عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4142 - 2013 / 7 / 3 - 11:29
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يدور حوار الطرشان اليوم بين أسلمة الحداثة أو تحديث الإسلام وفي العنوانين تعدي كبير على قيم الإسلام ومظاهر الحداثة فلا يمكن أن نصوغ حداثة إسلامية بمعزل عن وعي المسلمين بدينهم ,ولا ينفع أن نحدث الإسلام بمعنى خلق دين جديد أو ترميم ما لا يمكن أن يكون مسايرا للحداثة بقطع فكرية أو نظرية من قيم الإنسان ,ولأن كلا المحاولتين فيهما خطيئة تأريخية وفكرية وعقلية لا يمكن الإقرار بهما على أنهما حلول فلا حل يخرج من التوهم والخيال النظري, الحل في العودة للواقع بروح المسئولية والبحث بين طياته التي تكتنز ما هو جدي في لمعالجة.
الإسلام قام على فكرة أساسية هي فكرة الهدى للصراط أي للطريق لذي يوصل الإنسان لكمالاته البشرية لينفذ وظيفته في الأرض وكل ما جاء من لواحق من جزاءات ومغريات وحدود وقصص وأحكام تدور في فلك قضية الهدى التي ركز الله تعالى فيها حرية الخيار وجوهر النظرة الربانية للإنسان{وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ} الأعراف193,إذن الدين ليس إلا مظهر لهذه الإرادة وتجسيد لماديات وأليات تنفيذ الإرادة ,وهذه الإرادة إن كانت العلة من الإرسال الأول تبقى هي حيث هي بدون أن تتبدل لأن المعلول أصلا باق ولم يبلغ كمالية هذه الإرادة.
فالتحديث هنا موجود حيث وجدت الضرورة تحديث ذاتي ومتوالي وتراتبي هو من اليوم الأول وباق حتى تنتفي مسببات وعلل الإرسال بالبلوغ الإنساني الجمعي عندها يمكن لنا أن نتصور تحديث هذه الإرادة وتجديد للدواعي, ونظرا لأننا لازلنا في سيرورة الهدى نتخلف بمكان ونتقدم في مجال فلا يمكننا تحديث ما هو حديث وإلا عد عملنا عبثا لا طائل منه ولا جدوى من المناداة به.
الحداثة نظرية فكرية قبل أن تكون نظام شمولي للحياة تعتمد على مقاربة زمنية لمؤديات وضوابط حركة الفرد داخل مجتمعه تتطلب منه وعيا أصيلا بما في الزمن من قدرة على تغيير المفاهيم وتقود الحياة نحو التعجيل والمسارعة بتوازي مفترض بما يكون لا بما كان, الحداثة إذن فهم اجتماعي يطرح نفسه كمشروع يقود حركة الإنسان فرد ثم مجموع لكنه لا يستطيع أن يصنع مستقبل بدون الإنسان الواع والمتسلح بقيم تتفهم ضرورة الحداثة, تبقى القيم هي التي تصنع المستقبل وعلى هذه القيم أن تكون ديناميكية وقابلة للتجسيد بما فيها من روح أولا, وحيث وجدت هذه الروحية يمكن للحداثة أن تبسط قدرتها الطرح, الإسلام الرسالي كما بينا فيه روحية التمرد على الجمود لأن جوهره الهدى لا بد أن يأخذ طريقه مع بقاء الإنسان متخلف عن الامتثال لها.
لو نظرنا لأي فكرة تتطلب شرط لنموها المستمر أو للانطلاق في حركة ما ,بدون هذا الشرط لا يمكن ان نتوقع منها التحرك و الصيرورة بشكل أو بأخر ,مثل بذرة النبات تبقى حية وقادرة بالقوة ان تتحول إلى نبته بمجرد توفر شروط الإنبات ولا نتوقع أنه تحتاج لقوة اكثر مما فيها لتكون نبة ,الإسلام نبته فكرية ممكن أن تكون قادرة على أن تتحول لشجرة كبيرة مثمرة وقادرة أيضا أن تنتج ما فيها بمجرد توفر شروط الإنبات, قد يقول قائل ولكن هذه الشجرة نبتت وأنتجت شجرة مشوهة وهجينة وغير مثمرة بالكلية ولا يمكن إصلاحها؟ فما يمكننا أن نفعل وقد تحولت البذرة إلى كائن ضخم لم يعد ينفع معه إلا البتر و القلع أو لجلوس تحتها؟....
من ينكر هذه الحقيقية كمن يستغفل عقله وأظن أن التوصيف لا يتسم بالدقة أيضا, الفكرة الأولى للإسلام وهي فكرة ومفهوم الهداية هي النبتة التي أقصدها والتي لإسلام الرسالي وهي نبته متوفرة بعدد ما موجود أو سيوجد من بشر وليس نبته واحده لذا قال الله{وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}الكهف 29 ,وليس هذا الكيان الإسلامي الذي تتعاطى فيه العقول اليوم, الإسلام الذي يمنح للعقل حرية أن يكون مهتد أو لا على قاعدة الخيار الحر هو من ينتج بذور الهداية التي يمكن بل ومن المؤكد أنها تحمل مشروعها الحداثي في طيات مؤدياتها ومعطياتها.
من يريد أن يحدث لإسلام فإن الإسلام يختزن مقومات الحداثة في تعاطينا مع الهداية وكيفية هذا التعاطي هي التي تنتج قيمة لها وبدون أن نحدث ما في وعينا من ماهية الهداية واشتراطاتها نبقى أسيري التقليد والمتابعة اللا منتجه ونكون أمام عقم حقيقي في أنتاج ما هو متوافق مع روح حركة الزمن وروح حركة المجتمع وهو يتحرك في سيرورته الكونية نحو اكمال البشري, بالقدر الذي نمنح أنفسنا في محاولة فهمنا لجوهر الهداية ونطبق الأسمى من دلالاتها نستطيع أن نتجاوز المنزلق الذي وضعنا فيه أنفسنا عندما أستبدلنا الجوهر الروحاني للهداية كما هي في الرسالة بمفهوم بديل صاغته الأنا المتضايقة أو الأنا المتضخمة, الأنا المستعبدة بفهم الأخر أو الأنا التي تفرض فهمها على الأخر بالقوة والقهر.
لو أننا تحررنا كوعي من فهم معنى الهداية كما تبلور في ما مضى وأسسنا فهم أخر يعتمد على علة الهداية وغايتها ومنهجها الذي جاء به الإسلام نحرر كل روح الإسلام كتطبيق من الأوهام والخرافات والصور التي توحي بالعبودية والقهر ,وهذا ما لا يمكن أن نلقيه على الدين كمسئولية ولكن لنملك الشجاعة ونقول أننا أخطأنا وعلينا أن نراجع المسيرة وأن نفهم لماذا وقع الخطأ فأولدنا الخطيئة وأصر الكثيرون ن الإسلام هو الذي يريد ذلك وإن هذا هو الإسلام كما يزعمون {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }الأعراف28.
الحداثة في الإسلام موجودة تتبلور بترك ما هو ليس منه وتحريره من لقراءات الضالة والمظلة القراءات التي تجعل من الدين طاغية لا يفهم ومستبد لا يمكن إصلاحه, الدين الذي يقوم على الرحمة والإصلاح والعدل والحرية والحب هو الإسلام الحداثي الذي يقدر دوما وبجزم أن يضع قضية الإنسان في محلها الطبيعي ويصوغ لها أكمل وأتم الحلول خارج محدد الزمان والمكان, لا ينكر أحد أن كل الأديان وليس الإسلام وحده قد وقع ضحية اللعب الإنساني في مؤدياته وأهدافه بعلم وإرادة وليس خطأ بشريا محتمل الوقوع بالقوة, الدين في جوهرة يريد للإنسان أن يتحرر من خوفه ومن غربته الوجودية لينطلق نحو السمو بما فيه من قواعد تحرك هذا الفهم إلا ن تدخل الإنسان بعقله القاصر في فهم معنى أن يكون كما أراد الله هو من يتحمل ما نتج وما ينتج وعلينا استرداد الوعي الحقيقي أولا قبل أن ننطلق نحو جوهرية الهداية.
الحداثة التي نسعى لها والتي في مضمونها أن لا نتخلف عن حركة الزمن وعن توفير شروط هذه الحركة والإجابة الإيجابية عن قضايا الإنسان نجدها حاضرة في أسس وركائز الدين الإسلامي بمعزل عن تصورات البعض عن عجز الإسلام عن ذلك, الذي يعتقد أن الدين هو مجرد مظاهر وممارسات وعقائد تحجر العقل البشري وهم في إدراك معنى أن تكون مسلما حقيقيا مؤمنا بوظيفته ومتماه مع شرط الهداية{وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ }الأعراف56.
هل يجزم أحد اليوم بمختلف ما يؤمنون به أن هدف الحداثة إصلاح واقع الوجود والسعي لتجديد مفهوم هذا الإصلاح كلما دعت الضرورة لذلك وخاصة عندما يبرز الفساد والإفساد في أركانه, بغير هذا الفهم لا أظن أن الحداثة تعني شيء أخر غيره ولا يمكن أن نسلم لها على أنها حرب مع الماضي فقط لكونه ماض, الماضي الذي يرتبط بالخطيئة والتخلف والإفساد وقهر الإنسان ليتخلى عن وظيفته الوجودية.
المطلوب اليوم لحداثة الواقع هو تجديد وتحديد معان الحداثة ذاتها وتجديد الفهم لدور الدين بالعودة الواعية لمنطلقات الدين لا تجديد الدين لأننا أصلا لم نتعاطى مع الدين بما هو وكما هو بل الدين الشائع اليوم هو دين الإنسان الذي صنعه مهجن ومشوه عن دين الرسالة, إنه الخروج عن أمر الله الذي أمر بالتوافق بين الدين والميزان الفهمي له{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}الأعراف85, إنه تخلف عن إدراك قيمة الخيرية والأحسنية لا سيما بعد أن وفر الله كل البينات والمعطيات لهذه الخيرية والأحسنية.
حداثة الإسلام لا تعني تكرير التجربة المرة والمغالطة ونأت بقواعد وأسس جديدة قد تخرجنا من جوهرية الهداية{مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}الإسراء15,لقد حرف الكهنوتيين معنى الهداية باختراع ما لا لم يكن في الدين أصلا ولا دعا الله له نتيجة رغبة نفسية أنتجتها نفس تريد أن تبسط ما تفهم وتحس به على موارد وأساسيات العقل السليم العقل الذي يرفض القهر والعبودية والخضوع لمنطق الواقع المظلم الواقع الذي يشرعن الباطل ويتحصصه بالتخلي عن إرادة الحق إرادة الإصلاح.
التقليد الأعمى للممارسة الدينية المألوفة أو رفض ما في الدين من ركائز وأسس للتحديث كلاهما لا يقودان للحداثة ولا يؤديان إلا لمزيد من الضياع والتيه عن مراد الإصلاح والخيرية الأحسنية, وبالتالي الإصرار عليهما قتل للحرية وتشتيت للجهد نحو تحديث الوعي والمشاركة في تجديد حركة الإنسان والمجتمع ,الفهم الأول يعني التراجع العكسي عنها والثاني قتل لمحاولة استكشافها وإعادة تدويرها في الحياة الوجودية لتفعل ما فيها من قوة تجديد.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟