|
عن المثقف المتدروش و الديمقراطية المتمشيخة
عادل الرحالي
الحوار المتمدن-العدد: 4144 - 2013 / 7 / 5 - 01:22
المحور:
كتابات ساخرة
ان الناظر في المشهد الثقافي التونسي و في تقاطعاته السياسية يقف على بروز فئة من المشتغلين بالحقل الثقافي ممن يستجيبون لنموذج " المثقف المتدروش " وفق توصيف المفكر عزيز العظمه صاحب كتاب دنيا الدين في حاضر العرب و يقتضي تحديد هوية هذا " المثقف " النظر في طبيعته الاجتماعية الطبقية و في تركيبته الفكرية و الايديولوجية و آلياته الخطابية لا سيما و ان هذا الرهط الثقافوي هم أقدر الناس تمرسا بالتزييف و الخيانة لانهم الاكثر براعة على التبرير و المخاتلة . لقد أعلن المثقف المتدروش عن نفسه بعد ثورة 14 جانفي التي اقترنت في بعدها الانقلابي اللاتاريخي بتنامي الفكر التمامي و مقولاته الشمولية الاطلاقية و التي عبرت عن نفسها من خلال تنويعتين أساسيتين : الاسلام المسيس من ناحية و الاسلام الاصولي و الجهادي من ناحية ثانية و قد قدم المشروع التمامي بجناحيه نفسه كبديل خلاصي طوباوي لواقع اجتماعي / اقتصادي مأزوم بموجب ما خلفته ىسنوات الاستبداد النوفمبري إذ تم تجييش الفئات الاكثر تفقيرا و تصحيرا معرفيا في أحزمة البؤس المتاخمة للعاصمة و المحاذية لكبرى الحواضر التونسية و ضواحيها عبر" روحنة عنيفة " للمكبوت الجنسي و المكبوت الطبقي لهذه الفئات المهمشة و احتوائه على نحو ديني مسيس ميكيافيلي الهوى و الميول . و قد كان لبيوت العبادة دورا مركزيا في ذلك عبر خطباء محليين ذوي نزوع سلفي او اخواني و اعتمادا كذلك على استيراد مشائخ نفطيين مشارقة توازيا مع تدفق مالي خليجي قطري اساسا تم استثماره عبر الجمعيات ذات الواجهة الخيرية و القرآنية و الحقوقية و قد لخص بعض شيوخ الاستعراض/ " الشاو " الديني ذلك حين تحدث عن "اعادة فتح بلاد افريقية " التي جهلتها - في تقديره - المشروعات التحديثية - على قصورها وسطحيتها - لدولة الاستقلال . يحرص المثقف المتدروش على تقديم خطابه كخطاب وسطي يوهم بانه يضع مسافة نقدية بينه و بين الشأن السياسي و القوى المتصارعة فيه و حوله . و المتأمل في هذه الوسطية المتدروشة يقف بجلاء على أصولها التراثية فهي امتداد للإيديولوجيا الوسطية كما نعتها المفكر المصري الراحل نصر حامد أبو زيد إذ هي سليلة مقولة الكسب الأشعرية (الجبرية المقنعة ) بين اهل القدر و اهل الجبر على مستوى علم الكلام و الوسطية الشافعية (النقلية المقنعة ) بين اهل الرأي و أهل الاثر على مستوى علم اصول الفقه و التي انتهت الى نفي الرأي وذم الاستحسان العقلي على نحو دراماتيكي فاجعي توجتها الوسطية الغزالية كتوسط بين التصوف المذعن المهادن و الفقه السلطاني البلاطي فآلت بالثقافة العربية الاسلامية الى ما سماه محمد عابد الجابري بأزمة الأسس . و هي أزمة في الأسس عجز الخطاب الرشدي الفلسفي عن الخروج عن مكائد نسقها فأقام وسطيته على الإتصال بين الحكمة و الشريعة بما هي لها الاخت الرضيعة . و على ذلك فان الوسطية المتدروشة تضع نفسها كحالة توسط بين الخطاب الديني التراثي و مقولاته في السياسة الشرعية و الاحكام السلطانية و أدبيات مرايا الملوك من ناحية و الخطاب السياسي الديمقراطي و الفلسفة السياسية كما تشكلت داخل المشروع الثقافي الغربي ومرجعيته الأنوارية بأبعادها الانسانية التحررية من ناحية ثانية مستندة الى مصادرة تراثية مفادها "ان الحق لا يضاد الشرع بل يشهد له " وفق عبارة ابن رشد بعد أن تم بترها عن سياقها و اكراهاتها التاريخية . لذلك فإن "المثقف المتدروش" يتخذ موقعا متحيزا بشكل - غير معلن - ازاء مشهد الصراع بين القوى الحداثية على اختلاف تنويعاتها و بين قوى اليمين الرجعي ممثلة في الاسلام المسيس كرأس رمحها لا سيما وانه تحول الى موقع القرار السياسي بعد "غزوة الصناديق " . و يتخذ هذا التحيز شكل تقية تتمظهر في لغة خطابية مدارها الشرعية الانتخابية و الارادة الشعبية و ما جاورها في المعجم من تعبيرات فقدت طابعها السياسي الحقوقي ومنابتها في القانون الدستوري و أضحت أدخل في باب التخييل الشعري و الانفلاتات العاطفية الانفعالية مستدرجا من وراء ذلك خصومه الى ضرب من المقابسات مدارها الديمقراطية ظاهريا و جوهرها تبرير وضع التنفذ للاسلام المسيس و السعي الى تأبيده فهل نقول حينئذ ان المثقف المتدروش هو مثقف اخواني يتخفى خلف ستائر الحياد ؟ الواقع ان الحفر في تاريخية المثقف المتدروش في بعدها النفسي و الاجتماعي يكشف عن موقعه السوسيو- طبقي فهو عادة ما يقدم من الطبقة الوسطى ( ذات النزعة الانتهازية ) ومن إطار أسري محافظ يتسم بالحضور القهري لسلطة الاب بما تقتضيه خصائص البيئة الباطرياركية من استبطان او "دخلنة" لثوابت اجتماعية و اخلاقية و دينية تتحول بفعل النشأة و الزمن الى قيم مطلقة متلازمة مع وعيه بالاشياء و بالعالم حتى أنه من الصعوبة بمكان التخلص من اكراهاتها و التحرر من اثقالها و حيث يتماهى الاب الواقعي مع الاب الرمزي ممثلا في التراث الهووي التمجيدي في صورته الفقهية الغالبة . لقد قدم المثقف المتدروش الى المعرفة محكوما بطمأنينته الاجتماعية و ببرد يقينها لذلك فهو مثقف مهادن لأنظمة المعرفة السائدة تلك المتسربلة بلبوس ديني تقوي الامر الذي يفضي به الى اختزال مقولة الهوية في بعد واحد هو البعد المفارق مستجيبا للانا الميتافيزيقية المكينة التي تأسست كنسق مهيمن على الثقافة الاسلامية منذ عصر التدوين بما هو عصر دونت فيه الذاكرة استنادا الى عقل استرجاعي و اطر اسناد اقتفائية وفق قاعدة " لا يصلح أمر هذه الامة الا بما صلح به اولها " قد يقترب المثقف المتدروش من صورة كلب الحراسة بالمعنى الذي صاغه المفكر الفرنسي بول نيزان لكنها ليست حراسة مباشرة للطبقة المسيطرة وفق التقليد الماركسي بل هي حراسة للتراث التمجيدي المرسوم على نحو مخيالي في الوعي الجمعي و الذي هو في الاصل التراث التي حددته البيروقراطية الفقهية و مصالح ولاة الامور من ورثة طغمة الملأ من قريش . ان ما يلفت الانتباه هو رمزية هذا "المثقف " في المتخيل الشعبي و الذي تفصح عنه صفحات المواقع الإجتماعية فتقدمه في صورة "الجرذ " الحفار في مزابل التراث و بعيدا عن الاحكام الاخلاقية و المعيارية لهذا التوصيف نحاول النظر اليه باعتباره ينبثق عن الثقافة الشعبية - النقيضة للثقافة العالمة- تلك التي وجدت في رحاب الفضاء الرقمي مجالا للتعبيرعن هواجسها و رغباتها المقموعة و ذلك سعيا منا لتفحص دلالات هذا التوصيف الساخر . لقد قدرت الالهة و الطبيعة على حد سواء للجرذان ألا تكون من ذوات الاجنحة و ألا تكون من صانعات الاعشاش على غصون الاشجار الباسقة وفي اعالي الجبال الشاهقة انها ليست من فصيلة الاطيار الشادية و لا النسور الكاسرة المحلقة في الفضاء باطلاق انها وهي تحفر كهوفها و انفاقها لا تخرج الا لتعود اليها محكومة بعشق الظلام . أفلا يمكن حينئذ ان نتحدث عن الوعي النفقي الكهفي سليل ثقافة الكهوف و المغاور كما ترسخ في المأثورات السامية منذ كهوف انبياء العهد القديم و ما جاورها الى كهف الفتية شهود الزمن الخارق حيث يقبع يمليخا و كلبه قمطير و حيث يهمس مرنوش لمشلينا بعد ان عادوا الى الكهف " لا فائدة من نزال الزمن " وصولا الى كهف / مغارة علي بابا واهبة المدهش و العجيب و الخارق و الكلمة السحرية / الخالقة : "افتح يا سمسم" . و ما اسهل ان ينفتح السمسم ليخبرنا على لسان كهنة الشطح الفضائي بأن هذا الكشف العلمي او ذاك موجود على نحو ازلي في الالواح المحفوظة و المتون القديمة العابقة و القابعة هناك في متاهات مغارة علي بابا حيث تتضوع عطور الموتى و مباخر القرابين القديمة وحيث أنين القتلى تحت زخارف/ " أرابيسك " المنابر المقدسة و حيث جبة الحلاج ما تزال مبتلة برذاذ / دم وضوئه الاخير و حيث القيامة و القوامة وحيث تتلوى ثعابين العوالم السفلية بكل رعبها المحتمل و المؤجل . من تونس الشهيدة كما وصفها الشيخ عبد العزيز الثعالبي ذات مساء موغل في النسيان الى تونس الشاهدة على عهر ربيعها تتوسع رقعة الزيت و الموت الى حدود و أحراش جبال الشعانبي و لا عجب و الحال كذلك أن يأتي رجل من اقصى مضارب بدو الحجاز شيخا يعلم الناس أفانين تغسيل امواتهم فهل عاد الغراب ليعلم سكان بلاد افريقية كيف يوارون سوأة اعمالهم و خطاياهم تحت تراب الارض ؟ هل عاد حقا ؟ يا له من عهر معلن ... لم يعد ربيعنا انتظارا لاشراقة تموزية تبزغ من تحت ركام الارض استجابة لنداءات الحياة و نبضها الدافق بل اضحي ترويجا لثقافة الموت و الاكفان لقد تم تحويل وجهة شعب بأسره نحو الاخرة فأي جناية هذه على عتبات القرن الواحد و العشرين ؟ و للمثقف المتدروش أن يبرر ما يحدث في دولته المتمشيخة . فهل اتاكم حديث كبير الدراويش ذاك التونسي صاحب الكنية - و صاحب الفيلا العظيمة - " ابو يعرب المرزوقي " و طوبى للكنى في عصر تطور أنظمة توثيق الحالة المدنية و في عصر بلوغها ذروتها الرقمية . لم يعد يعرب ابنا لقحطان بن عابر من نسل سام بن نوح كما ترسخ عند النسابة العرب بل أصبح بعون الله و فضله من نسل المتدروش صاحب الكنية يترقرق من بين صلبه و ترائبه ذاك الفقيه المتدثر بعباءة الفلسفة لقد نذر مولانا فكره الوقاد لتعليل غياب التعليل عند جده / الحجة أبي حامد الغزالي – أنظر كتابه عن قانون السببية عند الغزالي – و ابتسم فانت في حضرة الفيلسوف المتدروش و حين يصير فعل التفلسف ليس أكثر من نقد السيقان البيضاء الناصعة لجميلات اوروبا الوافدات و حين تصير السياحة زناء مقنعا ..... للمثقف المتدروش مكره و للفلسفة دراويشها ّأيضا و لستائر الهلع ان تكشف عن عوراتها . منذ سقط مرسي عن الكرسي و صفحات دراويش الثقافة تثغو و تزبد لا حديث سوى عن الشرعية المغتصبة خطابات خنسائية ( نسبة للخنساء ) اشبه بالمراثي القديمة و كأنها تردد مع المهلهل : ناديتك يا كليب فلم تجبني و كيف يجيبني البلد القفار ؟ لا يحتاج الامر دروسا في القانون الدستوري و فصلا للخطاب في الحد ما بين الشرعية الصندوقية و المشروعية الشوارعية فتلك رقصة خارج أرضها لان الصناديق الزائفة لا تفعل سوى ان تغزل نسيج فنائها فلا معنى لديمقراطية بأحزاب مرجعيتها دينية او شوفينية او فوضوية . لها أن تحمل من الاسماء ما شاء لها دراويشها و كل الماسكين بركابهم و لنا ان نسميها لعبة الصناديق مثلا و لكنها لن تكون بأي حال من الاحوال ديمقراطية بالمعنى الذي تأسست به عند صناعها الاصليين لا معنى لصناديق من جنس القمقم تلقي فيها حفنة من تراب الارض معجونة بالعرق الآدمي فتخرج لك ماردا سماويا يريد اجراء مقادير السماء على لحم الموجوعين البسطاء من مواطني الكرة الارضية في الجزء الشمالي الاصغر من قارتها الافريقية هنا أين رجمت الكاهنة البربرية أول العرب القادمين من صحراء نجد . و للمثقف المتدروش أن يبكي صناديق العجب في أزمنة العجائب المتمشيخة المثقف المتدروش كائن نكوصي بامتياز مشدود لأفق إسنادي عنعني يرى الحقيقة معكوسة تستوجب ترحالا في سلاسل الرواة الذهبية إلى البعيد.....الهناك.....حيث الحقيقة مرسومة بريش نعام المتخيل الثقافي انه محكوم على نحو ابدي بنظرة للتاريخ كقصة سقوط و تهاوي " خير القرون قرني " لذلك فهو صانع اوهام تاريخية و ليس أبدا صانع و عي بالتاريخ و إن جعلته بعض القراءات يخرج عن ايدولوجيا الاصولية الثقافية الى ربيبتها ايديولوجيا الاصالة فإن خوفه من الحرية يظل أكثر من توقه لها لانه مسكون بثقافة الطواطم المطلقة و لأنه في الاخير إفرازا مباغتا للديمقراطية المتمشيخة لذلك فإن سقوطه يكون فور سقوطها . لا فكاك للمثقف المتدروش عن الدولة المتمشيخة . يقينا ان تونس الجميلة التي حلم بها ذاك الفتى الجريدي – نسبة الى بلاد الجريد في الجنوب التونسي - ابو القاسم الشابي لا تحتمل السباحة في لجج هوى عشقها و عشاقها ما دامت الشطآن محروسة بعسس الامير صاحب عصى الراعي و فتاوى رجاله المخلصين من دراويش الحداثة البعدية و ما بعدها. الا ان قدر التاريخ ان يظل مطلب زوال الدولة المتمشيخة وحيدة السماء و ربيبتها مطلبا انسانيا لانها علامة على تاريخ عربي اسلامي ما زال الى يومنا هذا تاريخا لا إنسانيا .
#عادل_الرحالي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سيدي الوزير
-
في الوداع الاخير
-
صمت على الأبواب
-
يساري
-
جارتي منيار
-
حكاية الطاغوت وسقوط ورقة التوت
المزيد.....
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|