|
بعد احتراق الأمس
أحمد الخراز
الحوار المتمدن-العدد: 4148 - 2013 / 7 / 9 - 17:36
المحور:
الادب والفن
كان فنجان القهوة الصغيريتأرجح بين أصابعها الدقيقة، ذات الأظافر الطويلة المصبوغة بطلاء أحمر بهت لونه،و صوت خافت ينبعث من المذياع يردد تقاطيع أغنية انجليزية مبهمة، كانت عيناها المتلألئتان تحدقان في أقصى الركن الأيمن للغرفة، و الذكريات الحالمة تموج في خيالها و تحجب عن عينيها الرؤية. هبت نسمة ريح قوية فجأة، فانفتحت النافذة قليلا،استيقظت من غفوتها الجميلة و أرسلت تنهيدة حارقة،حطّت على إثرها الفنجان، و همت بسرعة لإغلاق النافذة،كان الجو باردا و سحب الخريف تعكر صفاء السماء و تنتشر كفسيفساء مبعثرة، بقي وجهها ملتصقا بالزجاج لبعض الوقت، و قد تسللت من عينيها دمعة حارة متمردة حاولت إجهاضها لكن سرعان ما تلاحقت الدموع متتابعة كأنها ينبوع ماء حار تفجر للحظة،أحست بالرهبة و الخوف،فاسترخت على الكنبة الجلدية الباردة،ثم استلقت على السرير و قد غرقت في دموعها الفياضة، تخيلت وجه أمها المورد الجميل و السموح في لحظات الغضب و الانفعال،ثم زحفت صورة مشوهة أخرى لذات الوجه،فتأوهت و احتبست أنفاسها في جوفها..كيف تراه هذا الوجه الآن؟ما الصورة التي وصل إليها بعد شهرين تحت التراب؟ شعرت برغبة أكبر في البكاء، و بحاجة قصوى لضمة حنونة من صدر أمها..لم تستوعب هول الحادث الفجيع الذي التهم فيه الحريق روح و جسد أمها و أحرق سماحة وجهها و وضاءته، لقد رفضت الإيمان بأبدية الموت و حتمية الفراق... كانت الخواطر تتسابق في ذهنها كالخيول الجامحة و تتشابك ككوابيس آخر الليل، و جثة أمها المحروقة تتراءى أمامها مرارا و قد نالت النيران من تعابيرها الوديعة و حولتها إلى بقايا جثة غادرت قبرها توا و قد أقضت مضجعها روح شريرة.. ارتبكت أعصابها و تشنجت قواها، لعنت الأقدار و النار و ديدان القبر المتوحشة، و خاطر صغير يعبر مخيلتها: لماذا يا إلهي نخلق؟ أ من أجل الموت و الفراق، أم من أجل الألم و الحزن؟ لماذا احترقت أمي و احترقت معها كل الآمال؟ لماذا الاحتراق يا إلهي..لماذا؟ ألم تجد في ملكوتك غير هذه النهاية البشعة لحياة امرأة كانت تصلي لك خمس صلوات في اليوم؟ كم هي ظالمة مقاديرك يا إله؟ و استطردت بخفوت و حسرة: لقد بقيت وحيدة مثلك يا إلهي، أمي هناك بعيدا مع الموتى في ظلمات العالم السفلي، و أنت جالس على عرشك عاليا في السماء حيث الأنوار و الخلود..و أنا..هنا بين زوايا البؤس أتلوى من الوحدة و السقم..شعرت بالإثم الممزوج بالخوف..لعلها كانت ترمم جثة ضميرها أو بقايا إيمانها الغيبي، فالتطرف في الضعف غالبا ما يولد إيمانا ما..عجبت لجرأة خيالها، فانتفضت و هي تكفكف دموعها، و ألقت ببصرها باتجاه النافدة و تساءلت بريبة: هل يحاسبنا الله على خواطر شيطانية لم ينطق بها اللسان؟ ظل هذا السؤال معلقا يطاردها فتحسرت على أمها التي كانت تملك الإجابة على كل أسئلة ابنتها المدللة..فكرت أن تسأل أحد رجال الدين، لكنها خافت أن ينظر إليها على أنها شريرة، أشعلت سيجارة و يداها ترتعشان، وقفت بمحاذاة النافذة و تطلعت إلى السماء عبر الزجاج المضبب، نفثت الدخان الذي انطلق كسهم راح يتبدد بعد قليل، ثم قالت بصوت أجش أقرب للبكاء: "سامحني يا إلهي، سامحني..لكني لن أغفر لك قسوتك..أبدا" لم يعد لديها من يتضايق من تدخينها، أو ينقم عليها ذلك,أو يشفق عليها..هي الان وحيدة، ضائعة، حائرة، لا تعرف ما ينتظرها فالغد يحمل لها الكثير، و أمسها الدافئ رحل عنها دون رجعة، لقد احترق..كما احترقت أمها و احترقت معها كل الأشياء الجميلة بداخلها.. ساد الصمت فجأة، بعد أن تحولت كلمات الأغنية الانجليزية إلى خشخشات كئيبة، و علا صفير الرياح الخريفية المحملة بالغبار و قطرات مطر خفيف، أحدثت شبه طقطقات مزعجة على زجاج النافذة، التي انفتحت بقوة فتطاير رماد السجائر الهش من المنفضة، و تبعثرت أوراق الزهور الذابلة التي لم يبق منها غير أعواد جافة شاحبة تعلوها دوائر منكمشة مثل الجماجم.. تراجعت إلى الوراء بضع خطوات مرتجفة،ثم انسلت بصمت و اندست بهدوء في فراشها الوثير منكمشة الأطراف، كمحارب مهزوم يتلقى الضربات بجبن، تاركة للريح إعادة ترتيب الغرفة من جديد.
#أحمد_الخراز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ورد و خطايا
المزيد.....
-
رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل
...
-
-هاري-الأمير المفقود-.. وثائقي جديد يثير الجدل قبل عرضه في أ
...
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|