محمد يحيى
الحوار المتمدن-العدد: 1186 - 2005 / 5 / 3 - 14:25
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
د. محمد يحيى
أخيراً انضم تاريخ عام 1899 في الذكرى المائة لصدور كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة" إلى قائمة الأعياد المقدسة في التقويم العلماني العام بعد مرور مرحلة طويلة من التطويب وصولاً إلى رتبة القداسة , كما تفعل الكنيسة الكاثوليكية وغيرها مع قدِّيسيها , وتميَّز وصول قاسم أمين أو كتابه إلى رتبة القديسين العلمانيين بوجود أصوات منشقة في النسويات المغاليات , تستنكر أن يكون محرر المرأة الأول رجلاً , وتعتبر استمرار تقديس قاسم أمين ، أو كتابه استمراراً للنزعات الأبوية المتسلطة الرجعية .
كذلك تميز العيد العلماني بظاهرة لا نجدها كثيراً في الأعياد الدينية , وهي أن الاحتفاء بمؤسس العقيدة لم يشمل ترتيل وإنشاد كتابه المقدس ووحيه إلى البشر الفانين الخاطئين (البشر الرجال فقط !) , ربما لأن المحتفلين وجدوا أن ترتيل هذا الكتاب المقدس سيفضح مدى قدم وبلى فكر وأسلوب صاحب العيد , مقارنة بالتطور الكبير الذي لحق بالمذهب منذ تأسيسه , والحق أن أحد الجوانب التي نادراً ما تُبحث في خضم الكلام الكثير حول قاسم أمين وفكره وحركة تحرير المرأة - التي يفترض أنه مؤسسها - هو تطور وتحول وتبدل وتنوع , بل وتناقض وتضارب الكم الهائل من المقولات والأفكار والدعوات التي تدرج عادة تحت مسمى ديني تحرير المرأة العلماني , لقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر - كما يقول المثل المبتذل - منذ نشر "تحرير المرأة" وبهتت خلال مائة عام صورة الكاتب الليبرالي البورجوازي الذي يجلس وسط أثاث وأفكار القرن التاسع عشر (المستورد كله - الخشب والقيم) ؛ ليحرر المرأة المصرية أو المسلمة (لم تكن المرأة العربية وُلدت بالطبع وبالتأكيد لم توجد في فكر قاسم أمين الكردي الأصل فيما يقال) , وحلت محلها الآن صورة "النسوية" الثائرة التي تجلس وسط أثاث وأفكار القرن العشرين (المستورد كله - الألمنيوم والشعارات) لتحرر المرأة المصرية والعربية , مدعومة بأموال الهيئات "الخيرية" والكنيسة والحكومية الأوروبية الأمريكية , والفارق ليس في أن قاسم أمين كان ليبرالياً وبورجوازياً بينما لم تكن خليفاته بعد قرن كذلك (فهن أكثر بورجوازية وإن كن أقل ليبرالية بكثير) , أو لكن الفارق هو في الدعم المالي والشيكات الأوروبية الصريحة .
وإذا جاز أن نختزل التطور الحادث على مدى قرن في عبارة واحدة , نستبق بها أطروحة هذه المقالة لقلنا إن التطور منذ نزول الوحي - وسط غرف القرن التاسع عشر المكدسة بالأثاث - وحتى الإعلان الرسمي عن التطويب كان تطوراً من خطاب التحرير إلى خطاب وممارسة القمع من جانب المؤمنين بكنيسة "التحرير النسائي" ودولتهم , والقضية الحقيقية ليست فيما قاله قاسم أمين أو لم يقله - على الرغم من أنه "صاحب الفرح" حسب التعبير العامي - لكنها في مسار خطاب معين من حالة إلى حالة , أو حالات أخرى تحت تأثير عوامل وقوى مختلفة ليقدم لنا حالة كلاسيكية من حالات تفاعل الخطاب مع المجتمع , كما بحثها المفكرون الأوروبيون المحاصرون من أمثال ميشيل فوكوه وغيره .
وُلد خطاب "تحرير المرأة" - ولا يهم إن كان قاسم أمين هو الذي بدأه أم غيره ؛ فهذه قد تكون في نهاية الأمر مصادفة تاريخية غير ذات مغزى - في مصر في اللحظة التي كان يجب أن يولد فيها ؛ فذلك هو عصر أَوْرَبَة أو تغريب مصر والعالم الإسلامي وعصر العلمنة المستندة إلى الفكر الغربي السائد في تلك الفترة , وهو الليبرالية البورجوازية "المستنيرة والتقدمية والعلمانية" بأصواتها النفعية والبراغماتية والديموقراطية الاجتماعية , و"تحرير المرأة" أو "انعتاق المرأة" يمثل أحد دعائم هذا الفكر الغربي منذ مطلع القرن التاسع عشر , إما بصورة بارزة ورئيسية منذ أيام ماري جوردين أو بصور فرعية تابعة للمذهب الفكري الرئيسي عند بنتام أو سبنسر أو إنجلز مثلاً , وتحرير وانعتاق المرأة - كما يسمى - نجده في حركة حق الاقتراع عالية الصوت , واسعة الانتشار , كما نجده في مشروعات الاشتراكيات الطوباوية وغير الطوباوية وحركات "إصلاح" أوضاع المرأة القانونية والأسرية والاجتماعية والاقتصادية , وتحرير المرأة في إطار الفكر الليبرالي البورجوازي العلماني الغربي له مكانته في مشروع ذلك الفكر لمراجعة وتنقيح "القديم" و"الرجعي" و"المتخلف" و"الديني" و"التقليدي" , وكلها أعداؤه المألوفون , تحرير المرأة له مكانة في المشروع الليبرالي لمراجعة التاريخ الأوروبي الغربي سعياً وراء التقدم والكمال البشري , وهي أهدافه المشهورة في القرن التاسع عشر , وهو تحقيق لأركان المساواة والفردية والارتقاء التي تعد أعمدة الليبرالية وأسسها الكبرى , والعدو الذي يتصدى "تحرير المرأة" له هو الدين (المسيحي) والتقاليد والتراث والتاريخ التي يفترض أنها تستعبد وتُخضع المرأة , وتحرير المرأة في الفكر الليبرالي العلماني عملية فكرية اجتماعية قانونية تعليمية بحتة - بجانب ناحية حق الاقتراع للنساء - لا تتجاوز ذلك إلى طرح أسس وأركان المجتمع البورجوازي الرأسمالي العلماني للتساؤل والتشكك أو إلى طرح فكرة الثورة النسائية الشاملة ؛ فتلك كانت تطورات لاحقة على ذلك الفكر .
كانت دعوة قاسم أمين إذن - أو غيره - طبيعية أو حتمية في ظل حالة العلمنة والتغريب العاتية التي خضع لها المجتمع المصري , صحيح أن التغيرات والتعديلات المناسبة قد أُدخلت كما ينبغي ؛ فالعدو الآن الذي يجب تحرير المرأة منه - هو الدين (الإسلامي) أو "التفسيرات الخاطئة" له حسب التعبير الذي أصبح مألوفاً لطرحه على سبيل التَّقِيَّة , ومعه التراث والعادات والتقاليد والتاريخ (وكلها ليست بريئة بالطبع) , والهدف هو "الإصلاح" وصولاً إلى أهداف التقدم والاستنارة العقلانية العلمانية والمساواة .. الخ والتي أصبحت - بعد فترة وعلى سبيل التقية كذلك - توصف بأنها هي "صحيح الإسلام" أو "روح الدين" أو "مقاصد الشريعة" وما شابه , وفي تلك المرحلة - ولعلها هي العهد المكي لوحي تحرير المرأة - كان الطرح "إصلاحياً" في إطار تعديل القوانين والحث على تعليم المرأة وتحسين النظرة إليها والدعوة لفك ما وصف بأنه القيود الموضوعة على عمليات التفاعل الاجتماعي (الاختلاط , العمل , الاشتغال بالأمور العامة) أو تخفيفها , ولم يكن ذلك الطرح الاجتماعي الإصلاحي ذو الحدود استجابة فقط لظروف الأوضاع والحساسيات الدينية في تلك الفترة , وإنما كان أيضاً نقلاً أميناً لمستوى ومدى طرح قضية تحرير المرأة في إطار الفكر الليبرالي العلماني وتفريعاته .
كان من المحتم - إذن - أن يُطرح دين أو مذهب تحرير المرأة في سياق العلمنة والتغريب للمجتمع المصري على الصورة التي طرحه بها قاسم أمين كصوت أو قناع أو حامل لذلك المكون من الفكر الغربي , وهذه هي بداية الخطاب ونهايته كذلك , نقْل أمين يسير مع مسارات تطور "الفكر الأم" في الغرب , ويطرح شعاراتها , ويهتم بهمومها , ويتخذ أهدافها , ويتنوع , ويتغير مع تنوعها وتغيرها ويتسع ويضيق ويعلو ويهبط مع حركاتها ؛ ذلك هو خطاب التحرير .
لكن خطاب التحرير بدعواته الملحة للتحرر والانعتاق والخلاص وفك القيود وإزالة العوائق وفتح الآفاق .. الخ - كان ينطوي منذ البداية على مفارقة جعلته وهو يكمل المائة عام , ويصل إلى مرتبة التكريس والتقديس الديني العلماني الكامل - عُرضة للتحوُّل بكل معاني الكلمة إلى نقيض التحرير وهو القمع , وهذه المفارقة هي توجهه الكامل إلى النساء دون الرجال (نصف المجتمع !) , ومعاداته للدين في تقليد أمين للفكر الأم في الغرب .
إن الاشتباك مع الدين (الإسلام) جاء لا لأن الإسلام يعادي أو يقمع المرأة , ولكن لأن النبع الأم كان يعادي الدين (المسيحية) في الغرب انطلاقاً من علمانية الفكر الليبرالي البورجوازي , صحيح أنه كان هناك حديث - على استحياء في أحيان كثيرة - حول التفسير الفاسد للدين الذي يطغى على التفسير "الصحيح" (الذي يفترض أن العلمانيين وحدهم قد أُوتوا مفاتحه !) , وصحيح أن الكثير من الشعارات التحريرية النسائية مثل تعليم وتكريم وعمل وتفاعل المرأة مع المجتمع وإصلاح التقاليد والعادات الموروثة .. الخ - كانت بسهولة تندرج تحت المسموح بل المرغوب والواجب الديني لو جرِّدت من السياقات العلمانية التغريبية التي وُضعت فيها (على سبيل التعمية في أحيان) , ولكن من الصحيح كذلك أن دعوة تحرير المرأة كدعوة أو تيار أو مذهب أو فكرة أو برنامج - سَمِّها ما شئت - لم تضع نفسها منذ البداية وخلال تطوراتها داخل السياق الإسلامي وهو السياق الوطني والثقافي الذي تنشط داخله , بل رأت نفسها أو رأى لها البعض أنها داخل عملية العلمنة والتغريب التي وُصفت بألقاب التحديث والعصرنة والاستنارة والتقدم وما إلى ذلك , وكان أن سارت تلك الحركة كمكون أساسي في عملية العلمنة والتغريب وكأحد أسلحتها الرئيسية في مواجهة الإسلام والفكر الديني , بل لقد غلب هذا الطابع الأداتي في معظم الأحيان على سلوك وخطاب الحركة مما أوصلنا في نهاية المطاف - ومع اكتمال قرن التطويب لقاسم أمين - إلى أن يصبح خطاباً للقمع , قمع الرجال وقمع المجتمع المسلم على يد التيار العلماني التغريبي العام , الذي أصبح الآن ينتحل أسماءً براقة لترويج بضاعته من العولمة إلى القرن الواحد والعشرين .
والمشكلة تكمن في التوجه الأصيل لفكر تحرير المرأة الغربي ضد التغيير الثوري الواسع النطاق للمجتمع الليبرالي البورجوازي الرأسمالي , وقصرها "للتحرير" والتغير الراديكالي على مكون واحد هو المرأة مع الإغفال التام بل والعداء للمكون الآخر - الرجال (نصف المجتمع !) , إنها حركة عرجاء تلك التي تنطلق من مسلَّمات عاطفية غوغائية (وذلك باسم العقلانية !) , حول الاضطهاد الأزلي للنساء كنوع من جانب الرجال كنوع , ثم تصل من ذلك إلى برنامج "ثوري" لإصلاح تلك الأوضاع الاضطهادية مع تثبيت سائر أحوال المجتمع سياسية واقتصادية أو طبقية على ما كانت هي عليه , أي على النموذج الليبرالي البورجوازي الرأسمالي , ومن البدهي أن حركة كتلك - في الغرب وفي الشرق على حد سواء بل في الشرق بالأكثر - تكون موضع ترحيب وتحبيذ بل وتشجيع وخلق من العدم لدى كل السلطات القائمة من الملكية إلى الجمهورية وما بينهما وما بعدهما , وبالذات للدكتاتوريات والأنظمة الطاغوتية ؛ لأنها توجه طاقة التغير الثوري التي تضطرم بها العقول والمجتمعات , لا إلى تلك الطاغوتيات , وإنما إلى عنصر الرجال وحدهم داخل وخارج مؤسسة الزواج والأسرة (بل داخلها على وجه التحديد) , ولا توجه تلك الطاقة إلى تغيير أوضاع القهر والقمع السلطوي .
والمفارقة تصل إلى الذروة عندما نجد أن الحركة المنطلقة من فكر التحرير تدعو إلى التضييق والتقييد في مواجهة الرجال باعتبارهم العدو الذي ينبغي هزيمته وتحجيمه وضد الدين (الإسلام) باعتباره المحرض الفكري على استعباد النساء في أروج تفسيراته (ليست مصادفة بالمناسبة أن دعاة "تحرير المرأة يفضلون استخدام كلمات "الحد" و"التقييد" و"الحظر" و"المنع" عندما يتعلق الأمر - مثلاً - بحقوق الرجال المسلمين في إيقاع الطلاق أو رخصة تعدد الزوجات أو القوامة على الأسرة) , والحركة المنطلقة من فكر التحرير والخلاص والانعتاق تدعو في مصر على مر تاريخها - وبالذات في الآونة الأخيرة - إلى تحديد وتقييد بل إلى حظر ومنع الفكر الديني الإسلامي بعد أن تدعي أنه يعادي حقوق المرأة ولا تقبل بوجوده إلا عندما يستبطن منطلقاتها بدون تحفظ , وهي في نفس الوقت تدعو إلى قبول "الآخر" الفكري والنسوي والحركة التي تنطلق من شعار المساواة (أو كانت تفعل ذلك في الماضي) تدعو إلى سياسات "العمل الإيجابي" التي تنحاز للنساء وتفضلهن وتميزهن عن الرجال في مجالات العمل والوظائف والقروض الاقتصادية وفرص المشتروات الحكومية والسياسات التعليمية .. الخ ؛ بحجة أن ذلك تعويض عن ذلك الظلم التاريخي أو حتى ما قبل التاريخي المزعوم الواقع على المرأة , والأمثلة كثيرة , لكنها تصب كلها في مجرى واحد , دعوة التحرير والانعتاق توجه إلى "نصف المجتمع" - كما يقولون - لكنها لا تتوجه إلى النصف الآخر الذي يُفترض في مسلمات تلك الحركة أنه يمارس القهر والقمع على المرأة مدعوماً بسلطة الدين ؛ ولذا يجب قمعه هو بتبرير أنه هو البادئ بالقمع في زعم لا سند له إلا في إطار طروحات ومسلمات ومقدمات تلك الحركة نفسها المطروحة بأسلوب عاطفي لا عقلاني , وفوق ذلك فإن التغيير الثوري المطلوب (وهو ثوري للغاية في طروحات الفكر النسوي الذي أطل علينا في مصر من الثمانينات وفي الغرب من أواسط الستينات) - يركز فقط على الأسرة وأوضاع المرأة الاجتماعية والاقتصادية تاركاً سائر أوضاع المجتمع - وبالتحديد وضع السلطات القائمة والنظام الاقتصادي السياسي المهيمن - بدون تغير , بل يثبتها ويدفعها إلى الوراء من الناحية الديموقراطية والسياسية والاجتماعية بقهر وقمع الرجال كنوع , ثم قهر وقمع الدين كوعاء للجماعة الوطنية وثقافة وتاريخ الأمة .
إن حركة كانت بدايتها على هذا النحو من المفارقة والتناقض - كان لابد أن تتخذ المسار الذي سارت فيه لتنتهي إلى أحد أهم أدوات سياسات القمع والقهر الاجتماعي والثقافي بل والسياسي داخل منظومة الدكتاتوريات الطاغوتية , فإذا كانت حركة "التحرير" قد بدأت باشتباك أو تداخل مع الدين كان يمكن أن يُحَل بالتخلي عن الخلفية الأيديولوجية (العلمانية المتغربة) لها , مع القبول بتحقيق أهداف الإصلاح الاجتماعي لوضع المرأة داخل المنظومة والمشروع والبرنامج الإسلامي لحلت المشكلة (وليس هنا مجال طرح النقاش والجدل حول سبب فشل أو عدم فشل المشروع الإسلامي الناهض في التعامل مع قضية المرأة , لكن يكفي القول إن "قضية المرأة" لم توجد بالنسبة لهذا المشروع من حيث المصطلح والفكر ؛ لأنه بالفعل يعالجها في أطره الخاصة وفي سياق الأحكام الشرعية والعقائدية والعملية الخاصة , كما أن أولوياته شمولية وليست جزئية عنصرية , ولا داعي بعد ذلك للتأكيد على وضع المرأة المعروف في الإسلام) , لكن الذي حدث على مر القرن التحريري المعلَن عنه كان العكس تماماً ؛ فقد ازداد باطراد تمسك وجهر تلك الحركة النسوية بالسياق الأيديولوجي العلماني المتغرب في الوقت الذي تخلى فيه منازِلوها أو محاوِروها من الإسلاميين عن خلفيتهم العقائدية كلما سعوا للاقتراب منها أو التحالف معها أو التعامل مع مطالبها وطروحاتها واستبطانها , ونشأ وضع غريب نجد فيه ساحة أو حلبة من المطالب المطروحة بحجج تحسين أو إصلاح أو إنصاف أوضاع المرأة وفتح الطريق لتقدمها , وفي هذه الساحة فارسان هما أنصار حقوق المرأة كما يزعمون لأنفسهم والفكر الديني الإسلامي , والطرف الأول لا يعلن صراحة وجهراً عن خلفيته الأيديولوجية , بينما يتمسك بها كهدف نهائي لدعوته وكخلفية فكرية لشعاراته ومطالبه , بينما الطرف الثاني يُطلب منه أن يتخلى عن هذه العقائدية , وأن يعالج الأمور والمطالب والقضايا المطروحة كمجرد مشكلات أو مسائل اجتماعية , عليه أن يجد لها الحل والتكييف المطلوبين من الطرف الأول , وعادة ما يفعل الطرف الإسلامي ما يُطلب منه ؛ وهنا نصل إلى الكم الهائل من الفتاوى والمعالجات لقضية المرأة كما تسمى , والذي تعودنا عليه منذ الأيام الأولى للقرن التحريري وحتى الآن , وتزداد براعة ذلك الكم مع مرور الزمن في إثبات أن الإسلام يدعو بالضبط لنفس المطالب والتصورات التي تنادي بها حركة تحرير المرأة , وهذا شيء طبيعي ومتوقع طالما أن العملية تسير منذ البداية في إطار طرح قوي من جانب يتمسك بأيديولوجيته وطرح ضعيف أو متمشٍ من الطرف الآخر الذي يوهمونه بأن عليه التخلي عن أيديولوجيته الخاصة والنزول إلى الحلبة مجرداً منها ؛ لأن العملية مجرد مسألة اجتماعية عملية "مدنية" بحتة لا مجال فيها للحديث عن العقيدة والشريعة , وهذا هو أحد أهم وسائل وأساليب القمع الذي تمارسه حركة "تحرير المرأة" قِبَل الإسلام - بالذات - من خلال لعبة الاستدراج إلى حلبة المطالب والقضايا بعد إغرائه أو إجباره على أن يخلع قفازه الأيديولوجي (إن جاز التعبير) خارج الحلبة , بينما تدخل الحركة وقد وضعت قفازها هي - وإن بشكل مضمر - فتكون النتيجة هي الهزيمة للطرف الإسلامي الذي يسلم بكل القضايا والمطالب والمصطلحات والسياقات والتطورات التي تطرحها تلك الحركة ؛ متصوراً أنه بذلك قد حقق نجاحاً باهراً في إثبات أن الإسلام ينصف المرأة , وأنه قد جاء منذ عشرات القرون بما لم يتوصل إليه الفكر الحديث إلا في القرن التحريري , لكن هذا الزهو بالنجاح في تحقيق "تحرير المرأة منذ عهد النبوة" يخفي حقيقة أن الفكر المتفاخر يتخلى عن كل قسماته الأيديولوجية المميزة ويستبطن الأيديولوجية العلمانية , وهو يفعل ذلك متصوراً أنه إنما يخرج بمجرد فتاوى وتصورات اجتهادية فرعية , القمع هنا قمع خفي إلى نحو كبير , ويعتمد على ممارسة نوع من الخداع معروف في السياسات الأيديولوجية الغربية .
لكن القمع الأكبر والأوضح والأخطر يظل هو ما تمارسه حركة تحرير المرأة في تحالفها المقدس الذي تبلور في العقود - بل الأعوام الأخيرة - مع الأنظمة الحاكمة الطاغوتية , وإذا كنا سمعنا عن اتفاقات من طراز النفط في مقابل الغذاء (العراق مع الأمم المتحدة) أو الأرض مقابل السلام (الكيان اليهودي مع منظمة التحرير) - فإن ذلك التحالف المقدس يمكن تسميته بالسلطة مقابل المساندة والتبرير والصرف بين الأنظمة وحركة تحرير المرأة ! , التي تخلت عن أيديولوجية البورجوازية العلمانية , وأصبحت تعلن أيديولوجية مستقلة هي ما يسمى الفكر النسوي الأمريكي - الأوروبي النشأة , والذي كان منذ أواسط الستينات أحد أبرز الأسلحة الموجهة من ترسانة الغرب ضد الماركسية الثورية , والآن ضد الإسلام الثوري وحتى غير الثوري , والاتفاق الجديد أو التحالف سهل في تركيبه ؛ فالأنظمة والسلطات الدكتاتورية - كما قلنا من قبل - تستقطب إن لم تخلق الحركات النسوية , وتعطيها نصيباً كبيراً من كعكة السلطة , ممثلاً في الوصول إلى مفاتح الإعلام القوي وحرية الحركة والتنظيم والدعاية وتقنين مطالبها في التشريعات , وتعيين رموزها في المناصب الكبرى والمتوسطة , و"التمكين" لها في نشاطات الحياة الاجتماعية مقابل توجيه وتسليط تلك الحركات لكل دعايتها ونفوذها المكتسب الجديد ضد التيارات الإسلامية , وكذلك لصب المزيد من القهر والقمع على الرجال كنوع , والسلطات الطاغوتية ترحب بذلك المنحى الأخير ؛ لأن الرجال هم - في نهاية الأمر - الوعاء الكامل لأي تغير ثوري أو راديكالي أو حتى سياسي في المجتمعات العربية , وفي مقابل منحة القوة تلك للحركات النسائية تكسب الأنظمة - ليس فقط الضرب والقمع لخصومها الإسلاميين وتحييد الإمكانية الثورية في المجتمعات صوب التغيير الجذري لقواعد الحكم والنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي السلطوي - وإنما تكسب كذلك سمعة باعتبارها أنظمة تقدمية مستنيرة , وتكسب رضا السادة العلمانيين في الغرب , وتكسب إبعاد النظر عن قضايا المجتمع الكبرى العامة , وتحويل هذا الاهتمام إلى "قضية" المرأة - كما تسمى - وهي في الحقيقة ليست قضية المرأة والنساء على عكس ما يزعمون ؛ لأن المسألة عندهم تنحصر في نهاية المطاف في تعديلات لقوانين الأحوال الشخصية (تقييد الطلاق , إلغاء رخصة تعدد الزوجات , سلب الرجل حق إيقاع الطلاق .. الخ) , وفي الطنطنة بتعيين أو تشغيل النساء في وظائف , من العمل بالمناجم إلى جمع القمامة وصولاً إلى سفيرات الخارجية وضابطات الجيش .
وإذا كانت قضية المرأة تُختزل في النهاية إلى مجرد سلب الرجل حق الطلاق أو وضع النساء في خط النار ؛ فبئست القضية تلك التي تخاطب إفقار وتجويع النساء والأطفال والرجال وسلبهم هويتهم الدينية والوطنية , وبئست القضية تلك التي تجعل قضية المرأة تنحصر في سلب حقوق الرجال دون مكاسب حقيقية لها , ولعل أفدح الأمثلة على هذا التحالف المقدس (أو غير المقدس) بين الأنظمة الطاغوتية العلمانية وبين "الحركات النسائية" - هو ذلك التصريح الذي أدلت به زوجة زعيم عربي مؤخراً تقول فيه إن بلادها لديها أفضل قانون أحوال شخصية في العالم (قانون بورقيبة) , وذلك في وقت كانت تقارير منظمات حقوق الإنسان تدين ممارسات نظام ذلك البلد اللاإنسانية واللاديموقراطية ضد خصوم الرأي والفكر بجانب الإسلاميين , واحتفالية مئوية كتاب قاسم أمين هي نفسها التجسيد النهائي والرسمي لهذا التحالف .
إن الضجة التي نُصبت لذكرى كتاب "تحرير المرأة" وتحويل هذا النص إلى عمل مقدس تخفي في الحقيقة وتموّه على تاريخ مؤلم وطويل من فرض خطاب علماني ومتغرب النزعة على الأمة بالقوة ؛ ليكون خطاب وممارسة قمع وقهر ضد دينها وضد رجالها , ولكن ليس لصالح نسائها على عكس ما يزعم له من أنه خطاب تحرير وخلاص وانعتاق , إنه خطاب يزعم التحرير ويمارس القمع قولاً وممارسة حسب ما ألمحنا إليه فيما سبق , وهو خطاب يزعم تحقيق الخلاص , لكنه يحقق العبودية في الفكر وفي الممارسة وصولاً إلى العمالة الصريحة في التمويل الأجنبي للناطقين باسم الحركة وأعوانهم .
وهو خطاب يبدأ بالحديث عن تحرير "نصف المجتمع" ثم ينسى "النصف الآخر" , ويصل إلى اعتبار "المرأة" المجتمع كله , ثم ينتهي بالتبشير بفرض القمع والقهر - ليس فقط على النصف الآخر الرجالي المنسي - ولكن على الأمة كلها (نسائها ورجالها) بكبت ومصادمة دينها وعقيدتها وتاريخها لصالح المشروع العلماني المفروض في الغرب , ويتحالف مع قوى الطاغوت والدكتاتورية التي تنظم له الاحتفال بالتحرير !
#محمد_يحيى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟