( الإستيطان ، تهويد القدس وقلب الخليل ، ضم الاراضي .. ) التي تعاظم شأنها بعد هذا التاريخ بالتحديد . ومن هنا رفضنا ، من حيث المبدأ ، لهذا الفرز " التأديبي " . إلى هاتين الفئتين تدرج المادة 15 فئة ثالثة من المعتقلين بصيغة غير موضحة وبدون تحديد معياري ، بدعوى " الحالات الاستثنائية " التي نعرف تماماً أنها تشمل " مقاتلي الحرية " الذين تصنفهم دولة الإرهاب المنظم ( برموزها التي قادت وشاركت في إرتكاب مجازر ما زال صداها يترجع حتى يومنا ) في خانة " الملطخة ايديهم بالدماء " . وإذا أخذنا بالاعتبار حساسية قضية المعتقلين فلسطينياً والإجماع الوطني والشعبي على الإفراج الفوري عنهم ودونما تمييز ، لأمكن تصور مدى الخلاف الذي سينشب حول هذا الموضوع عندما ينتقل إلى الحيّز العملي . 3 – وثيقة جنيف – البحر الميت ، على عكس الإنطباع الذي حاول اصحابها بثه ، مسودة إتفاقية ناقصة وغير مستكملة المواد والبنود ، الأمر الذي لا يُعزى إلى ضيق الوقت بعد أن صُرف أكثر من سنتين لإنجازها ( في شهر 10/2003 ) وبعد أن فشل لقاء الأردن بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي ( في شهر 8/2004 ) من استكمال الصياغة وتعبئة فراغات المشروع . المشكلة ، كما هو معروف ، ليست عند الجانب الاسرائيلي الذي يتأبط – في كل لقاء – صياغاته الجاهزة ، بل عند الجانب الفلسطيني الذي يتردد ويحجم لسببين : 1- لانه يدرك ان صيغة الحلول الوسط المنبثقة – من المفاوضات المستأنفة ( حتى في أحسن حالاتها ، وباعتبارها محكومة بمنطق النص الذي تحقق وبالتالي ستكون مُضطرة للإنسجام معه ككل ) ستنطوي على تنازلات إضافية لا يستطيع أحد إعتمادها بعد ردود الفعل الفلسطينية القاسية عليها ، رسمياً وشعبياً . 2- أن الوظيفة التكتيكية الضيقة لهذه المناورة التي كانت تراهن مقابل التنازلات المقدمة على استئناف العلاقة مع الشريك الفلسطيني ، قد استنفذت أغراضها وفشلت بعد اصطدامها بجدار خطة " فك الإرتباط " أحادي الجانب المدعومة أمريكياً . ( 6 ) يؤكد مشروع الإتفاق إلتزامه بقرارات مجلس الأمن ( 242 ، 338 و 1397 ) ، لكنه يستدرك ( كما في اتفاق أوسلو ) بالتأكيد على أن ما يتم الإتقاق عليه بين الطرفين هو " التطبيق الكامل لهذه القرارات"( ) . لذلك ينص المشروع في إحدى مواده( ) على ضرورة أن يتم إعتماده من قبل مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة ، وأن " يلغيا " كل ما صدر عنهما من قرارات تتعلق بالصراع الفلسطيني – الاسرائيلي بحيث يتحول الإتفاق نفسه إلى المرجع الوحيد والأخير لحل النزاعات بين الطرفين ، تطبيقاً للمبدأ الاسرائيلي المعروف : ما يتفق عليه المتفاوضون هو المرجع الذي يرسم للفلسطينيين حقوقهم الوطنية ، وليس القانون الدولي أو قرارات الشرعية الدولية . وإنسجاماً مع هذا ، ما يختلف عليه الطرفان في سياق تفسير الإتفاق أو تطبيقه يُفض بآليات تحكيم( ) ليس لأي من مؤسسات الأمم المتحدة أو هيئاتها المعنية صلة بها . لقد شكل القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية – ضمن خصوصية القضية الوطنية – سلاحاً داعماً لمطالب الفلسطينيين . وكما علّمت التجارب المرة ( ومنها إتفاقات أوسلو ) ، فإن أي قطع مع هذا العمق ، يعزز منحى " إستفراد " اسرائيل بالفلسطينيين ويؤدي للإجحاف بحقوقهم . من هنا إصرار الجانب الاسرائيلي تضمين الإتفاق مادة خاصة( ) تفيد بأن تنفيذه سيؤدي إلى " تسوية جميع مطالب الطرفين " و " لا يمكن لأي من الطرفين أن يتقدم بمطالب إضافية " . إن وظيفة هذه المادة تتحدد بقطع الطريق أمام أي مطلب وطني فلسطيني سيطرح نفسه بقوة بقدر ما تبتعد التسوية عن مضمون الحل المتوازن الذي يلبي بشكل حقيقي مصالح شعب يتعرض ، منذ أكثر من ثمانية عقود ، إلى عدوانٍ متمادٍ . الخط المحكم الذي يربط بين الفقرات المذكورة (من الديباجة إلى المواد 1 ، 16 و 17) يظهّر فكرة محورية عند الجانب الاسرائيلي تمسَّك بها بإصرار في مشروع إتفاق " ناقص " واستطاع فرضها على نظيره الفلسطيني : الإتفاق هو النص الوحيد . إنه النص الأخير ، فلا مطالب من بعده ، ولا مرجعية سواه . أما الإصرار على إنهاء المطالبات ، فلا يخاطب سوى الجانب الفلسطيني باعتباره صاحب الحقوق المغتصبة الذي يناضل لاستردادها : في استقلال وطن أرضه محتلة ( وليس " متنازعاً عليها")، وفي عودة لاجئين شردوا من ديارهم ( وليس " إختيار مكان سكن دائم للإقامة " ) . من هنا خطورة طرح الموضوع وكأن " إنهاء المطالبات هو أمر متبادل "( ) ، ليس من الجانب الاسرائيلي كما قد يتهيأ للبعض ، بل من نظيره الفلسطيني في إتفاق جنيف – البحر الميت الذي تبناه " بإعتباره شرطاً فلسطينياً"(2) ومن موقع من " أراد أن يضع أعلى درجات الضمانات "(3) للحقوق الوطنية (!) .. ولعله أمر بالغ الدلالة ذلك النص في الأتفاق الذي ، في موضوع اللاجئين ، لا يملك سوى التصريح بالمخاطَب في مسألة إنهاء المطالبات ، باعتباره الطرف الفلسطيني ، ولا أحد سواه: " تنص هذه الإتفاقية على حل دائم وشامل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين ولا يجوز رفع أية مطالب بخلاف تلك المتعلقة بتنفيذ هذه الاتفاقية " ( المادة 7/7 ) . أما لماذا خص الاتفاق مادة اللاجئين ( تحديداً وحصراً ) بالإشارة المباشرة إلى وقف المطالبات ، على خلاف المواد الأخرى التي لا تفتقد إلى تنازلات ذات شأن حيث أُكتفي باعتبار أن المادة 1 تسري عليها تلقائياً ؟ - لسببين على الأقل : من جهة لأنهم كتلة موصوفة ومحددة من الشعب الفلسطيني تشكل 60% من تعداده ، تجمعها على تعدد مناطق لجوئها وتباين ظروفها ، قضية واحدة ذات خصوصية وأهمية وحساسية بالغة ( فلسطينياً وإقليمياً ) . ومن جهة أخرى لأن الأتفاق يقدم حلاً تصفوياً " ناجزاً (صريحاً وبلا رتوش) لقضية اللاجئين، من المؤكد أنه لن يغلق الملف ، بل يفتح على استئناف الصراع على مستوى آخر .. فكان لا بد من " تحصين " المادة 7 عن اللاجئين ، تخصيصاً ببند قاطع في وضوحه نصاً ومضموناً ، لجهة عدم جواز " الاستئناف " في هذا الموضوع . ( 7 ) 1 – في المادة 7 الخاصة بقضية اللاجئين لا يتحدث الإتفاق عن حق العودة على الإطلاق بل عما يسميه " إختيار مكان سكن دائم للاقامة " ، استجابة غير مشروطة للموقف الاسرائيلي الذي ينظر إلى قضية اللاجئين على أنها مجرد بحث عن " سكن دائم " لمن تحتم الظروف تغيير أماكن سكناهم . لذلك لم يكن غريباً أن يرد في الوثيقة ما يؤكد أن الأولوية في ذلك تعطى للاجئين المقيمين في لبنان . وفي هذا إشارة واضحة أن لا مشكلة تتعلق باللاجئين في غزة أو الضفة الغربية ( باعتبارهم فلسطينيين مقيمين على أرض دولتهم ) أو المقيمين في الأردن ( باعتبارهم مواطنين أردنيين يقيمون على أرض دولتهم أيضاً ) أو المقيمين في سوريا ( باعتبار أن عوامل دمجهم في المجتمع السوري متوفرة بما فيه الكفاية ) . ويقدم الإتفاق في هذا السياق حلاً مزعوماً من خمسة خيارات : " .. أ) دولة فلسطين .. ب) المناطق في اسرائيل التي يتم نقلها إلى فلسطين من خلال تبادل الأراضي ، بعد خضوعها للسيادة الفلسطينية .. ج) دول ثالثة .. د) دولة اسرائيل .. هـ) الدول المضيفة الحالية .. "(المادة 7/4) . وفي واقع الحال ، فإن هذه الخيارات تضيق في مجرى التطبيق العملي لتبرز الأرجحية الحاسمة للخيار هـ ، أي بقاء اللاجئين حيث هم مع استثناءات محدودة أهمها لبنان.. وفي مجال استعراض الإحتمالات الأخرى يتبيّن ما يلي : * خيار ج " يظل خاضعاً للقرار السيادي للدول الثالثة بموجب الأعداد التي تقدمها كل دولة ثالثة للمفوضية الدولية .. "(المادة 7/4-2) * الخيار د" يظل خاضعاً للقرار السيادي لدولة اسرائيل .. "(المادة 7/4-3) العائشة في رُهاب النمو الديمغرافي الفلسطيني( ) والمنحكمة لأولوية " الديمغرافيا المعاكسة " كما سبقت الإشارة * أما الخيار ب ( المطروح في سياق تبادل الأراضي ) فهو خيار إفتراضي ( وباهظ التكلفة على أية حال ) ، لأن ممره الإجباري سيكون الدولة الفلسطينية (الخيار أ) التي لن تمكّن من ممارسة حقها السيادي الطبيعي في استقبال أبناء الشتات من مدخلين : الأول هو نص الإتفاق( ) الذي يبيح لاسرائيل أن تبقى على وجودها في معابر الركاب لمدة أربع سنوات ونصف السنة(!) ، مما يتيح تعطيل الدخول إلى أراضي الدولة بذرائع شتى ليس أقلها حماية الأمن الاسرائيلي. وفي هذه الأثناء تكون المفوضية الدولية قد إنتهت من ترتيبات مكان الإقامة الدائمة للاجئين( ). والثاني هو المنحى الضاغط اسرائيلياً لتقويض مرتكزات الدولة المستقلة القابلة للحياة ( من خلال تقليص المساحة ، الكنتنة ، الحرمان من الحدود الخارجية ..) ضمن خط " الديمغرافيا المعاكسة "للتسبب بهجرة مواطني الدولة العتيدة ، ناهيك عن إلغاء إحتمال استقبال الوافدين إليها . يلتف إتفاق جنيف – البحر الميت على حق العودة ليسقطه بالنتيجة من خلال ثلاث خطوات متكاملة : أ) استبدال حق العودة للاجئين بحقوق اللاجئين . ب) تعريف حقوق اللاجئين بخيارات بين حلول. ج) تطبيق الخيارات يلبي الحقوق ، ويتحقق ذلك بموجب المادة 7 من الإتفاق . وباعتماد هذا الاسلوب يتم نيل موافقة الجانب الاسرائيلي على إدراج القرار 194( ) (أو غيره .. ) ، طالما مرجعية المادة 7 هي التي تحدد مضمون القرار وآلياته ، بصرف النظر عن مدى التوافق أو الإنسجام مع بنوده . استبدال " حق العودة بحقوق اللاجئين " يعني مقاربة المسألة من زاوية سياسية عملية ، بدلاً من تناولها بمنطق القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية وإعلان حقوق الإنسان . وعندما تحل المقاربة الأولى مكان الثانية ، وتُحيّد مفاعيل الشرعية الدولية ويعطل ضغطها الحميد ، يتقدم طرح " مغتصب الحق " في المفاوضات الثنائية ويتعزز موقعه .. أن المقاربة السياسية – العملية في قضية اللاجئين هي مقاربة اسرائيلية تخدم طرحها الذي يسود الإتفاق عندما يرجح خيار التوطين ( والتهجير، الذي هو توطين في مكان آخر ) ، ذلك أن خيار اللاجئين بشأن مكان أقامتهم ليس خياراً حراً إلا بحدود " التعبير عما يفضلونه "( ) . أنه – في حقيقة الأمر – " خيار مدروس "( ) تحدده في نهاية المطاف المفوضية الدولية . 3 – المقاربة القائمة على " استبدال حق العودة بخيارات بين حلول " – إضافة إلى ماذكر – سمحت لاسرائيل بتحقيق مكاسب كبرى في مسألتين بالغتي الاهمية : الأولى ، تتصل بالمسؤولية الأخلاقية والتاريخية عن نشوء قضية اللاجئين ( التي حسمت ولم تعد موضع جدل حتى في البيئة اليهودية داخل اسرائيل وخارجها بعد كل ما كشف على يد " المؤرخين الجدد " ) . هنا نجح الإتفاق في تقديم نص يخلو تماماً من أي ذكر لهذه المسألة ولم يأتها من قريب أو بعيد . وبالمقابل أفرد 4 فقرات كاملة ( في المادة 7/14 ) للبحث بعنوان " برامج المصالحة " على مستوى مؤسسات المجتمع المدني " لتبادل الروايات التاريخية وتشجيع التفاهم المتبادل بشأن الماضي .. وتسهيل التبادل بغرض إغناء فهم كل طرف لرواية الطرف الآخر في مجالات التعليم الرسمي وغير الرسمي .. " . وهكذا تحول إحدى أكبر مآسي اللجوء( ) في التاريخ المعاصر ، إن لم يكن أكبرها كونها جمعت بين المعاناة الإنسانية المديدة وخسارة الكيان والهوية الوطنية ، إلى روايات تاريخية متبادلة في سياق إغناء الفهم المتبادل بين .. الجلاد والضحية ، بين من إغتصب الأرض و .. من شرد منها ومنع من العودة إليها .. الثانية تتصل بملف التعويض . هنا نجح الجانب الاسرائيلي في دفع المسؤولية عنه وتحويلها إلى المفوضية الدولية واستحداث صناديق قصر فيها مساهمته على الحد الأدنى ضمن التبويب التالي : 1- تعويض الدول المضيفة حيث أكتفي ( المادة 7/11-و ) بنص واعد : " سيكون هناك تعويض للدول المضيفة " . 2- التعويض عن اللجوء ، حيث أُكتفي ( المادة 7/10 ) بالإشارة إلى صندوق تساهم فيه اسرائيل دونما تحديد لحجم المساهمة ، مع إحالة الأمر إلى الملحق (×) فيما خص هيكلية وطريقة تمويل الصندوق . 3- والتعويض عن الممتلكات الذي ستكون مساهمة اسرائيل فيه على شكل " مبلغ مقطوع " ( المادة 7/9-ج ) " تخصم منه قيمة الأصول الاسرائيلية غير المنقولة في المستوطنات التي سيتم نقلها إلى دولة فلسطين .. " (المادة 7/9-هـ). 4- وبالمقابل تم تجاهل كامل للأراضي والممتلكات العائدة للفلسطينيين الذين بقوا بعد النكبة في الوطن كحاملين للجنسية الاسرائيلية. 4 – بعد التنصل من المسئولية التاريخية والأخلاقية عن نشوء قضية اللاجئين والمساهمة المقلة ( لا سيما بعد مقاصة الأصول غير المنقولة في المستوطنات ) في صندوق التعويض ،وفي إطار تعميق المنحى التصفوي لقضية اللاجئين ، جرى تحصين المادة 7 بالإنهاءات الأربعة التالية : إنهاء وضعية / مكانه اللاجئين : : يتم إنهاء وضعية ( مكانة ) اللاجئين الفلسطينيين فور تحقيق مكان الإقامة الدائم للاجئ حسبما تحدده المفوضية الدولية " ( المادة 7/6 ) . إنهاء المطالبة ( بشكل عام ): " تنص هذه الإتفاقية على حل دائم وشامل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين ولا يجوز رفع أية مطالبات بخلاف تلك المتعلقة بتنفيذ هذه الإتفاقية " ( المادة 7/7). إنهاء المطالبات المالية : " بعد المساهمة الاسرائيلية على شكل " مبلغ مقطوع " للصندوق الدولي ، لا يجوز بعدها إثارة أية مطالبات مالية أخرى بخصوص مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ضد اسرائيل " ( المادة 7/9-ج ) . إنهاء وكالة الغوث : " .. بالتدريج في كل بلد تعمل فيها ، على أساس إنهاء وضعية اللاجئين في ذلك البلد .. ويجب أن تصفي الأونروا أعمالها في غضون خمس سنوات من بدء عمليات المفوضية " ( المادة 7/13 ) . بالانهاءات الأربعة تكون مسودة إتفاقية جنيف قد أدت قسطها للعلا .. وبمساهمة نشطة من الفريق الفلسطيني المشارك الذي تبنى المادة 7 التصفوية لقضية اللاجئين بدعوى الحل العملي والواقعي لهذه القضية وفي سياق أن قيام دولة مستقلة هو الضمان لكل الفلسطينيين ولحقوقهم الوطنية( ) ، وضمن تقدير بإمكانية إنجاز تسوية تقوم على مقايضة الدولة المستقلة بمساومات وتنازلات " واقعية " و " مدروسة " على / وعن عدد من مكونات القضية الوطنية . وفي مقدمة القضايا التي يجوز التنازل فيها بدون " حرج " أو " تمويه " ، قضية اللاجئين كونها آيلة إلى تقادم ، ولا تستند – ودائماً على تقدير هذا الفريق – إلى حركة منظمة تدافع عنها وتصونها . غير أن ردة الفعل الشعبية المستنكرة والشاجبة للإتفاق وتنازلاته بما فيه التفريط بحق العودة ، بيّنت على نحو جلي خطأ هذا النمط من التفكير . ( 8 ) تربط اسرائيل بين أولويتين تتصدران لائحة مطالبها : " حق اسرائيل بالوجود كدولة يهودية والتنازل عن أي حق في العودة إلى اسرائيل "( ) . وإذا كان إتفاق جنيف – البحر الميت قد لبّى المطلب الثاني بالتنازل القانوني وليس السياسي فحسب عن حق العودة ، فماذا حول الإعتراف باسرائيل كدولة يهودية؟ علماً ان المطروح في هذا السياق ، كما هو واضح ، ليس إعترافاً متبادلاً بين دولتي فلسطين واسرائيل ، الأمر الذي أورده الإتفاق بنص صريح( ) ، بل إعتراف بالطابع الديني – القومي لهذه الدولة بما يتجاوز نطاق مواطنيها اليهود ليشمل معتنقي اليهودية في العالم . الجواب هو : إتفاق جنيف لم يقتصر على إعتراف متبادل بين دولتين . ولم يكتفِ بالإعتراف _ في الديباجة – بحق الشعب اليهودي في دولة( ) ، بل تخطى ذلك إلى الإعتراف باسرائيل وطناً للشعب اليهودي( ) ( في اسرائيل والعالم ) وليس فقط دولة لهم . ما يعني أن اليهود لم يتشكلوا فقط في كيان سياسي من خلال دولة اسرائيل ، بل هذه الدولة أطرت شعباً كان – بالأصل وقبل شتاته – مولوداً في وطنه ( هو الذي قامت عليه دولة اسرائيل ) . من هنا إصرار اسرائيل، فيما يتجاوز الإعتراف بها كدولة ذات سيادة ، الإعتراف ايضاً بهويتها ، بطابعها القومي – الديني . وبهذا يزكي الإتفاق من خلال النص على الهوية القومية – الدينية " للوطن والدولة " معاً من جهة، المرتكز الايديولوجي للقانون – المفتاح في المشروع الصهيوني للدولة ، قانون العودة (لعام 1950) أساس سياسة التمييز والتفرقة والفصل والإقصاء تجاه الأقلية الفلسطينية في اسرائيل . ويصب هذا الإتفاق من جهة أخرى ، في مجرى هذه السياسة العنصرية المتبعة التي إرتفعت وتيرتها على نحو ملحوظ في السنوات الأخيرة بدعاوى الخطر الديمغرافي الذي ينفخ فيه بشكل مفتعل( ) والذي يجد – أحياناً – لدى بعض المسئولين في السلطة الفلسطينية تفهماً له(!) .. ورغم تأكيدات الجانب الفلسطيني بعكس ذلك : " كنا حريصين على نص واضح بأن كون اسرائيل دولة ذات طابع يهودي لا يجب أن يجحف بالحقوق المتساوية لجميع المواطنين في هذه الدولة ونقصد بذلك هذا الجزء من الشعب الفلسطيني الذي بقي صامداً على أرض وطنه"( ) .. نقول، رغم هذه التأكيدات فمن الواضح أن التناقض بين يهودية " الدولة والوطن " من جهة والمساواة في الحقوق بين المواطنين باعتبارهم أفراد – مواطنين وليس أفراد منتمين إلى مجموعة قومية – دينية بعينها من جهة أخرى ، لا يعالج بصياغات مدروسة كهذا الكلام . وكذلك لا يعالج بمفهوم " الدولة اليهودية الديمقراطية " المستخدم في اسرائيل التي تسعى بكل الوسائل لتحفيز الهجرات اليهودية من العالم وتسن القوانين الرامية إلى مصادرة " أراضي الدولة " لصالحهم وحرمان الأقلية الفلسطينية من هذا الحق وغيرها من الإجراءات التمييزية على قاعدة عنصرية التي يضيق المجال بها .. وأخيراً ، ثمة سمة ملازمة لهذا الإتفاق شأنه شأن أي مقاربة تتعامل مع الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني على قاعدة التجزئة ، وهي أن إجحاف الإتفاق بهذه الحقوق هو حاصل إجحاف مركب بين العام والخاص ( أي مكونات حق تقرير المصير ) ، ومن ضمن الخاص تجمعات موصوفة كاللاجئين، وفلسطينيي الـ 48 .. وإذا كان ليس من مشتملاتنا المسؤولية عن نضال أبناء الـ 48 من أجل المساواة بالحقوق السياسية والمدنية والديمقراطية .. ، فمن المؤكد أنه ليس من حق أي جهة فلسطينية أن تقدم على تنازلات تجحف بحقوق هذا الجزء من شعبنا ، دون التشاور والإتفاق ، بأقله ، مع ممثليه السياسيين حول الخطوط الحمر التي ينبغي التقيد بها . ( 9 ) دولة فلسطينية مستقلة بحدود الرابع من حزيران ( يونيو ) 1967 ، مع بعض التعديلات الحدودية المتبادلة على قاعدة التساوي في المساحة والنوعية( ) التي لا تتجاوز 2.3%( ) مع ضمان السيادة( ) . هذا ما يدعيه فريق جنيف الفلسطيني مستشهداً بنصوص الإتفاق، محتسباً ذلك في خانة الإنجاز الوطني(!) .. إن شيئاً لا يضاهي زيف هذا الإدعاء الذي يسهل دحضه بقراءة متأنية وغير مجتزأة للنص تربط بين مختلف مواده وفقراته ، من موضوع السيادة إبتداءً الذي يفقأ العين لشدة تمادي صياغته في الإتفاق على مفهوم السيادة بالذات وعلى مدى إنتهاكها ، حيث لا يمكن قراءة الفقرة حول " السيادة وعدم المساس بحرمة الأراضي " (المادة4/2) بمعزل عن المادة 5 حول الأمن التي تلتهم وحدها 25% من مساحة الإتفاق كما سبقت الإشارة . إن طرفي الإتفاق يتحايلان على موضوع سيادة الدولة الفلسطينية على أرضها ، فيستبدلان عنوان السيادة بعنوان آخر هو الأمن . وفي هذه المادة بالذات يلاحظ أن كل ما جاء فيها يستهدف توفير الأمن لدولة اسرائيل وحدها دون غيرها ، ويضع أمن الدولة الاسرائيلية في تناقض مع السيادة الوطنية الفلسطينية وعلى حسابها مسقطاً عن الدولة الفلسطينية حقها في السيادة على أراضيها . وبمعزل عن عديد التفاصيل المعبّرة ، نقرأ في الإتفاق أربعة عناوين رئيسية تضعنا بوضوح أمام دولة منقوصة السيادة : 1 – لا جيش بل قوات أمنية تحت المراقبة : " .. فلسطين دولة لا تحتفظ بجيش ولكن تحتفظ بقوات أمن قوية .. وهناك قيود على الأسلحة التي يمكن شراؤها أو إمتلاكها أو استخدامها أو التي يجري تصنيعها في فلسطين .. " ( المادة 5/3-ب ) . ويرسم الإتفاق مهمات قوات الأمن الفلسطينية ، وينيط بقوة متعددة الجنسيات مراقبة أداء هذه القوات لواجباتها. 2 – القوات المتعددة ، بصلاحياتها ودورها الميداني ، هي الإطار المرجعي للمستوى الفلسطيني : بحسب المادة 5/6 تعمل القوة متعددة الجنسيات " كقوة ردع " و " يتم نشرها في دولة فلسطين " ، و " نظراً إلى طبيعة الدولة الفلسطينية كدولة لا تملك جيشاً ، تقوم بحماية سلامة أراضي دولة فلسطين " ، و " تنفذ المهام على المعابر الحدودية الدولية الفلسطينية "( )، و" تقوم بمراقبة حفظ قوات الأمن الفلسطينية لسيطرتها على الحدود( ) وتتحقق من ذلك " ، و"تنفذ المهام المتعلقة بمحطات الإنذار المبكر " ، و " تساعد في تطبيق إجراءات مكافحة الإرهاب " .. وأهم ما يلفت الإنتباه في هذا السياق أنه " لا يمكن سحب القوة متعددة الجنسيات أو تغيير تفويضها إلا بموجب إتفاق بين الطرفين"، ما يعني تمتع اسرائيل بحق النقض وإستمرار القوة متعددة الجنسيات بنفس المهام ( لاعتبار عدم تغيير تفويضها ) بسقف زمني مفتوح . 3 – استمرار الحضور الأمني والعسكري المباشر لاسرائيل على مساحة الدولة الفلسطينية من خلال( ) : 1- "محطتين للإنذار المبكر في شمال الضفة الغربية ووسطها في المواقع الواردة في الملحق (×) حيث تقع مسؤولية الأمن الداخلي الداخلي في المحطتين على عاتق اسرائيل "، على أن " تخضع الترتيبات الواردة للمراجعة بعد عشر سنوات .. وبعدها ستجري عمليات مراجعة كل خمس سنوات يمكن عبرها تمديد العمل بالترتيبات الواردة بعد الحصول على موافقة الطرفين"* 2- " تبقي اسرائيل على وجود عسكري مصغر على غور الأردن" * 3- " حق سلاح الجو الاسرائيلي استخدام المجال الجوي الفلسطيني الذي تتمتع فلسطين بالسيادة عليه لأغراض التدريب* 4- التواجد بأشكال مختلفة في المعابر الحدودية الدولية على مساري الركاب والبضائع والشحن . 4 – التوجه لإقامة نظام أمن إقليمي : العناوين المشار اليها وغيرها ، بما تنطوي عليه من إنتقاص مكشوف للسيادة ، تندرج في إطار مخطط دولة يجري تأهيلها ، ما أن تتأسس ، للإضطلاع بدور ملحق من أجل إقامة نظام أمن إقليمي بإدارة أمريكية – اسرائيلية مشتركة . من هنا النص الواضح " لعمل الطرفين سوياً لإقامة نظام أمن إقليمي " (المادة 5/2) . أما في المدى المباشر ، وفيما يتعلق بملف الإرهاب ، فيُكتفى بأن " يتم تشكيل لجنة أمنية ثلاثية الأطراف تتكون من الطرفين والولايات المتحدة لضمان تطبيق هذه المادة . وتقوم اللجنة الأمنية الثلاثية بصياغة سياسات وتوجيهات شاملة لمحاربة العنف والإرهاب " ( المادة 5/4 ). إن التوجه لإقامة نظام أمن إقليمي هو الأساس عند الجانب الاسرائيلي ، وعلى الدولة الفلسطينية أن تقبل بانتقاص سيادتها لتماشي هذا التوجه باعتباره شرطاً لازماً للتقدم نحو النظام الأمني العتيد . ومن هذه الزاوية فإن تعديل العمل ببعض البنود ( المتجاوزة على السيادة ) يصبح محتملاً بعد قيام نظام أمن إقليمي وليس قبله( ) . هذا هو الرد الواضح على من يحاول تسويغ القبول بانتقاص السيادة كونه ترتيباً إنتقالياً ليس إلا : إنه إنتقالي – كاحتمال – بقدر ما يقود إلى نظام أمن إقليمي بالسيطرة الأميركية – الاسرائيلية . وبالمقابل هو دائم – على نحوٍ مؤكد – طالما لم يتم إدراك هذا النظام . بالمحصلة ، إتفاق جنيف – البحر الميت يجرد الدولة الفلسطينية من علاماتها السيادية ، ودوماً بذريعة توفير الأمن لدولة اسرائيل ، ليس إستناداً إلى مبادئ القانون الدولي والمواثيق الدولية التي ترسم العلاقات بين الدول بل إستناداً إلى مفهوم اسرائيل لأمنها ، كما تصوغه هي، والذي يفرض في السياق على الدولة الفلسطينية أن تلتزم هذا المفهوم وموجباته وآليات صونه والحفاظ عليه ضمن رؤية استراتيجية تضع نصب الأعين إقامة نظام أمن إقليمي يكون لها (وللولايات المتحدة) اليد الطولى فيه . ( 10 ) إتفاق جنيف لا ينص على خط الرابع من حزيران (يونيو) 1967 كحدود بين دولتي اسرائيل وفلسطين ، بل كأساس لهذه الحدود . وينطلق الإتفاق من هذا الاساس لإدخال ما يسميه " بعض التعديلات الحدودية المتبادلة على قاعدة التساوي في المساحة والنوعية " . وأخيراً لا يربط الإتفاق بين الإنسحاب والحدود التي ستقوم بين الدولتين ، ما يعني أن مدى الإنسحاب لا يطابق خط الحدود . وبالفعل فإن المادة 4/3 تتناول الإنسحاب الإسرائيلي باقتضاب شديد : " تنسحب اسرائيل وفقاً لأحكام المادة 5 " ، أي إلى أحكام الفقرة 5/7 بالتحديد المتعلقة بالجلاء التي لا تأتي على تحديد مدى الإنسحاب ولا تعيّن خطه ، فهو لا يطابق الحدود بين الدولتين بحكم استمرار الوجود العسكري الاسرائيلي على أرض الدولة الفلسطينية ( محطتي الإنذار ) وحدودها الشرقية ( الغور) والمعابر الحدودية الدولية . الأمر الذي تلحظه المادة 6/7-أ على أية حال ، التي تتكلم عن استثناء عدد من المنشآت العسكرية من الإخلاء ، تاركة تحديدها إلى الملحق (×) مرة أخرى. اللافت أيضاً في مسألة الإنسحاب أنها تصمم مراحله المختلفة بموجب عدد من المبادئ (المادة 5/7-ج) من بينها " قدرة اسرائيل على نقل المستوطنين وإسكانهم واستيعابهم .. " لما تنطوي عليه " هذه العملية من تكاليف وصعوبات " ، ما يفتح على إحتمال عدم التقيد بالمراحل المرسومة ، رغم الإستدراك اللاحق بأن هذه الصعوبات " يجب ألا تستخدم كذريعة لإعاقة الإنسحاب " . هذه عيّنة عن تنازلات أقدم عليها بخفة فريق جنيف الفلسطيني وراء دخان كثيف من الإدعاء باستعادة ما يساوي المساحة الكاملة لما أحتل عام 67 ، حيث – على زعمه - لم يتجاوز الفارق بين " كامل الأراضي" و" كامل المساحة " نسبة 2.3% إنحكمت لقاعدة تبادل الأراضي على قاعدة 1:1 ، وهي أفضل نسبة تحققت في المفاوضات التي جرت حتى الآن . وحتى لو وصفت هذه الأراضي المتبادلة بالحدودية في محاولة لإثارة إنطباع مضلل بطرفيتها ، وهي ليست كذلك على أية حال ، إلا إذا قبلنا بإدراج القدس ضمن هذا التوصيف (!) ، فإن مجرد القبول بمبدأ تبادل الأراضي هو تنازل فادح ، لا تقتصر مفاعيله على استدراج الضغط على الجانب الفلسطيني ، بل أيضاً على تسهيل إقامة وقائع من أجل تمرير مخطط الضم الاسرائيلي لما يسمى بالكتل الاستيطانية المركزية ( ومنها القدس عملياً ) سواء إندرجت هذه العملية في سياق تبادلي أم لا ( خطاب ضمانات بوش في 14/4/2004 ) . من جهة أخرى ، وبالعودة إلى الخارطة المرفقة التي توضح تطبيق هذا " التبادل " يلاحظ أنه مقابل أجزاء من أراضي صحراء النقب لتوسيع قطاع غزة شرقاً ومقابل أجزاء من الأرض التي ضمت صحراء الخليل شرقاً ، فإن الجانب الاسرائيلي استولى على أجزاء من الضفة الفلسطينية تمتد من قلقيلية جنوباً ( على طول خط الرابع من حزيران ) وصولاً إلى القدس ، وكذلك استولى على أجزاء من الضفة تقع في محيط القدس ، وشمال بيت لحم ، وفي المنطقة الواقعة شرقي جنوب بيت لحم . وهي المناطق التي تمتد فيها التجمعات الكبرى للمستوطنات الاسرائيلية . إن نظرة سريعة على طبيعة الأرض " المتبادلة " وموقعها الاستراتيجي ، وخصوبتها تبيّن زيف ما يدعيه الإتفاق من " تساوي في المساحة والنوعية " . فمنطق الأمور يفيد ان فكرة " التبادل " هي في الأساس اسرائيلية ، وأنه ما كان لهذه الفكرة أن تولد أساساً لولا أنها تصب في خدمة المصالح الاسرائيلية . وهو ما يجدد التأكيد أن فكرة " التبادل " هذه ما هي إلا تمويه على الموقف الاسرائيلي الرافض من حيث المبدأ الإنسحاب إلى حدود الرابع من حزيران . من هنا لا ينص الإتفاق على أن تخلي اسرائيل كافة المستوطنات ، بل يتناول الإخلاء والتسلم والتسليم والسيادة الفلسطينية إما بصيغ عامة ، أو بإحالتها إلى ملحق لم تتم صياغته بعد . ويكتفي الإتفاق بالحديث عن " المستوطنات التي ستنقل إلى السيادة الفلسطينية " ، ما يعني أن ثمة مستوطنات لن تنقل إلى السيادة الفلسطينية وربطاً بما سبق من إتفاق على تبادل للأراضي. ( 11 ) 1 – إدعاء إستعادة كامل الأراضي المحتلة على قاعدة أن ما يؤخذ من أرض الـ 67 يعوّض بالتساوي مساحة ونوعاً من أراضي الـ48 ، يتهافت أيضاً بكشف صيغة الحل الذي قدمه الإتفاق لمدينة القدس الذي يكرس منحى الضم الاسرائيلي عملياً ، ويشدد الخناق على القدس الشرقية وأحيائها العربية بالذات . وكمدخل حل للبحث نستعيد المعطيات التالية : " تبلغ مساحة بلدية القدس الشرقية الموسعة 71كم2 ، منها 7.5كم2 للفلسطينيين ، ( أي 10.5% بما فيها البلدة القديمة ومساحتها 1كم2 ) . والباقي يعود ، بفعل مراكمة سياسة المصادرة والتهويد والإستيطان على مدار أربعة عقود ، إلى المستوطنين بما فيه : 25كم2 أقيمت عليها 8 مستوطنات ( حوالي 180.000 نسمة ) ، و 35كم2 سميت بالمناطق الخضراء لا يُسمح للعرب السكن أو البناء فيها . وقد تم تخطيط مواقع المستوطنات والمناطق الخضراء بحيث تتداخل مع الأحياء العربية وتفصلها عن بعضها البعض ، وتعزلها عن محيطها في الضفة الغربية . وإحكاماً لعزل سكان القدس الشرقية العرب ، الذي يعدون حوالي 180.000 نسمة ، عن الضفة الغربية والعالم ، أحاطت اسرائيل بلدية القدس الشرقية الموسعة بطوقين من الكتل الاستيطانية على مساحات اضافية منهوبة من أراضي الضفة الغربية : طوق " القدس الكبرى " ( 330كم2 ) ، وطوق " حاضرة القدس " ( 665 كم2 ) . ويسكن كتل المستوطنات في الطوقين نحو 60.000 اسرائيلي ، وأراضيها تعتبر بمثابة إحتياط ضخم للتوسع الاستيطاني . وترتبط كتل المستوطنات هذه فيما بينها بواسطة الطرق الإلتفافية المحظور استعمالها على غير اليهود والتي شُقت في أراضٍ منهوبة ، كما تم وصلها بالشوارع المسماة إقليمية ومشاريع " النجوم " التي أقيمت في منطقة اللطرون "( ) . كذلك تعمد اسرائيل إلى إقامة كتل استيطانية داخل الأحياء العربية ( رأس العامود – جبل الزيتون – جبل المكبر – وادي الجوز – الشيخ جراح ) لمنع إقامة تواصل جغرافي عربي داخل حدود بلدية القدس الحالية . وكذلك عمدت إلى إقامة شارع الطوق الذي رسم الحدود الشرقية للمدينة لفصلها عن الضفة الفلسطينية . وتعمل اسرائيل على ملء الفراغات بين الكتل الاستيطانية عبر الوصل ما بين المستوطنات الواقعة خارج نفوذ بلدية المدينة وبالتالي تحويل هذه المستوطنات إلى غلاف خارجي يطوق المدينة ويمنع تواصلها مع القرى العربية المجاورة ، وبالتالي يتحول التواصل السكاني هو الآخر إلى حزام يطوق المدينة شرقاً . ويلعب " الجدار " بدوره دوراً مكملاً ، إذ من وظيفته في هذه المنطقة منع التطور السكاني في القرى العربية ، عبر إحداث فراغ سكاني وجغرافي من الناحية الشرقية نتيجة هجرة سكان القرى العربية باتجاه مناطق أخرى ، بعدما عطل " الجدار " إمكانية العيش في قراهم الحالية . 2 – هذه الإجراءات في القدس ومحيطها رسمّها إتفاق جنيف في مادتين : في المادة الخامسة المتعلقة بالأرض والحدود اشار إلى مناطق الاستيطان المحيطة بالقدس ( بما في ذلك مشاريع النجوم في منطقة اللطرون ) ، سوف تضم إلى اسرائيل في نطاق ما سمي بتبادل الأراضي . والمادة السادسة الخاصة بالقدس . ويتحدث الإتفاق في هذا الجانب ، عن القدس باعتبارها ذات أهمية دينية وثقافية ، فيخرجها في السياق من إطارها العربي الفلسطيني ، ليمنحها بعداً عالمياً"( ) ، ثم يلتف على هذا البعد، لصالح إبقاءها تحت السيطرة الاسرائيلية وسيادتها الكاملة عملياً ، ماخلا بعض الأحياء . أما عند تناول القدس "كعاصمة لدولتين"( ) ، فينتقل الحديث عن " المدينة " إلى الحديث عن " مناطق القدس " ( كما إنتقل الحديث في مسألة اللاجئين من حق العودة إلى حقوق اللاجئين التي هبطت إلى مستوى البحث عن مكان إقامة دائم ) ، أي باعتماد ذلك المنطق التفتيتي الذي يلغي الحق من أساسه ، فيحّول الحق باستعادة القدس الشرقية بحدود الـ67 إلى حقوق على أحياء منها . أما الحديث عن السيادة ( المادة 6/3 ) فيرد بصيغة : " تكون السيادة عن مدينة القدس وفقاً لما يرد في الخارطة 2 المرفقة .. " . وعند العودة إلى نص الإتفاق الموزع يتضح أنه يتضمن خارطتين: الأولى تبيّن المناطق المتبادلة بالنسبة للضفة وقطاع غزة ومناطق الـ48 . والثانية تبيّن تقسيم البلدة القديمة بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي . وعليه يقتصر تحديد موقع ومساحة عاصمة الدولة الفلسطينية على أحياء البلدة القديمة ( ومساحتها 1كم2 ) ، ولا يطول التحديد أحياء القدس الشرقية ( 6كم2 هي مساحة بلدية القدس الشرقية قبل الإحتلال ، بما فيه البلدة القديمة ) المستهدفة – كما نعلم– بمخططات وأعمال التهويد والاستيطان الجارية على قدم وساق . بالنتيجة نصل إلى التالي : 1- القدس عاصمة الدولة الفلسطينية كناية عن الأحياء غير اليهودية في البلدة القديمة وأحياء في القدس الشرقية غير محددة بدقة في نص الإتفاق لاعتبار الاستيطان القائم والتهويد الزاحف على الأرجح . القدس إذن ، لا تقتصر مساحتها على الأحياء العربية بل ما سيبقى منها بعد أن يستقطع الاستيطان حصته * 2- القدس ، عاصمة دولتنا ، " مدينة " مبعثرة على أحياء ، محاصرة وغير قابلة للنمو ، غير متصلة بمطارها ( قلنديا ) ولا بمحيطها ، وهي معزولة عن العالم الخارجي * 3- وبهذه الصيغة لن تكون القدس ذلك الكيان الحي المتماسك الذي يربط بين جبل نابلس شمالاً وجبل الخليل جنوباً والذي يضطلع حقيقة بدور عاصمة الدولة الفلسطينية . ما يقدمه الإتفاق ليس قدساً عاصمة للدولة الفلسطينية ، بل أحياء " مشلَّعة " غير ذات صلة بالمدينة التي أحتلت عام 67 مقابل " قدس اسرائيلية موحدة لم تكن يوماً في التاريخ بهذا الإتساع " ( على قول الجانب الاسرائيلي ) . من هنا ، فإن ما نص عليه الإتفاق من أن " يكون لكل طرف عاصمته في مناطق القدس الواقعة تحت سيادته " ، يكتسي – بالنسبة لكل طرف – معنىً مغايراً ، إذ مقابل القدس الاسرائيلية الموحدة الأكبر في التاريخ (!) ، يكون التخلي الفلسطيني عن الأراضي التي بنيت عليها المستوطنات داخل القدس ومحيطها وفي المناطق الخضراء .. هذا دون أن نغفل التخلي عن جميع الحقوق الفلسطينية في القدس الغربية التي اغتصبت عام 48 ضد الشرعية والقانون الدولي ( الذي كان يلحظ لها مكانه " الجسم المنفصل " بالإدارة الدولية ) والتي لم تكن ملكيته اليهودية لأراضيها تتجاوز الـ 15% .. في مقابل قدس – " الفكرة " ، المخنوقة وغير القابلة للحياة ، يجيز إتفاق جنيف – البحر الميت قيام " قدس كبرى " اسرائيلية قادرة على استيعاب موجات من الإستيطان اللاحق في قلب الضفة الغربية ( فالقدس قلب الضفة ، وبالتالي قلب الدولة الفلسطينية بكل المعاني ) . هذا هو الهدف الاستراتيجي الحقيقي للقدس اليهودية الموحدة على أنقاض القدس ، عاصمة الدولة الفلسطينية . 3 – ان الحديث عن القدس ، إلى فرادتها الروحية والتاريخية والثقافية المسلم بها ، هو حديث في صميم قابلية الدولة الفلسطينية للحياة . فالقدس بأماكنها المقدسة هي التي ستسهم بتوطيد مكانة الدولة المستقلة العتيدة على غير مستوى ، في العالم الإسلامي بخاصة ( بما في ذلك منظمة المؤتمر الإسلامي ) ، وكذلك المسيحي . هذه الأبعاد المتبناة فلسطينياً ضمن ثوابت الإجماع الوطني غابت عن أولويات الفريق الفلسطيني الذي قبل بأن تخضع القدس ( أرض بلدية القدس الشرقية الموسعة تحديداً ) لقاعدة التبادل غير المتكافئ الذي ينقل معظمها إلى السيادة الاسرائيلية . هذا بالنسبة للبعد الترابي ( بعد الإقليم ) . أما بالنسبة للبعد الروحي والتاريخي والثقافي الذي تجسده بشكل خاص الأماكن المقدسة ، فقد قبل الجانب الفلسطيني بإخضاع الإتفاق إلى نفس المنطق ، فكما السيادة على الأحياء بحسب هويتها السكانية ، كذلك السيادة على الأماكن المقدسة بحسب هويتها الدينية : " أن الأماكن الإسلامية والمسيحية هي تحت السيادة الفلسطينية والأماكن اليهودية هي تحت السيادة الاسرائيلية "( ) .. إن السيادة مصدرها الشعب وتجسدها الدولة ، وهي تعبير عن الهوية الوطنية . وما تبني منطق السيادة السياسية المستمدة من قدسية المكان بهوية دينية محددة ، سوى إنزلاق إلى المنطق التوسعي الصهيوني بدعاوى توراتية تهدف إلى التمدد – على أشلاء الدولة الفلسطينية – على كامل " أرض اسرائيل " (!) . إن المشروع الصهيوني استخدم ولايزال ما يعتبره إنتساب أماكن بعينها إلى التراث الديني اليهودي لتسويغ الاستيلاء على الأرض الفلسطينية ، ولنا جميعاً من تجربة إتفاق أوسلو دروس بليغة نتعظ بها ومن بينها تحول مقام قبر راحيل ( وهو في الوقت عينه مقام إسلامي وفيه جامع ومقبرة تعودان إلى مئات السنين ) إلى مرفق يهودي ديني متكامل على مساحة هائلة من الأرض الفلسطينية المصادرة ، تمسك بخناق مدينة بيت لحم . ولو سحب المنطق الذي قبل به الفريق الفلسطيني على استقامته ، لانطبق أيضاً ( وعلى سبيل المثال ) على الحرم الإبراهيمي في الخليل ذي الموقعية الروحية المركزية بالنسبة لمعتنقي الديانة اليهودية . الأمر الذي نجزم طرحه عندما ننتقل من طراوة العلاقات العامة إلى حقيقة علاقات القوى بين طرفين متفاوضين ، وهي حقيقة قاسية وباردة وعلى مسافة واضحة عن بهرجة السيناريو الإفتراضي الذي يمثله إتفاق جنيف . 4 – يعتبر الجانب الفلسطيني أنه مقابل الإعتراف بالسيادة الاسرائيلية على حائط المبكى( ) وخضوع مقبرة اليهود في جبل الزيتون( ) ونفق الحائط الغربي( ) للإدارة الاسرائيلية ، أقر الإتفاق السيادة الفلسطينية على الحرم الشريف( ) . والصحيح هو أن اسرائيل تلقت ايضاً بالمقابل وفيما يخص الحرم ( الذي اضيفت بجانبه ايضاً التسمية اليهودية : جبل الهيكل ) ما يسمى – بحسب القانون الدولي– " بالسيادة الباقية "(residual sovereignty) التي تقيّد ممارسة السيادة الفلسطينية بالموافقة الاسرائيلية على أعمال البناء والحفريات( ) . هذا إلى جانب النص الواضح على أن " المجموعة الدولية تقوم بمراقبة وتنفيذ البند ( المتعلق بالحرم ) والتحقق من تنفيذه والمساعدة في تطبيقه " ( المادة 6/5-أ-1 ) ، بما في ذلك " إنشاء تواجد متعدد الجنسيات داخل الحرم " ( المادة 6/5-أ-2 ) . طبعاً، بالإمكان الاسترسال بمناقشة تفصيلية لبنود المادة 6 حول القدس التي تنهمك أساساً بمعالجة قضايا البلدة القديمة من مدخل الإضاءة على أبعاد القدس المتعددة ( " العالمية التاريخية والدينية والثقافية .. " ) التي سرعان ما ينكشف طابعها الدنيوي جداً المتمثل بالطمع الاسرائيلي في ضم اقصى ما يمكن من أراضي الغير : بفرض سيادتها إن أمكن أو سيادتها المنقوصة أو سيطرتها الإدارية .. إن تعذر ذلك . وإن شقت السيادة الفلسطينية طريقها وإن بشكل محدود ، فإن اسرائيل تسعى إلى تفتيت هذه السيادة ، تجزئتها وتقييدها بالمرجعية الدولية على أمل التسلل من خلالها لمزيد من الإضعاف للحق السيادي الفلسطيني.. لكن هذه المناقشة ، على أهميتها ، لا تشكل إضافة جوهرية على حقيقة أن المشكلة فيما يقدمه الجانب الفلسطيني مدعياً إجتراح أفضل الحلول الممكنة، لا تكمن في مدى إقتراب صيغة الحل ( لهذا الموقع أو ذاك ) أو أبتعادها من مطالبنا الفلسطينية ، بل في أساس المقاربة التي سلمت بالتصنيف الديني للأماكن المقدسة مقياساً لتحديد السيادة . بينما المسلم به على أوسع نطاق عالمياً هو أن سيادة الدولة على أرضها لا تتجزأ . ومن هذا المنطلق فهي التي تضمن – طالما الأمر يتعلق بالأماكن المقدسة – كل ما يتعلق بحرية العبادة لأتباع جميع الديانات (freedom of worship).
( 12 ) أشاعت " مسودة إتفاق الوضع الدائم " إنطباعاً زائفاً عن إمكانية التوصل إلى تسوية تنطوي على تنازلات فلسطينية في قضايا جوهرية كان لا بد من اضفاء الصيغة الرسمية عليها بحكم الغطاء السياسي الذي حظيت به تحركات الوفد الفلسطيني ونتائج أعماله . اسرائيلياً ، لم تفضِ هذه المبادرة إلى أية نتيجة . فهي لم تفرج عن " الشريك الفلسطيني " الكامن، ولم تُقِل المفاوضات من الكبوة العالقة فيها منذ محادثات طابا ، ولم تشحن معسكر السلام الاسرائيلي بعوامل النهوض ، المتدرج بأقله ، لضعف فيه وإفتقاده لرؤية سياسية متماسكة بعد أن فشل خيار حزب العمل في كامب ديفيد ، فوجد نفسه منساقاً إلى ما يناقض أهداف مبادرة جنيف بوقوفه مؤيداً لخطة فك الإرتباط التي من بين أهدافها الرئيسية تجميد العملية السياسية وإعطاء شرعية لعدم التفاوض مع الفلسطينيين . فلسطينياً ، بيّنت التحركات الجماهيرية المعارضة لاتفاق جنيف في الوطن والشتات كم هي معزولة تلك الإتجاهات التي اعتقدت ، خطأً ، أنه مازال بمقدورها أن تمرر صيغ سياسية لا يفوق تنازلاتها المجانية سوى غموضها . وأبرزت استقلالية التحركات الجماهيرية عن الأطر والمرجعيات التي تتعاكس مع مطالبها الوطنية ، وقدرتها على بلورة أطرها الخاصة لا سيما فيما يتعلق بحركة اللاجئين . إن القراءة النقدية لاتفاق جنيف – البحر الميت لا تستهدف النص وحده وما يترتب عليه من تحركات ، بل ايضاً ذلك النهج السياسي والعقلية الواهمة التي تتحرك على نفس النسق . كما يستهدف اسلوب عمل شريحة من محترفي السياسة في السلطة الفلسطينية تستقوي بسلطة القرار والمنصب والمال ، لاتزال ترى في المفاوضات السرية والأقنية الخلفية بمعزل عن البرنامج المشترك وخطوطه الملزمة ، وبعيداً عن مشاركة الهيئات الرسمية في منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وائتلاف القوى والحركة الشعبية عموماً .. مازالت ترى في كل هذا أسلوباً ناجعاً في خدمة المناورات السياسية ضيّقة الأفق، مكشوفة الأهداف . ولعله ليس من باب المبالغة القول أن ردود الفعل السياسية والشعبية الحاسمة على مبادرة جنيف، مع الأخذ بالاعتبار إنعكاس الموازين الفلسطينية الداخلية على علاقات القوى قيادياً والظرف المستجد بشكل عام .. يخلق عقبات جدية أمام تكرار مناورات بائسة( ) من هذا القبيل تستعيض بالظل عن النور وبالصدى عن الصوت ، ويقيّد في كل الأحوال حركة هذه الفئة المحترفة . وإن صح هذا الإستخلاص، فسيكون من بين النتائج الهامة التي حققتها الحركة الجماهيرية عندما وقفت بحزم في مواجهة إتفاق جنيف – البحر الميت # مطلع تشرين ثاني/نوفمبر 2004
#فهد_سليمان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مؤتمر الحوار الوطني الثالث
-
الحوار الفلسطيني في القاهرة .. تقدم نسبي وبالإتجاه الصحيح
-
الوحدة الوطنية والمشاركة في القرار الوطني
-
الانتفاضة و المقاومة متلازمان و لا فصل بينهما
-
الانتفاضة في عامها الثالث استراتيجية استنزاف الاحتلال
-
الانتفاضة في عامها الثالث استراتيجية استنزاف الاحتلال
-
حملـة «السور الواقـي» بين النتائج ومتطلبات الصمود الفلسطيني
المزيد.....
-
العثور على مركبة تحمل بقايا بشرية في بحيرة قد يحل لغز قضية ب
...
-
وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان يدخل حيّز التنفيذ وعشرات
...
-
احتفال غريب.. عيد الشكر في شيكاغو.. حديقة حيوانات تحيي الذكر
...
-
طهران تعلن موقفها من اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنا
...
-
الجيش اللبناني يدعو المواطنين للتريّث في العودة إلى الجنوب
-
بندقية جديدة للقوات الروسية الخاصة (فيديو)
-
Neuralink المملوكة لماسك تبدأ تجربة جديدة لجهاز دماغي لمرضى
...
-
بيان وزير الدفاع الأمريكي حول وقف إطلاق النار بين إسرائيل ول
...
-
إسرائيل.. إعادة افتتاح مدارس في الجليل الأعلى حتى جنوب صفد
-
روسيا.. نجاح اختبار منظومة للحماية من ضربات الطائرات المسيرة
...
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|